ثقافة الاستبداد النفطي
أ. د. سليم الوردي
من المسوّغ للباحث في جذور الاستبداد المعاصر في العراق أن يتقصّى عنها في الحلقات الحضارية من تاريخه، مستعيناً بالأدبيات التي تتناول ما يسمى “بالاستبداد الشرقي” الذي تنتمي إليه حضارات العراق القديمة. بيد أنه من التبسيط والإجحاف أن نعدّ الاستبداد المعاصر في العراق إعادة إنتاج لذلك الاستبداد أو امتداد له لأن الاختلاف بينهما كبير من حيث المضمون والوظيفة.
يعزو أستاذ الآثار الدكتور تقي الدباغ استبداد الدولة في بلاد الرافدين إلى حاجتها إلى تعبئة الجهود البشرية بهدف ترويض طغيان نهري دجلة والفرات. وقد أنجز العراقيون القدامى مشاريع نظم ريّ عملاقة ؛ إقامة السدود وحفر الخزانات لخزن المياه في موسم الفيضان والإفادة منها في موسم شحة المياه، إلى جانب شق الأنهر والترع…. وغيرها(1). وعلى هذا فإن الطغيان السياسي كان أداة لمواجهة طغيان الطبيعة، من اجل تسخيرها لخدمة الإنسان، لهذا يعدّ ـ بحق ـ استبداداً بنّاءً منتجاً، أنتج حضارات وادي الرافدين الشامخة.
وإذا اقترنت حضارات وادي الرافدين بالاستبداد والعنف، فإن أفول آخر حضاراته (العباسية) قاد إلى نكوص الدولة عن وظيفتها الحضارية في مواجهة عنف الطبيعة، من دون أن تتخلى عن بطشها وعنفها إزاء المجتمع. ولهذا تعرض المجتمع العراقي إثر سقوط بغداد على يد هولاكو سنة 1258 إلى عنف مزدوج : عنف الطبيعة المنفلت، وعنف الغزاة الذين تعاقبوا على حكمه حتى تأسيس الحكم الوطني سنة 1921(2). أما الاستبداد في المشروع السياسي المعاصر للعراق فلم يعمل على تعبئة المجتمع لاستخدام الموارد الطبيعية المتاحة، بل عاش عيالاً عليها، مستخدماً إيّاها لقهر المجتمع حيناً، وترويضه حيناً آخر.
لهذا فنـحن أمام نمطين للاستبداد : استبداد حضاري منتج وآخر طفيلي استهلاكي، فما الذي وقف وراء هذا التحول في جوهر الاستبداد ووظيفته؟.
يمثل العهد الملكي (1921-1958) محاولة لكسر المسلسل التاريخي للاستبداد في أرض الرافدين. وتجلّى ذلك في الأسس الليبرالية التي قام عليها دستور سنة 1925، الذي صمم لإدارة مجتمع مدني، بيد أنه لم يحظ بحاضنة اجتماعية تتكفله بالرعاية فأغلب أطياف المجتمع العراقي آنذاك كانت تنتمي في ثقافتها ووعيها إلى مؤسسات ما قبل المجتمع المدني: عشائرية وطائفية ومناطقية… وغيرها، ولم يمض أكثر من عقد ونصف العقد على تأسيس الحكم الوطني حتى عبّرت نزعة الاستبداد عن نفسها في انقلاب الفريق بكر صدقي سنة 1936. كما وأعقبه العديد من المحاولات الانقلابية توجت بانقلاب مايس 1941. كما ان العهد الملكي نفسه بدأ بالتراجع في سنواته الأخيرة عن منطلقاته الليبرالية والميل نـحو الاستبداد، وإن لم يكن بالصورة السافرة التي آل إليها في العهود اللاحقة.
