نشر الكاتب حارث حسن على صفحته في الفيس بوك مقالا مهما أكد فيه أن ما يقال عربياً بان الولايات المتحدة بلد مؤسسات ولايهم من يكون الرئيس او “انهم جميعا متشابهون ولايعنينا من يكون الرئيس” لم تعد مفيدة كثيراً لفهم عمق انقسام الشعب الأميركي اجتماعيا وسياسيا حاليا وتأثير ذلك عالمياً وعلى منطقتنا تحديدا.
هنالك الكثير ليقال حول انتخابات الغد في الولايات المتحدة، لكن ساكتفي هنا بقول ما يخص هموم واهتمامات من يقرأ العربية… الكليشيهات السائدة عربياً عن الولايات المتحدة من قبيل “هذا بلد مؤسسات ولايهم من يكون الرئيس” او “انهم جميعا متشابهون ولايعنينا من يكون الرئيس” لم تعد مفيدة كثيراً لفهم عمق الانقسام المجتمعي-السياسي الذي عكسته- وأججته- هذه الانتخابات، والتأثير المحتمل لنتائجها عالمياً. ديمغرافياً، هنالك استقطاب بين أمريكا المتعددة عرقياً والمنفتحة ثقافياً وبين أمريكا البيضاء الخائفة من زحف الألوان الجديدة وتسعى لاستعادة صورة “متخيلة بعض الشيء” عن نقاء يكاد يختفي. اقتصادياً، هنالك استقطاب بين ائتلاف ليبرالي معولم يتضمن المستفيدين من الليبرالية الاقتصادية التي تسمح بتدفق حر او حر نسبيا للمال والسلع والايدي العاملة، والقطاعات المالية ومابعد-الصناعية (قطاع المعرفة والمعلومات) ، الى جانب المستفيدين من الخدمات الاجتماعية التي تقدمها برامج الحكومة الفيدرالية (تحديداً الطبقة الفقيرة السوداء)، وبين أمريكا التي تعيش طبقتها العاملة البيضاء خريفاً بسبب هجرة رأس المال الى بلدان العمالة الرخيصة وتردي الصناعات التقليدية كالتعدين وانتاج السيارات.ثقافياً، هنالك استقطاب بين اتجاه علماني ليبرالي منفتح على أنماط حياة مختلفة لاسيما فيما يخص قضايا الجنس والاجهاض والتسامح الديني، واتجاه يرى ان الهوية الامريكية هي هوية بروتستانتية بشكل جوهري وتمثل فيها الكنيسة كمؤسسة اجتماعية، والقيم الدينية كمرجعيات للصواب والخطأ، عناصر مهمة لتشكيل الصلات والسلوكيات الاجتماعية. هو الى حدٍّ ما وبقدر من التبسيط استقطاب بين ائتلاف معولم امّا من حيث أنماط حياته أو بحكم صلاته وقيمه أو بفعل مصادر قوته، وائتلاف يريد استعادة الروح القومية عبر اعادة تشكيلها لتعكس فهماً محدداً للهوية الاجتماعية والثقافية، تضفى عليه “جوهرانية” يتم تشكيلها بخطاب الحنين الى ماضٍ انقضى (من هنا شعار حملة ترامب: لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً). https://youtu.be/bcNf5TVJEHg
ما الذي يعني قارئ العربية في كل ذلك؟
أولاً: نحن امام عالم متغير قد يؤدي صعود النزعة القومية الحمائية ذات السمات الاقصائية في بلده الأقوى الى شرعنة وفتح المجال أمام اطلاق نزعات مشابهة نجد بعض مخاضاتها المبكرة في اوربا، وبعض تجلياتها الواضحة في روسيا والهند وتركيا والفلبين ومصر. عودة لفكرة الامة منزوعة من اي صيغ ايديولوجية كونية، ومصحوبة بصورة الرجل القوي ومعه الخطاب الذكوري الاقصائي عن الـ”نحن” و الـ “هم”. سيتكرس عندها تراجع أفكار من قبيل الديمقراطية وحقوق الانسان وحماية البيئة وغيرها من تمثلات النزعة الليبرالية الغربية، لصالح سياسات قومانية سلطوية تشبه ماعرفه العالم في حقبة الحربين العالميتين.
ثانياً: فوز الديمقراطيين قد يوقف هذه النزعة ويسمح بوقت للتنفس لكنه ايضاً سيعيد بقوة طرح اسئلة مهمة مثل كيف انطلقت هذه النزعات في بلدان تتفاخر بتراثها الديمقراطي – الليبرالي، وكيف يمكن التعاطي مع وضع عالمي مولد لهذه النزعات امّا على شكل حركات دينية عنيفة او قومية غاضبة يمكنها ان تنتقل الى الممارسة العنيفة في مرحلة مقبلة. وشخصية مثل هيلاري كلنتون يصعب ان تمثل اجابة مفيدة على أسئلة من هذا النوع، وبالتالي حلّا لاشكالية تتعمق في عالم غيرته العولمة، ويعيد الانترنيت صياغة علاقاته ومؤسساته.
ثالثاً: ربما أن الآوان للشرق الأوسط ان يستفيق من وهم المراهنة على ماسيقرره الغرب حول مستقبل هذه المنطقة، ومغادرة خطاب التشكي الذي يلوم الولايات المتحدة على كل شيء، وعلى الشيء ونقيضه، بما في ذلك اخفاق الربيع العربي او اشعاله، صناعة داعش او محاربتها، معاداة ايران او التفاهم معها، أو خطاب الاتكال الذي يتصور ان المشاكل المعقدة لمنطقة في مخاض تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية هائلة يمكن حلها من خلال نوع القرارات التي يتخذها الشخص الجالس في مكتب الرئيس في البيت الأبيض. مايحدث في الشرق الأوسط ليس منفصلاً عما يحدث في العالم، لكن ارتباطه بما يحدث في العالم لايجعله رهينة لاشياء تحصل في مكان آخر، بما في ذلك الانتخابات الأمريكية. (على الهامش، هنالك نفاق شرق أوسطي في مواقف الكثير من المنحازين لأي من الطرفين. مثلاً، في نقد الاسلاميين للموقف “التمييزي” الذي يتبناه ترامب ضد المسلمين وهم يمارسون او يتبنون مواقف مشابهة في بلدانهم من تمييز تجاه غير المسلمين وتضييق تجاه من يغايرهم من المسلمين. وبنفس القدر هنالك نفاق في دعم بعض العلمانيين لترامب بسبب موقفه المتشدد تجاه “الراديكالية الاسلامية” ودعمه للمستبدين العلمانيين في المنطقة، متناسين المنطلقات الثقافية الاقصائية التي يحتويها خطابه والتي تعد بانتاج كراهيات وعصبيات لاتختلف كثيراً عن تلك التي ينتجها الاسلاميون.)
باختصار، لا تكمن القيمة الاساسية لهذه الانتخابات بالنسبة لنا فيما سيفعله أي من المرشحين في حالة فوزه/ا تجاه منطقتنا، على أهمية ذلك، بل في ماسيعنيه صعود او هبوط اي من التيارين المتصارعين في عالم لاتزال الولايات المتحدة محركه المركزي…