مخالب الاستشراق الجديد.. ورؤوسه الثلاث
د. خزعل الماجدي
المصدر/ جريدة الاتحاد
إذا كان الاستشراق القديم (الكلاسيكي) قد طوّر أدواته للسيطرة على الشرق وساهم في حرث الطريق لحركة الاستعمار الغربي عليه، فإن الاستشراق الجديد يطوّر أدواته، اليوم، ليدمّر الشرق ويدفعه للانتحار مستغلاً مشاعر الناس وحاجتهم للإصلاح والتغيير ولكنه يشجع هذا عبر إشاعة الاضطرابات وتقويض الدول و(الفوضى الخلاّقة) وحركات ما يسمى بـ (الربيع العربيّ). ينتقل الاستشراق الجديد من الحرب الباردة إلى صناعة الإرهاب بخطىً واضحةٍ ومنظمةٍ، وقد تتبعنا هذه الخطى وألقينا الضوء على تاريخ الاستشراق الجديد ورموزه الذين حفّزوا ظهور الجانب المدبّب في الإسلام وربطوه بالإرهاب وصنعوا المهاد النظري لما نشهده اليوم، على الأرض، من خرابٍ في الشرق العربيّ الإسلاميّ تحديداً، وسنتناول، هنا، مناهج هذا الاستشراق (الأنثروبولوجية، السوسيولوجية، الألسنية، التاريخية الأركيولوجية) ونكشف عن الجوانب العلمية فيها وعن جوانبها المؤدلجة.
مع منتصف القرن العشرين وصل الاستشراق القديم ذروته حيث كان يعتمد، أساساً، على فقهاء اللغة (الفيلولوجيين)، وكانت قد بدأت مرحلة جديدة أساسها الاعتماد على باحثين من حقولٍ معرفية جديدة في الاستشراق كان أغلبهم من المتخصصين بالعلوم الإنسانية الحديثة كالاجتماع والاقتصاد والسياسة والأنثروبولوجيا والأدب والفنون. وقد صاحب ذلك نوع من توسيع دائرة الاستشراق خارج المركز اللغوي الغربي والمركزية الغربية وبؤرة الحداثة، وبدا كما لو أن الاستشراق بمفهومه الشائع قد انتهى.
ظهر ذلك جلياً في مؤتمر الاستشراق الذي عقد في لندن عام 1967 الذي ناقش التاريخ الاقتصادي للعالم الإسلامي، وظهرت ميول لنقل مركز الاستشراق من أوروبا إلى أميركا خدمة لأغراض وتوجهات أميركا نحو الشرق الأوسط عموماً. وكان لظهور النقد الموجّه للاستشراق القديم الدور الكبير في توقف أدوات وآليات الطرق القديمة له وخصوصاً بعد نشر كتاب إدورد سعيد (الاستشراق) عام 1978 الذي فضح جانبه التعسفيّ والمهيمن.
انتهى مصطلح الاستشراق، رسمياً، في مؤتمر باريس للاستشراق عام 1973 بمناسبة مرور قرن على بداية عقد المستشرقين لمؤتمراتهم العالمية التي كانت تعقد كل (3- 5) سنوات. وحين صوّت المشاركون في المؤتمر على مدى الرغبة في استمرار استخدام مصطلح (استشراق ومستشرق) كانت نتيجة التصويت لصالح إلغاء التسمية مع استمرار المؤتمر بنفس وتيرته ولكن تحت عنوان (المؤتمر العالمي للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال أفريقيا) ثم استبدل بعد مؤتمرين إلى (المؤتمر العالمي للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية).
الماهيّة والبدايات ما هو الاستشراق الجديد ومتى بدأ؟
بدأ الاستشراق الجديد من نهاية الاستشراق القديم عام 1973 ومن مكانه الجديد في أميركا، وكان لابد من أن يجد له جذوراً جديدة بالإضافة إلى جذره الاستشراقي القديم فوجدها في أربعة مشارب مغطّاة وهي: (دراسات المناطق، مستودعات الأفكار، ما بعد الاستشراق، استشراق ما بعد الحداثة)، ولم يكن الغرض من نشوء هذه البداية واضحاً.