استند السلوك الليبرالي (الهش) للعهد الملكي إلى موازنات اجتماعية واقتصادية وسياسية، أدارها بحنكة في مرحلة التأسيس الملك فيصل الأول. وعلى الرغم من اختلال التوازنات السياسية للسنوات 1936-1941 فقد استعيدت الأجواء الليبرالية(نسبياً) بعد الحرب العالمية الثانية. واستلزم التراجع عنها في الخمسينيات الاستناد إلى ركيزة معوضة. وقد تمثّلت في الزيادة الكبيرة لإيرادات النفط على أثر اتفاق مناصفة الأرباح مع شركات النفط الأجنبية سنة 1952. ونتيجة لذلك ارتفعت إيرادات العراق من النفط إلى 71 مليون دينار سنة 1952 مقابل 31.5 مليون دينار سنة 1950 تشكل أكثر من 6% من الدخل القومي. بيد أن هذه النسبة ارتفعت إلى 28% سنة 1957 وبينما كانت إيرادات النفط لا تمثل أكثر من 16% من إيرادات الدولة حتى سنة 1950، ارتفعت إلى 30% سنة 1958(3).
ويلاحظ أن اشتداد القبضة القمعية للسلطة في خمسينيات القرن الماضي كان يوازيها ويوازنها انفتاح يدها في الإنفاق الحكومي. وقد تمثّل ذلك في مشاريع مجلس الاعمار التي وفرت فرص العمل لآلاف العاطلين، وتحسين مستوى المعيشة للطبقة الوسطى الناشئة، نتيجة للزيادة الملموسة في رواتب موظفي الدولة على أثر صدور قانون الخدمة الموحد سنة 1956.
وتجدر الإشارة بهذا الصدد إلى تأثير ذلك في الطبقة الوسطى التي كانت محور الحراك السياسي. فحين شحّت السلطة بالحريات الديموقراطية على هذه الطبقة المنورة، قابل ذلك تحسن في مستوى معيشتها وكما يقول الشاعر:
“يدٌ تشحّ وأخرى منك تأسوني”
وقد انعكس كل ذلك في انخفاض فاعلية الشارع السياسي ودرجة ضغطه على السلطة. فلم يقيّض لانتفاضة تشرين الثاني سنة 1952 -من حيث الامتداد والفاعلية- ما حظيت به وثبة كانون الثاني كانون الثاني 1948. اما مظاهرات تشرين الثاني 1956 استنكاراً للعدوان الثلاثي على مصر، فكانت أضعف من الوثبة والانتفاضة. ونوري السعيد الذي كان يسلك مع المعارضة السياسية حتى الخمسينيات طريق المساومة، ويشرك بعض رموزها في تشكيلاته الوزارية، وراح يزج في الخمسينيات بتلك الرموز في السجن. ولم يعد يطيق وجود معارضة تحت قبة البرلمان. فكان شرط قبول تشكيل وزارته الثانية عشرة في 13 آب 1954 حل المجلس النيابي، لأن المعارضة السياسية كانت تشغل 14 من مقاعده وقد سوّغ ذلك للمعارضة تبنّي الأسلوب الانقلابي (غير الدستوري) حين أوصدت السلطة بوجهها الطريق البرلماني الدستوري. وهو ما جعل انقلاب 14 تموز 1958 يحظى بإسناد جماهيري ساحق.
أما بعد 14 تموز 1958 فقد تخلّى المشروع السياسي العراقي عن النفس الليبرالي الضعيف الذي كان يتنشقه في العهد الملكي. حين فوّضت جماهير الشعب النخب العسكرية الحاكمة حق تمثيله والتحدّث باسمه. بينما راحت بموجب هذا التفويض تعزز ركائز الاستبداد مستندة إلى الركيزة المالية، إيرادات النفط المتزايدة، فقد ارتفعت من 98 مليون دينار سنة 1957 إلى 235 مليون دينار سنة 1962، أي بزيادة كبيرة بلغت نسبتها 140%. وبعدما كانت إيرادات النفط تمثّل 28% من الناتج القومي سنة 1957، أصبحت تمثّل نسبة 47% في سنة 1962.
