حقيقة بهلول .. اعقل المجانين بهلول : بهلول بضم الباء وجمعه بهاليل. معناه الكريم المحيي أو النبيل
والسيد الجامع لكل خير
وبهلول من عقلاء المجانين. هو ابو وهيب، بهلول بن عمرو بن المغيرة الصيرفي. ولد في الكوفة وتوفي في بغداد نحو سنة 190هـ. له أخبار ونوادر وشعر. وكان جامعاً للخصال الحميدة. كان جميل الخلقة فكهاً، التقى به الرشيد في الكوفة سنة 188هـ- 802م فأعجب به وجعله من بعض خاصته ليسمع نوادره. وكان بهلول يرفض منح الرشيد وجوائزه. ويرى بعض العامة أنه يمت بصلة القرابة إلى هرون الرشيد وأنه ابن عمه أو أن بهلول عمه وإن الرشيد اغتصب الخلافة منه. فتظاهر بهلول بالجنون لئلا يقتله الرشيد. واطلقوا على بهلول الرشيد لقب سلطان المجاذيب. وصار اسمه في ما بعد صفة لكل مخبول أو شبه مجنون أو البلاهة.
وقد كان بهلول من العلماء المطيعين لله سبحانه وتعالى والمخلصين لآل بيت رسول الله عليهم السلام والداعين إليهم ولا سيما الإمام موسى بن جعفر الكاظم وكان معاصراً له. وقيل إن الرشيد أراد إجبار بهلول على التوقيع على وثيقة إصدر فيها أمره بقتل الإمام الكاظم فذهب البهلول إلى الإمام وأخبره بذلك، فأمره الإمام أن يتظاهر بالجنون ليكون في أمان من سطوة الرشيد. ولعل ذلك سبباً لقولهم أنه من عقلاء المجانين.
وكان جنون بهلول ينتابه من حين إلى حين، فهو إذن عاقل في معظم أوقاته. وكانت لغته سليمة وهو راوية للقصص التي تدل على سرعة الخاطر.
ويقول الذهبي محمد بن أحمد (ت 748هـ) أن بهلولاً كان يروي الأحاديث عن عمرو بن دينار وعاصم بن بهدلة وأيمن بن نائل، وأن أحاديثه لا مقبولة ولا مرفوضة. ولم يدون أحد من تلاميذه شيئاً من اقواله.
وصارت نوادره يتناقلها الناس ويكتبها المؤلفون، واضيف إليها ما أضيف من نوادر غيره. ولم يعد بهلول ذلك المجنون الورع وصارت تنسب إليه نوادر لا تنسجم ونوادره الأولى في صفة الذكاء، وتتسم نوادره أحياناً بالهجاء والفحش.
https://www.youtube.com/watch?v=9TruxoMFhck
تعريف النادرة
النادرة خبر قصير يشبه الحكاية المضحكة وهو نوع من أنواع الفكاهة، ومن الفكاهة السخرية والمزاح والهزء والتهكم والهزل والنكتة والهجاء وحسن الجواب والدعابة وغير ذلك.
والنادرة في التراث العربي قديمة جداً، وهي في العموم ترد مكتوبة وتشيع في بيئة تتسم بالرخاء والترف والاستقرار والقوة. وقد يحصل انقلاب في المفاهيم والحقوق. فلابد من توفر الذكاء في قائلها وسامعها وقد تكون عميقة وقد تكون سطحية. وتقدير ذلك يدل على رقي أهلها الاجتماعي والسياسي والنفسي.
وقد أفرد للنوادر في التراث العربي كتب كثيرة جداً، منها ما ينسب إلى فئات من الناس ومنها ما ينسب إلى أشخاص بعينهم.
أين ذكر البهلول ومن ذكره؟
وردت ترجمة بهلول وذكر أخباره ونوادره في فوات الوفيات والبيان والتبين، ونزهة الجليس والأعلام والقاموس الإسلامي، والعقد الفريد، ذكره ابن الجوزي، وابن تغرى بردى والشعراوي واليافعي والنقراوي وغيرهم. وذكرناه مع بعض نوادره في مجلة التراث الشعبي العدد 10 سنة 1972 في موضوع الحكاية الشعبية العراقية، ثم في كتابنا الحكاية الشعبية العراقية 1979.
بعض نوادر البهلول
من مجمل نوادره التي توردها المصادر في باب عقلاء المجانين أن يكون القارئ صورة لبهلول وشخصيته وأحواله الفكرية ومن نوادره التي تعد من الأجوبة المسكتة أن رجلاً وقف على بهلول فقال له: تعرفني؟ فقال بهلول: أي والله، وأنسبك نسبة الكمأة، لا أصل ثابت ولا فرع نابت.
