تقتتح ازاميل بهذه المقالة للإعلامي سرمد الطائي، بابا جديدا في موقعها، عنوانه شهادات لا تنسى يرصد فيه جميع المقالات والآراء التي تكتب وتعبر عن نفسها بأسلوب ينضح تلقائية وصدقا وصراحة.
الأسماء هنا ليست مهمة بل الأقوال..وقدرة على القائل على البوح بافكاره بأسلوب لماح وواضح..يصف فيه ما يرى بحيادية وموضوعية من مستوى رفيع لا يخضع للقناعات المسبقة والدوافع المشبوهة، والآيدلوجيات السائدة.
يخضع فقط للحس الإنساني السليم، والمتمعن عميقا فيما يجري حوله، بصفته شاهدا لا لاعبا، ضحية لا قاتلا أو مجرما.
و في مقالة سرمد أدناه سنكتشف الكثير من هذه “الشطحات” الرائعة، وإن كانت تنضح في الوقت نفسه، ألما وحسرة وغضبا.
وهنا تجب الإشارة إلى أن هذا الباب الجديد، لا يعول على الاسماء ولا شهرتها او مناصبها، إنما فقط على قدرة “اقوالها” غلى البقاء “حية” إلى مدى بعيد، يتجاوز لحظة البوح بها بمراحل.. ويتجاوز مواقفها الخاصة وانتماءاتها الدينية او السياسية.
إنه باب لأرشفة نفَس الحاضر .. لكي يقرأه المستقبل.
شكرا داعش.. ولننسى كل شيء
الدور الذي تلعبه حركات مخبولة مثل داعش، ينجح بسهولة، لانه من نوع “اللهو المهووس بالاعصاب” لا يحتاج سوى ارواح تبرر الجريمة القصوى، وجمهور جاهز للنحيب والانفعال والنسيان.
هذه الحركة تتلاعب بنا بشكل جوهري، والخسارات المؤلمة في ارواحنا واعراضنا وسيادتنا، ليست سوى بداية القصة. ولنحاول فقط ان نبدأ بتذكر نسياننا، لامرين هامين، اهمية التعقل وخطورة الفاسدين. وأول ما حصل حين انشغلنا بجرائم داعش، هو نسيان “الفساد” رغم ان وقع الهزيمة في لحظاته الاولى جعلنا ندرك بوضوح، ان فسادنا هو السبب الاكبر في انتصار المجرمين. لكن ثمانية او تسعة شهور بعد الموصل، كانت العصر الذهبي للفساد الاعظم، الذي لم يلاحقه احد، وابرزه ان موازنة تريليونية مرت بلا حساب.
في هذه اللحظة يمكن تقسيم العراقيين الى ثلاثة: واحد مع داعش يوغل في القتل، واخر مندهش من داعش يحاول الدفاع عن ما تبقى، وثالث يغتنم انشغال هذا بذاك، ويمارس الفساد باقصى الحرية لانه متاكد ان لا احد لديه الوقت والشهية لملاحقة الفساد.
البرلمان يعمل منذ شهور لكنه لم يستجوب اي مسؤول عن الفساد بنحو جدي. مع ان الفساد مسؤول عن ظهور داعش بنحو مباشر.
وهيئة النزاهة لصاحبها نوري المالكي، لم تكتشف اي فاسد منذ سنتين او اكثر، كما هو معروف. مع ان رئيس السلطة التنفيذية اعلن دفعة واحدة، وجود خمسين الف جندي وهمي بين العسكر، ثم نسينا هذا بسرعة واخفيناه في تلافيف ادمغتنا المشغولة بتصريحات السيد عبعوب، وبألف مسؤول لا نقتنع ابدا بأنه يملأ منصبه.
لقد نسينا اشياء اخرى كثيرة، منها قواعد العمل التي خرقها نوري المالكي وعارضناه بسببها، فالحرب الاقسى وكل الدم، جعل كثيرا من الزعماء يهربون الى النسيان، لانهم صاروا يخشون من المطالبة بالتعقل والحكمة وحقن الدماء، فالجمهور منفعل غير مستعد لتفكير هادئ، ومن اين يأتيه الهدوء، فهو جمهور يبحث عن ابطال يجيدون الصراخ والمناداة بالثأر والمزيد من الدم، وكل زعيم يقول عكس هذا فانه سيهدد نفسه بانصراف الناس عن حزبه. وهكذا تلفع عقلاء كثيرون بالصمت فاسحين الطريق امام حركة “ارادة” وامثالها، وصراخا مشابها يصب الزيت على النار من كل المكونات.
لقد نسينا احلام العمل المشترك والمبررات الكبيرة لصوغ تنازلاتنا المتبادلة، ونسينا ان اكبر المصائب لا تعفينا من السعي كل لحظة لتخفيف الاحتقان، ونسينا ان الجمهور ضحية لصمتنا في الغالب، اذ ان صمت من يدركون اهمية الحكمة، يفتح الطريق امام الباحثين عن الشهرة ليتلاعبوا بعواطف الناس، كعملة منهارة في سوق صرافة جائر.
ان الشعب وهو الرقيب الاكبر في البلدان الحية، منشغل بتكفير بعضه، مرة بسبب ثارات التاريخ، واخرى بسبب خلاف على كمية الدم المراق من هذه القبيلة او تلك، وثالثة بسبب لون دمية الدب المعروضة في شارع الجواهري.
انه مشهد ينتمي للمآسي المثالية، فمدن كبيرة مثل الموصل جرى تفخيخها الى حد عجز كبار المخططين عن وضع طريقة لتحريرها، وشباب يجهزون انفسهم للانتحار كل يوم تلبية لعقيدة مقدسة، ودولة مصابة بالدوار تنفق ٣٠ الف اطلاقة كل ساعتين، وكل هذه العناصر تمنح فرصة عظيمة لكل من يدير مصلحة فساد، ليصول ويجول بلا حسيب او رقيب، وحتى لو شعر بخطر المحاسبة فباستطاعته ان يلبس المعطف العسكري ويهتف بحياة “الجيش والشرطة” ورموز المعركة، ليحمي نفسه.شكرا داعش، فقد صنعت الفرص العظمى لانقاذ الفاسدين، ولكل المختلين والمهووسين المبحرين بسرعة في انهار الدم، واخرست ما كان متاحا من صوت التعقل.لقد ارادت داعش ان “تبقى وتتمدد” ولا سبيل لذلك الا ببقاء الفساد ومنطق الدم، وموت ممكنات السياسة، ونسيان مبررات التعقل.