ولم يكتف العهد العارفي (1963-1968) بزيادة إيرادات النفط ورجحان القطاع الحكومي في الان الاقتصاد العراقي، بل أعرب عن تضايقه من القاعدة الاقتصادية المتواضعة للرأسمال الوطني فأقدم على تصفيتها بموجب قوانين التأميم في تموز 1964. وقضى بذلك على التطلعات الليبرالية السياسية التي كانت تروّج لها البرجوازية الوطنية العراقية.
أما في عهد البعث فلم يعد النفط يمثّل الشريان الأبهر للاقتصاد العراقي وحسب، بل أصبح يستغرق دورته الدموية، فعلى أثر تأميم قطاع النفط الأجنبي في حزيران 1972، أصبحت إيرادات النفط تمثّل العامل الحاسم في تكوين الناتج القومي العراقي. ونتيجة ذلك ارتفعت مساهمة القطاع العام في الناتج القومي إلى ما يتجاوز نسبة 70% في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
وحين نتابع سيرة الاستبداد السياسي المعاصر في العراق نكتشف وجود علاقة دالّية بين استشرائه. وزيادة عائدات النفط، فحتى خمسينيات القرن الماضي كانت عوائد النفط تعد بعشرات الملايين من الدنانير في الخمسينيات، وبمئات الملايين في الستينيات، لتبلغ آلاف ملايين الدنانير في السبعينيات مما يؤشر أن الاستبداد السياسي كان يسير بمنـحى متصاعد مع زيادة عوائد النفط، أليس من المسوّغ لنا والحالة هذه أن نتحدّث عن استبداد نفطي مثّل قاعدة للاستبداد السياسي؟.
تميميّة النفط
إن أخطر ما زرعه الاستبداد النفطي في وعي العراقيين هو ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً”تميمية النفط”،والتميمية ترجمة للمصطلح الشائع في الأدبيات الماركسية (Fetishism) والتي طالما ترجم إلى العربية بـ”القيشية والوثنية والصنمية”(4) . ولكنني أميل إلى ترجمة المفكر جورج طرابيشي “التميمية”(5) التي اشتقها من التميمة التي يكنّى بها كل شيء يعبده البدائيون لما ينسبوه له من قوى سحرية خارقة، تنعم بالخيرات حين ترضى، وتنتقم حين تغتاظ.
وتقترن تميمية النفط (Petroleum Fetishism) لدى العراقيين بمشهدين متناقضين: مشهد البحبوحة التي عاشوها في سبعينيات القرن الماضي بفضل الفورة النفطية، حين دخلت بيوت الكثيرين منهم مختلف المقتنيات المستوردة. وراحت مجاميع كبيرة منهم تجوب بلدان الغرب وفي جيب كل فرد منهم مبلغ 3400 دولاراً. وينقلب المشهد إلى نقيضه في التسعينيات حين توقف شريان النفط بسبب الحصار الاقتصادي، وأصبحت ورقة المائة دولار تمثل حلماً لأغلب العراقيين الذين اضطروا إلى بيع أثاث بيوتهم، وبل وحتى ملابسهم في المزادات العلنية، للحصول على لقمة العيش. وبعدما كانت المرأة العراقية تشتري المصوغات الذهبية بمئات الغرامات في السبعينيات، أصبحت تشتري البقوليات بمئات الغرامات في التسعينيات.
واليوم حين زال الاستبداد السياسي، لا تزال تميمية (وثنية) النفط تهيمن على وعي العراقيين، وتشحذ خيالهم الرومانسي، تغذيها وعود بتوزيع عائدات النفط عليهم من قبل بعض الأوساط السياسية. وتدور الأحاديث بين الناس حول الآفاق الزاهية لزيادة عائدات النفط، وكيف سيصطف العراق في طليعة البلدان المصدرة للنفط. وتبدأ الحسابات المتفائلة: إذا بلغ تصدير النفط 5 ملايين برميل يومياً سترتفع عوائده السنوية إلى زهاء 90 مليار دولار. إذا وزع نصفها على العراقيين، ستكون حصة الفرد 1500 دولاراً، وستكون حصة عائلة مكونة من ستة أفراد 9000 دولار. عندها ستتمكن كل عائلة عراقية خلال سنوات معدودة من بناء دار سكنية وشراء سيارة. ويحلق خيال البعض فيطمح إلى استخدام مربية شرقو/ أسيوية، لتربية أبنائه !!. إنها أضغاث أحلام الحرمان تغذي لدى العراقيين السجية “التنبلية”.
التنبليّة
التنبل: مفردة تركية كناية عن الكسلان البليد، واشتق منها “تنابلة السلطان”، ثم عرِّفت إلى “تنبل أبو رطبة” لوصف الخامل الكسلان الذي يمضي وقته. مستلقياً على ظهره تحت النخلة، فاتحاً فمه، في انتظار أن تسقط رطبة من عثاقيلها فيتغذّى عليها. ويروق لي أن أدخل هذه المفردة ورشة “التنظير” لأنـحت منها مصدراً صناعياً هو “التنبليّة”. وعسى أن يروق للأجانب فيترجمونها إلى “Tanbalism” ليصطف إلى جانب المصطلحات مهيبة الجانب التي تنتهي بـ (Ism)!!.
ويقابل “التنبليّة” في الأدبيات الاقتصادية والاجتماعية ما يسمى بـ”الثقافة الريعية”. وللريع في مذاهب الاقتصاد تعاريف مختلفة لا مجال لاستعراضها , وأنتقي منها تعريف عالم الاقتصاد الانكليزي وليم سنيور (1790-1846) لانسجامه مع مقصدنا، ومؤداه: أن الريع يشمل كل نوع من الدخل يحصل عليه الإنسان من دون تضحية. وينطبق هذا التعريف لحد بعيد على الاقتصاديات القائمة على الريع النفطي. وبهذا الصدد يقول المفكر الفلسطيني عزمي بشارة:”إن قاعدة الدولة التسلطية الاقتصادية في الوطن العربي هي الاقتصاد الريعي، الذي يمنـح الدولة مجالاً واسعاً للمناورة في علاقتها مع المجتمع”(6).
وينقل عن الكاتب حازم الببلاوي رأيه في سمات الدولة الريعية:
اقتصاد تسيطر عليه الحالات الريعية.
يعتمد على الريع الذي يأتي من الخارج.
قلة من القادرين على العمل تعمل في إنتاج الثروة الريعية.
تحتكر الدولة الاقتصاد والسلطة السياسية(7).
وتفاديا للتعميم نركز على التداعيات السياسية والاجتماعية والثقافية للاستبداد النفطي في العراق لتميزها عن التجارب الريعية الأخرى.
تميزت مرحلة ما قبل خمسينيات القرن الماضي في العراق، قبل أن يذر الاستبداد النفطي بقرنه، بالحراك الاجتماعي، على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي. فقد نشط العديد من الأحزاب والتجمعات السياسية وظهر إلى العلن وشبه العلن عدد آخر. وتمكنت من إعداد الجماهير لوثبة كانون الثاني 1948. كما ونشطت المبادءات الفردية على مستوى الاقتصاد: الصناعة والزراعة والتجارة. أما على مستوى الثقافة فقد ترعرعت وتفتقت مواهب الأدباء والشعراء والفنانين ورجال العلم والفكر. وحين هيمن واستشرى الاستبداد النفطي في العهود اللاحقة حاول أن يضع تحت إبطه رموز الفكر والعلم والأدب. ومن أفلت منهم تشرد في بلاد المهجر.