وكان بهلول بذكائه يفوت الفرصة على من ينوي السخرية منه ويحولها إلى خصمه، فقد دعا الرشيد بهلولاً ليضحك منه، فلما دخل دعا له بمائدة فقدم عليها خبز وحده، فولى بهلول هارباً، فقال له إلى أين؟ قال: أجيئكم يوم الأضحى، فعسى أن يكون عندكم لحم.
ومن حسن تخلص بهلول أنه رمى رجلاً فشجه، فقدم إلى اوالي فقال له: لم رميت هذا؟ قال ما رميته ولكنه دخل تحت رميتي. ومما يدل على ذكاء بهلول وحسن تفكيره بالنتيجة التي يرمي إليها أنه قال يوماً: أنا والله اشتهي فالوذج (حلوى) وسرقين (روث البقر). فقالوا والله لنبصرنه كيف يأكل. فاشتروا له الفالوذج وأحضروا السرقين. فأقبل على الفالوذج واكتسحه، وترك السرقين. فقالوا له: لم تركت هذا؟ قال: أقول لكم أنا – والله يقع لي أنه مسموم، من شاء أن يأكل ربع رطل حتى آكل أنا الباقي.
وكان من ذكائه وحسن تخلصه أن بعضهم قال: مررت يوماً ببهلول وهو يأكل قرينة حواري (خبز فرن) مع دجاجة، فقلت له: يا بهلول: أطعمني مما تأكل، فقال: ليس هذا لي – وحياتك – هذا دفعته إلي أم جعفر آكله لها.
وإنه كان يقول الحق في أي مقام كان. فقد حج موسى بن عيسى (الهاشمي وهو امير عباسي) ببهلول معه. فأقبل موسى يدعو عند البيت ويتضرع وبهلول يقول: لا لبيك ولا سعديك! فقال له العباس بن موسى: ويلك تقول هذا القول للأمير في مثل هذا الموقف؟ قال بهلول: أقول له ما أعلم أن الله يقول له.
واراد الرشيد يوماً أن يختبره فقال له: من أحب الناس إليك؟ فقال من أشبع بطني. فقال الرشيد: أنا أشبعك فهل تحبني؟ قال: الحب بالنسيئة لا يكون.
ومما يدخل في باب الفقه وتوزيع التركة أن المرء يتوقع غير ما سيسمع. فقد قيل لبهلول. ما تقول في رجل مات وخلف أماً وزوجة وبنتاً ولم يترك شيئاً؟ فقال: للأم الثكل وللأبنة اليتم وللزوجة خراب البيت وما بقي للعصبة.
وأراد رجل أن يسخر من بهلول فوقف عليه وقال: قد وقعت أنت يا بهلول هاهنا والأمير يعطي المجانين كل واحد درهمين. فقال بهلول: فاعرض علي درهميك.
مثله أن رجلاً صفعه وكان قد أرضعت ذلك الرجل امرأة يقال لها مجيبة وكانت رعناء. فقال بهلول: كيف لا تكون أرعن وقد أرضعتك مجيبة؟ فوالله لقد كانت تزق لي الفرخ فأرى الرعونة في طيرانه.
وفي نوادره ما فيه المقومات الفنية للقصة القصيرة جداً وتوظيف للحوار والمفاجأة.
ومن النوادر التي توضع في باب الشعر عند بهلول أنه كان يوماً جالساً والصبيان يؤذونه وهو يقول: “لا حول ولا قوة إلا بالله” يعيده مراراً. فلما طال أذاهم له أخذ عصاه وقال: “حمي الوطيس وطابت الحرب وأنا على بينة من ربي” ثم حمل عليهم وهو يقول:
أشد على الكتيبة لا أبالي أفيها حتفي أم سواها (والبيت لعباس بن مرداس). فتساقط الصبيان بعضهم على بعض. وتهاربوا، فقال: هزم القوم وولوا الدبر. أمرنا أمير المؤمنين – رضي الله عنه – ألا نتبع مولياً ولا ندفف (نجهز) على جريح. ثم رجع وجلس وطرح عصاه وقال:
فالقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عيناً بالإياب المسافر ومما يروى من النوادر بهلول وهي لغيره كما حدث في نوادر جحا وأبي نواس وغيرهم لكي يتوسل الناس على لسانه من أجل انتقاد الأوضاع السياسية والاجتماعية، أنه قيل لبهلول عد لنا مجانين البصرة، قال: هذا يكثر ويبعد جداً ولكن إذا أردتم عددت لكم عقلاءهم.
