هافينغتون بوست عربي | ترجمة تم النشر: 21:33 15/11/2016 ASTتم التحديث: منذ 32 من الدقائق
تربعت الولايات المتحدة الأميركية طوال المئة عام الأخيرة على عرش قيادة الغرب، وقد بدأت تلك المرحلة مع الحرب العالمية الأولى عندما أعلنت واشنطن أن الوقت قد حان لتحمل مسؤولية تحقيق السلام والعدل.
الكاتب والصحفي الألماني ديرك كوربيوفايت أشار في مقال له على موقع “Spiegel” إلى أنه مع مجيء الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأميركية فقد بدأت واشنطن في التخلي دور القيادة، إذ أعلن ترامب بكل وضوح تنصله من العديد من المسؤوليات الدولية وميوله إلى العزلة، فضلاً عن اتجاهه للانسحاب الجزئي من التجارة العالمية.
كوربيوفايت أشار أيضاً إلى أن المشروع الغربي قام على اعتماد الكرامة الإنسانية حجر زاوية لا يمكن التغاضي عنه، إذ بدأت الدول لأول مرة تضمن حقوق الإنسان عقب الثورات في فرنسا والولايات المتحدة في أواخر القرن 18، وأضاف من المتوقع من الآن أن يسعى ترامب للحد من الحريات بما في ذلك حركة التجارة الحرة والهجرة، مما سيجعل الأميركيين يخشون مرة أخرى من الحصول على حريتهم خصوصاً أفراد الأقليات منهم، فهم يخشون من فكرة أنهم سيواجهون المزيد من التمييز ضد ثقافاتهم وأساليب معيشتهم تحت رئاسة ترامب.
نص المقال
حتى التاريخ يميل أحياناً إلى الشفقة، ففي يناير/كانون الثاني 2017 القادم، عندما يقسم دونالد ترامب اليمين، ليصبح بذلك الرئيس رقم 45 للولايات المتحدة، سيحتفل العصر الأميركي بعيد ميلاده الـ 100 وجنازته في آن واحد.
تشكل الغرب بتركيبته الحالي في يناير/كانون الثاني عام 1917 إذ كانت الحرب العالمية الأولى مشتعلة في أوروبا في ذلك الوقت، وكان الرئيس وودرو ويلسون في العاصمة واشنطن يُخبر مواطنيه بأن الوقت حان ليتحمل الأميركيون مسؤولية تحقيق “السلام والعدل”.
وفي أبريل/نيسان من نفس العام قال “يجب أن يُصبح العالم آمناً لتحقيق الديمقراطية”. بعد ذلك أعلن الحرب على ألمانيا وأرسل جنوده إلى أوروبا لتأمين انتصار الديمقراطيات الغربية، وصار من المفترض أن تقود الولايات المتحدة العالم الغربي. كانت هذه الأحداث مرحلة مبكرة من العولمة السياسية. وبعد مائة عام: ترامب
ترامب هو الشخص الذي لا يرغب بأي عولمة، هو صاحب خطاب القومية والعزلة بالإضافة إلى الانسحاب الجزئي من التجارة العالمية، فضلاً عن انعدام المسؤولية تجاه المشكلات العالمية مثل التغير المناخي. ويذكر أن هذا الخطاب قد اتسم بالعنصرية والتحريض والسخط خلال الحملة الانتخابية الشرسة.
بالنسبة للمشروع الغربي، تعتبر الكرامة الإنسانية حجر زاوية لا يمكن التغاضي عنه. إذ بدأت الدول لأول مرة تضمن حقوق الإنسان عقب الثورات في فرنسا والولايات المتحدة في أواخر القرن 18. وتتسم حقوق الإنسان بخصائص معيارية، حسب ما يجادل هاينريش أوغست ينكلر في كتابه الضخم “تاريخ الغرب”. ولا يمكن بأي حال أن تستوعب العنصرية ضمن هذا المشروع المعياري. وفي المقابل، لا يمت دونالد ترامب بصلة للكرامة، سواء تجاه نفسه أو تجاه الآخرين. ترامب لا يصلح لقيادة العالم الغربي، لأنه لا يرغب بذلك وغير قادر على تحمل هذه المسؤولية.
