هل نختلف كثيراً عن داعش؟ علي أديب
أحاط لفيف من الممرضين والممرضات بالطفل العربي ذي السنوات الثمانية، الذي جاء ليتعالج من مرض في النخاع في هذه المستشفى المعروفة في نيويورك. كان الطاقم الأمريكي يعمل ما في وسعه ليخفف من كآبة العلاج والألم على هذا الطفل. أحب المترجم العربي الذي يرافق المريض أن يلاطف الطفل أيضاً، فعلق بالانغليزية قائلاً له إن لغته الانغليزية جيدة. أجاب الطفل فوراً: “أنا أتكلم الانغليزية لكنني لست كافراً”.
لنا أن نتخيل كيف سيصبح هذا الطفل الذي أنشأه والداه على نظرة دونية تكفيرية للآخرين، حين يصل إلى سن الشباب.
سال كثير من الحبر في العالم العربي عن داعش، وكيف تجند الشباب العربي للقتال معها، وكيف تنشر أفكارها المتشددة بينهم. لام البعض مؤامرات الغرب، ونظر البعض الآخر إلى الموضوع من ناحية طائفية بحتة، لكننا لم نجد إلا القليل من لوم الذات عن الأمراض الاجتماعية المتفشية فينا، والتي تخلق تربة خصبة لبذور الإقصاء وإلغاء الآخر.
أقوال جاهزة هل يختلف ما نعلمه لأبنائنا وما نقوم به من ممارسات يومية في جوهره عن ما تقوم به داعش بشكل أكثر فظاظة وبشاعة؟
النقائص العديدة التي نراها في مجتمعاتنا تمهد عقول الأجيال الجديدة لتتقبل فكر داعش دون أي مقاومة هل ما نغرسه في أبنائنا وما نقوم به من ممارسات يومية في حياتنا، يختلف في جوهره عن ما تقوم به داعش بشكل أكثر فظاظة وبشاعة؟ إن النقائص العديدة التي نراها في مجتمعاتنا، والتي سنعرض بعضها أدناه، تمهد عقول الكثيرين من الأجيال الجديدة لتتقبل فكر داعش دون أي مقاومة.
قمع ورفض الآخر ينشأ أولادنا على مناهج تبرز الذات العربية والإسلامية بشكل حضاري، على حساب صورة الأمم الأخرى التي قهرها المسلمون الأوائل. ويقدم التنوع البشري العرقي والديني للنشىء الجديد لا كحقيقة وضرورة إنسانية لا بد من التعامل معها بتفهم وتسامح، بل كخط يفصل بين الحق والباطل وبين المتفوق والخاسر. وعلى الرغم من أن أتباع كل ديانة ينظرون إلى ديانتهم على أنها الدين الصحيح، وأنهم من سينالون الخلاص في نهاية المطاف، فإن الخيط الرفيع والهام الذي يفصل بين هذا الاعتقاد المشترك بين الجميع وبيننا هو تقبل الآخر.
لا نزال حتى الآن نتعامل مع الآخرين بالمنطق الإقصائي نفسه الذي كانت عليه البشرية منذ قرون خلت. منطق وصم الآخر بالهرطقة والكفر إن خالف ما نعتقد. ولا يقتصر هذا على المخالف في الدين بل حتى على المخالف في المذهب. ولا يقتصر هذا الفهم على الدين، بل ينسحب على مفاصل الحياة الأخرى. ويمكن أن نرى هذا المعنى واضحاً في ما أوردته صحيفة Washington Post في خريطة التسامح حول العالم، والذي تبوأت فيه الدول العربية مراتب متدنية.
وربما تعد ظاهرة العنف الناتج عن النظرة الدونية ضد العمالة من دول آسيوية فقيرة، أوضح مثال على أن ما نعاني منه من عنصرية لا يقتصر على المخالفين في الدين، بل يتعداهم ليشمل الأعراق الأخرى. فالعديد من تلك العمالة الفقيرة التي تخدم في القطاعين العام والخاص، وتخدم في البيوت، تعاني من معاملة سيئة تبدأ بالتلكؤ في دفع الأجور، وتنتهي بالعنف الجسدي.
يحدث هذا رغم أن الكثيرين من هؤلاء العاملين والعاملات يأتون من بلدان مسلمة. ولكن هذا لا يكفي، لأننا ببساطة نتعامل معهم وفق منظور تفوق عنصري لا مبرر له، ولا يراعي حتى أسس الدين الإسلامي التي ترفض التفضيل على أساس العرق. هذا التمهيد للعقول الغضة للنشىء الجديد، يوافق تماماً ما تدعو إليه داعش من إقصاء تام للآخر، الذي لا يوافقهم في فهم الدين وتبني تفسيراته وفق منهجيتهم المتشددة. فالإقصاء ورفض الآخر ليس شيئاً غريباً عن مجتمعنا، وكل ما استجد على يد داعش هو مجرد توظيف لهذه الشحنة من الكراهية والنظرة الدونية، بشكل يبدو للشباب أكثر تأثيراً، لأنه يأتي في لباس النص المقدس ودفاعاً عن الله وشريعته كما يزعمون.
المرأة في بلادنا يتعلم الطفل منذ الصغر أن النساء ناقصات عقل ودين وأنه من الجائز شرعاً للرجال القوامين على النساء أن يضربوهون ويؤدبوهن، بل ويرى الكثيرون آباءهم وهم يرسمون هذا النموذج لهم في تعاملهم مع أمهاتهم . وفي مراحل لاحقة يقرأ، وبلغة لا تخلو من فخر، كيف سبى المسلمون الأوائل النساء في الفتوحات العظيمة، ويرتبط هذا في ذهنه بنموذج الرجل المسلم المقاتل الفحل الذي يقتل في سبيل الله ويسبي في سبيل الله. بعد هذا، فإنه من غير المستغرب أن يتقبل هؤلاء الشباب مستقبلاً أن يسبوا النساء اليزيديات ويبيعوهن في سوق النخاسة.
هذا التدرج المنطقي في النظرة إلى المرأة من كونها كائناً مهمته تلبية رغبات الرجل الجنسية وخدمته في المنزل، إلى اعتبارها متاعاً يباع ويشترى في أسواق الموصل والرقة على يد مقاتلي داعش، هو ما نجنيه من تشريعاتنا وقوانيننا، بل وتربيتنا لأطفالنا في كيفية التعامل مع الجنس الآخر. بحسب أرقام منظمة الصحة العالمية، يشهد العالم العربي نسباً هي من ضمن الأعلى في العالم في العنف ضد المرأة.
إن نموذج داعش الفظ في التعامل مع المرأة لا يخرج كثيراً عن المفاهيم المؤسسة لهذا النموذج في حياتنا اليومية. فصوت المرأة عورة، وجسدها عورة، وهي عرضة للرقابة والحساب من المجتمع، والعامل الأضعف في أي تحد مع الرجل. فماذا نتوقع من أتباع داعش، بعد أن يشحنوا بفكر ديني متطرف، غير أن يأخذوا كل هذه المفاهيم إلى أبعد نقطة في الهيمنة الذكورية؟ وهو في كل هذا أمين مع مبادئه التي أنشأه عليها مجتمعه، ومع التفاسير الدينية التي تضمن له حق القوامة والسيادة.
دور الدين في المجتمع أصبح السؤال السائد عن كل جديد في حياتنا: هل هو حلال أو حرام؟ هذه النظرة التي تحاول أن تختزل الحركة البشرية في منظور الدين فقط، تغفل عن أن الدين لا يمتلك الإجابة عن كل تفاصيل الحياة المعاصرة. وهي تحاول أن ترد على الغرب المتفوق بالعلم والتكنولوجيا، عن طريق العودة إلى مرجعية دينية تعطي هوية متميزة عن التأثير الغربي الطاغي.
ولكنها هنا تغفل عن أن مجاراة الغرب لا يمكن أن تتم بأدوات الماضي، حتى لو كان مقدساً. فقداسة المفاهيم الإنسانية شيء، وأدوات التطور الدنيوية شيء آخر تماماً، والمزج بينهما ينال من قدسية الأول ويخرج مسار الحياة من زمانها. إن الاعتماد على الدين كمنظور أوحد في التعامل مع الحياة المعاصرة يضعنا في تناقض، نلمس آثاره في كل مناحي الحياة في العالم العربي. فالنتيجة الأولى التي نلمسها في حياتنا من التطور التقني، هي تحول العالم إلى مدينة صغيرة بفعل عوامل الاتصال التي بددت تأثير المسافات الجغرافية، وقربت الشعوب من بعضها. هذا الواقع يستتبع بالضرورة انفتاحاً، وتفهماً أكثر لمن يشاركنا الحياة على هذا الكوكب، وهو يختلف جذرياً عن واقع الحياة منذ قرون مضت، حين وضعت التفاسير الدينية، وصيغت الرؤية الشرعية للآخر في بقعة من الأرض، كانت تجهل الكثير عمن حولها.