فلو قيل له عد لنا مجانين الكوفة أو بغداد لكان ذلك أقرب إلى المنطق بشأن بهلول الذي لم يكن بصرياً. وقد رويت هذه النادرة بشكل آخر أنه قيل لمجنون كان بالبصرة: عد لنا مجانين البصرة، قال: كلفتموني شططاً، أنا على عد عقلائهم أقدر.
فمن الحكايات المتداولة بين الناس اليوم أن هرون الرشيد كان ذات يوم على سفر في سفينة وكان معه بهلول. وقد ذهبت بهلول واحتضن الدقل (السارية) وصار يكلمه. فجاءه الرشيد وسأله: أراك تكلم نفسك، ماذا كنت تقول؟ فقال بهلول: والله ما كنت أكلم نفسي بل كنت اكلم الدقل. فسأله الرشيد: وما قلت له؟ فقال بهلول: قلت له: أنت وحدك العدل في هذا المكان.
ومن نوادره في انتقاد السلطة أنه قيل أن بهلولاً كان يركب قصبة وقد اتخذها حصاناً كما يفعل الأطفال. ودخل على فرسه هذا ديوان الرشيد وجلس على عرشه فهجم عليه الوزراء والحجاب وجميع الحاضرين وضربوه بالأحذية وبكل ما وصلت أيديهم إليه حتى أزاحوه عن العرش. فصار بهلول يبكي حتى جاء الرشيد وسأله: ما لبهلول يبكي؟ هل من حاجة نقضيها له؟ فأجابه الحاضرون ضربناه لأنه جلس على عرشك. فعاتبهم الرشيد وطيب خاطره ورجاه ألا يبكي. فقال له بهلول: أنا لا أبكي من الضرب ولكني أبكي عليك. فقال الرشيد: ولماذا؟ قال له: جلست على عرشك برهة وجيزة فأكلت هذا الضرب فكيف بك وقد جلست هذه المدة الطويلة؟
ومن النوادر التي تتعلق بالعدل واغتصاب الحقوق، أن بعض التجار نوى حج بيت الله الحرام في مكة المكرمة فاستأمن القاضي بعض المال. ولما عاد التاجر من الحج أدعى القاضي أن الأمانة أكلتها الفئران. فأخذ التاجر يبكي ومر به بهلول فعرف أمره فقال له لاتبك سوف أعيدها لك غداً. ذهب بهلول إلى هارون الرشيد وصار يبكي ويقول له: لقد وليت فلاناً الإمارة الفلانية وفلاناً الإمارة الفلانية. فسأله الرشيد: وأنت، ماذا تريد؟ فقال: أريد إمارة الفئران فقال الرشيد أعطوه إمارة الفئران، قال بهلول: بل أريد أن تصدر مرسوماً بذلك وتعطيني حصاناً وحرساً وجوقة موسيقية. فأمر له بما أراد. وخرج بهلول على فرسه والجوقة تعزف وراءه وأمامه وتبعه الصبيان وضحك الناس لما عرفوا أمر هذه الإمارة. ووصل بهلول بيت القاضي وأمر عماله أن يحفروا تحت جدار البيت. فخرج القاضي وسأله ماذا تعمل يا بهلول؟ فقال بهلول: الست أنا أمير الفئران. أن فأراً أكل مني ليرة ذهب ودخل تحت جدار بيتك. وإني أريد أن القي القبض عليه. فسأله القاضي: يا بهلول، كيف يأكل الفأر الذهب؟ فأجابه: كما أكلت فئرانكم ذهب التاجر. فأما أن تعيدها إليه وإما إن أهدم دارك. فأعادها إلى صاحبها.
قصص البهلول
في البدء : من هو البهلول ؟…….. شخص ما زال مجهولا لكن الانباء متواترة عنه وعموما كما يروي البعض فان اسمه وهب بن عمرو . ويجمع خصاله الحسنه التي كان يتصف بها ، فقد كان جميلا فكها . ……. وهذه بعض من حوادثه الطريفة التي امتلأت بها حياته :
ثمن الجنة
…….. مرت زبيدة زوجة هارون الرشيد الخليفة العباسي ببهلول وهو يلعب مع الصبيان ويخط على الأرض بأصابعه فلما رأت زبيدة ذلك تأملت فيما يصنع ثم قالت له : ” ماذا تفعل ؟ ” .
