من السهل أن نكتشف ان الفساد طبيعة بشرية وليس أيديولوجيا معينة. فجميع الأنظمة في العالم معرّضة للفساد، وكذا الشعوب وأفرادها، مادام ان الرادع غائب والشعور بالمسؤولية غير متوفر. لذلك، واحدة من أوهامنا الرئيسية ان نرى انحسار الفساد حين تأتي العلمانية او القوى غير الدينية. الامر ليس كذلك، فالعراق الكردي يعاني من ذلك، وهو بالتأكيد لا يدار من قبل نظام حكم إسلامي، وحركة فتح عاقبها الفلسطينيون وانتخبوا حماس بدلا عنها في 2006 والسبب الفساد. نظام مبارك المعادي لحركات الإسلام السياسي، سقط بسبب سيطرة النهب على مرافقه وما نجم عنه من طبقية حادة وصعود رجال اعمال غير نظيفين اداروا الإيقاع السياسي برمته. في العراق العربي، ليس بالضرورة ان مجيء العلمانيين او المناهضين للإسلام السياسي، يعني النزاهة. لكن وفق الوقائع ان منظومة النهب العراقية ترتبط بمنظومة دينية قوية ومترابطة، حدودها لا تقتصر على الداخل، بل إيران ولبنان أيضا، هذا إذا نظرنا الى الجزء الشيعي الأكبر نفوذا وقوة داخل الحكم، اما سنياً فالمنظومة الأيديولوجية تدار بثنائية تركية قطرية، مع بعض الدور للسعودية. فالمنظومة العقائدية الكبيرة والعابرة للحدود هي الداعم الرئيسي له. وكمثال على ذلك، حين اختنقت الجمهورية الإسلامية بالحصار المفروض من الغرب، بدأت حركة غسيل الأموال عبر العراق لفتح ثغرة في جدار الحصار، وهو ما تحدث عنه احمد الجلبي قبيل وفاته. وباتت البلاد أيضا ارضاً لبضائع إيرانية عبر صفقات غير خاضعة لمعايير النزاهة، واهمها صفقات بيع السيارات وتوظيف الطائرات المدنية للمشاركة في الحرب السورية. قيادات سياسية ورجال أعمال عراقيون يحرّكون عملية التبادل التجاري، بهدف الثراء مقابل إعطاء طهران متنفس. ومثال آخر، في إطار الصراع من اجل أنبوب الغاز القطري الى تركيا، تحركت آلة الفساد السياسي عبر أحزاب موالية للدوحة وانقرة، والرياض بدرجة أقل، ضمن العملية السياسية او في ساحة القوى المعتاشة على معارضتها. وهذا يعني المال السياسي مقابل القيام بأدوار غير نظيفة في الداخل العراقي، وهو مال متهم بعدم الاقتصار على الفساد التقليدي، بل اجتازه الى دعم جهات إرهابية داخل البلاد. وبديهي ان المصالح الاقتصادية بدرجة رئيسية هي المحرك الخارجي للفساد الداخلي، لكن هذه المصالح اليوم تتخذ لنفسها غطاء أيديولوجيا فضفاضاً. وهنا يلعب الداعم الإقليمي في الساحة العراقية مهمته عبر قوى الإسلام السياسي المتحكمة ببغداد او الانبار أو الموصل او البصرة او النجف. هذه القوى وجدت في الرابطة المذهبية، وبدقة أكثر الأيديولوجيا الدينسياسية للمذهب، اطاراً تفسر عبره هويتها وارتباطاتها الخارجية. ان الفساد الداخلي ليس مجرداً من الأيديولوجيا، انما مدعوما ومقوّما ومستمرا بفعل العقيدة الدينية. شرعيته الداخلية والخارجية تعتمد على تلك العقيدة، وديمومته وقوّته رهن بالمال الموّفر عبر عمليات النهب المنظم وصفقات إقليمية وفساد سياسي. وهذا يجعل الدعوات لنزاهة الدولة العراقية عقيمة إذا لم تصاحبها مواجهة صريحة للعقائد التي تعتمد عليها، وعلى رأسها الأيديولوجيا الإقليمية الحارسة للفساد المحلي. بمعنى ثان ان سقوط منظومة النهب غير ممكن إن لم تضرب الأسس الأيديولوجية التي تعتمدها لتكريس شرعيتها الاجتماعية. وبمعنى ثالث، لا معنى لمعارضة الدولة إذا لم يعزل الدين عن هذه المنظومة. وعلى الرغم من حالة الغضب والسخط تجاه النهب، ما يزال الشارع يميّز بين الأيديولوجيا الدينية المذهبية المعتمدة لبقاء القوى السياسية وبين فسادها، وهو ما يؤدي الى استمرار بقائها بالاقتصار على تغيير في الوجوه والخطاب الذي اعتمدت عليه بعض عناصر منظومة النهب العقائدية، او عبر إعادة انتاج المخاوف الدينية المذهبية الضامنة في الانتخابات، او من خلال اللجوء للقمع الديني كما حصل مؤخرا.
فالتمييز بين العقيدة الدينسياسية وبين حملتها، يبقي فرصة عودة حملتها، لأن القاعدة الصلبة متوفرة، وهي تلك العقيدة متمثلة بمفاهيم فضفاضة قابلة للاستثمار من قبل الفاسدين أنفسهم. لقد ربطت منظومة النهب نفسها بعقائدها وهي طبعا عقائد الشارع، ما دفعت باتجاه جعل مواجهة الفساد مواجهة للعقيدة. وما معركة الحريات الا احدى ملامح حماية ذلك الأساس الضامن لإبقاء الإطار العام للمنظومة مهما فشلت وافسدت. وبتعبير أكثر صراحة، ان القوى السياسية العراقية لا تمتلك مشروع دولة، ليس لأنها عاجزة فقط، بل لان مشروع الدولة يعني الانفصال عن المشروع العقائدي الشرق اوسطي، والعودة لأسس بناء عراق مدني، ديمقراطي، دستوري، وليس عراق عقائد الهويات، وهذا المشروع اذا ما توفر سيحرم أحزاب الإسلام السياسي من قدرتها على الاستمرار، وقدرة اسيادها الإقليميين على النفوذ.
ومن ثم، ان قداسة السياسي الناهب المستلهمة من السماء او المقتبسة من ضرورات صراع الطوائف الإقليمي، يعني بالضرورة استمراره بالحكم، ولهذا هو سيلجأ الى قوانين تلامس ضمير ووجدان الجمهور بشكل اعمى نحو خطاب ديني يمتص سخطه ضد سلب حقوقه، من قبيل حظر المشروبات الكحولية، ليستمر بالحكم أولا، وليضمن استمرار تأثير ادواته التي استطاع عبرها ان يوظف صندوق الانتخابات بشكل غير ديمقراطي لصالحه. باختصار، ان معركة الفساد لا يمكن فصلها عن مواجهة العقائد الدينساسية للقائمين على الفساد. المصدر : ايلاف