ومع بداية التسعينيات من القرن العشرين وتفكك العالم الاشتراكي وسقوط الاتحاد السوفيتي وتصدّع العالم الثالث، ظهرت الحاجة، أميركياً، للاستشراق الجديد ليشكل ظهيراً ثقافياً وأيديولوجياً لإعادة ترتيب العالم من منطلق أميركي جديد تحديداً؛ ولذلك ظهر أول المستشرقين الجدد من أميركا وهم: برنارد لويس وفوكوياما وصموئيل هنتنجتون.
الدراسات الإقليمية
العلم المناطقي (الإقليمي) هو حقل من حقول العلوم الاجتماعية يرتبط بمنهج تحليلي للمشاكل الحضرية والريفية والإقليمية، وتشمل نظرية المواقع والاقتصاد المكانية ونمذجة المواقع والنقل وتحديد الهجرة واستخدام الأراضي والثيمة الحضرية والاقتصاد الداخلي والبيئة والتحليل البيئي وتحليل الموارد والنظم والمعلومات الجغرافية والاهتمام بالبعد المكاني الذي يشرف عليه علماء إقليميون (Wikipedia. Regienal Science).
مستودع الأفكار
المشرب الثاني كان ما عرف بـ (مستودع الأفكار، بيت الخبرة، خلية التفكير) و«بيت الخبرة، هي منظمات قومية غير ربحية تهدف لتقديم المشورة لمن يطلبها، فإذا حددت أجراً معيناً فهنا تكون ربحية، مثل: بيت خبرة كلية التربية في جامعة الإسكندرية لعلوم التربية، أما إذا استعانت بها الدول في مناقشة قضية معينة وخاصة إذا كانت استراتيجية أمنية مثل مؤسسة راند فهنا تكون مؤسسة غير ربحية تخضع للدولة وموظفوها يخضعون لنظام التعيين». (انظر: خلية تفكير https://ar.wikipedia.org/wiki/).
ما بعد الاستشراق
كان إدوارد سعيد قد نحت المصطلح في كتابه عن (الاستشراق) وهذا ما أكده الفيلسوف الهندي (إعجاز أحمد) في كتابه (الاستشراق وما بعده: إدوارد سعيد من منظور النقد الماركسي). (انظر أحمد 2004 ).
وذكرت مليليتشا باكيك هايدن (الأستاذة الزائرة بجامعة بطرسبيرغ) مصطلح (ما بعد الاستشراق) في حدود 1993، وما بعد الاستشراق عند هايدن «لا يعني دراسة الشرق والغرب على أنهما كتلتان ماديتان مسلّم بهما، ولكلّ منهما خواصه الذاتية وأسطورته التاريخية، قدر ما أن الشرق بذاته أو الغرب بذاته يتألف من شعوبٍ وثقافات وتقاليد متعددة. لذا، فالذي يريد أن يستشرق يمكنه أن يستشرق داخل أوروبا أيضاً، نسبة إلى أوروبا الشرقية، وضمن أوربا الشرقية يمكن أن يستشرق كأن يتبَلْقَن، حسب ما فعلت المؤرخة البلغارية ماريا تودوروفا، عندما تحدثت عن مصطلح ما بعد البلْقَنة الذي يُعتقد أنه مشتق من ما بعد الاستشراق» (الناهي د.ت: 66- 67).
استشراق ما بعد الحداثة
يخالف إيان الموند (أستاذ الأدب الإنجليزي والأميركي بجامعة فيادرنيا) ما ذهبنا إليه من تاريخ الاستشراق الجديد، ويرى في كتابه (التمثلات ما بعد الحداثية للإسلام من فوكو إلى بوديارد، المنشور في 2007) أنه ليس هناك استشراق قديم وآخر جديد لأن تاريخ الاستشراق لم ينقطع.