…….. قال البهلول للصبيان وهو يخط تراب الأرض بإصابعه : ” لا تهدموا البيت الذي بنيته ” ثم ألتفت إلى زبيدة وقال : ” أما ترين أني مشغول ببناء البيت ؟ ” .
…….. أرادت زبيدة مساعدة بهلول إلا أنها كنت تعلم رفضه لذلك ، فتأملت قليلاً ثم قالت : ــ أراك تبني بيتاً جميلاً يليق بالعظماء ، وها أنا أرغب في شرائه منك ” . ــ هذا البيت ؟! ، نعم أبعه إياك . أجابها وهو منكس رأسه إلى الأرض يخط ترابها بإصبعه ــ اشتريت منك هذه الدار فكم يكون ثمنها ؟ . قالت وهي تنظر للخطوط المعوجة التي رسمها
…….. قام البهلول على قدميه وسوى ظهره ، وقد كانت بيده عصا أشار بها إلى الصبيان وهو يقول : ” بألف دينار لي ولهؤلاء الذين أعانوني في بنائها ” .
…….. فأشارت زبيدة إلى أحد خدمها وقالت له : ” أعطيه ألف دينار ” . ثم انصرفت
…….. أخذ بهلول الدنانير وكانت سككاً ذهبية وقسمها بين الفقراء فلم يبق في كيسه دينار واحد . ومضت على هذا الحادث عدة أيام .
…….. ذات ليلة رأى هارون الرشيد في المنام نفسه وكأنه يساق إلى الجنة ، فلما بلغ أبوبها قيل له : ” هذا قصر زوجتك زبيدة ” . فلما أراد الدخول منعوه من ذلك .
…….. وفي صباح اليوم التالي قص هارون رؤياه على علماء قصره فقالوا له : ” سل زبيدة عما فعلت من البر ” . فلما سألها أخذت تفكر في العمل الذي استحقت من أجله قصراً في الجنة فلم تتذكر شيئاً سوى أنها أعطت لبهلول ألف دينار وقصت خبرها في ذلك على هارون .
…….. أدرك هارون الرشيد ضرورة البحث عن بهلول ليشتري منه بيتاً ، البيت الذي ليس له في هذه الدنيا قرار لكنه يكون في الآخرة قصراً مشيداً . فأين بهلول ؟
…….. خرج هارون من قصره ومعه أحد أقربائه يبحث عن بهلول فوجده في إحدى أزقة بغداد جالس وحوله عدة صبيان وهو يخط تراب الأرض بإصبعه . حاول هارون التظاهر بعد الاكتراث وقال : ــ أرى أقرب أقربائي يلعب مع الصبيان ويعبث بإصبعه على التراب . ــ نحن نتمتع بما رزقنا الله في هذه الدنيا ، وها أنت ترى أني مشغول ببناء بيت على أرض الله لكي أبيعه . أجابه بهلول وهو يخط بإصبعه الأرض ــ ليس قصور الملوك كالبيوت التي أنت مشغول ببنائها إلا أني مع ذلك أود شراء أحدها .
…….. قال هارون ذلك بكل سرور وصوته يرتعش ، فرفع بهلول إصبعه من التراب ووضعه نصب عينيه ثم أغمض إحداهما وأخذ ينظر إلى إصبعه بالأخرى ، ثم أشار إلى الأرض بإصبعه وقال : ” هل تشتري مثل هذا البيت ؟! ” .
…….. جثا هارون على ركبتيه إلى جانب تلك الخطوط التي رسمها البهلول وقال : ــ رضيت بهذه الدار وإني قد أشتريتها منك .
…….. نظر بهلول لهارون نظرة متأمل ، ثم هزأ منه ضاحكاً وقال : ــ ثمن هذه الدار باهظ جداً . ــ كل ما تعلقت به رغبتنا وأردناه لا يصعب علينا الحصول عليه وإن كان ثمنه باهظاً .
…….. قال هارون ذلك وهو يتظاهر بعدم المبالاة بضحك بهلول ، فذكر بهلول آلاف الأكياس من الذهب والبساتين الكبيرة والأموال الطائلة قيمة لتلك الدار .
…….. سكت هارون الرشيد حتى أتم بهلول كلامه ، والغضب قد استوى عليه لآن ما طلبه بهلول لم يكن بالشيء القليل فإنه لو جمعت ثروات جميع الأغنياء وتكدست على بعضها لم تبلغ معشار ما طلبه بهلول ثمن لداره .