لقد ربط الاستبداد النفطي الجماهير بعجلته، حين أصبحت الدولة ربّ العمل الأكبر. والحق يقال أنها كانت سخية في توفير فرص التوظيف في دوائرها ومؤسساتها إبان الفورة النفطية في سبعينيات القرن الماضي. حين انتهجت الدولة أسلوب التوزيع المركزي في تعيين جميع خريجي الكليات والمعاهد، فأتخمت دوائرها ومؤسساتها بالموظفين الفائضين عن حاجتها. وبهذا شهد العراق حملة واسعة لتجيير البطالة من الشارع إلى دوائر الدولة. ولم تشعر الدولة بالآثار الخطيرة لهذه السياسة إلا في أواسط الثمانينيات حين ارتفعت مديونية العراق وانخفضت صادراته النفطية بسبب الحرب العراقية الإيرانية. عندها قررت الدولة إجراء وقفة لتقييم المسيرة الاقتصادية للبلد. فنظم ديوان الرقابة المالية سنة 1985 حملة كبيرة لتقييم كفاءة أداء منشآت ومؤسسات الدولة. وكشفت تلك الحملة الاستقصائية عن تدنّي مريع في كفاءة أدائها. واتخذ ديوان الرئاسة على أساسها إجراءات سطحية تناولت اعراض العلّة من دون أن تعالج أسبابها. فألغيت بعض المؤسسات، وروّج لما سمّي بترشيق أجهزة الدولة وتفييض أعداد من الموظفين. ومن نافل القول أن تلك الإجراءات كانت عاجزة عن معالجة العلل البنيوية للدولة العراقية، التي سرعان ما تكشّفت على نـحو مأساوي على إثر غزو العراق للكويت سنة 1990. حين توقف تصدير النفط، فظهر الاقتصاد العراقي بائساً كالابن المدلل الذي يفقد أبويه فجأة. لأنهما لم يعلماه كيف يكسب قوته.
علمه كيف يصطاد السمك
يقول المثل الشائع:”لا تعطه سمكة، بل علمه كيف يصطاد السمك”. أي لا تبقه مستهلكاً، بل أجعل منه منتجاً. عندها لن يجوع أو يحتاج إلى عطاياك. فهل كان الاستبداد النفطي في العراق يجهل دلالات هذا المثل، حين سلك خلاف مؤداه , وراح يجود على العراقيين بسمكة بين الحين والآخر بينما يهمل تعليمه اصطياد السمك!.
إننا هنا لا نعرّض مثلا ساريا، بل نتعرّض لأخطر معضلة بنيوية في المشروع السياسي العراقي، قادت إلى ترهله وانهياره , فالحاكم يتزلف إلى الجمهور، فيرمي إليه بالسمكة، والجمهور ينتظرها بفارغ الصبر، لينتصب أمامه أنّى شاء جواداً كريما. وإذا كان من المبرّر للجائع أن يلتقط ما يرمى له من طعام، فإن من خباثة الحاكم أن يبقيه جائعاً يجهل كيف يكسب لقمة عيشه.
لقد ربط الاستبداد النفطي المجتمع العراقي إلى عجلته بأرشية قوية. حين تحكم بالشريحة الأعظم من سوق العمل، وأتخم مؤسسات ودوائر الدولة بالعاملين، كما مر ذكره. كما تحكّم بمنظمات المجتمع المدني من جمعيات ونقابات ونوادي، وبمفاصل الحياة الثقافية والفكرية، ربما سأل القارئ عن سبب استخدامنا مفردة “الأرشية” (مفردها رشاء)، بينما يمكن الاستعاضة عنها “بالحبال” مثلاً؟، لقد وظفتها بقصد لأنها مشتقة من المصدر “رشا” ومنه الرشوة فكأني بالاستبداد النفطي حرص على شد المجتمع العراقي إليه بأرشية مصلحية، سبيلاً لرشوته، وشراء ولائه.
لقد عمل الاستبداد النفطي على تعويق المجتمع العراقي، فإلى جانب العوق الجسماني لمئات آلاف العراقيين (بسبب الحروب والعقوبات البدنية) أسلمه إلى شلل الإرادة والانقياد السلس لما يملى عليه، ولم يعد العراقي يرى فرصاً للحياة إلا ضمن آليات الاستبداد النفطي وفي فضاء دولته. وإذا فكّر بالتمرد هاجر إلى خارج العراق، والهروب هو أرخص حالات التمرد، هذا إذا عُدّ تمرداً. كان الاستبداد النفطي عدواً لدوداً للمبادءات الفردية والخاصة. لا يسمح بها إلا إذا تحققت تحت خيمته، وتحكم في مساراتها، كان يدرك جيداً أن العراقيين إذا تعلموا اصطياد السمك سينفلتون من قبضته. لقد تشكلت في كنف الاستبداد النفطي ثقافة ريعية حوّلت المجتمع العراقي من مطالِب بحقوقه في ثرواته إلى متسول ينتظر الصدقات والحسنات من الدولة، إن الحركات المطلبية للجماهير هي أكثر ما يستفز الاستبداد النفطي فيسارع إلى قمعها بشدّة. وإذا سمح ـ ولو نادراً ـ بحركة مطلبية، فلا بد أن يكون هو عرّابها، ليتصنع سرعة الاستجابة لها، فيظهر أمام العالم ديموقراطياً يستجيب لمطاليب الجماهير. وعلى هذا النـحو يمسخ وعي المجتمع وتشلّ إرادته وتتلاشى مبادراته.
