مقدمة: الشعرُ…الدفاع عن الحرية
إنّ الدفاع عن الشعر […] لا ينفصلُ عن الدفاع عن الحرية. أوكتافيو باث في بلادٍ تتابعَ على حُكْمِها المستبدّون، لم يبقَ غيرُ الشعر ملاذاً، التجأَ إليه الشعراءُ وغيرُ الشعراءِ ليجعلوا لغتَهُ حِراباً مشرعةً في وجه المستبدّين، ويتخذوها مُتَنَفَّساً عن القمع والكبت. فاللغةُ الشعريةُ، عَبْرَ تاريخ الشعر العراقيّ، لم تكنْ أداةً حياديةً، وإنما هي جزءٌ من مشكلة الاستبداد، وجزءٌ من طريقة الدفاع عن حقّ الحرية.
صحيح، أنّ معظمَ النصوص التي كُتِبَتْ في ظلّ الدكتاتورية، كانت عاجزةً عن الإفصاح والبيان عن المشكلات الاجتماعية التي خلَقَتْها السلطةُ، لكنَّ هذا لا يعني أنها لم تتضمنْ إشارات إلى ما كان يجري في البلاد من اعتقالاتٍ وقَمْعٍ للمعارضين وخَنْقٍ لحرية التعبير والاختلاف في الرأي، ومن مآسٍ خَلَقَتْها الحروبُ العبثيةُ.
وعلى الرغم من كلّ ذلك، فإنّ من يُصغي بإمعانٍ إلى تلك النصوص، سوف يستمعُ إلى الخلجات التي نَفَثَتْها صدورُ المقموعين. لذلك فإنَّ هذا الكتابَ، يتضمنُ صنفين متعارضين من النصوص: نصوصٌ تفتقرُ إلى الترابط الفنيّ والتأثير الجماليّ، لكنها تنطوي على إشارات توثيقية عن تلك المرحلة السوداء في تاريخ العراق، ونصوصٌ ذاتُ قيمةٍ فنيةٍ مميزةٍ، رَصَدَتْ رمزياً وتجريدياً ما كان يجري في زمن الدكتاتورية.
إنّ هذه الكتابَ، لم يرغبْ في أنْ يكونَ تاريخاً شعرياً لثلاثة عقودٍ مريرةٍ في تاريخ الثقافة العراقية. فهذه الرغبة لم يكنْ بالإمكان تحقيقُها وأنا أعيشُ بعيداً عن بلادي وعن مكتبتي ومصادري. لذلك، ما كان أمامي سوى اختيارِ نصوصٍ تتضمنُ إشارات لما كان يجري من ممارسات سياسيةٍ، وتتطلّعُ لنَيْلِ الحريةِ من سلطة قمعية. ولأنها كذلك، كان لابدّ من البحث عن ميكانزمات لسانية وفنية، وهو ما أطلقتُ عليه: اللغة الـمُقَنَّعَة.
والكتابُ، يعالجُ العواملَ السياسيةَ التي كانت سبباً مباشراً في نشأة هذا الشكل الشعريّ الـمُقنَّع والمفتوح على كلّ الأجناس الأدبية. وعَبْرَ فصول الكتاب، سوف نَتعرَّفُ على المواجهات الرمزية بين طرفَيْن: الأول، تـُحرِّكُهُ دوافعُ الهيمنة والتسلّط والبطش. والثاني، يُوظِّفُ اللغةَ وجميعَ العناصر الفنية للدفاع عن الإنسان والحرية والعدالة.
إنّ دلالةَ العمل الأدبيّ، لا تَكتملُ إلا بتأويلها من خلال السياق التاريخيّ للعمل. فهذا السياقُ، هو مصدرُ المعنى وهو الضوءُ الكاشفُ له عندما يحاولُ أنْ يَتَخَفّى في تجاويف اللغة المقنَّعة. لذلك فإنَّ القراءةَ في هذا الكتاب، لم تقتصرْ على بنية النصّ وتغفل السياقَ التاريخيَّ الذي يتفاعلُ فيه ما هو اجتماعيٌّ وسياسيٌّ وثقافيٌّ. فالأعمالُ الأدبيةُ التي كُتِبَتْ في هذه المرحلة كانت تعكسُ، بشكلٍ من الأشكال، جزءاً من حركة المجتمع في ظلّ سياسة القمع.
فصولُ الكتاب، لم تقتصرْ على الجوانب النظرية، وإنما ثمة تحليلات لنصوص طويلةٍ وقصيرةٍ على حدٍّ سواء. فالهدفُ ليس الفصلَ بينهما وإنما النظر إليهما معاً على أنهما يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بسياسة القمع وانتهاك الحريات. فالمرحلةُ السياسيةُ العصيبةُ التي شَمِلَت المجتمع بأسره لم تنجُ منها الثقافةُ كذلك، والشعرُ في مقدمتها. وهذه القراءةُ، غايتُها إيضاح العلاقة بين النصّ والسلطة؛ النصُّ في سعيه للرفض والاحتجاج والتحريض، والسلطةُ في سعيها لفكفكة شفرات النص ومعرفة ميكانيزماته.