ما نواجهه الآن هو الخوف من الفراغ. ما الذي سيحدث للغرب وأوروبا وألمانيا بدون الولايات المتحدة، باعتبارها قوة رائدة؟ ألمانيا هي طفل أوروبا، أو لنقل طفل الولايات المتحدة إذا أردنا التحديد، أُعيدت مرة أخرى للحياة بفضل السخاء الأميركي، وحظيت بالرعاية لفترة طويلة، وهي الآن في حالة صدمة عميقة. طالما كان الرئيس الأميركي، رئيساً لنا في نفس الوقت، ولو بشكل ضئيل، وباراك أوباما كان رئيساً يستحقه الغرب. والآن علينا أن نتقبل الوهن الذي أصاب القيادة الغربية.
كيف يُمكن أن نصف الـ 100 عام السابقة إذاً؟ ربما يمكن الحديث عن التاريخ الغربي بعدة طرق:
قصة بطولة أو حكاية جشع أو ربما مجرد مهمة أو قصة خوف. وهذا المقال يحكي عن 100 عام من الخوف، على وجه التحديد الخوف على حُريتنا، وهو قلق أميركي جوهري كبير انتشر لباقي العالم الغربي. ونحن لا نستخدم كلمة خوف بدلالة سيئة هُنا، نحن نتحدث عن الخوف باعتباره حصناً يحمينا من الخطر. فثمة خوف مذموم وآخر محمود. الرابط الذي وحد المجتمعات
تحت قيادة الولايات المتحدة، تمكنت الديمقراطيات المتحدة مع بعضها من الاستغناء عن الأنظمة الأيديولوجية المنافسة لها بنجاح. إذ تمكنوا من هزيمة الإمبراطورية الألمانية المحافظة والإمبراطورية النمساوية المجرية في الحرب العالمية الأولى. وفي الحرب العالمية الثانية، تمكنوا من استئصال الأنظمة الفاشية في الرايخ الألماني وفي إيطاليا. وفي الحرب الباردة، ضيقوا الخناق على الاتحاد السوفيتي والتابعين له حتى انهار.
وعندما حلت بداية التسعينيات، كانت هوية المنتصر في التاريخ واضحة بلا أدنى لبس: إنه الغرب.
ما الذي جعل وضعنا بهذه القوة؟ من أحد الجوانب، يُمكننا أن نعزو ذلك إلى الحرية نفسها. وكان اقتصاد السوق المتفوق بشكل ملحوظ على الأشكال الاقتصادية الأخرى التي تسيطر الدولة فيها على الاقتصاد، عاملاً آخر.
وفي ساحة خالية من الحرب، تمكن الغرب من تطوير منتجات أفضل وحقق رخاءً وازدهاراً أكثر، وقد تحقق هذا جنباً إلى جنب مع الانتصار في الحروب وسباقات التسلح.
وفي نفس السياق، كان الخوف من احتمال خسارة الحرية رابطاً قوياً وحد المجتمعات معاً.
بالطبع كانت هناك مناقشات ومظاهرات وغضب في بعض الأحيان، بالإضافة إلى بعضٍ ممن فضلوا الشيوعية والاتحاد السوفيتي، لكنه كان من الممكن دائماً تشكيل توافق غربي من قِبل الأغلبية حول التالي: سنحافظ دائماً على حريتنا داخل الوطن وخارجه، وربما يمتد الأمر لأبعد من ذلك. هذه الفكرة ساعدت أيضاً على توحد الدول. وتحت القيادة الأميركية والدرع النووي الأميركي، كانت هذه الدول قوية وموحدة نسبياً تحت راية “الغرب”.
