سهيل نادر: نعيش زمنا لايعود لنا وليس سهلا التصالح معه..هكذا حلّ السياسي”السختجي”وبتنا إزاء جبال من الزبالة

أزاميل/ متابعة: يواصل الكاتب العراقي سهيل سامي نادر نشر مقالاته المتميزة بعد انقطاع قصير..وهي مقالات اقل ما يقال عنها انها متميزة لدقتها وعمقها وتناولها للأحداث بمنظور مختلف تماما عن السائد، وهي تصلح لهذا لان تكون منطلقا للتفكير فيما يجري بحيادية وموضوعية ما زال واقعنا العربي يفتقدها وبامتياز.

Advertisements
Advertisements

 

هل نحن أحرار؟

أوجه هذا السؤال لجماعات الكتابة الذين أنتمي إليها ، بعد أن واجهت السؤال نفسه في حوار مع صحفية دانماركية. فلأني ما زلت أكتبفي مواقع عراقية ، وأكتب في السياسة على وجه التحديد ، استنتجت الصحفية الدانماركية التي كانت تحاورني أن في العراق وضعية حرة تستقبل كتابات شجاعة مثل كتاباتي .

لم تنس أن تموج كفها بمعنى : نسبيا .. على هذا النحو أو ذاك !

قلت : نعم هناك حرية ولكنها مهددة ، وأنا حر لكن على مبعدة آلاف الكيلومترات من مسدسات كاتمة الصوت ، والمليشيات التكفيرية. ولم أنس أن أضيف : هذا واقع!

إن سيرة الحرية في العراق سيئة جدا ، وتشكل فيها الوضعية العراقية الحالية جرحا نازفا لا يعرف له نهاية ، ومحملة بتوقعات مروعة.

أن أكتب بشجاعة وأنا خاضع لاشتراطات الحرية في بلد اسكندنافيديمقراطي عريق يقلل من براءتي ، ويجعلني هدفا لتقولات الزملاءالذين ما زالوا يغامرون بحياتهم في الداخل .

Advertisements

إن جدل الداخل والخارج القديم لم يختف بعد ، بل يعاد انتاجه ، وإن بصوت واطئ ،على وقع زيادة المخاوف في الداخل ، وفي سياق الصيرورات السياسية التي تطرد الثقافة من ميدانها الحقيقي ، وتفكك جماعات المثقفين والمتنورين ، وتنزل بالأهداف الى مستوى متطلبات الوجود ، وتختلق معارك صغيرة لا قيمة لها .

بوجه عام ما زالت جماعات القلم تتخبط وهي تعالج ماض لم يعد موجودا، وتتعثر بحاضر ممزق يدعو لليأس .

لقد دفعت حصتي من الخوف والكبت والتهديد والرعب ومحاولات الاختطاف والتوقيف والتعذيب . أنا عراقي إذن . كل من يملك سيرة رعب وإعاقات هو عراقي ولا يحتاج معها الى امتحانات اضافية حتى نعرف من هو حقا .

Advertisements

من المؤكد أنني استخدمت حيلي ككائن حي من أجل البقاء ومواصلة الانتاج – حيّل وسّعت خيالاتي في فهم هزائمي والعمل في ظروف بائسة ، بدوت فيها في حالات مختلفة : مبعدا ، بعيدا ، خجولا ، نزيها ، وضجرا من نزاهتي وخجلي .

الكثيرون مثلي ، وأنا أعرف بعضهم . وسواء نجوا من محاكمات المغرورين مستسهلي تهمة الخيانة أم لم ينجو ، فأنا شخصيا لا يهمني الأمر ولا يقلقني . ما يقلقني حقا، وأنا في معتزلات غير مختارة ، هو أنني بالكاد أستطيع تعيين حياتي في الماضي بسبب حاضر دمر الجسور إليها .

Advertisements

أظن أن الكثيرين يشكون من هذه الحالة، ولاسيما كبار السن ، إلا أنهم يعبرون عنها بطرق مختلفة. أعتقد أن الوضعية السياسية الراهنة ، في علاقاتها التعليلية بالماضي ، قامت بتحطيم الجسور الحضارية معه ، وغيرت موقعه كما لو أن زلزالا قلب عاليه سافله ، وبتبعثر لا يمكن ملاحقة تشظياته وجمعها.

