نستطيع اعتبار «الحرية» القيمة الأساس التي يتمحور حولها عمل إيريك فروم بأكلمه، هذه القيمة التي كانت تحضر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كأعظم تجسيد لـ«تناقض المظهر والواقع» كسمة من سمات المجتمعات الحديثة. فرغم الحديث المعلن والظاهري والدائم عن هذه القيمة كأحد أهم مكاسب الأزمنة الحديثة، فقد كانت هذه القيمة هي الأكثر غيابًا عن واقع مجتمعات هذه الأزمنة، لذا فكما يرى آلن هاو بحق فإن استبصار رواد فرانكفورت كان رائعًا حين أطلقوا على وضع هذه القيمة في المجتمعات الحديثة سمة السلب، فنحن ووفقًا لهم نعيش في عصر «غياب الحرية» وليس عصر الاستبداد أو التقييد أو الاضطهاد؛ هذا لأن تلك المفاهيم كنقيض واضح للحرية لا تكفي للتعبير عن مظاهر الاستعباد الحديثة التي لا تني تتخفى وتتمظهر بالتحرر، فـ«من الممكن الآن لنقيض الحرية أن يسود دون أن يعلن عن نفسه»[1].
في هذا السياق تشكلت كتابات الفيلسوف وعالم النفس الألماني الأمريكي إيريك فروم، وكانت المهمة المنوط بها كأحد أعمدة الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، هي تقديم تفسير لعادات الامتثال تجاه «غياب الحرية» الحديث بطريقة «تتجاوز العادة الماركسية بالتعامل مع البشر كذوات مدركة عاقلة تستطيع حساب مصالحها الاقتصادية وتتحرك انطلاقًا منها دون اعتبار لدور شعور الناس ومخاوفهم وحاجاتهم العاطفية في تحركهم»[2]، وهذا عبر تقديم تحليل نفسي فردي وجماعي للمجتمعات الأوروبية في انتقالها من العصور الوسيطة للحداثة، وتحليل أثر تحلل البنى الوسطوية مثل العائلة والأسرة والكنيسة على الإنسان الحديث، وكيف كان لهذا التحلل وديناماكياته أثر كبير في نزوع الإنسان في العصر الحديث للامتثال لغياب الحرية بل لـ«الهروب من الحرية» وإطفاء قلقه الشديد جراء ذوبان هذه المرجعيات بالارتماء في أحضان الفاشيات والشموليات وحكم الخبراء ووسائل الأعلام وصناعة الثقافة كحل نهائي!؛ أي «تقديم نظرية نفسية جماعية في الامتثال».
لكن الأهم والذي يميز اشتغال فروم في نقده للمجتمعات الحديثة ومحاولته الدفاع عن الحرية وإنقاذ الإنسان من التشيؤ وأنماط العيش التلقفية والاستهلاكية التي تشيع في هذه المجتمعات؛ هو الدور الذي يمنحه فروم للدين في محاولته تلك، ففروم لا يقيم تصوره لمسيرة التحرر الإنساني على أنها مسيرة تحرر من «الدين» كما كان يتصورها كثير من أركان الحداثة، بل يعتبر أن الدين هو أحد أساسات هذه المسيرة، بل وكذلك يقوم بتأويلات شديدة الجدة لفلاسفة طالما تمت قراءتهم وبصورة نهائية على أنهم لا ينظرون للدين إلا كعائق أمام التحرر والرشد، تأويلات مؤداها كونهم لم يعترضوا على الدين بل على أحد صوره أي «الدين التسلطي» كما يعبر في «الدين والتحليل النفسي»، وهو الدين القائم على «الاستسلام لقوة تعلو على الإنسان، وفضيلته الأساسية الطاعة وخطيئته الكبرى العصيان، ويتصور الإنسان على أساس كونه عاجزًا وتافه الشأن»[3]، فعلى هذه الصورة فحسب من الدين انصب نقد الفلاسفة الإنسانيين وفقًا لفروم.
ما نحاول القيام به في هذا المقال هو بحث الدور الذي يعطيه فروم للدين في دفاعه الدائم عن الحرية وكيف يكون الدين دعامة أساسية في هذا الدفاع، وسنركز اشتغالنا هنا بصورة كبيرة على كتابه «أن تصيروا آلهة»، وهذا لسبيين؛ الأول أن هذا الكتاب يعد أشمل كتب فروم في التعبير عن رأيه في الدين وتصوره له، والثاني أن فروم في هذا الكتاب يقدم تطبيقًا لهذه الرؤية عبر قراءة تأويلية «إشعاعية» كما يسميها للعهد القديم، تعرض مسيرة الشعب العبراني اللاهوتية كمسيرة تحرر تتجلى في مجمل أبعاد هذا الدين، في تصوراته «إله غير مسمى» وفي قصصه «الفصح» وفي طقوسه «يوم السبت»، مما يجعله دينًا مطبوعًا بميسم الحرية.
«الحرية» عند إريك فروم لكن ربما وقبل التعرض لهذا الكتاب ولرؤية فروم للدين وتفسيره لمسيرة الشعب العبراني كمسيرة تحرر، فإن علينا أولاً تناول مفهوم فروم عن «الحرية»، لنفهم لماذا ومن الأساس يعتبر فروم أن الحرية لا تزال قيمة ينبغي الدفاع عنها رغم كل الحديث عن وصول إنسان هذا العصر لأعلى درجات الحرية بعد تحرره من البنى الوسطوية التي كانت تقيده وتشل فعاليته، وتصوره لها بدلاً عن هذا على أنها قيمة «لا تزال تنتظر التحقيق» كما نفهم من كلماته في تقدمه «أن تصيروا آلهة».
لفهم هذا علينا التنبه لكون فروم يفرق بين نوعين من الحرية، «الحرية من» و«الحرية إلى»، فـ«الحرية من» هي حرية منشغلة بالتحرر من روابط يُنظر إليها كأساس للاستعباد واستلاب الإنسان وقتل استقلاله وفعاليته، وفعل التحرر هذا قد يتم دون السؤال عن «الحرية إلى»؛ أي دون سؤال عن اتجاه وأفق هذا التحرر، هذا النوع من الحرية يتحول لنقيضه وفقًا لفروم، حيث إنه بالتحلل من الروابط التي تقيده لا تفقد فحسب تسلطها، بل كذلك تفقد الأمان والمعنى الذي توفره هذه الروابط والمرجعيات كنظام للفكر حيث «تصبح الحرية عبئًا لا يطاق، متماثلة مع الشك، مع نوع حياة يفقتد المعنى والاتجاه»[4]، ولا يمكن علاج هذا إلا عبر اللجوء لمرجعيات جديدة تتفاوت وضوحًا وخفاءً «تعد بتخفيف هذه الزعزعة ولو حرمت الإنسان من حريته».
عبر هذا الجدل بين الحرية ونقيضها يفسر فروم مسيرة الحرية في العالم الحديث على أنها «تحرر من»، أو بتعبيراته على أنها تاريخ ازدياد الهوة بين «الحرية من» و«الحرية إلى»، فهي تحرر من التقليد ومن السلطة ومن العائلة البطريركية ومن الخبرة البشرية ومن المؤسسات الدينية التي تدير الإيمان، لكن دون أفق لهذا التحرير، ودون أن يكون ثمة آفاق جديدة قادرة على تحقيق المعنى والأمان كأحد المحددات الجوهرية لعيش الإنسان في العالم.
رؤية فروم هذه تتجلى بوضوح في رؤيته المغايرة للإصلاح الديني اللوثري والكالفني، حيث لا يعطيه فروم هذا الإجلال الذي طالما أعطي له في التأريخ الكلاسيكي للتنوير كفاتحة لعصر «الحرية»، بل إن فروم يعتبر أن هذا الإصلاح مسؤولاً بصورة كبيرة عن «الهروب الحديث من الحرية» وممثلاً لهذا الجدل بين «الحرية من» ونقيض الحرية، فحين تم التخلص من «طقس الاعتراف» كوسيط كنسي بين الله والإنسان يهدئ من شعوره بالذنب في حضرة إله جليل أصبح الإنسان منفردًا أمام سلطة آلهية غير مفهومة، ولم يكن من الممكن تجاوز هذا اللقاء العنيف وما يتولد عنه من قلق إلا عبر الاتضاع الشديد والتسليم لمرجعيات دينية وغير دينية، فـ«بينما لوثر قد حرر الناس من سلطة الكنيسة، جعلهم يخضعون لسلطة أشد طغيانًا ألا وهي سلطة إله يصر على خضوع الإنسان الكامل وفناء الذات الفردية كشرط ضروري لخلاصه»، وهو وكما يقول فروم «حل مشابه في الكثير مع مبدأ الخضوع الفرد التام للدولة و «الزعيم»[5] كتجليات لخوف حديث من حرية صارت عبئًا مع غياب الأفق. [6]
هذا التفسير للحرية الحديثة كـ«حرية من» ولمآلات هذه الحرية مرتبط بتصور فروم للأنماط التي يقدمها العالم الحديث للإنسان كي يشكل من خلالها المعنى ويحقق عبرها الأمان، فهذه الأنماط مجتمعة تحت عنوان كبير هو ما يسميه فروم «نمط التملك»، فالحب والجنس والدين واللغة والثقافة والأمومة والأبوة ومجمل العلاقات البشرية أصبحت تدار وفقًا لهذا النمط الذي يقضي على قلق الإنسان عبر تعليمه «التلقف الدائم» و«الاستهلاك» و«التسويق» و«الإدارة الادخارية» الحصيفة لكل شيء حتى المشاعر البشرية، ولكن التلقف والاستهلاك والتشيؤ وكل هذه الأنماط لا تستطيع إنهاء قلق الإنسان الجذري؛ لأنها تعتمد بالأساس على قوى خارجة عن الإنسان تعيد هي وباستمرار تشكيل حاجاته ورغباته واستعمارها عبر صناعة الإعلام والثقافة، مما يحول الإنسان «لرضيع أبدي»[7]، لذا لا يبقى سوى الاتضاع كحل أخير لتجاوز هذا القلق «المفضي للجنون» بصورة نهائية.
نستطيع أن نقول الآن ومبدئيًا وانطلاقًا من تصورات فروم عن الحرية وجدلها وأنماط تحقيق المعنى في العالم الحديث إن ما يريده فروم من الدين في مسيرة التحرير هذه هي نقل فعل التحرر من كونه «تحرر من» إلى كونه «تحرر إلى» وهذا عن طريق قدرة الدين كـ«نظام للفكر وإطار للتوجه»[8] على توفير أنماط «الكينونة» كآفاق تتحقق فيها الذات ويتخلق المعنى والأمان بصورة تعمل على إنماء الذات «وتراعي قوانين بناء الوجود الإنساني التي تحكم النمو الإنساني الأمثل»[9].
أن تصيروا آلهة يصف فروم رؤيته «للدين» في كتابه «أن تصيروا آلهة» برؤية منطلقة من «إنسانية راديكالية»، والإنسانية الراديكالية فلسفة عالمية تنطلق من كون العيش وفقًا لنمط الكينونة -كنمط يتأسس على حرية الإنسان واستقلاله ويوفر أفقًا للمعنى ولتخلق الذات عبر إنمائها الدائم- هو الهدف الرئيس والمعنى الجوهري لحياة الإنسان، وأن هذه الأهداف هي الأهداف الجوهرية للأديان سواء تحدثنا عن الأديان التوحيدية أو كذلك عن أديان الشرق الأقصى وأيضًا تعاليم الحكماء والفلسفات الإنسانية الكبرى، هذه الرؤية الإنسانية الراديكالية هي التي تحكم تفسير فروم للكتاب المقدس كأولى التعبيرات المكتملة عن الديانات التوحيدية.
وكما يتضح من كون «الإنسانية الراديكالية» هي المنظور الذي يشكل فروم من خلاله نظرته للدين وللدين العبراني كموضوع لكتابه، فإن مفاهيم «الله» و«الإنسان» و«التاريخ» و«الطريق» ومعانيها في العهد القديم تصبح هي المفاهيم الرئيسة التي تدور حولها وحول العلاقة بينها قراءة فروم للعهد القديم كمسيرة تحرر.
يرى فروم أن مفهوم «الله» في العهد القديم هو مفهوم محرر للإنسان، وهذا من جهتين، الجهة الأولى تطور هذا المفهوم ومعه تطور «العهد» الإلهي مع الإنسان، والجهة الثانية «فكرة الإله اللا مسمى».
فإله العهد القديم وفقًا لفروم قطع على نفسه ثلاثة عهود متعاقبة مع الإنسان؛ العهد الأول هو العهد مع آدم، والعهد الثاني مع إبراهيم، والعهد الثالث مع موسى والشعب العبراني. وهذه العهود تسير في اتجاه استقلال الإنسان عن الله وتحرير قدراته، فبينما كان العهد الأول عهد إله غيور متأهب دومًا للتدخل في الكون وللانتقام عند زيادة الشرور، إلا أن العهد مع إبراهيم تبدل بعد «جدل» إبراهيم مع ربه حول تدمير «سدوم» و«عمورة»، فقد أصبح حكم الله للإنسان قائمًا على مبادئ الرحمة والعدل ومحددًا بها كوعد إلهي، ثم مع موسى يصبح الله المتكلم إلهًا للتاريخ لا إلهًا للطبيعة؛ أي أنه إله يتكشف عبر التاريخ كميدان لفعل الإنسان الذي أضحى “صورة الله” اللامحدود.
ومن الحاسم في هذه المسيرة هو الاسم الذي أعطاه الله لنفسه، فليست القضية هي «اختيار اسم مفارق «يهوه» بل كذلك إحاطة ذكر هذا الاسم بالمحاذير عبر تشريع عدم ذكر اسم الرب عبثًا»[10] كأحد الوصايا العشرة. يقول فروم إن عدم التسمية هدفها نفي التشيؤ تمامًا عن الله، ليصبح الله هو «اللامتشيئ اللا مسمى»، كمقابل لكل مسمى وكل متشيئ، وليست الوثنية من منظور كهذا سوى تشيؤ، «سوى تأليه الأشياء، وخضوع الإنسان لها»[11]، وعبادة أحد إمكانيات الإنسان بعد تجسيدها واكتمالها؛ لذا كان لابد للتوحيد العبراني كدين يتحدد عبر مواجهة «الوثنية» أن يجعل اسم إلهه مخفيًا وقليل الذكر «يمكن الحديث لله في الصلاة لكن لا يمكن الحديث عنه» لينفي عنه أي تحديد، وهي رؤية في التنزيه تطورت حتى وصلت ذروتها في اللاهوت السلبي مع ابن ميمون وفقًا لفروم.
هذان المعلمان في مسيرة التوحيد العبراني «تطور العهد وظهور الإنسان كصورة الله» و«التحذير من ذكر اسم الله» يعتبران في رأي فروم من أهم الإمكانات لهذا الكتاب في مسيرة التحرر من «العبودية»، العبودية بمعناها الأعم والذي يرتبط بالتوثين والتشيؤ والصنمية كما ذكرنا. وإذا كان «تيليش» يعتبر أن مسيرة الدين هي مقاومة دائمة للتوثين أي لـ«خلق مواضيع هم أقصى زائفة»، فإن فروم يعتبر أن هذه المقاومة هي محور تاريخ الإنسان كإنسان، فهذا التاريخ وفي طموحه للاستقلال والحرية والحياة يقاوم كل محاولة لخضوع الإنسان للأشياء أو لتثبيت إمكانات الإنسان عند نقطة ما، عصر ما، قوة ما، تفسير ما، في كلمة واحدة، يقاوم «خضوع الإنسان للميت»، وإنسان التوحيدية في مسيرته يقاوم كل هذا عبر إيمانه بإله حي دائمًا ومفارق لكل منتهٍ ومكتمل، إله يند دومًا عن كل تحديد، بلغة مستعارة من تيليش فإن رب التوحيدية هو «رب يعلو فوق الرب»، وهذا الإنسان الذي خُلق على صورته، يقلد أعماله بأن ينطلق دومًا في اتجاه الحياة لا الموت.