فما هو اللغز الكامن في كلام بهلول وما يريد من وراء ذكره هذا الثمن الخيالي ؟!!
…….. أراد هارون أن يعرف السر في ذلك ولذا قال لبهلول : ــ لقد بعت عين هذه الدار لزبيدة بثمن أقل من ذلك بكثير، فقد بعتها إليها بألف دينار، ولما أردت شرائها منك أراك تقول قولاً شططاً .
…….. نهض بهلول من الأرض وبعثر ما كان قد رسمه عليها بأطراف أصابع قدميه ، وقال :
” ليعلم الخليفة أن بينه وبين زوجته زبيدة فرقاً شاسعاً ، فإن زبيدة اشترت وهي لم تر، وأنت رأيت وتريد أن تشتري ”
…….. ثم عاد مرة أخرى يلعب مع الصبيان .
استشارة العاقل والمجنون
…….. كان البهلول وعلى عادته يمشي يوماً في أزقة بغداد فلقيه رجل تاجر ، فقال لبهلول : ” أريد استشارتك في أمر التجارة ” .
…….. قال البهلول وكان بيده خيزران ضرب بها كفه الأخرى بهدوء : ” وما الذي عدل بك عن العقلاء حتى اخترتني دونهم ؟ ” . ثم مكث هنيئة فقال : “حسناً ما الذي أردت استشارتي فيه؟ ”
ــ إن عملي التجارة فأردت شراء متاع احتكره ثم أبعه لمن يدفع لي فيه ثمناً باهضاً . قال التاجر
…….. ضحك البهلول حتى بانت أضراسه ، وقال : ” إن أردت الربح في تجارتك فاشتر حديدا وفحما ” . …….. شكره التاجر على ذلك وانطلق إلى السوق ، ثم فكر في كلامه جيداً فرأى إن من الأفضل أن يأخذ بكلامه ، فأشترى حديداً وفحماً وأودعهما في المخازن ، حتى مضت عليهما مدة مديدة ولا زالا على حاليهما في المخزن ، ولما احتاج التاجر إلى ثمنهما وكان قد أرتفع تلك الأيام سعرهما باعهما بأفضل ثمن ، وربح عليهما ربحاً كثيراً . …….. ولكن أثرت هذه الثروة على سلوكه ، كما تؤثر على سلوك الكثير من الناس ، حيث تجدهم يفقدون صوابهم ويتغير منطقهم وسلوكهم بعد ثرائهم ، فتراهم ينقلبون من هذا الوجه إلى ذلك الوجه . وهكذا كان التاجر فقد أغتر بنفسه غروراً عجيباً ، حتى لم يكد يعد للناس وزناً ، وأخذ يتحدث عن عقله وذكائه وفطنته .
…….. وذات يوم مر التاجر ببهلول ، لكنه لم يعره أي أهمية ولم يشكره على ما أشار عليه به سابقا بل أثار بوجهه الغبار وسخر منه ، ثم قال : ــ أيها المجنون ما الذي أشتري وأحتكر حتى يعود علي بالربح . ــ أشتر ثوماً وبصلاً وأودعهما في المخزن . قال بهلول وهو يضحك
…….. خطا التاجر بعدها خطوات ثم عاد لبهلول وقال بغرور وعجب : ” عليك أن تفخر بمشورة تاجر موفق وشهير مثلي إياك ”
…….. لم يجب البهلول بشيء إنما بهت لجهل التاجر وغروره . بينما رصد التاجر لشراء الثوم والبصل كلما يملك من أموال ، وذهب صباح اليوم التالي إلى السوق لشرائهما على أمل الربح الكثير عند بيعيهما .
…….. بعد أشهر مضت على البصل والثوم وهما في المخزن جاء التاجر وفتح أبوب المخزن وهو لا يعلم ما ينتظره من خسران مبين ، فوجد الثوم والبصل قد تعفنا ونتنا ، وطبعا لم يكن أحد ليرغب بشراء مثل هذا البصل والثوم المتعفنين ، بل لا بد من رميه في المزابل لأن رائحته النتنة انتشرت في كل مكان ، مما اضطر التاجر أن يستأجر عدة نفر ليحملوا هذا المتاع الفاسد إلى خارج المدينة ويدفنوه في الأرض .
