(الإسلام والدولة العادلة)
بقلم: صادق الطائي
لقد مثلت فكرة (العدل) مفهوما مركزيا في الحراك الفكري منذ بدء الحضارة الإنسانية، بل اعتبرها الباحثون الأساس الذي قامت وستقوم عليه المجتمعات الإنسانية والبنيات الحضارية عبر التاريخ، ومن لزوميات طبيعة مفهوم العدل تداخله مع مفاهيم محاددة له، مثل الحقوق والعقوبات والدولة والحاكمية، والعقد الاجتماعي والفضيلة والرذيلة، والحرية الإنسانية والقضاء والقدر، وغيرها من المفاهيم المشابهة او المتداخلة مع ما ذكرناه. مع فجر الحضارات التي بناها الإنسان على ضفاف الأنهار في وادي الرافدين ووادي النيل، ووادي نهر الكنج في الهند ووادي النهر الأصفر في الصين، ومع تكوين الشكل الأولي للدولة، حاول أن يضع تطبيقا عمليا لمفهوم العدل، عبر تشريع القوانين، التي ارتبطت بمفهوم «الهية القوانين»، حيث يتسلم الملك أو الحاكم الذي يمثل نائب الإله او ابنه، الشريعة والقوانين معا، ومن الأدلة البارزة على ذلك، النحت الموجود في أعلى مسلة حمورابي، التي تمثل نموذجا لأقدم منظومة عدلية بتأطيراتها القانونية لحياة امبراطورية بابل، وقد ظهر الملك حمورابي وهو يستلم لفائف الشرائع من إله الشمس، في دلالة على الجذر الإلهي للقانون الناظم للعدل. يشير المؤرخ العراقي مجيد خدوري في كتابه المهم «مفهوم العدل في الاسلام» إلى أن العدل في الأساس هو مفهوم نسبي، لذلك من الضروري عندما يعتقد شخص ما أن له مطلبا، أن يسند هذا المطلب لكي يكون مشروعا، إلى نظام عام قائم يستظل بظله، ميزان معترف به من موازين العدل. ثم يقسم خدوري أنواع المنظومة العدلية في المجتمع الانساني، حيث يذكر أن الصنف الاول نجده في المجتمعات التي تفترض أن الناس قادرون على تحديد مصالحهم الفردية، أو الجماعية، وأنهم يعرفون ما يمكن أن يحتاجوه أو يرغبوا فيه، وهم لهذا يستطيعون، افرادا وجماعات، إقامة نظام عام يمكن أن ينشأ في ظله ميزان أو اكثر للعدل، باتفاق ضمني، أو بقرار رسمي، ويمكن أن نطلق على هذا الضرب من العدل الذي هو نتاج التفاعل بين التوقعات والظروف القائمة اسم «العدل الوضعي»، لكن لابد من الاعتراف بأن هذا الشكل من العدل غير كامل، ويسعى الناس دائما إلى تهذيبه وتحسينه عبر عملية من التغيير الاجتماعي. أما النوع الثاني بالنسبة لخدوري فيولد نتيجة أن الإنسان ضعيف ويشكو من عدم القدرة على الوصول إلى الكمال، وتبقى الجهود التي يقدمها تعاني من النقص، فنجده يلجأ إلى القوى العليا، والى سلطة اعلى من سلطة البشر لتزوده إما بمصادر، او بمبادئ أساسية لنظام عام يقام في ظله معيار معين للعدل، وسواء مارس السلطة العليا نبي ملهم او حكيم موهوب، فالعدل الذي ينبثق من مصدر من هذا القبيل يمكن أن نصنفه باسم «العدل الإلهي» أو «عدل الوحي» مقابل العدل الوضعي. كما يشير المفكر الإسلامي جمال البنا في كتابه «نظرية العدل في الفكر الاوروبي والفكر الاسلامي» وهو دراسة مقارنة وتتبع تاريخي لنظريات العدل في الفكر الاوروبي ومقارنتها بالمنظومة الفكرية المنظمة للعدل في الاسلام، حيث يقول إن أقدم وجود لنظرية متكاملة يمكن الاشارة لها في الفكر الاوروبي كانت في «جمهورية افلاطون»، حيث تدور المحاورة بين سقراط وتلاميذه الذين ذكروا أن الانسان لا يميل بفطرته إلى العدالة اكثر من ميله للتعدي، وأنه لا يطلب العدالة لذاتها، ولكنه يطلبها لانه يدرك النتائج التي تحل بالمجتمع إذا أطلق عنانه في أعمال التعدي، وبذلك يكونون قد شبهوا المجتمع البشري بمجموعة من القنافذ اقتربت من بعضها بعضا طلبا للدفء، فكان لابد أن تخز اشواك القنافذ الواحد جسم جاره، ولكن هنا يأتي دور القوانين التي تعمل عمل اللباد الذي يغلف هذه الاشواك ويكون بمثابة غمد لها، وبالتالي تعمل على منع الاحتكاك وتصادم رغبات الافراد في المجتمع. ولأن مفهوم العدل في الاسلام يقوم على النص الذي يتمثل بالقرآن والسنة، مضافا له الاحكام والشروح الفقهية المتمثلة بالاجماع والقياس والاجتهاد، نجد اختلافات المنظومة العدلية في الدول الاسلامية، وهذا أمر مفهوم نتيجة القراءة الفقهية المتغيرة من مذهب لمذهب، ومن فقيه لآخر داخل المذهب الواحد، بالإضافة إلى التغيرات التاريخية التي حصلت في المجتمعات الاسلامية، وانعكاس ذلك على تعاطي المنظومة الفقهية معها. وفي العالم الاسلامي يمكننا الاشارة إلى أن مفهوم العدل يمكن أن