التداعيات الراهنة للاستبداد النفطي
ربما خيّل للبعض أنّ الاستبداد النفطي قد زال مع انهيار هيكله السياسي، في الواقع أن العلّة لا تزول بزوال المعلول، بل تجد مسارب جديدة… معلولاً آخر يتبرقع بأغطية وعناوين جديدة ؛ إذ إن تداعيات الاستبداد النفطي لا تزال فاعلة في حياتنا : واقعاً ووعياً. ويمكن أن نؤشّر بعض تجلياته الراهنة.
بسبب شلل الحياة الاقتصادية يتزايد الاعتماد على عائدات النفط إذ أصبحت تمثّل نسبة 92% من إيرادات الموازنة العامة لسنة 2006(8). بينما لم تكن تمثل حتى خمسينيات القرن الماضي سوى 16% من إيرادات الخزينة.
يسترعي الانتباه أن الموازنة العامة لسنة 2006 لا تزال تعتمد المركزية المفرطة في تخصيص اعتماداتها، فلم تخصص إلا مبلغ 77 مليان دينار فقط لإنفاق مجالس المحافظات، وهو ما يمثل نسبة 1,5 بالألف من نفقات الموازنة البالغة 50 تريليون دينار. ألا يمثل ذلك إمعاناً في إبقاء صلاحية الإنفاق محصورة في قبضة المركز، وبما يتقاطع مع توجهات الدستور في إشاعة اللامركزية في إدارة شؤون البلد! إن المركزية المفرطة هي أهم سمات الإدارة المستبدة.
ابتدع الفكر السياسي العراقي بعد 9 نيسان 2003 مصطلح “الوزارات السيادية”. وبصرف النظر عن مسوّغات هذه البدعة، فقد تربعت وزارة النفط على عرش الوزارات “السيادية”. ويلاحظ أن المساومات كانت تجري على جميع المحافظ الوزارية “السيادية” باستثناء وزارة النفط، فهي من حصة الكتلة النيابية الأكبر. مما يجعل من وزارة النفط رمزاً للسيادة الوطنية بامتياز.
مع استشراء الاستبداد النفطي كان جهاز الدولة العراقية يترهل أكثر فأكثر وتتفاقم فيه البطالة المقنّعة، ويتفق الجميع أنها تستحوذ على ما لا يقل عن 50% منه ولكن على الرغم من إقرار ذلك فإن أغلب القوى السياسية تطالب الدولة بمزيد من الفرص الوظيفية. ونشهد اليوم أعداداً كبيرة من المواطنين يلتحقون بوظائف جديدة. مما سيوصل فاعلية أجهزة الدولة إلى أدنى المستويات بموجب معايير الجدوى الاقتصادية. وهو ما يؤشّر أن الاستبداد النفطي يعزّز من قاعدته المادية في حياة المجتمع العراقي.
مثّل النهج “المكرماتي” أحد سمات الاستبداد النفطي. ولا نزال نلمس بعض تجلياته في العهد الجديد. وقد ظهر ذلك في “العيديات” التي جادت بها الحكومة على موظفيها سنتي 2004 و 2005. وتقدّر مبالغها بمئات مليارات الدنانير. وللمرء أن يتساءل لماذا لم تفكّر الحكومة بإنفاق هذا المبلغ على شكل قروض ميسّرة تقدّم للراغبين في استثمارات صغيرة توفّر فرص العمل لآلاف العاطلين، وتسهم في تحريك دورة الاقتصاد العراقي المشلول، محققة بذلك إضافة جديدة إلى الدخل القومي!.