ويؤكد أن رموز ما بعد الحداثة من مفكرين وكتّاب يمثلون نوعاً جديداً من الاستشراق الما بعدي إذا صح التعبير. ومن هؤلاء: فوكو ودريدا وجان بودريار وجوليا كريستيفا وسلافوي جيجك والروائيون بورجيه وسلمان رشدي وبابوك).
ويرى ألموند أن هؤلاء لم يكونوا ضد الإسلام بالمعنى الذي عرفناه في تيار المستشرقين الجديد بل هم أقرب إلى الناظرين إلى الإسلام بعين جديدة تحمل في طياتها درجة كبيرة من إنصاف للإسلام، وكان من الممكن أن يستمر تاريخ الاستشراق متناغماً مع هذه النزعة التي يمكن أن نسميها (استشراق ما بعد الحداثة) المتطور عن الاستشراق الكلاسيكي والمختلف مع الاستشراق الجديد، وقد أرجع جذور هذه النزعة إلى نيتشه، الذي سيجدد مقولاته فوكو، وكان نيتشه يسخر من الحروب الصليبية على المسلمين ويلمح تطوراً حضارياً واضحاً للإسلام منذ ذلك الحين وحتى القرن التاسع عشر في أوربا.
«لقد بدا فوكو متردداً في تثمينه للدور الذي لعبه الإسلام في انبعاث الروحيَّة السياسيَّة. ولم يكن السؤال الذي تصدر ما عداه: هل يعدّ الإسلام قوة حقيقيَّة، أو أنه قناعٌ لقضايا أخرى؟ وإنما غدا السؤال: هل كان الإسلام يمثَّل تقليداً راسخاً في مقاومته للطغيان، أو أنَّه مصدر ثرُّ ليوتوبيا حازمة ومتطلَّعة؟ كان فوكو حذراً من إبراز هذا السؤال عبر ثنائيَّة الحداثة والتقليد، وما تستدعيه من توتر واحتدام. ومما لاشك فيه أن إسقاطه لهذه الثنائيِّة جعله يتوصل، عبر بعض الفقرات الهامة، إلى صيغة مكثفة لمعنى الثورة. وهي ليست ثورة بالمعنى التحليلي التقليدي للمصطلح. وإنما مساس بجوهر الثورة بوصفها: «نهوض أمة بأكملها ضد أية سلطة تضطهدها» (سلفاتور1999: 145- 155).
أما جاك دريدا فقد كان منهجه التفكيكي، عموماً، في اتجاه لا يشمل الأديان والدين الإسلامي بالذات. فهو لم يصدر كتاباً متخصصاً في هذا الجانب لكن له آراء مهمة منها تلك التي أفصح عنها في حوار قام به المفكر الجزائري مصطفى شريف معه ونشره في كتاب (الإسلام والغرب) فهو يرى أنه «من الممكن أن يساهم الإسلام في البحث عن عالم متوازن».
وتتعاطى جوليا كرستيفا مع الإسلام كمنهج توتاليتاري (شمولي) لا يمكن محاورته وتراه مناقضاً للتعددية الأوروبية والغربية عموماً.
أما بودريار فهو الذي يرى الإسلام كـ (معقل أخير لمقاومة النظام العالمي أحادي القطب). ويركز على الإرهاب الإسلامي الذي يسميه بالإسلام المتطرف أو الفائق (هايبر إسلام Hyper- Islam) حيث يعتبره أحد نتاجات فشل الحداثة: «إن المشهد الذي يحيل عليه أحداث البرجين تحكمه مفارقة تبلغ حد التداخل بين الشجب الأخلاقي والاتحاد المقدس ضد الإرهاب وبين التهلل الاستثنائي لرؤية هذه القوة الفائقة العالمة وهي تدمّر نفسها بنفسها وكأنها ترتكب انتحاراً مشهوداً، فالغرب الذي يتصّف، حسب بودريار، كما لو أنه في موقع (الله) ذي القدرة الإلهية الكلية والشرعية الأخلاقية المطلقة يغدو انتحارياً ويعلن الحرب على نفسه، وكان انهيار برجَي مركز التجارة وكأنه تواطؤ غير متوقع بين الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه.