مثلت التسعينيات أكثر الأوقات سعادة بالنسبة للغرب. إذ بدأ العالم الديمقراطي ينمو ويتسع، وبدا أن الخوف على حريتنا قد ذهب بلا عودة. ولم تعد هناك قوة عظمى تتحدى الحرية.
وعندما حل 11 سبتمبر/أيلول 2011، بدا أن كل تلك الأمور ستعود من جديد. إذ أقدم متشددون إسلاميون على مهاجمة عاصمة الحرية، نيويورك، ومبنى البنتاغون في واشنطن العاصمة، واستمر الإرهاب بلا هوادة منذ ذلك الحين.
الآن يسود الخوف أكثر من أي وقت مضى، لكنه ليس فقط الخوف من الإرهاب. كما أنه ليس خوفاً على فقد الحرية كما كان في الماضي، بل خوف على الحرية ذاتها. هذا هو التغيير في النموذج المعرفي الذي مهد الطريق لدونالد ترامب نحو البيت الأبيض.
دائماً ما وجد نوعان من الخوف في المجتمعات الغربية في نفس الوقت. صحيح أننا نتمتع بالحرية لكننا نخشى عليها، فالحرية يُدافع عنها من جانب وتُحارب من جانب آخر، وتتوسع أو يتم تقليصها. هذا هو السؤال بالتحديد، أي خوف يُسيطر على المجتمع، وأي اتجاه يسيطر على السلطة؟ وحدهم مع مخاوفهم!
قد يتخذ الخوف من الحرية أشكالاً عديدة، وهناك أيضاً خوف الشخص من حريته الخاصة، ولكنه عادة خوف من حرية الآخرين. يقول الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر: “الجحيم هو الآخرون”.
ربما يضيف أحدهم إلى تلك المقولة “إن كانوا أحراراً”. إن كانوا أحراراً كفاية ليعبروا الحدود ويبحثوا عن أماكن جديدة للسكن، إن كانوا أحراراً كفاية ليصدروا بضائعهم وبالتالي يدخلوا في منافسة مع البضائع من البلدان الأخرى، إن كانوا أحراراً كفاية ليقاتلوا من أجل الحق في المساواة بوصفهم نساء، أو مثليين جنسياً، أو غير بيض. الرجال البيض، خاصة كبار السن منهم، يُنظر لهم على أنهم صانعو ترامب، إذ أن دعمه كان كبيراً بين هذه المجموعة بشكل خاص في الانتخابات.
لا شك أنه كان من الخطأ ترك هؤلاء الرجال والنساء اللواتي يفكرن بتلك الطريقة يواجهون مخاوفهم وحدهم، دون أخذ تلك المخاوف بجدية؛ فالمخاوف المشتعلة طويلة المدى تولد الغضب، لا سيما ضد الأشخاص المتهمين بعدم فعل شيء لتهدئة تلك المخاوف، وبعبارة إنشائية أخرى، سواء في السياسة أو الإعلام.
لأول مرة أتاح الإنترنت صدىً واسعاً لهذا الغضب وسمح له بالوصول إلى جمهور أوسع، وبتضخيم أصوات الخائفين والغاضبين، وحين نصب ترامب نفسه على رأس حركة الغضب تلك، وجد الدعم الذي احتاجه ليصبح رئيساً، ومن المتوقع منه الآن أن يسعى للحد من الحريات بما في ذلك حركة التجارة الحرة والهجرة، مما سيجعل الأميركيين يخشون مرة أخرى من الحصول على حريتهم خصوصاً أفراد الأقليات منهم، ولكن هذه المرة يأتي التهديد من الداخل. فهم يخشون من فكرة أنهم سيواجهون المزيد من التمييز ضد ثقافاتهم وأساليب معيشتهم تحت رئاسة ترامب.