بات الماضي زمنا تتفكك روابطه المكانية ، وحلت محله ذاكرة طوائف مستشاطة سحبت الانقسام الديني بكل رموزه وشططه الى الحاضر .

لقد بدد المكان الوطني الذي شهد تاريخنا الوطني الحديث وجرى تقسيمه الى أجزاء. لقد التهمته ذاكرة الطوائف المتنازعة ، وما تبقى لنا هو إدراكنا الحزين أننا نعيش زمنا لا يعود لنا ، وليس سهلا التصالح معه.

تصارع الكتابة اليوم جريان هادر لا يثبت من كثرة المجهولات ، من أخطاء بديهية لم تصحح بل جرى تغطيتها بأخطاء مثلها ، فبتنا إزاء جبال من الزبالة ، جبال من المتروكات ، فضلا عن ركام ملتصق من الحماقات ، والتبريرات ، والاديولوجيات الزائفة . وعلى الجملة تواجه الكتابة أطنانا من حالات الوعي الكاذب الذي يتطاير من هذه الأزبال المتراكمة.

إن حياتنا كلها تبدو حكاية غامضة لا تصدق ، فقد صنعتها الظروف ولم نسهم فيها إلا القليل القليل – حكاية معضعضة في فم وحش كاسر.

نحن ننخرط في حياة لم نصنعها ، تحدد الكثير من اضطراراتنا ، ثم نتكيف لها ونواجهها او نتحجر واياها . لكن نحن إزاء حالة لا تمنع عنا الاختيارات الحرة وحسب بل وتضعنا أمام اضطرارات مميتةوجها لوجه . إن جماعات الكتابة ليس لها سوى الممرات المواربة او الصمت او اللعب أو تصنّع الأهمية بين طرشان.

منذ 2003 أوليت اهتماما بالدولة . كان اول مقال اكتبه بعد 2003 مرثية لموتها . بقدر ما انتقدتها ، محاولا فهم مشكلة ولادتها على يد الانكليز وبعض الجماعات المحلية ذات التدريب العثماني ، أدركت أن موتها يؤذن بولادة وحوش ولصوص وقوادين ومليشيات وساقطين ومزوري شهادات وأدعياء دين وخونة وعملاء سفارات وسختجية . حتى بعد الأشهر القليلة من مقتلها على يد الامريكان راحت مليشيات جاءت من خارج الحدود تقضي على مجدها المدني والعسكري : اغتيال مئات الاطباء والمهندسين والطيارين . وتتوالى الهزائم بهروب مئات المثقفين والمهندسين والرسامين والاعلاميين .

في الفوضى بدت هذه نتائج فوضى : استنتاج صحيح وتافه – تافه الى حد الخزي . والحال لم نعد نحن من يتحدث بل الواقع البائس هو من بات يتحدث مستخدما أفواهنا أو أقلامنا بجمل مخادعة تخفي مسؤوليات الجماعات السياسية والمليشيات التي بتنا نخافها ونحسب لها الف حساب.

لم تعد جماعات الكتابة تستطيع أن تمسك خيوط كل هذا الموت لأنها بلا حماية ، وبلا معلومات ، وراهنت على ما بدا أنها حرية ، فانخرطت بصحافة أسهمت على طريقتها بصناعة لغة شجاعة تواجه أشباحا .

في الفوضى العارمة حيث لا يسمعك أحد لا تستطيع الحرية أن تتفحص لغتنا ، ولا لغتها ، فهي مجرد طائر يعبر من فوق الرؤوس ، وليست مؤسسة أرضية بعد .

إن جميع مكبوتي العهد الدكتاتوري تكلموا مرة واحدة ، واختاروا السياسة لأنها الواقع المباشر لكل ما اختفى وظهر . ذلكم هو السر المضحك لولادة محللين سياسيين بالعشرات بين ليلة وضحاها. تتمة لهذه النتيجة أن السياسيين لا يمتلكون معلومات بقدر ما كانوا يتداولون الآراء ، بلا تدريب ثقافي وسياسي بمواجهة حالة من توزيع الأسلاب الذي انخرطوا فيها الى حد الجريمة .

