الاسلام السياسي بين النظرية والتطبيق
انس محمود الشيخ مظهر
عندما تفتقر الشعوب لامكانية الابداع وخلق ما هو جديد تهرع الى ارثها القديم لتتبناه جاعلة منه واقعا في حياتها لتتهرب بذلك من فشلها في بلورة افكار جديدة . وان كانت بعض الشعوب تستطيع ان تطور هذا القديم ليتماشى مع واقعها المعاش , فان الشعوب الاسلامية تجتر القديم اجترارا بحذافيره محاولة ارجاع مجتمعاتها حضاريا وثقافيا الى ذلك الماضي السحيق ليتجانس مع الفكر المطروح .
فمنذ انهيار الامبراطورية العثمانية لم يدخر منظروا الاسلام السياسي جهدا للحديث عن محاسن الدولة الاسلامية وضرورة العودة اليها كي تاخذ هذه الامة المكان اللائق بها في سلم الحضارة البشرية , وتبنوا شعار (الاسلام هو الحل )واوجدوا مصطلحات جديدة على غرار (المارد الاسلامي) الذي سوف يكتسح العالم عاجلا ام اجلا ناشرا العدل والفضيلة , مبشرين بصحوة اسلامية تعم المجتمعات المسلمة, فكان اننشار احزاب اسلامية دعوية واخرى جهاديةتختلف في النهج لكنها تلتقي في هدف احكام شرع الله على الارض عن طريق الحكومة الاسلامية.
ولهشاشة الفكرة نفسها , وافتقار الاسلاميين للوعي السياسي الكافي , فقد تمكن الغرب من استغلال ظاهرة الاسلام السياسي بطرق مباشرة او غير مباشرة ليكون سببا رئيسا في اضعاف حكومات دول المنطقة وابقائها غير مستقرة امنيا وسياسيا منذ خمسينات القرن الماضي ولغاية يومنا هذا .
عندما تبقى النظريات في نطاقها النظري دون ترجمتها على ارض الواقع يكون من الصعب الحكم عليها سلبا او ايجابا, خاصة وان رواة التاريخ طمسوا الجوانب السلبية في مسار الدولة الاسلامية القديمة واظهروا الجوانب الايجابية فقط ( رغم ان مسار الاحداث التاريخية شخصت الكثير منالسلبيات التي رافقت التاريخ الاسلامي ) . واستغلت الاحزاب الاسلامية الهالة المثالية هذه لترسخ صورة ناصعة للدولة الاسلامية في ذهن الاجيال المتعاقبة .
انطلق المارد الاسلامي لفضاء العمل السياسي و(الجهادي) العلنيين في العراق اولا بعد ان تم القضاء على نظام صدام حسين , فتشكلت حكومة عراقية تتكون في مجملها من احزاب اسلامية شيعية وسنية, قابلها في المعارضة مليشيات وتنظيمات شيعية وسنية مسلحة تمثل الاسلام الجهادي .
ثم فسح المجال لهذا الفكر اكثر بعد ثورات الربيع العربي , ليتصدر واجهة الاحداث ويوضع على محك التجربة والاختبار . فبدى ماردا هزيلا ضعيفا يفتقر لابسط مقومات بناء الدولة الحديثة . فابجديات السياسة التي اخذها من الدولة الاسلامية القديمة لم تكن تفي بالغرض في عصر تعتمد ادارة الدول فيها على مباديء سياسية غاية في التعقيد وعلى علاقات دولية متشابكة لم ترتقي اليها فكر هذه الاحزاب الاسلامية , وتختلف عما كان عليه الحال في العصور السابقة . فراينا كيف ان الاخوان فقدوا السلطة في مصر بعد سنة من تسلمهم اياها, دون ان تشفع لهم سنوات معارضتهم الطويلة والتي كشفت بطلان ما كانوا يبشرون به الامة في امتلاكهم للعصا السحرية التي ستحل المشاكل السياسية والاقتصادية للمنطقة .
وهكذا فشل الاسلام السياسي ( الدعوي) في اول اختبار حقيقي له في مصر .. اما الشق الاخر ( الجهادي) من الاسلام السياسي المتمثل بتنظيمات كداعش والقاعدة في الطرف السني , وبمليشيات مسلحة في الطرف الشيعي … فقد كانت وما تزال الطامة الكبرى والصدمة الاكبر التي هزت المجتمعات الاسلامية , فهي مليشيات وتنظيمات خارجة عن اي قانون انساني عوضا عن القوانين الالهية , تمثل ابشع ما وصلت اليه البشرية من دموية واجرام متخذة تعاليم الاسلام نهجا لها للسيطرة على المجتمعات المسلمة , ومحاولة جر المجتمعات الاسلامية لتتقمص مجتمعات بيننا وبينها مسافات زمنية بعشرات القرون . فهذه التنظيمات والمليشيات تتخذ من الجهاد المحور الرئيسي لافكارها, ضاربة اسس العمل السياسي التي تحتاجه اي دولة محترمة عرض الحائط .. وابجديات ورثنها عن شكل الدولة الاسلامية القديمة ترتكز في الاحكام على الحدود كا( الرجم والجلد وقطع اليد) وفي الاقتصاد على مبدئي ( الجزية والزكاة) , متصورة ان بامكانهاادارة دول وحكومات بهذه الاليات البدائية من المفاهيم .
وعلى الرغم من ان الاسلام السياسي هو اكثر التشكيلات السياسية تهجما على امريكا والدول الغربية , الا ان طرفيه السني والشيعي اصبحا مطية لهذه الدول تحركه وفق مصالحها ( الاستعمارية). فلم يبق مثلا جهاز مخابراتي عالمي اواقليمي لم يتغلغل في تنظيم داعش , ولم يبق حزب شيعي عراقي لديه استقلالية في قراره السياسي بوجود التاثير الامريكي والايراني في العراق . وفي الحقيقة فان هذه نتيجة متوقعة لهذا النوع من الاحزاب .
لم يشهد التاريخ الاسلامي على مر العصور ما يمكن تسميته بالدولة الاسلامية التي تطبق شرع الله بشكل مثالي بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام . فبالقفز على العصر الراشدي ( لاسباب كثيرة) فان الدولة الاموية وما تلتها من دول كانت عبارة عن عوائل طامعة في الحكم تسلطت على رقاب الشعوب باسم الدين , اعتمدت جل فلسفتها السياسية على مبدا الجهاد الذي اتخذته ذريعه لنهب اموال المناطق التي تفتحها , وكانت ركيزة اساسية لاقتصاد دولتهم , فالفترات التي كانت تشهد فتورا في الفتوحات كان يتازم فيها الوضع الاقتصادي . وقد افتقرت الدول الاسلامية على مر العصور للاستقرار السياسي , فما تكاد تهدا ثورة في مكان او تقمع حتى تبدا ثورة في منطقة اخرى . اما المؤامرات فكانت السمة الرئيسة لتلك الدول .. عائلة تتامر على عائلة لتاخذ الحكم منها , وامير يتامر على خليفة, يقتله لياخذ منه العرش , ووالى يتمرد على خليفته بعد ان يحرز انتصارات معينة .. هكذا كان وضع هذه الدول . اما الادعاء بوحدة العالم الاسلامي فهي الكذبة الكبرى في تاريخنا , فالعالم الاسلامي لم يتمتع بدولة واحدة الا في فترات قصيرة , ودائما كانت هناك اكثر من دولة واكثر من حاضرة , تتصارع فيما بينها لتوسيع نفوذها على حساب الاخرى . فعن اي دولة اسلامية يتحدثون وعن اي شريعة يتكلمون ؟
المصدر: باسنيوز