السفارة الأمريكية

الـ”باليوز” الأمريكي في بغداد.. أكثر من سفارة وأقل من احتلال

مؤيد محسن – العراق / اللوحة بعنوان “نزهة”
زاهر موسى 09-04-2017

Advertisements
Advertisements

الـ”باليوز” في تاريخ العراق والشرق الأوسط هو مقر “جيمس ريچ” الذي شغل منصب المقيم البريطاني في العراق خلال الفترة من 1808 – 1821، وكان مندوباً لـ”شركة الهند الشرقية” في بغداد. من قرأ ثلاثية “أرض السواد” للروائي عبد الرحمن منيف سيتوقف طويلاً عند الملامح التي رسمها لوصف القنصلية البريطانية في بغداد قبل ثلاثة قرون وهي تتلاعب بولاية العراق العثمانية. وهي ملامح تنطبق إلى حد كبير على المشهد الذي تراه عبر نهر دجلة من شرفات فندق بابل مثلاً، حيث تقبع في الجهة المقابلة السفارة الأمريكية في بغداد. ويبدو الوضع شبيهاً بـ”شركة الهند الشرقية” التي مارست أدواراً دبلوماسية وجاسوسية مؤثرة.

بيت السفير الأمريكي

يسكن دوغلاس سيليمان، وهو السفير الأمريكي في بغداد، بيتاً مساحته 1486 متراً مربعاً، ويفرض سلطته على مساحة أوسع تبلغ بحسب المعلن 420872 متراً مربعاً داخل المنطقة الخضراء. تجاور منطقة نفوذ سفير الولايات المتحدة الأمريكية مقرات رئاسة مجلس الوزراء في العراق ومجلس النواب العراقي وبقية مراكز “صناعة القرار”. تمّ افتتاح هذا المجمع الدبلوماسي في النصف الثاني من عام 2008 بتكلفة إنشاء بلغت 592 مليون دولار،
مقالات ذات صلة:
عراق الـ 56
«ذاك المرض» الذي استوطن البصرة
وبكلفة تشغيل هي مليار دولار سنوياً، وتحت توصيف لافت للانتباه “السفارة الأكبر لأي دولة في العالم”. أتت هذه السفارة العملاقة بعد أربعة عشر عاماً من القطيعة في العلاقات بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية، وكان قسم إدارة المصالح الأمريكية في السفارة البولندية في بغداد هو كل من يمثل بلاد العم سام على أرض الرافدين بين عامي 1990 و2003.
من بين أقسام عديدة، يبدو “مكتب الأمن الإقليمي” هو الجزء الأكثر إثارة في السفارة الأمريكية ببغداد. ومن بين شرح واف عن مهامه في الموقع الالكتروني الخاص بالسفارة، يبدو هذا السطر مريباً: “يقوم وكلاء الخدمة الدبلوماسية بإجراء التحقيقات الجنائية والشخصية”. فإذا وضعنا طبيعة النفوذ الذي مارسته السفارة على القوات متعددة الجنسيات، ومن تم اعتقالهم على أيديهم في سياق موجة مكافحة الإرهاب عالمياً والتي تضمنت سجوناً سرية ونقلاً لمعتقلين بشكل سري الخ.. سنجد أن السفارة الأكبر في العالم جزء من “خطة الكوندور” هذه، إن لم تكن بؤرته (والاسم يستعيد العمليات التي نفذت في أمريكا الجنوبية في أواخر ستينات القرن الماضي، بإدارة الولايات المتحدة الأمريكية ودعمها التقني والعسكري). أدارت السفارة الأمريكية احتلال بلادها للعراق وتحكمت في سجون “بوكا” في البصرة و”كوبر” و”أبو غريب” في بغداد و”سوسة” في السليمانية، وترددت في تسليم صدام حسين وأركان نظامه للحكومة العراقية بعد محاكمتهم، وكانت خلية نحل في إدارة المعلومات المتعلقة بـ”الحرب على الإرهاب”، من القاعدة وحتى داعش.

من بين أقسام عديدة، يبدو “مكتب الأمن الإقليمي” هو الجزء الأكثر إثارة في السفارة الأمريكية ببغداد. ومن بين شرح واف عن مهامه في الموقع الالكتروني الخاص بالسفارة، يبدو هذا السطر مريباً: “يقوم وكلاء الخدمة الدبلوماسية بإجراء التحقيقات الجنائية والشخصية”

المؤرخة المعمارية جين لوفلر كتبت في فورين بوليسي عام 2009 “السفارة الأمريكية في بغداد تشبه القلاع الصليبية التي بنيت لتسيطر على ما حولها”. ومن صور تداخل عمل السفارة الأمريكية عبر العقد الماضي ما كشفته فوكس نيوز عام 2008 عن مانويل ميراندا رئيس دائرة الشؤون التشريعية في القسم السياسي في السفارة الأمريكية في العراق، الذي عمل كمستشار أعلى لمكتب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وكذلك مستشاراً للقضايا التشريعية للحكومة العراقية لمدة عام كامل، حيث قام ميراندا بتأسيس “مكتب الشؤون التشريعية” في القسم السياسي في السفارة، الذي يعمل على مساعدة الحكومة العراقية في القضايا التشريعية: “قبل وبعد عرضها على مجلس النواب العراقي” بحسب الرسالة التي رفعها إلى السفير رايان كروكر بمناسبة مغادرته للعراق، متحدثاً فيها عن المرض الأسوأ الذي نقلته واشنطن إلى بغداد، ومشخصاً إياه بالبيروقراطية، في سياق تعليقه على عدد موظفي السفارة الذي بلغ 3161 شخصاً من بينهم موظفون في وزارة الأمن الداخلي ووزارة العدل الأمريكيتين.