من خلال هذه التصورات كأساس للمعتقد العبراني في «الله» و«الإنسان» و«التاريخ» فإن فروم يقدّم تفسيرًا شديد الجدة والطرافة للتقليد العبراني عن «راحة السبت»، فبعدما يشير فروم لاستغراب أولي قد ينتابنا تجاه هذه الأهمية المعطاة لـ«راحة السبت» وذكْرها في الوصايا العشر كشعيرة مركزية بل وربطها «براحة الله»، فإنه يبدد هذا الاستغراب عبر تفسير هذه الأهمية عن طريق ربط «الراحة يوم السبت» بـ«نمط الكيونة» كنمط متولد من رفض الصنمية والفشتية والتملك، ومؤسس للانطلاق الدائم لتحقيق الذات عبر ما يحييها، عبر (الحب والخلق والانفتاح) لا ما يميتها (التلقف والقنص)، فلأن العمل الرئيس للشعب العبراني كان الصيد والقنص من البحر، كان لابد من يوم للراحة، يوم لا تقوم فيه العلاقة مع الطبيعة على القنص والتملك، بل على الكينونة، على الانفتاح والتفهم والمتعة والحياة كنمط محرر للذات، من هنا كان لـ«راحة السبت» كل هذه الأهمية، وأصبحت وصية وشعيرة مركزية في اليهودية، إذ هي تحيين دائم لعمق هذا الدين، مقاومته للتشيؤ والتوثين والموت.
من نفس المنطلق يفسر فروم طقوس يوم الفصح، مثل «خيمة الاجتماع» وأكل «خبز الملة»، إذ يعتبر أن هذه الطقوس هي تحيين دائم لحدث الخروج من مصر، لإبراز عمقه باعتباره لا حدث؛ إذ هو خروج تاريخي حدث مرة وانتهى، بل حدث خروج روحي، دائم ومستمر؛ فهو «هجرة روحية دائمة» من الوثنية أنى وكيف تمظهرت، فالخيمة والخبز الجاف يذكرون اليهودي بأنه المهاجر الأبدي الذي «قطع الحبل السري بالأرض»[12] تجاه إله هو اللامحدود.
فالسمة المركزية للعهد القديم وللعبادات العبرانية وفقًا لفروم هي هذا التقابل الذي تصنعه بين الوثنية والتوحيد، بين الموت والحياة، بين إنسان خاضع للطبيعة ولما صعنت يداه وبين إنسان خُلق على صورة إله حي ولا محدود، بذا تصبح قيم هذا الكتاب ومبادئه دعامة أساسية للتحرر في عالم أضحى وكما يصفه فروم «متمحورًا حول الأشياء»[13] أي حول الموت وفقدان الذات وارتهان الأنسان للعماء واللا عقل.
مبادئ تأويلية فروم لتأويلات فروم التي ذكرناها للعهد القديم ولمسيرة الشعب العبراني كثير من المزايا في الحقيقة؛ أولها أنها تأويلات ورغم انطلاقها من تحليل لمفاهيم «الله» و«الإنسان» و«العهد» و«التاريخ» من داخل النصوص التوراتية، إلا أنها لا تهدر العلاقة بين النصوص وبين الشعائر، التي تعد هي العيش لهذه المفاهيم، وهذا انطلاقًا من رؤية فروم للتدين العبراني كتدين لا يقوم على تصور الله بل على تقليده[14] باعتبار أن الإنسان هو صورة الله، وظننا أن هذا ينسحب على العمل الديني في كل دين، فتصورات دين لا توجد إلا معاشة، وتصبح الطقوس طريق طبع هذه التصورات على «الجسد العبادي» ليعاد صرفها في «الجسد اليومي» بتعبيرات الزاهي لطبع كل الحياة بقيم الدين المركزية، هذا وإن كان حديث فروم عن «تقليد الله» وارتباطه بكون الإنسان «صورة الله» يعطي لهذا المبدأ العام في ربط المعتقد بالشعيرة والذي تجمله مقولة كايو «الطقس هو المقدس معيشًا» دلالة أخص.
كذلك فمن مزايا قراءة فروم أنها قراءة لا تهدر وحدة النص التوارتي، فرغم أن الحديث هنا عن نصوص كتبت لقرون متتالية، لكن مع هذا فإن فروم يقرؤها كوحدة واحدة ويعتبر أن المركز الرئيس للنص التوراتي كان دائمًا ما يشد بقية محاور النصوص مهما ازدادات أو تنوعت مصادرها؛ لذا فإن كل كلمة داخل هذا النص الكبير تأخذ دلالتها من خلال علاقتها مع بقية النص، وفروم يضرب لهذا مثلاً بمبدأ «تحريم التصوير»، فهذا التشريع ربما كان أصله عادة ما لأحد القبائل السامية تمنع صنع صورة للإله، لكنه داخل النص العبراني أصبح له دلالة خاصة، هي نفي التصوير والشيئية عن الله والتأكيد على إطلاقيته، وهذا المبدأ المنهجي «أي وحدة النص» شيد الأهمية في ظننا في قراءة النص التوحيدي، حيث إن المفاهيم العقدية الجوهرية للتوحيدية تظل حاسمة ومفتاحية دومًا في فهم نصوصها، وهذا انطلاقًا من كون التوحيدية بالأساس «تمييزية» كما يشير يان إسمان، وهو ما نفهمه بمعنى أن مضمونها السلبي بنفي ما لا يتفق معها أهم وأسبق على جانبها الإيجابي؛ مما يجعل للنص التوحيدي دومًا القدرة على ضم أطرافه تجاه مركز تمثله أهم مفاهيمه «التمييزية».
بالطبع فإن هذه القراءة من فروم تظل قراءة شديدة الأهمية لا فقط من حيث مضمونها وتصورها لتحريرية الدين التوحيدي الدائمة، لكن أيضًا وخصوصًا من حيث المبادئ التأويلية التي تتحرك بها لقراءة العهد القديم، إلا أن ثمة نقطة رئيسة في تصور فروم للدين لا نراها وجيهة بالقدر الكافي، وهي نقطة ممكن التقاطها بوضوح في معظم كتبه عن الدين –بل حتى عن غير الدين[15]-، وهي أن فروم يحذف تمامًا من تصوره للدين المحرر عناصر الخشية والرهبة والحيرة والتبعية، حيث يربطها بـ«التأويل التسلطي» للدين كمقابل لـ«لتأويل الإشعاعي» له أو «الدين التسلطي» في مقابل «الدين الإنساني»، فهذه العناصر وفقًا لفروم تقف سدًا أمام حرية الإنسان وانفتاحه وسعادته ومجمل مبادئ وأهداف «الإنسانية الراديكالية». ونحن لا نوافق فروم على هذه الرؤية في الحقيقة، وظننا أنها رؤية تحمل خلطًا بين عناصر الدين وبين أنماط التدين اللي يواجهها فروم، ونحن نستطيع فك هذا الاشتباك عن طريق اللجوء لتفريق بارع وضعه تيليش بين «مقدس الوجوب» و«مقدس الوجود»[16]، فما يعترض عليه فروم هو غالبًا ما ينتمي لـ«مقدس الوجوب»؛ أي تمظهر المقدس كآمر تقوم العلاقة معه على «الطاعة والخطيئة والعصيان والذوبان في سلطة غير مفهومة» وفرض قوانين على الإنسان من خارج طبيعته، وهي الرؤية التي طالما اعتبرها فروم جوهرًا للبروتستانتية وصب عليها نقده الدائم وحملها الكثير من اختلالات العصر الحديث، لكن هذه السمة لا تستوعب تمامًا حضور عناصر الخشية والرهبة في الدين؛ لأن هذه الشعورات ترتبط وبصورة أكبر بـ«مقدس الوجود»؛ أي بما للاختلاف الأنطولوجي بين الإنسان والله من طابع جذري، وهو مفهوم مركزي في الشعور الديني تجاه تجلي الألوهة، لذا فقد شكّل هذا المفهوم جانبًا رئيسًا في كثير من تعريفات الدين، مثل تعريفات شلايماخر وهواتيهد وستيس، وأولاه أوتو في تقصي القدسي أهمية كبيرة، لذا فقد اعتبر سمة «المهيب» سمة أساسية في تجلي المطلق كـ«سر» تمامًا مثل سمة «الخلاب»، مما يجعل شعور «المهابة» شعورًا أصليًا في التجربة الدينية إلى جوار «الجذب» والغبطة التي يحتفي بها فروم كثيرًا.
وعلى خلاف فروم فنحن لا نرى أن شعور الخوف والرهبة تجاه موضوع الإيمان كسِرّ مهيب وجذاب شعورًا ارتكاسيًا أو عائقًا أمام حرية الإنسان واستقلاله وإنماء ذاته، فهذا الشعور لا يعني الهلع الذي يشل الفعالية بل هو شعور أقرب للتوقير، خصوصًا لو كان حديثنا عن المقدس التوحيدي المحذوفة منه عناصر الشيطنة والتدمير والمتماهي مع العدل والخير والجلال كما يشير تيليش[17].
ونظن أن لطبيعة الألوهة كـ«سر» «كآخر تمامًا»-بهيبته وجذبه- طابع تحريري، إذ تعمل لا على إلجام العقل بل على تحريره من التشيؤ ومن الأداتية ومن التوثين عبر وصل العقل بالمخيلة وتحفيز خلق العوالم السردية التي تزيد الإنسان فهمًا لذاته ولآفاق من الكون لا يكفي العقل المنطقي «وقواعد التفكير الجاهزة والمكتملة» لسبر أغوارها لانفتاحها على عالم «الأزل» الذي يتعطل فيه عمل قوانين «الزمان»[18]، هذا الذي يجد فيه الإنسان بدء وجوده ومرجعه وأفق حريته.
———— وادناه ملخص لكتاب الدين والتحليل النفسى – إريك فروم Posted on June 20, 2014 by civicegypt محمد سكرانه
يتعلم الأطفال فى المدارس أن الامانة والنزاهة والعناية بالروح ينبغى أن تكون المبادىء الهادية فى الحياة على حين تعلمنا الحياة أن الاهتداء بهذه المبادىء يجعلنا على أحسن تقدير حالمين وغير واقعيين.
——————————
هل سيسمع أطفالنا صوتاً يرشدهم إلام يتجهون وما الهدف الذى يعيشون من أجله؟ إنهم يشعرون على نحو ما كما يشعر الناس جميعاً أن لا بد للحياة من معنى ولكن ماهو؟ هل يجدونه فى المتناقضات وفى الكلام المزدوج الدلالة وفى الاستسلام الساخر الذى يلتقون به عند كل منعطف؟ أنهم مشوقون الى السعادة والحقيقة والعدالة والحب والى موضوع للعبادة فـ هل نحن قادرون على اشباع شوقهم؟
عاجزون نحن مثلهم، بل إننا لا نعرف الإجابة لأننا نسينا حتى ان نسأل السؤال ونزعم أن حياتنا قائمة على أساس متين ونتجاهل ظلال القلق والهم والحيرة التى تغشانا فلا تريم.
——————————
من بعض أعراض إضطراب الاعصاب بـ أن يعتقد بعض الناس أن العودة ألى الدين هى الإجابة، لا بوصفها فعلاً من أفعال الإيمان بل للهرب من شك لا سبيل إلى إحتماله وهؤلاء لا يتخذون هذا القرار تعبداً بل بحثاً عن الأمن.
—————————–
يعتقد الناس الذين يحاولون العثور على حل بالرجوع للدين التقليدى فيتأثرون بالرأى الذى يدعو اليه رجال الدين فى أغلب الأحيان ويبدو لديهم أن القساوسة والكهنة والشيوخ هم الفئات المحترفة الوحيدة المهتمة بالروح والمتحدثون الوحيدون عن المثل العليا: الحب والحق والعدل.
—————————-
المسألة ليست هى عودة الإنسان الى الدين والإيمان بالله بل هى أن يحيا فى الحب ويفكر فى الحقيقة.
———————-
يرى فرويد فى كتابه مستقبل الوهم: أن الدين ينبع من عجز الإنسان فى مواجهة قوى الطبيعة فى الخارج والقوى الغريزية داخل نفسه وينشأ الدين فى مرحلة مبكرة من التطور الإنسانى عندما لم يكن الإنسان يستطيع أن يستخدم عقله بعد فى التصدى لهذه القوى الخارجية والداخلية ولا يجد مفراَ من كبتها أو التحايل عليها مستعيناً بقوى عاطفية أخرى. وهكذا بدلا من التعامل مع هذه القوى عن طريق العقل يتعامل معها بـ عواطف مضادة، بقوى وجدانية أخرى تكون وظيفتها هى الكبت أو التحكم فيما يعجز عن التعامل معه عقلانياً.
فى هذه العملية ينمى الإنسان الوهم وهذا الوهم تؤخذ مادته من تجربته الفردية الخاصة عندما كان طفلاً اذ يتذكر الإنسان حين يواجه قوى خطرة لا سبيل الى السيطرة عليها او فهمها.. يتذكر الإنسان ويعود القهقرى الى تجربة مر بها وهو طفل حيتما يشعر أن أباه يحميه أباه الذى يعتقد أنه أوتى حكمة عالية وقوة وهو يستطيع أن يكسب حب أبيه وحمايته بإطاعة أوامره وتجنب نواهيه.
يتعامل الإنسان مع القوى المهددة له بنفس الطريقة التى تعل بها وهو طفل أن يتعامل مع شعوره بعدم الامان وذلك بالاعتماد على والد يعجب به ويخافه.
———————-
يقول فرويد أن الدين خطر لأنه يميل الى تقديس مؤسسات إنسانية سيئة تحالف معها على مر التاريخ وفضلاً عن ذلك فإن ما يقوم به الدين من تعليم الناس الاعتقاد فى وهم وتحريم التفكير النقدى يجعله مسئولاً عما أصاب العقل من إغلاق.
يقرر فرويد أن إشباع الفكرة لـ رغبة ما لا يعنى بالضرورة أن هذه الفكرة خاطئة!
كبت التفكير النقدى فى نقطة معينة يؤدى الى افقار قدرة الشخص النقدية فى مجالات أخرى من الفكر ومن ثم يعوق قوة العقل!
الاعتراض الثالث هو أن الدين يضع ” الأخلاقية” تستند على كونها أوامر الله، فإن مستقبل الأخلاق ينهض أو يتداعى مع الإعتقاد فى الله. ولما كان فرويد يفترض أن الإعتقاد الدينى فى سبيله الى الانحلال فإنه مرغم على افتراض أن الإرتباط المستمر بين الدين والأخلاق سوف يؤدى الى تحطيم قيمنا الأخلاقية!
يشير فرويد الى التضاد القائم بين ما يتصف به الطفل من ذكاء لماح وما نلاحظه من فقر العقل عند البالغ المتوسط وهو يفترض أن طبيعة الإنسان الحميمة قد لا تكون عقلية كما تكون عندما يخضع الإنسان لتأثير التعاليم اللاعقلية!
————————–
اذا تخلى الإنسان عن وهمه فى إله أبوى وإذا واجه وحدته وتفاهته فى الكون فـ سيكون أشبه بالطفل الذى ترك بيت أبيه!
———————
غاية التطور الإنسانى هى أن يتغلب على هذا التثبيت الطفولى وعلى الإنسان أن يعلم نفسه لمواجهة الواقع فإذا علم أنه لا يستطيع الإعتماد على شىء إلا على قواه الخاصة فسيتعلم كيف يستخدمها إستخداماً صحيحاً.
الإنسان الحر الذى حرر نفسه من نير السلطة التى تهدد وتحمى هو وحده الذى يستطيع إستخدام قوة عقله وإدراك الكون ودوره فيه إدراكاً موضوعياً دون وهم وبقدرة على التطور وعلى استخدام القدرات الكامنة فيه.
———————-
جون ديوى يفرق بين الدين والخبرة الدينية فهو يرى أن معتقدات الدين الفائقة على الطبيعة قد أضعفت من موقف الإنسان الدينى وأوهنته ويقول: ” أن التعارض القائم بين القيم الدينية كما اتصورها وبين الدين لا سبيل الى رفعه ولأن تحرير هذه القيم من الأهمية بمكان، فإن التوحيد بينهما وبين عقائد الأديان ومعتقداتها أمر ينبغى فصمه.
—————-
يقرر فرويد ” أن الناس لم يستخدموا قط القوى التى يملكونها لـ نشر الخير تمام الاستخدام وذلك لأنهم انتظروا قوة خارجية عنهم وعن الطبيعة لتؤدى عنهم العمل الذى تقع عليهم مسئولية أدائه “
—————–
لا وجود لإنسان بغير حاجة دينية، حاجة الى ان يكون له اطار للتوجيه وموضوع للعبادة، بيد أن هذا القول لا يخبرنا بشىء عن سياق خاص تتجلى فيه هذه الحاجة الدينية، فقد يعبد الإنسان الحيوانات، أو الأشجار أو الأصنام من الذهب أو الحجارة أو إلهاً غير منظور، أو إنساناً مقدساً، أو زعماء شيطانين، وربما عبد أسلافه أو أمته أو طبقته أو حزبه أو المال أو النجاح وقد يؤدى به دينه الى تطوير روح الدمار أو الحب، الى التسلط أو الإخاء أو ربما ضاعف من قوة عقله أو أصابها بالشلل وقد يدرك أن مذهبه مهب دينى، يختلف عن المذاهب الدنيوية أو قد يظن أنه لا يملك ديناً، وان تكريس نفسه لأهداف دنيوية مزعومة كالقوة أو المال أو النجاح ليس شيئاً آخر سوى إهتمامه بالعملى والنافع والمسألة ليست ” ديناً أو لادين ” بل أى نوع من الدين، هل هو من النوع الذى يساعد على تطور الإنسان وعلى الكشف عن قواه الإنسانية الخاصة به كإنسان، أم
هو من النوع الذى يصيب هذه القوى بالشلل؟
——————–
الحق ان الإنسان لا يعيش بالخبز وحده وليس لديه الا اختيار بين الاشكال الحسنة أو الرديئة، السامية أو الدنيئة، المرضية أو الهدامة، من الاديان والفلسفات.
ما من شىء لا إنسانى أو شرير أو لا معقول لا يمنح شيئاً من الراحة اذا اشتركت فيه جماعة!
——————
حتى أبعد التوجيهات عن المعقولية لو اشترك فيه عدد كبير من الناس فإنه يعطى الفرد شعوراً بالإتحاد مع الآخرين وقدراً معيناً من الأمن والإستقرار يفتقر اليه الشخص العصابى وما من شىء لا إنسانى أو شرير أو لا معقول لا يمنح شيئاً من الراحة إذا اشتركت فيه جماعة، فما ان يتمكن مذهب من المذاهب أيا كانت لا معقوليته فى مجتمع ما حتى يؤمن ملايين من الناس بدلاً من أن يشعروا بالبنذ والإنعزال!
———————-
الدين التاريخى قد انهزم أمام السلطان الدنيوى، وآثر المصالحة مرة بعد أخرى كما انه وجه عناية أكبر الى معتقدات معينة بدلاً من أن يعنى بممارسة الحب والتواضع فى الحياة اليومية وأخفق الدين فى تحدى السلطان الدنيوى باستمرار وفى غير هوادة حيثما انتهك هذا السلطان روح المثل العليا الأعلى الدينى بل على العكس من ذلك شارك المرة تلو المرة فى مثل هذه الانتهاكات.
———————
الدين التسلطى: هو اعتراف الإنسان بقوة عليا غير منظورة تتحكم فى مصيره، ولها عليه حق الطاعة والتبجيل والعبادة.
فكرة أن هذه القوة بسبب السيطرة التى تمارسها جديرة بالطاعة والتبجيل والعبادة فـ سبب الطاعة والتبجيل لا يمكن فى صفات الإله الأخلاقية فى الحب أو العدل وانما فى ان لها السيطرة أى السطان على الإنسان كما ان للقوة العليا الحق فى إرغام الإنسان على عبادتها، وان التقصير فى التبجيل والطاعة يعد اثماً!
العنصر الجوهرى فى الدين التسلطى هو الاستسلام لقوة تعلو على الإنسان.
الفضيلة هى الطاعة، الخطيئة الكبرى هى العصيان.
فى فعل الاستسلام يفقد استقلاله وتكامله بوصفه فرداً ولكنه يكتسب الشعور بأن قوة مهيبة تحميه، بحيث يصبح جزءاً منها!
فكرة احتقار كل شىء فى الإنسان وخضوعها العقل الذى ينوء بفقره، هذه التجربة هى جوهر الاديان التسلطية كلها سواء صيغت بلغة علمانية او لاهوتية.
الاله فى الدين التسلطى رمز للقوة والجبروت وهو الأعلى لأن له القوة الأعلى، والإنسان الى جواره لا حول له ولا قوة !
الدين التسلطى العلمانى الدنيوى يتبع هذا المبدأ.. فيصبح الفوهرر (ابو الشعب) المحبوب، او الدولة او الجنس او الوطن موضوعاً للعبادة وتصبح حياة الفرد تافهة وتتألف قيمة الإنسان من انكاره لقيمته وقوته!
الدين التسلطى بيسلم بمثل أعلى يصل الى درجة عالية من التجريد والبعد بحيث لا يمت بصلة تقريباً بالحياة الواقعية للشعب الحقيقى زى مثلاً الحياة بعد الموت، مستقبل الإنسانية.. يعنى يمكن ان يضحى بحياة وسعادة الأشخاص اللذين يعيشون هنا والآن.. هذه الغايات المزعومة تبرر كل الوسائل وتصبح رموزاً تتحكم بإسمها ” الصفوة” الدينية او الدنيوية فى حياة اخوانهم من البشر!
—————————
هدف الإنسان فى الدين الإنسانى هو ان يحقق أكبر قدر من القوة لا أكبر قدر من العجز والفضيلة هى تحقيق الذات، لا الطاعة. الايمان هو يقين الاقتناع المؤسس على تجربة المرء فى مجال الفكر والشعور، لا على تصديق قضايا وفقاً لذمة المتقدم بها، والمزاج السائد فيها هو الفرح، على حسين أن المزاج السائد فى الدين التسلطى هو الحزن والشعور بالذنب!
———————-
بقدر ما تكون الاديان الإنسانية تأليهية، يكون الإله رمزاً على ” قوى الإنسان خاصة ” التى يحاول تحقيقها فى الحياة، ولا يكون رمزاً على القوة والتسلط و” القدرة على الإنسان”!
———————–
المهم فى اى مذهب كان دينى دينى او فلسفى ليس المذهب الفكرى من حيث هو كذلك بل الموقف الإنسانى الكامن وراء معتقداتها!
ليس الاله رمزاً للقدرة على الإنسان، بل رمزاً على قوى الإنسان الخاصة!
———————–
على حين أن الإله فى الدين الإنسانى صورة لذات الإنسان العليا ورمز على ما يمكن أن يكون الإنسان أو ما ينبغى أن يئول اليه، نرى أن الإله قد أصبح فى الدين التسلطى المالك الوحيد لما كان يملكه الإنسان أصلاً: أعنى العقل والحب وكلما كان الإله أكمل، كان الإنسان أنقص. إنه يُسقط أفضل ما عنده على الإله ومن ثم يفقر نفسه. وهكذا يملك الإله الآن كل الحب وكل الحكمة وكل العدل والإنسان محروم من هذه الصفات، انه فقير خاوى الوفاض. فقد بدأ بشعور الضآلة ولكنه أصبح الآن عاجزاً تماماً، لا حول له ولا قوة، وأسقط قواه كلها على الإله. طريقة او ميكانيزم الإسقاط هذه هى نفسها ما يمكن ملاحظته فى العلاقات الشخصية المتبادلة التى يقيمها ذات الطابع الخانع المشوب بالماسوشية حيث يرهب شخص شخصاً آخر وحيث وحيث يعزو قدراته الخاصة وتطلعاته الى الشخص الآخر. وهو نفس الميكانزم الذى يجعل الناس يخلعون على الزعماء ذوى المذاهب الممعنة فى اللاانسانية صفات من الحكمة الخارقة والعطف!
———————–
توسل الآن الى الإله بعد أن أعطاه كل ما يملك لكى يعيد اليه بعض ما كان يملكه أصلاً ولكنه بعد ان فقد نفسه أصبح تحت رحمة الإله تماماً فهو يشعر بالضرورة كما يشعر الخاطىء ما دام قد جرد نفسه من كل ما هو خير ولن يستطيع أن يسترد ما يجعله إنساناً الا بفضل الإله ورحمته، وفى سبيل اقناع الإله بأن يمنحه شيئاً من حبه ينبغى عليه أن يثبت له شدة حرمانه من الحب، وفى سبيل إقناع الإله بأن يهديه بحكمته الفائقة ينبغى عليه أن يثبت له مدى حرمانه من الحكمة إذا تُرك لنفسه!
————————
اغتراب الإنسان عن قواه الخاصة لا يجعل الإنسان معتمداً على الإله اعتماداً ذليلاً فحسب بل يجعله شريراً ايضاً. اذ يصبح انسان بلا ثقة فى اخوانه البشر وفى نفسه بلا تجربة لحبه الخاص وقوة عقله الخاصة ونتيجة لهذا يحدث الانفصال بين المقدس والدنيوى ويتصرف الإنسان فى مناشطه الدنيوية بلا حب وفى ذلك القطاع من حياته الذى يدخره للدين يشعر أنه خاطىء ( وهو خاطىء فعلاً، ما دامت الحياة بلا حب، هى الحياة فى الإثم) ويحاول أن يستعيد شيئا من انسانيته الضائعة بأن يكون على صلة بالإله. وكذلك يحاول فى الوقت نفسه أن يكتسب المغفرة بالالحاح على عجزه وتفاهته وهكذا ينشأ عن هذه المحاولة فى اكتساب الغفران تنشيط للموقف الذى تنبت منه الخطيئة وهكذا يجد نفسه محصوراً فى مأزق أليم فكلما أثنى على الإله صار أشد خواء وكلما أصبح أشد خواء أحس بأنه يتمادى فى الخطيئة وكلما أمعن فى الإثم إزداد تمجيداً للإله وبالتالى صار أعجز عن استرداد نفسه!
————————
إن ما يفكر فيه الناس وما يشعرون به يضرب بجذوره فى شخصياتهم، وشخصياتهم تُصاغ وفق الصورة الكلية لممارستهم الحياة، أو معنى أدق بالتركيب الإجتماعى والاقتصادى والسياسى لمجتمعهم ففى المجتمعات التى تحكمها أقلية قوية تسطير على الجماهير يمتلىء الفرد بالخوف حتى يصبح عاجزاً عن الشعور بالقوة والاستغلال وتكون تجربته الدينية فى هذه الحالة تسلطية وسواء عبد إلهاً مرهوب الجانب محباً للعقاب أو زعيماً يتصوره على هذا النجو فلن يختلف الأمر كثيراً!
حيثما يشعر الفرد بالحرية والمسئولية عن مصيره أو بين الأقليات المتطلعة الى الحرية والاستقلال نشات التجربة الدينية الإنسانية وتطورت!
حيثما تحالف الدين مع السلطة الدينوية أصبح بالضرورة تسلطياً.
———————-
الخطيئة الحقيقية للإنسان هى اغترابه عن نفسه، واذعانه للقوة وانقلابه على نفسه حتى لو كان ذلك تحت قناع عبادة الإله!
——————–
أن نفهم ان قدرتنا محدودة فهماً واقعياً متزناً جزء جوهرى من الحكمة والنضج، اما ان نعبدها فهذا يدخل فى باب الماسوشية وتدمير الذات.. الموقف الاول هو التواضع، أما الموقف الثانى فهو إذلال النفس!
———————-
ثمة اناس يميلون الى التمارض وتعريض أنفسهم للحوادث وللمواقف الذليلة وتصغير أنفسهم وإضعافها ويظنون أنهم تورطوا فى مثل هذه المواقف ضد رغبتهم وارادتهم بيد أن دراسة دوافعهم اللاشعورية تكشف أنهم مسوقون فعلاً بأشد ميول الإنسان امعاناً فى اللامعقولية أعنى الرغبة اللاشعورية فى أن يكونوا ضعفاء عاجزين وهم يميلون الى تحويل مركز حياتهم الى قوى يشعرون أنهم لا يقدرون عليها وبهذا يهربون من الحرية ومن المسئولية الشخصية وفضلاً عن ذلك نجد أن هذا الميل الماسوشى يصاحبه فى العادة ميل مضاد له تماماً هو التحكم والسيطرة على الآخرين وأن هذين الميلين الماسوشى والمسيطر يؤلفان جانبى التركيب ذى الطابع التسلطى.. مثل هذه الميول الماسوشية ليست دائماً لا شعورية ونحن نجدها صريحة فى الانحراف الماسوشى الجنسى حيث يكون تحقيق الرغبة فى ان يجرح الإنسان ويذل هو شرط الانفعال والاشباع الجنسى ونجدها أيضاً فى العلاقة بالزعيم والدولة فى الاديان المتسلطة الدنوية ججميعاً فهنا تكون الغاية الظاهرة هى التنازل عن ارادة المرء وتجربة الأذعان للزعيم او الدولة بوصفها تجربة مجزية جزاء عميقاً!
———————–
متبين الدرجة التى يبلغها الإنسان فى استخدام تفكيره لتبرير العواطف اللامعقولة وأفعال طائفته تبين عظم المسافة التى مازال على الإنسان ان يقطعها لكى يصبح انساناً عاقلاً HOMO sapiens..
————————
الإنسان فى أصله حيوان يحيا فى قطيع وتتحدد أفعاله بدافع غريزى لإتباع الزعيم وبأن تكون له صلة وثيقة بالحيوانات الأخرى من حوله وبقدر ما نكون قطيعاً لا يهدد وجودنا خطر أعظم من فقدان هذه الصلة بالقطيع فنصبح معزولين والصواب والخطأ والحق والباطل أمور يحددها القطيع ولكننا لسنا قطيعاً فحسب بل نحن انسانيون ايضاً نملك الوعى بأنفسنا ونملك العقل الذى هو بطبيعته ذاتها مستقل عن القطيع ومن الممكن ان تتحدد أفعالنا بنتائج تفكيرنا بغض النظر عما اذا كانت الحقيقة يشارك فيها الآخرون أو لا يشاركون!
————————-
التبرير مصالحة بين طبيعتنا القطيعية وقدرتنا البشرية على التفكير. وهذه القدرة الأخيرة تدفعنا الى الاعتقاد بأن كل ما تفعله يمكن أن يصمد لإختبار العقل. هذا ما يحدونا الى أن نضفى طابع المقعولية على آرائنا وقرارتنا اللامعقولة. لكن من حيث إنتمائنا الى قطيع ليس العقل هو مرشدنا الحقيقى وإنما يقودنا مبدأ مختلف تمام الإختلاف هو
ولاؤنا للقطيع. صــــ 55،56
—————————
تفتح العقل وظهوره الكامل يعتمدان على بلوغ الحرية الكاملة والاستقلال وحتى يتحقق هذا يميل الإنسان الى قبول الحقيقة التى تقررها الغالبية العظمى من الجماعة وما يصدره من أحكام تحدده حاجته الى الاتصال بالقطيع وخوفه من الانعزال عنه وقليل من الافراد هم الذين يستطيعون احتمال هذا الانعزال وقول الحق على ما فيه من خطر فقدان الصلة بالقطيع وهؤلاء هم الأبطال الحقيقيون للجنس البشرى ولولاهم لكنا الآن مازلنا نعيش فى الكهوف أما بالنسبة للغالبية العظمى من الناس الذين ليسوا أبطالاً فإن نمو العقل يعتمد على ظهور نظام اجتماعى يحترم فيه كل فرد احتراماً تاماً ودون أن يتخذ أداة تحركه الحكومة أو أية جماعة أخرى، نظام إجتماعى لا يخشى فيه من توجيه النقد ولا يكون السعى فيه عن الحقيقة عازلاً للإنسان عن اخوانه بل يشعر بأنه شىء واحد وإياهم.
————————-
الإنسان لن يبلغ القدرة التامة على الموضوعية والتعقل إلا اذا قام مجتمع للإنسان يعلو فوق كل الانقسامات الجزئية بين الجنس البشرى وإلا أصبح الولاء للجنس البشرى ومثله العليا هو الولاء الأول فى الوجود!
قد تكون الفكرة مجرد قوقعة خاوية أو مجرد رأى يتخذه المرء لأنه النموذج الفكرى للثقافة التى يعتنقها دون عناء والتى يمكن ان يتخلى عنه بلا عناء أيضاً اذا تغير الرأى العام وقد تكون الفكرة من ناحية أخرى تعبيراً عن مشاعر الشخص ومعتقداته الحقيقية وفى هذه الحالة الأخيرة تضرب الفكرة بجذورها فى جماع شخصيته ويكون لها منبت عاطفى ومثل هذه الأفكار التى تضربها بجذورها فى أعماق الإنسان هى وحدها التى تحدد أفعال الشخص تحديداً فعالاً!
ص 57 ص58
تكون الفكرة قوية اذا استقر أساسها فى تركيب شخصية الفرد، وما من فكرة يمكن أن تكون أقوى من منبتها العاطفى!
——————————
الواقع الإنسانى مثلاً وراء تعاليم بوذا أو عيسى أو المسيح أو سقراط او سبينوزا هو فى جوهره شىء واحد بعينه إذ يحدده التطلع الى الحب والحق والعدل. كذلك يتشابه الواقع الإنسانى الكامن وراء مذهب كالفن والمذاهب السياسية التسلطية والروح التى تسرى فيها هى روح الخضوع للقوة، الافتقار الى الحب، احترام الفرد الإنسانى!
“وبثمارها سوف تعرفها ” اذا كانت التعاليم الدينية تسهم فى نمو المؤمنين بها وفى قوتهم وحريتهم وسعادتهم فهنا نرى ثمار الحب، أما اذا كانت تسهم فى انطواء الامكانيات الإنسانية وفى التعاسة والعقم فلا يمكن أن تتولد عن الحب بغض النظر عما تقصد العقيدة تبليغه الى الناس!
——————————
اذا تخلص المريض من التقيؤ أو السعال الناشىء عن سبب نفسى أو تخلص من أفعاله القهرية أو افكاره التسلطية، عد فى هذه الحالة متماثلاً للشفاء!
التكيف هو قدرة الشخص على التصرف كالغالبية العظمى من الناس فى الحضارة فى الحضارة التى ينتمى اليها!
—————————-
حين يحاول المرء أن يقدم صورة للموقف الإنسانى الكامن وراء تفكير لاوتسى وبوذا والانبياء وسقراط والمسيح واسبينوزا وفلاسفة عصر التنوير حين يحاول هذا يصطدم بأنه على الرغن من الاختلافات ذات الدلالة إلا أن هناك جوهراً من الافكار والمعايير مشتركاً بين تلك التعاليم جميعاً و بوسف تقريبى لهذا الجوهر: على الإنسان أن يكافح لمعرفة الحقيقة، لا يمكن أن يصل الى انسانيته الكاملة الا بمقدار ما ينجح فى هذه المهمة. ولابد أن يكون مستقلاً وحراً، وغاية فى ذاته، لا وسيلة لأغراض أى شخص. وينبغى عليه أن يربط نفسه بإخوانه البشر مدفوعاً بالحب، فإذا لم يشعر بالحب كان قوقعة خاوية حتى لو امتلك القوة كلها والثروة كلها والذكاء كله. يجب على الإنسان أن يعرف الفرق بين الخير والشر وعليه أن يتعلم كيف يستمع الى صوت ضميره، وأن يكون قادراً على اتباعه.
—————————
أوضح التحليل النفسى أن الاعتقاد الذاتى ليس معياراً كافياً للإخلاص بأى حال من الأحوال فمن الممكن أن يعتقد شخص ما أنه يتصرف مدفوعاً بإحساس العدالة ومع ذلك يكون مدفوعاً بدافع القسوة. ومن الممكن أن يعتقد أنه مدفوع بالحب ويكون مسوقاً مع ذلك برغبة ملحة الى الاعتماد الماسوشى على غيره. وقد يعتقد شخص ما أن الواجب هو مرشده، على حين أن دافعه الرئيسى هو الغرور والواقع أنه فى معظم التبريرات يعتقد الشخص الذى يستخدمها أنها صادقة وهو لايريد من الآخرين أن يؤمنوا بتبريراته فحسب، بل أنه يؤمن بها هو نفسه وكلما أراد أن يحمى نفسه من ادراك دافعه الحقيقى كان ايمانه بها أشد حرارة وفضلاً عن ذلك يتعلم الشخص فى عملية التحليل النفسى أى أفكاره ينبع من مصدر عاطفى وأيها لا يخرج عن كونه أكليشيهات تقليدية لا جذور لها فى بناء شخصيته وبالتالى لا وزن لها ولا قيمة.
—————————
لا يمكن تحقيق الصحة العقلية والسعادة إلا بفحص تفكيرنا وشعورنا لإكتشاف أن كنا نقوم بعملية تبرير أم أن معتقداتنا متأصلة الجذور فى شعورنا.
فى كل من التفكير الدينى الإنسانى والتحليل النفسى تؤخذ قدرة البحث عن الحقيقة على انها مرتبطة ارتباطاً لا انفصام له بالوصول الى الحرية والاستقلال!
الغالبية العظمى من الناس فى حضارتنا متكيفون تكيفاً حسناً، لأنهم تخلوا عن الكفاح من أجل الإستقلال بصورة أسرع وأقطع من الشخص العصابى، فقد قبلوا حكم الغالبية قبولاً تاماً بحيث وفروا على أنفسهم ألم الصراع الحاد الذى يعانيه الشخص العصابى. مع أنهم لأصحاء من وجهة نظر التكيف ألا أنهم أشد مرضاً من الشخص العصابى من حيث تحقيق أهدافهم بوصفهم كائنات بشرية.
————————–
الشخص المتكيف الذى لا يعيش بالحقيقة، ولا يحب، يحمى نفسه من الصراعات الظاهرة فحسب فإذا لم يكن مستغرقاً فى العمل فعليه أن يستخدم سبل الهرب العديدة التى تقدمها حضارتنا وذلك لكى يحمى نفسه من تجربة الوحدة المخيفة مع نفسه والنظر فى هوة عجزه وإملاقه.
ص 77
أحبب أخاك كما تحب نفسك هى المبدأ الأساسى المشترك فى جميع الاديان.
—————–
لماذا طلب معلمو الجنس البشرى الروحيين العظام.. لماذا طلبوا من الإنسان أن يحب إذا كان الحب إنجازاً يسيراً كما يبدو أن معظم الناس يشعرون بذلك. فما الذى يدعى حباً؟ الإعتماد على الغير، الخضوع، العجز عن التحرك بعيداً عن “الحظيرة” المألوفة، السيطرة، التملك، اشتهاء السلطة، هذا هو ما يشعر به الناس على أنه حب، والنهم الجنسى والعجز عن إحتمال الوحدة يؤخذان على أنهما دليل على قدرة عارمة على الحب. ويعتقد الناس أن حب المرء لغيره أمر بسيط ولكن أن يحب المرء فـ شىء من أصعب الأمور.
———————-
ليس الصعوبة فى أن يكون المرء محبوباً بل صعوبة الحب نفسه، وأن الإنسان لا يحب الا اذا كان قادراً على أن يحب، اذا كانت قدرته على الحب تولد حباً فى شخص آخر، ولا يعلمون أن القدرة على الحب لا على بديله المزيف هى من أصعب الإنجازات!
———————–
لا وجود لدليل أشد إقتناعاً على أن وصية ” أحبب جارك كما تحب نفسك ” هى أهم شعار للحياة، وأن انتهاكها هو العلة الأساسية فى الشقاء والمرض النفسى.. أياً كانت الأعراض التى تظهر على المريض العصابى فإنها جميعاً متأصلة فى عجزه عن الحب والقصد بالحب هو القدرة على تجربة الإهتمام والمسئولية واحترام شخص آخر وفهمه والرغبة الشديدة فى نمو هذا الشخص الآخر!
————————–
لا يستطيع المرء أن يحكم على جماعته حكماً نقدياً الا اذا تجاوز مرحلة الوشائج المحرمة وقبل هذا لا يستطيع المرء أن يحكم على الاطلاق ومعظم الجماعات سواء كانت قبائل بدائية أو امما أو ديانات لا تهتم الا ببقائها والتمسك بسلطان زعمائها فهى تستغل الحس الأخلاقى المتأصل فى نفوس أعضائها لتستفزهم ضد الأعداء الخارجيين الذين تحاربهم. بيد أنها تستخدم الوشائج المحرمة لتجعل الشخص مقيداً بالاغلال الأخلاقية الى جماعته لتخفق هذا الحس الأخلاقى والحكم وذلك حتى لا ينتقد جماعته على ماترتكبه من انتهاك للمبادىء الأخلاقية بينما تدفعه الى المعارضة العنيفة اذا اقترف غيرها هذا الانتهاك!
——————————-
وانها لمأساة الأديان العظمى جميعاً أنها تنتهك مبادىء الحرية وتفسدها فى اللحظة التى تتحول فيها الى مؤسسات جماهيرية تهيمن عليها البيروقراطية الدينية. فالمؤسسة الدينية والرجال الذين يمثلونها يأخذون الى حد ما مكان الأسرة والقبيلة والدولة. وهم يحتفظون بالإنسان مغلولاً بدلاً من أن يتركوه حراً. فلم يعد الله هو الذى يعبد بل الجماعة التى تدعى الكلام باسمه حدث هذا فى جميع الاديان.
————————
من الممكن أن تتصور الأديان البدائية الخطيئة على أنها فى جوهرها انتهاك للمحرمات دون أن يكون لها أى تضمين أخلاقى. أما فى الدين التسلطى، فالخطيئة هى فى المقام الأول عصيان السلطة، ولا تكون انتهاكاً للقواعد الأخلاقية الا فى المقام الثانى فحسب.
——————-
ليس الضمير فى الدين الإنسانى هو صوت السلطة نابعاً من باطن الإنسان، بل هو صوت الإنسان نفسه والحارس على تكاملنا الذى يذكرنا بأنفسنا حين يتهددنا خطر فقدان أنفسنا. هكذا لا تكون الخطيئة موجهة ضد الإله فى المحل الأول بل موجهة ضد أنفسنا.
————————-
يتوقف رد فعل ضد الخطيئة على التصور الخاص للخطيئة ومعناتها فإدراك الإنسان لخطاياه فى الموقف التسلطى يكون مخيفاً لأن معنى أن يرتكب الإنسان الخطيئة هو أن يعصى السلطات القوية التى ستعاقب المخطىء. وضروب الفشل الأخلاقية ما هى إلا أفعال تمرد لا يمكن التكفير عنها الا فى طقوس جديدة من الخضوع ورد فعل الإنسان على شعوره بالذنب هو أنه محروم لا حول له ولا قوة، شعور بان الإنسان قذف بنفسه تماما تحت رحمة السلطة وبالتالى يأمل فى الغفران. والمزاج المصاحب لهذا النوع من الندم هو الخوف والقشعريرة.
—————————–
النتيجة المترتبة على هذا الندم هى ان الخاطىء بعد ان غاص فى شعور الحرمان يضعف من الناحية المعنوية ويمتلىء بالحقد والاشمئزاز من نفسه وبالتالى يكون ميالاً الى اقتراف الخطيئة مرة أخرى اذا إجتاز نوبة تعذيب النفس وضربها بالسياط. ويكون رد الفعل هذا أقل تطرفاً حين يقدم له دينه تكفيراً شعائرياً أو كلمات كاهن تمسح عنه ذنبه. ولكنه يدفع لهذا التخفيف من ألم الذنب ثمناً هو اعتماده على أولئك الذين يملكون إغداق الصفح والغفران.
————————
روح الحقد والتعصب فى الدين التسلطى هى نتيجة وتعويض عن حالة الخضوع القاسية! على عكس الدين الإنسانى.
ص 141 كتاب الإنسان لنفسه نفس الكاتب
————————–
حين يتصل الإنسان بهذا العالم المفكك للاشعور يستبدل الإنسان بمبدأ الكبت مبدأ التشبع والتكامل. ذلك أن الكبت هو فعل من افعال القوة من أفعال البتر، من أفعال ” القانون والنظام”، فهو يحطم الصلة بين الأنا وبين الحياة اللاعضوية التى منها انبثقت، ويجعل من ذاتنا شيئاً مصنوعاً، شيئاً توقف عن النمو، فأصبح ميتاً. وحين نقضى على الكبت نسمح لأنفسنا بإدراك العملية الحية، وبأن تؤمن بالحياة لا بالنظام!
———————–
لا سبيل الى تصور أن أى كشف تصل اليه العلوم الطبيعية يمكن ان يصبح تهديداً للشعور الدينى بل على العكس كل مزيد من الوعى بطبيعة الكون الذى نعيش فيه لا يمكن الا أن يساعد الإنسان على ان يصبح أشد ثقة بنفسه وأكثر تواضعاً.
—————————-
فهم العلوم الطبيعية المتزايد بطبيعة الإنسان وبالقوانين التى تحكم وجوده أحرى بأن يسهم فى نمو الموقف الدينى لا فى تهديده.
———————
حين كان تلاميذ بوذا يسألونه عن هل العالم متناهى أم لا متناهى، هل الكون أزلى أم لا وغيرها من المسائل دى كان يجيب دائماً وأبداً: ” أنا لا أعرف، ولا يهنى أن أعرف، لأنه أياً كانت الإجابة فإنها لا تسهم فى المشكلة الوحيدة ذات الأهمية: كيف نخفف العذاب الإنسانى؟! “
يعبر أحد أناشيد الريجفيدا عن هذه الروح أجمل تعبير ” من الذى يعلم حقاً، ومن يستطيع أن يعلن هنا متى ولد الخلق، ومتى جاء؟ الآلهة متأخرون عن خلق هذا العالم.. من يعلم إذن متى أتى الى الوجود؟ هو، الأصل الأول للخلق، هل هو الذى صاغه جميعاً أم لم يصغه، ذلك الذى تشرف عينه على هذا العالم من السماء الأعلى، هو الذى يعلم حقاً، أو ربما لم يكن يعرف “
————————
الطقس بمعناه الواسع هو الفعل المشترك المعبر عن تطلعات مشتركة متأصلة فى قيم مشتركة!
كثيرين ممن يعلنون إيمانهم بالله هم فى موفقهم الإنسانى عبدة الأصنام أو أناس بلا إيمان، على حين أن بعض الملحدين المتحمسين ممن يكرسون حياتهم لإصلاح حال البشرية ولأعمال الإخاء والحب، يتخذون موقفاً دينياً عميقاً يتسم بالإيمان.
———————
تركيز المناقشة الدينية على قبول رمز الإله أو إنكاره يسد الطريق على فهم المشكلة الدينية بوصفها مشكلة دينية ويحول دون تنمية ذلك الموقف الإنسانى الذى يمكن أن نسميه موقفاً دينياً بالمعنى الإنسانى لهذه الكلمة.
الصراع الحقيقى ليس بين الاعتقاد فى الله وبين الإلحاد بل بين موقف انسانى دينى وبين موقف هو والوثنية سواء بغض النظر عن كيفية التعبير عن هذا الموقف او كيفية تمويهه فى الفكر الواعى.
————————
جوهر الوثنية لا يكون فى عبادة هذا الصنم أو ذاك ولكنه موقف إنسانى معين يوصف بأنه تأليه للأشياء، أو لمظاهر جزئية من العالم، وبأنه خضوع الإنسان لمثل هذه الأشياء فى مقابل موقف يكرس فيه الإنسان حياته لتحقيق أسمى مبادىء الحياة مثل الحب والعقل، مستهدفاً أن يصبح ما هو بالقوة ( او الإمكان ) أعنى كائناً خلق مشابهاً للإله.
فإننا بقدر إهتمامنا بالجوهر لا بالأصداف الخارجية، وبالتجربة لا بالكلمة، وبالإنسان لا بالكنيسة نستطيع أن نتحد فى استنكار حازم للوثنية وربما وجدنا فى هذا الإستنكار من الايمان المشترك ما يزيد على أية أقوال إيجابية عن الإله. ولكننا سنجد بالتأكيد مزيداً من التواضع والحب الأخوى.
إنتهى التلخيص هنا لكن لم تنتهى القراءة ولم ينتهى التحليل ولم تنتهى المشكلة ولن تنتهى إلا بالقراءة العميقة والفهم وإستفراغ الموروثات البالية وفهم الواقع وتحليله