Advertisements

كان الوضع معقدا على نحو بدا فيه أن الاميركيين أصحاب الحل والربط كانوا بلا سياسة ، وباتوا ، بعد أن أطلقوا وحوش قوى ما قبل الدولة ، وصادقوا أسوأ سياسيي الطوائف ، أضعف الحلقات السياسية.

إن كامل السياسة الاميركية حسبت على لون من ألوان العلاقات العامة ، وفي تلك الظروف كان هذا يعني محاولة لإرضاء الجميع برشوتهم ، والتخلص من أعباء المواقف السياسية الحقيقية المدعومة بخططية بنائية.

لقد ضاع ميراث شعبنا الوطني ، وحلت محلها تعارضات سياسية لقوى ما قبل الدولة المتناقضة التي توهم البعض من أنها تمثل عملية سياسية جديدة . لقد كتب لنا دستور لم يقرأه أحد لكن صوتنا لصالحه ، ثم ذهبنا الى انتخابات ، ليس لأننا فهمنا وأردنا بل لأننا خفنا من اللاشرعية وموت الدولة .

لقد احتجنا الى دولة ، إلى أمنها ، حياديتها ، ونشاطيتها في الظروف الاستثنائية . لكن جميع القوى السياسية التي ورثت اسلاب الدولة السابقة وتقاسموها كلصوص محترفين ، لم يستطيعوا بناء حتى سلطة تحترم نفسها وتدافع عن المواطنين وتحقق لهم الكفاية .

بغياب الدولة حلّ السياسي السختجي ، ورجال المليشيات الذين تحولوا الى ضباط برتب عالية ، ورجال العلاقات العامة الذين باتوا خبراء وزارات لا تنتج شيئا ، ولرئاسات حكومية مضحكة .

هل امتازت جماعة 2003 بانعدام الكفاءة بحيث أنها فشلت في اعادة بناء الدولة ، أم أنها أعاقت متعمدة عملية البناء؟ الإثنان . وإذا ما أردت جمعهما في واحد فسأقول : إنعدام الفضيلةّ!

من تابعني يعرف أنني قلت هذا أكثر من مرة .. وما زلت أردده ، معتقدا أن أفضل ما يفعله صحافي حر هو أن يدق على الطبل ويضبط ايقاعا واحدا!

حدثني صديق كان له موعد مع أمين بغداد السابق ، فوجد أن غرفة الامين تحولت الى ديوانية مليئة برجال الدين ورجال العشائر . لقد انقلب الأمين الى قاضي الحوائج .. ومكتبه الى مزار مقدس لاولئك الذين فقدوا الحياء!

تلك هي صورة معبرة للسلطة الحالية : رجال دين ، رؤساء عشائر ، وأفندية حزب الدعوة الذين يمكن استبدالهم بأفندية آخرين من جماعات 2003 سواء كانوا شيعة أو كرد أو سنة .

هؤلاء أنفسهم هم الذين فروا امام داعش ، وهؤلاء أنفسهم يحاربون داعش . هل أخبركم أن جماعات الكتابة كانت قد نبهت على داعش قبل أن يعرف القائد العام للقوات المسلحة الذي كان يتلهى في جمع الأعوان لحزب الدعوة من الاميين ؟ إذا كانوا لا يقرأون فما نفع ما يكتب ؟

هل نحن أحرار أيها الزملاء؟

Advertisements

حسنا .. أنا أفرق بين الشجاعة والحرية ، بين أن تكون شجاعا أو تكون حرا . المعنيان مختلفان ، بيد أنهما يلتقيان في معترك الحياة عندما تستدعى المناقب الشخصية للعمل . تكرس اللغة العربية القليل لمعنى الحرية والكثير الكثير للمناقب والخصال الشخصية كالشرف والشجاعة والاقدام والنفس الحرة .

لكي ينتزع نفسه من العبودية كان على عنترة أن يقاتل لمصلحةالعشيرة . سيحتاج إنعتاقه من العبودية الى مأثرة واعترافا اجتماعيا.  ما الذي تحتاجه الحرية بالمعنى الحديث ؟ إنها لن تحتاج الى مآثر وبطولات خارقة، بالرغم من أنها ليست عطيّة بل انتزعت انتزاعا بنضال شاق وطويل. إنها لن تحتاج الى عنترة ، بل الى نظام سياسي يكفل حرية الجميع ويجعلهم متساوين أمام القانون.