إن استمرار الاعتقاد بأن للدين دوراً بهذه الضخامة، هو مما يشترك فيه أتباع داعش والكثيرون من أفراد المجتمع العربي، وهو ما يجعلهم عاجزين عن فهم أن الزمن قد تجاوز العديد من التشريعات، رغم أنها معززة بنصوص لم تنسخ. إن الكثير من ما تطبقه داعش، منصوص عليه في مناهج دراسية ويدعو إليه دعاة معروفون.
فإذا كان المجتمع العربي لا يمارس ما يدرسه ويدرّسه بسبب تصادمه مع مبادئ الإنسانية، فإن ما فعلته داعش فقط هو أنها لم تعترف بأي استثناءات فرضتها الحضارة الإنسانية، وأعادت للحياة كل ما كان يفعله الأوائل من غزو واستحلال للأموال واسترقاق للبشر. وفي هذا تبدو داعش أكثر اتساقاً مع النفس من مجتمع لا يزال يعيش تناقضاً بين ما يعتقده ويمارسه.
الفهم الخاطئ للتاريخ يشيع في أذهاننا أن الحضارة العربية الإسلامية كانت نتيجة مباشرة لتطبيق مبادئ الدين بشكل حرفي. وفي الحقيقة، فإن القارئ المتمعن للتاريخ يجد أن أخذ المسلمين بالأسباب العصرية في ذلك الوقت من قراءة لعلوم الآخرين وترجمة الفكر الإنساني، كان له الفضل الأول عما عداه في البناء الحضاري الذي ساد المنطقة العربية. وبالمنظور القاصر نفسه عن الفهم الدقيق للتاريخ، تحاول داعش أن تعيد إنتاج الماضي السحيق بالتزام صارم، ظناً منها أن هذا ما سيبني الحضارة الإسلامية من جديد. وفاتهم أن إسهامات العرب في العلوم والفلسفة والطب وغيرها، لم تأت نتيجة تطبيق الحدود أو الغزو والسبي، بل نتيجة إعمال الفكر والبناء على الموروث الإنساني الذي جاءنا من أمم ما قبل الإسلام.
العلاقة الملتبسة مع الغرب يفشل مجتمعنا العربي في فهم أن التفوق الغربي لا يعتمد على البعد التكنولوجي فحسب، لكنه يمتد أيضاً إلى البعد الإنساني. وهذا الفشل يغرسه المجتمع في عقول أبنائه، مردداً عبارات عفى عليها الزمن، من قبيل أن الغرب بنى حضارته على أنقاض الحضارة الإسلامية. وحين يتلقف داعش ضحاياه من الشباب المسلم، فإنه يجد عقولاً جاهزة للكراهية والرغبة في الانتقام من الكفرة، الذين سرقوا إرثنا الحضاري وجعلونا في مؤخرة الأمم.
التكنولوجيا المتطورة ما هي إلا نتاج العمل الدؤوب، واحترام الوقت، والطموح الذي يحترمه وينميه المجتمع المفتوح. المجتمع الذي يحترم الفردية، ولا يكترث لدين الشخص وعقيدته، بقدر ما يكترث لاحترام هذا الشخص لقوانين المجتمع، وإنتاجيته التي ستعود بالنفع على الآخرين. هذه الصورة لا نراها في عقول الكثيرين من العرب، وبالتالي نرى مرارة بسبب التأخر الذي نعانيه، نعالجه بالكره والرغبة في الانتقام ممن سرقونا، لا بالعمل الجاد والأخذ بالأسباب.
ولو سلمنا جدلاً بفرضية المؤامرة، فإن بذور أي مؤامرة لا يمكن لها أن تنمو من دون تربة خصبة. إن النصر الحقيقي، لا ضد داعش فحسب، ولكن في مواجهة التحدي الحضاري أمام العرب، هو أن نتمكن من تنقيح التراث وتعديل الخطاب الديني بنظرة أكثر إنسانية وانفتاحاً نحو الآخر. وأن نضع الدين في حجمه ومكانته الطبيعية، كعلاقة خاصة بين الإنسان وما يعبد، وتمكين المرأة من حقوقها كشريك للرجل لا كتابع له، ومغادرة قوقعة التاريخ إلى أفق المستقبل. بهذا يمكننا أن نوفر بديلاً عصرياُ للشباب، الذين قد يجرفهم الإحساس بالضياع والكراهية والغضب، إلى هاوية لا نجاة منها. علي أديب علي أديب صحفي عراقي عمل في بغداد مع جريدة نيويورك تايمز ثم انتقل إلى الولايات المتحدة حيث حصل على الماجستير في الاعلام من جامعة نيويورك. يعمل كمدرس في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك وله إسهامات إعلامية في الجزيرة أمريكا، وPBS ويكتب بشكل مستمر لرصيف22.