الحياة في القلعة

Advertisements

لم تكن أمور السفارة الهائلة جيدة دوماً، مرّت سنوات تعرض فيها المجمع الدبلوماسي الأمريكي إلى قصف بقنابل الهاون وصواريخ الكاتيوشا من قبل المجاميع المسلحة المناوئة للوجود الأمريكي. العراقيون ممن عملوا في السفارة الأمريكية تعرض بعضهم للقتل أو الخطف، ومن نجا عبر السنوات منحته السفارة فرصة للجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية كتعويض عن التهديد المحتمل لحياته. لم تكن السفارة منفتحة على الواقع العراقي، خوفاً وحذراً، قررت أن تنفتح على الطبقة السياسية التي تطورت علاقتها بالمجمع الدبلوماسي كثيراً. في مناسبات عديدة تحركت السفارة بهامش بسيط من التنسيق مع الحكومة العراقية في شؤون استقبال الشخصيات الأمريكية الكبرى وتهيئة المطارات العسكرية لذلك، وما زال المسؤولون الأمريكيون يتعاملون بحذر مع حكومة يعتقدون بأنها “مُخترَقة”.

داخل مقر السفارة الأمريكية في بغداد / رويترز

رايان كروكر السفير الأمريكي السابق بين عامي 2007 و2009، وأحد أهم الشخصيات الأمريكية خلال العقدين الماضيين في أفغانستان والعراق، تحدث مراراً عن “التصرفات الاستفزازية” التي تعرضت لها السفارة من قبل قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” التابع لـ”حرس الثورة الإسلامية الإيرانية”. ويبدو أن الأمريكيين كانوا يتحاشون إغضاب إيران. لكن أيام السفارة الأمريكية في بغداد ليست بالسوء نفسه دائماً، فبُعيد سقوط الموصل بيد داعش عام 2014 بدأ الدبلوماسيون الأمريكيون في الاستعداد لما هو قادم، سواء كان ذلك القتال أو الهروب. حزمت حقائب كثيرة، ولكن انكسار موجة داعش شمال ديالى وجنوب بغداد أعاد للجميع، من عراقيين وأمريكيين، توازنه.
ومع زيادة تذمر الرافضين لتولي نوري المالكي لولاية ثالثة في منصب رئيس الوزراء بعد فترتين قضاهما في الحكم بين 2006 و2014، تدخل الأمريكيون عبر سفارتهم للدفع بخياراتهم السياسية في العمق. في وقتها طلبت السفارة من رئيس السلطة القضائية مدحت المحمود مغادرة العراق إثر محاولة المالكي تقديم شكوى للمحكمة الاتحادية ضد الرئيس فؤاد معصوم بحجة تمديد المهلة الدستورية لتكليف رئيس وزراء أربع وعشرين ساعة.. وبعد ذلك تحدثت مصادر سياسية رفيعة عن أن رتلاً تابعا للسفارة الأمريكية قام بنقل الرئيس العراقي معصوم ورئيس مجلس النواب الجبوري وكذلك حيدر العبادي مع قيادات “التحالف الوطني” إلى داخل السفارة الأمريكية، حيث قام معصوم وقتها بتكليف العبادي أمام عدسة واحدة نقلت المراسم إلى العراقيين لاحقاً. المالكي الذي لم يستطع إدامة حكمه، خرج مندداً بـ”التدخل الأمريكي السافر”، دون الإشارة إلى طبيعة هذا التدخل، فيما صرح جون كيري وزير الخارجية الأمريكية وقتذاك، مهنئاً ومطالباً المالكي بالتعقل.. لتمر الأزمة حينها بلا دماء.

Advertisements

المؤرخة المعمارية جين لوفلر كتبت عام 2009 “السفارة الأمريكية في بغداد تشبه القلاع الصليبية التي بنيت لتسيطر على ما حولها”

وأنت تسير في شارع أبي نواس مقترباً من التواء دجلة، وهو يحتضن منطقة الجادرية الفخمة، سترى على الجانب الآخر من النهر سفارة تجاوزت الوظيفة الدبلوماسية المتعارف عليها، بل تجاوزت حتى حدود العراق كبلد مضيف، لتكون محطة إقليمية لإدارة السياسة الأمريكية في المنطقة. سيمتد بصرك لوقت طويل، فالمساحة كبيرة على الشاطئ الذي لم يتعرف عليه العراقيون بشكل حقيقي منذ عقود، لسبب واحد هو أن هذا المكان كان دائماً خاصاً بالساسة العراقيين أو بالبعثات الدبلوماسية الكبرى
* شاعر وإعلامي عراقي
المقال نقلا عن السفير

Advertisements

العراق الولايات المتحدة سياسة مجتمع استعمار احتلال أمريكي دبلوماسية