…….. امتعض التاجر من بهلول وازداد حنقاً عليه وغضباً لأنه فقد رأس ماله بسببه ، فأخذ يبحث عنه في كل مكان حتى عثر عليه ، فلما رآه أخذ التاجر بتلابيبه وقال : ” أيها المجنون ما هذا الذي أشرت به علي ، لقد أجلستني على بساط الذلة والمسكنة ”
…….. خلص البهلول نفسه من التاجر ، وقال : ” ماذا حدث ؟ ” .
…….. قص التاجر على البهلول وصوته يرتعش من شدة الغضب ما جرى له . سكت بهلول عن التاجر هنيئة وهو يعلم عم يتحدث التاجر حتى سكت الغضب عنه ، ثم قال له : ” لقد استشرتني أولا فخاطبتني بخطاب العقلاء فأشرت عليك بما يشيرون ، لكنك لما أردت استشارتي ثانياً خاطبتني بخطاب المجانين فأشرت عليك بمشورتهم ، فاعلم أن ضرك ونفعك مخبوءان تحت لسانك ، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً ” .
…….. فأطرق التاجر إلى الأرض وهو لم يحر جواباً فتركه بهلول وأنصرف عنه .
أي ملابس أفضل
…….. كان هارون الرشيد يبث عيونه وجواسيسه في المجتمع ليأتوه بأخبار مخالفيه ، وذات يوم وشي ببهلول إليه ، بأنه من أتباع ومحبي الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) . وحيث أن هارون كان يسعى لمعرفة شيعته ومحبيه ليقضي عليهم فإنه قرر إحضار البهلول إليه لينزل به العقوبة فيكون عبرة للآخرين . ولما أحضر البهلول إلى القصر وقف أمام هارون الذي استولى عليه الغضب ، وقال هارون له : ” سمعت إنك من شيعة ومحبي موسى بن جعفر” .
…….. سكت البهلول ولم يتكلم بشيء ، وكان هذا السكوت مؤذياً لهارون ومثيراً لغضبه أكثر والذي قال : ” تظاهرت بالجنون لتفرعن عقوبتنا لكني لست بتاركك ” .
ــ ما كانت تفعل إن كنت صادقاً فيما تقول ؟ . قال بهلول
……. وقد كان هارون يتوقع من البهلول بعد تهديده أن يقول شيئاً يظهر به عم تأييده لإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، لكنه فوجئ بما سمعه من البهلول وصمم في هذه المرة على أن ينزل العقوبة به ، ولكن أي نوع من العقوبة يمكن إنزالها بالبهلول الذي كان من أرحامه ـ أقاربه ـ غير إنه أشتهر بين الناس بالجنون فلا يمكن إنزال أشد العقوبة به ، لأن بعقوبته سيقول الناس بأن هارون لم يقدر إلى على المجانين .
…….. وعلى ذلك أخذ هارون يفكر في طريقة لعقوبة بهلول ، وأخيراً أمر بخلع ملابس بهلول وإلباسه ما يسرج به الفرس ، ثم أمر بوضع لجام على فمه والدوران به في أزقة المدينة . ولما عادوا بالبهلول إلى القصر وقد كان وزير هارون بالقصر أبان عودته ، وحيث إنه لم يكن يعلم بالخبر ولا لماذا يفعلون به هكذا قال : ” ماذا فعل البهلول ؟ ” .
…….. لم يجبه أحد بشيء لفترة ، ثم قام هارون من كرسيه ونفض رداءه بغرور ووقف أمام البهلول وقال : ” ألم تسمع ما قال وزيرنا ؟ ، أجبه إذاً ” .
…….. التفت البهلول إلى الوزير بكل وقار وسكينة ولم يبدو على وجهه آثار الانزعاج من الخليفة أو الخوف منه ، ثم قال : ” دعاني أمير المؤمنين وسأل مني شيئاً فأجبته جواب الحق ، فخلع أمير المؤمنين لأجل ذلك ملابسه الغالية وأهداها إليّ ” .
…….. وقد تغير وضع المجلس بسماع هذا الكلام ، فلم يتمالك الجميع أنفسهم من شدة الضحك بما فيهم الخليفة هارون الذي ضحك ضحكاً كثيراً . وبعد لحظات من الضحك هدأ المجلس ، ثم أمر هارون بخلع ما على البهلول من السرج واللجام ، وأمر بإحضار خياطه الخاص وأمره بإهداء بهلول أفضل ما خاطه للخليفة . لكن قبل أن يأتمر الخياط بأمر الخليفة قال البهلول :
…….. ” لا حاجة لي بملابس الخليفة ” ……..
ثم لبس ملابسه البالية وخرج من القصر . تحياتي اخوكم
أسير العتره