ويعتقد بودريار أنّ النظام العالمي المهيمن يستلزم ضرورة وجود إرهاب كي يستمر في العمل والسيطرة لأنه وبدون نقيضه سينهار هذا النظام، بل إن تواطؤاً عميقاً ينشأ بين الخصمين، وبالتالي يمكن التساؤل بهذا المعنى حول من يستخدم الآخر وقد حاولت وسائل الإعلام، بحسب بودريار، أن تلصق تهمة الإرهاب بالإسلام، فالنظام العالمي، المتمثل بشبكة المصالح الرأسمالية العالمية، لابد من أن يخلق لذاته عدواً محدد المعالم يستطيع من خلاله أن يحقق مصالحه، فكان هذا العدو هو الإرهاب، وكيما يصبح محدد المعالم تم لصقه بالإسلام. في حين أن هذا الارتباط غير حقيقي في جوهره، لأن الإرهاب تم توليده من داخل النظام ذاته ولم يأتِ من خارجه». لا يتعلق الأمر بصدام الحضارات أو الأديان، كما يتعدى كثيراً محاولة اختزاله في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإسلام، صحيح أن هناك تقابلاً بينهما، لكنه تقابلٌ يكشف، عبر طيف أمريكا (التي ربما كانت مركز العولمة، لكنها بالتأكيد ليست بمفردها) وعبر طيف الإسلام (الذي لا يرادف أيضاً الإرهاب)، أن العولمة تخوض صراعاً مع ذاتها ويستطرد بودريار قائلاً: «الحرب تلازم كل نظام عالمي وكل سيطرة مهيمنة، ولو كان الإسلام يسيطر على العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام«(مصطفى 2015: 168).
ا
المراجع
1- سلفاتور، أرماندو: مقاربة فوكو للإسلام ترجمة أحمد خريس – مقتطف من الفصل الثامن لكتاب«الخطاب السياسي للحداثة» مطبعة إثتيكا، لندن (1999). نشر في مدونة الحداثة وما بعد الحداثة.
2- فوكوياما، فرانسيس: نهاية التاريخ وخاتم البشر، ترجمة أحمد أمين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة (1993).
3- لويس، برنارد: أين الخطأ؟ (التأثير الغربي واستجابة المسلمين)، ترجمة د. محمد عناني، دراسة وتقديم رءوف عباس، دار سطور للنشر، القاهرة (2003).
4 – مصطفى، بدر الدين: مراجعة في كتاب«المستشرقون الجدد – التمثلات ما بعد الحداثية للإسلام من فوكو إلى بوديارد لإيان ألموند» – مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 432، شباط/فبراير، بيروت (2015).
5 – مصطفى شريف، لقاء مع جاك دريدا: الإسلام والغرب موقع إيلاف تاريخ الاقتباس 12/ 12/ 2015 http://www.alefyaa.com/؟p=15404
6 – الناهي، هيثم غالب: إدوارد سعيد ما بين استشراق الاستشراق وما بعد الاستشراق، بحث منشور في النت، مجلة المستقبل العربي، (د.ت).
7 – هنتنجتون، صاموئيل: صدام الحضارات (إعادة صنع النظام العالمي)، ترجمة طلعت الشايب، تقديم د.صلاح قنصوه، ط2، مكتب سطور للنشر، القاهرة (1999).
تابع الجزء الثاني من المقال مع هذا الرابط