يمكن تضمين هذه الدراما بأكملها في هذه الجملة: الحرية التي تعتبر الشيء الفريد الذي يمثل الغرب، تمثل تهديداً له، وهي أزمة لا يمكن أن تكون أكثر أهمية من ذلك، في الوقت الذي وصلت فيه تلك الأزمة إلى الديمقراطيات الأوروبية حيث انتشر الخوف والغضب لنفس الأسباب التي انتشر فيها في الولايات المتحدة، خصوصاً فيما يتعلق بالهجرة والعولمة والتجارة الحرة، ولكن عندما يتعلق الأمر باتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار، يشعر الأميركيون -الذين يخشاهم الأوروبيون- بالخوف أكثر من الأوروبيين أنفسهم، ولكن يبدو أنه ليس على الأميركيين أو الأوروبيين الخوف بعد الآن، لأن ترامب سيضع نهاية لتلك الاتفاقية.
في أوروبا الغربية، لم يتمكن الغاضبون والخائفون بعد من الدفع بممثليهم إلى مكتب رئيس الوزراء أو الرئاسة، على الرغم من إمكانية حدوث ذلك في انتخابات النمسا في ديسمبر القادم.
وطالما كانت أميركا علامة دالة على الغرب، ولكن إذا حكم ترامب بما وعد خلال حملته؛ فإن أرض الأحرار ستتخلى عن دورها قائدة للعالم الحر، وسيحل دور أوروبا حينئذ، سيكون على هذه القارة أن تقاوم الشعبوية بمزيج ذكي يجمع بين أخذ المخاوف بجدية، ومواجهة الغضب دون الحد من الحريات. الانفصال
لقد آن الأوان لأوروبا بأن تركز بشكل أكبر على الاتحاد الأوروبي، وقد تم الحديث عن هذا الأمر وكتابته آلاف المرات بالفعل، غير أن الصدمة التي خلفها ترامب ربما تساعد في حدوث هذا الأمر بنهاية المطاف.
لسوء الحظ، صارت أوروبا في أسوأ وضع لها منذ عقود، إذ أن البريطانيين سيغادرون الاتحاد الأوروبي، لخوفهم جزئياً من حرية الآخرين، والخوف من الاستقرار تحت راية بريطانيا العظمى. والعديد من الحكومات تؤكد على الانقسام بدلاً من توحيد القضايا الخلافية، والدول الأوروبية تنجرف بعيداً.
بمعنى آخر، إنها يمكن أن تتحمل القيام بذلك لمدة طويلة، في خلال المئة سنة التي كانت فيها الولايات المتحدة تقوم بدور حامي حمى الغرب وقائدها، سلك حلفاؤها سبيلاً مريحاً نسبياً، وكان الأوروبيون يتمتعون بترف المماطلة في متابعة القضية الأوروبية، لأن الأميركيين كانوا هناك.
فيما حافظت كل دولة على علاقة خاصة مع أميركا، والجميع اعتمد على أسلحته والعزم على أخذ الاحتياط في حال حدوث طارئ، والآن سيتعين على أوروبا أن تسعى لتوفير الأمن الخاص بها، خاصة في الوقت الذي يوجد به فلاديمير بوتين، وتنظيم الدولة الإسلامية داعش في أحياء أوروبا المجاورة.
وفي السياق ذاته، سيواجه قادة الغرب باستثناء أميركا، مهام ضخمة مقبلة، وهي مهام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تمثل بلداً قوياً ولديها قاعدة أخلاقية قوية، بعد أن أثبتت ذلك في التعامل مع أزمة اللاجئين، لا نقول بأنها ينبغي أن تكون مثل وودرو ويلسون، ولكنها ينبغي أن تصير قائدة حازمة لأوروبا، وإن لم تصبح كذلك، فهذا يعني أنها لم تنظر جيداً إلى الإشارات عبر التاريخ.
- هذا الموضوع مترجم عن موقع Spiegel الألماني.