لأننا لم ننل الحرية بالمعنى الموضوعي ، المعنى الذي يجعلها معيوشة ، منتجة ، معرّفة بما يقلل من الثرثرة بشأنها ، اعتدنا أن نتحدث عن الحرية بوصفها عملا شعريا ، أو عملا من اعمال الروح .  فنحن أحرار داخل نفوسنا . أحرار في أن نرفض بصمت ، وأن نثرثر داخليا بما لا يستطيع أي فاشي أن يسمعنا او يصل الينا ، كما أننا أحرار في أن ندفع ثمنا ازاء تطلعاتنا الحرة .

لا أخاصم هذا المعنى من الحرية ، فهو جزء من الادبيات الاخلاقيةللمثقفين وقادة الفكر ، فضلا عن أنه يحمل الدلالات الاولى لوجودنا الانساني بوصفنا محكومين بالحرية .

لكن كلا من المعنى الأخلاقي والوجودي للحرية يجب الا يجعلنا ننسى أننا محكومون بخارجية لا نتحكم بها . وأن مشكلة الحرية العينية تبدأ من هنا. والحرية العينية التي اتحدث عنها ههنا ، ولا أريد تضييعها بالمفاهيم ، هي ببساطة ما خبرته أنا نفسي ، ما خبرته جماعة القلم ، ما خبرته سيرة الحرية ، في أعوام ما بعد 2003 .

حرية مع تهديد ، حرية المشي بين الالغام ، الحرية ونحن نتحدث مع لصوص ، حرية ونحن نخاطب سياسيين فاقدي الرشد والأخلاق . الحرية بلا معلومات . حرية التكهنات والتحاليل السياسية الإسقاطية التي لا يصدق منها شيئا.

هل حسبتم كم مرة ظهر تأثير ما نكتب؟ لكن تستطيعون قياس هذا التأثير بعدد الإعلاميين والصحفيين الذين جرى قتلهم.

كنت قد أدرت مع الصحفية الدانماركية أفكارا عن الحرية ، فوجدت أنها لا تتلقاني جيدا . بالنسبة لأشخاص يتنفسون الحرية كأنها هواء لا يعنيهم كثيرا الجدل بشأنها. الحقيقة بدوت أمامها مثل فقيه يتحدث عن شيء لا يعرفه لكن رصيده اللغوي عنه جيد .

عندها كان علي أن أواجهها بالبداهة العارية . قلت : أقصد الحرية المكفولة بقانون ، المدعومة به ، وباحترام المجتمع لها وعدم القدرة على العيش بدونها.

وكنت أعني كذلك أننا لا نمتلك هذا ، وأن لا حرية مع التهديد الدائم ، وأن الطوائف والعشائر التي أطلق سراحها في الفوضى ، والتي أسست نظاما سياسيا عجيبا غير معنية بحرياتنا ولا بالحرية الموجودة بالدستور ، بل بحرياتها في النهب وتوظيف ابنائها وإطلاق الرصاص في الفضاء!

نحن جماعة القلم الذين قدمنا الكثير من التنازلات المتعلقة بحرياتنا اعتدنا عبودية التهديد ، وعبودية الحاجة ، وانتظار المكافأة . إن هذه العبوديات المتراكبة تركت ندوبا وتمزقات في نسيج شجاعتنا الاولية ، بوصفنا بشرا. بمرور الزمن سنكتشف أنفسنا فارغين كرجال من قش.

Advertisements

إن الشرط العراقي الحالي الذي توغل في إنقسامية طائفية وعشائرية ودخل مرحلة الخطر ، بات يملأ حتى المخابئ غير المرئية لجماعات الكتابة بضروب من التفاهات الجديدة ، بهستريا إنتاج المواقف الخلافية والمحاكمات والاستسلام للتظاهرات ، برعونة يراها أصحابهاجزءا من حرية الفكر وهي ليست غير تهريج طائفي  مدفوع الثمن.

 

المصدر بيت الإعلام العراقي