وكأني بالاستبداد النفطي يريد أن يبقى لوحده البقرة الحلوب، التي تحتكر إنتاج الحليب (الثروة)، لا تنافسها في ذلك بقرات أخرى، مهما قلّ شأنها.
متى نتحرر من ربقة الاستبداد النفطي؟
يبدو لي أن قلة من العراقيين يطرحون مثل هذا السؤال، لأن جلّهم يرى أن إثارة الموضوع -من أساسه – ضرباً من الترف التنظيري، فالجائع يتلهّف للحصول على لقمة الأكل، ولا يكترث من أين، والضمآن إلى جرعة الماء وإن كانت كدرة.
لقد أوصلنا الاستبداد النفطي إلى حالة لم نعد نستطيع فيها فكاكاً من ربقته وكل ما نطمح إليه هو أن يكون أكثر سخاءً معنا، وأقلّ استئثاراً بالثروة النفطية أو بتبديدها. ولا يمكن لنا والحالة هذه، حتى أن نفكّر بالانعتاق من ربقته.
وإذا تقصينا اليوم بعمق عن أصل الصراعات السياسية الدموية التي تدور رحاها على الساحة العراقية سنجد أنها مضمّخة برائحة النفط الكريهة، فقد أصبحت الثروة النفطية الهاجس الذي يستغرق الجميع، ويثير خوف البعض من البعض الآخر أن يستأثر به ويحرمه منها، وأصبحت البصرة والعمارة وكركوك مدناً مدللة يخطب ودّها الجميع لأنها تطفو على بحيرات من النفط.
طالما توهم الفكر السياسي العراقي أن تحرير الثروة النفطية من قبضة الاحتكارات الأجنبية يمثّل دعامة للاستقلال الاقتصادي والسياسي الناجز للبلد، وما درى أنه سيصبح دعامة للاستبداد الذي سيسير بالبلد خطوة إثر خطوة إلى التفريط باستقلاله ويحوله إلى بلد محتل.
واليوم بعد تداعي الاستبداد السياسي : مدير أعمال الاستبداد النفطي، راح الأخير يباشر أعماله بنفسه. وما الفوضى الضاربة أطنابها في البلد، إلا حصيلة تخبّطه بسبب فقدانه مدير أعماله. وسيستمر الحال على ما هو عليه حتى يجد مدير أعمال جديد، ينظم إيقاع وجدول أعماله، ويبدو أن تطلعنا لا يتجاوز ذلك!.
أما متى نتحرر من رقبة الاستبداد النفطي، فأمر ذلك يتعلق بإعادة صيرورة المجتمع العراقي على أسس جديدة، وحين ندرك مغزى مقولة “الاستبداد النفطي” ونبدأ بالتحرر من وثنية سلعة النفط، ونطرق أبواباً جديدة للثروة ولا أملك تأريخاً محدداً لتحقق ذلك، بل بعض المؤشرات:
ابتداءً أن تنخفض مساهمة القطاع النفطي في تكوين الدخل القومي إلى أقل من 50%.
أن تمثل نسبة مساهمة عائدات النفط في إيرادات الموازنة العامة للدولة العراقية إلى أقل من 50%.
أن يتقلّص جهاز الدولة العراقية إلى نصف ما هو عليه الآن.
وأن تستمر النسب أعلاه في الانخفاض.
الهوامش:
- د. الدباغ، محمد تقي، البيئة الطبيعية والإنسان، حضارة العراق، الجزء الأول، بغداد 1985 صفحة 54-55.
المصدر السابق، عن:
Hazem Beblawi and Giacomo Luciani, “The Rental State” London, Croom Helm 1977 P.P. 51-52.
الموازنة العامة لسنة 2006، جريدة “الصباح” بغداد، العدد 708 في 26/11/2005.