يقسم او ينظر له على اساس تفريعين كبيرين هما، تنظيم العلاقات الداخلية للمجتمع وفق منظومة قانونية جنائية، وهذا ما كان يتم تنفيذه عبر الاتكاء على منظومة الحدود في النص الديني، مضافا لها اجتهاد الفقهاء للتعامل مع المتغير من الاحوال. أما القسم الاخر فهو ما يمكن أن نسميه بالمنظومة السياسية للعدل، وهي مجموعة النظم التي تنسق الحياة السياسية وكل ما له علاقة بها، ويدخل في هذا الاطار نظام الحكم والبيعة والشورى والمناصب العامة وكل ما له علاقة بسياسة الدولة، وهذا القسم من مفهوم العدل هو الذي كان محور الصراع عبر التاريخ العربي الاسلامي بين مختلف المذاهب والتيارات والعقائد. فمفهوم الامامة الذي مثل اصلا من الاصول في المنظومة الفقهية الشيعية، نجده لا يمثل سوى فرع في المنظومة الفقهية السنية، وهذا الامر تسبب في انشقاق كبير في مفهوم العدل بين المنظومتين، وكان الامر نتيجة عدم الاتفاق على طبيعة الحكم العادل، أو من هو الاحق بالحكم، وأضيفت إلى هذه المسألة طبيعة الصراع التاريخي بين النخب التي كونت النظم الحاكمة، تقابلها تيارات المعارضة في المجتمعات الاسلامية، وبالتالي اصبحنا عبر تاريخنا الطويل امام منظومات مختلفة بحسب وجهات نظرها لفكرة العدل السياسي. مثل القرن التاسع عشر الحقبة الزمنية التي تفجر فيها الصراع بين القديم والحديث على كل الاصعدة، ومن ذلك مفاهيم العدل والمنظومات القانونية التي تسير حياة افراد المجتمع في العالم العربي والاسلامي، ومع ما عرف بالصدمة الحضارية، إبان الحملة الفرنسية على مصر مطلع القرن 19، واستمرار المخاض قرابة القرن حتى مطلع القرن العشرين، ابتدأ صراع الحداثة مع الموروث على عدة جبهات، وإحدى هذه الجبهات كان مفهوم العدل السياسي والمجتمعي، الذي وصل اوج حراكه في ما عرف بالحركة الدستورية، أو «حركة المشروطة» في الدولتين العثمانية والقاجارية في الاعوام 1906- 1908، وقد شمل الحراك الحداثوي في هذا الصعيد أغلب العالم الاسلامي، واعتبر هذا الامر نتيجة لجهود علماء تنويريين، مثل جمال الدين الافغاني ومحمد عبده والكواكبي والنائيني وغيرهم من علماء حواضر العالم الاسلامي. وشهد القرن العشرين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى، تفكك الامبراطوريات القديمة وولادة الدول القومية الحديثة وصراع مفاهيم العدل، بحسب مرجعيات المجموعات المتنافسة في المجتمعات الحديثة بين مفاهيم العدل الوضعية ومنظومات العدل الالهية ومحاولة الاتفاق على حدود هاتين المنظومتين، ومازلنا نعيش هذا الصراع في مجتمعاتنا حتى الان، بعد أن دخل متغير مهم على ساحة الصراع السياسي الاجتماعي منذ ثمانينيات القرن الماضي، الا وهو حركات الاسلام السياسي بمختلف اطيافها، التي طرحت منظومات عدلية قائمة على التماهي مع التاريخي، ما جر المنطقة إلى صراعات لم تفق منها حتى الان، حيث اعتبرت تيارات الاسلام السياسي بشقيها الكبيرين السني والشيعي نفسها عقلا محركا للمجتمع، وضميرا دافعا للرجوع نحو منظومة عدلية قائمة على طهرانية دينية، لم تثبت نجاحها في عدد من التجارب مثل، أفغانستان والسودان وباكستان وايران، وغيرها من الدول التي باتت تمزقها النزاعات نتيجة صراع منظومات المفاهيم السياسية الملتبسة بمنظومات دينية.
. إن اهمية العدل تجلت لدى مختلف تنويعات الطيف المذهبي واجتهاداته في الاسلام، بدلالة امكانية اجتماع العدل مع الكفر وعدم إمكانية اجتماع الظلم مع الاسلام، ولتبيان ذلك نأخذ مثالا من اكثر الفقهاء تشددا، فها هو ابن تيمية يقول «إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام». ومن فسر قول ابن تيمية هذا، قال إن الآية الكريمة تقول؛ «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ» (هود:117) حيث ذكر بعض علماء التفسير هذا المعنى الذي ينقله ابن تيمية، ذلك بأن الظلم هو سبب خراب البلاد، وهلاك العباد، فإذا كانت الأمة أو الدولة كافرة، ولكنها تحكم بالعدل فيما بينها، هذا العدل الذي يعرفه الناس بفطرتهم، فإذا كانوا يحكمون بذلك تقوم دولتهم، وتستمر مدة طويلة، والتاريخ يشهد بهذا، وعلى العكس من ذلك، إذا بغى الحكام وان كانوا مسلمين وجاروا على العباد كان ذلك سبباً لقيام الثورات، ولن تستقر الأوضاع في تلك البلاد حتى يُهلك الشعب الواحد بعضه بعضاً.
القدس العربي/ الاربعاء 28 حزيران/يونيو 2017: