عصام عباس أمين لم يكتف الدكتور فارس كمال نظمي باختيار العنوان الجذاب (سيكولوجيا الاحتجاج في العراق) لكتابه الصادر عن دار سطور الطبعة الأولى 2017، بل أضاف إليه عنواناً ثانوياً لا يقل أهميةً عن العنوان الرئيس (أفول الأسلمة.. بزوغ الوطنياتية)، وكلا العنوانين مهمين لأيّ باحث أو مهتم بالشأن العراقي، خاصة وأن الدكتور لديه اختصاص دقيق في سيكولوجيا الشخصية والمجتمع والدين والسياسة.
الكتاب يغطي الاحتجاجات في العراق للفترة من 2010 ولغاية شباط 2017 من خلال سلسلة من المقالات تم تجميعها، اعتماداً على مجموعة من المصادر العلمية بلغت (43) ثلاثة وأربعين مصدراً، بعضها باللغة الانكليزية، مما يعكس مدى الجهد الذي بذله الكاتب في انجازه هذا. إن معرفة وتشخيص الفرضيات الأساسية لأيّ كتاب كفيل بتقريب الصورة وتحسين الفهم للأفكار التي يتم طرحها أو تبنيها من قبل الكاتب، لكن الطريف في هذا الكتاب وكاختصار للطريق وعناء البحث يضع الكاتب بنفسه أهمّ فرضيتين في العنوان الثانوي (أفول الأسلمة… بزوغ الوطنياتية)، إضافة إلى فرضيات أخرى مهمة منها مثلاً: 1. مصدر التغيير السياسي المقبل المرتقب في العراق هو إدراك الفرد العراقي للتآكل السريع والمستمر في شرعية النظام السياسي. 2. قيام كتلة تاريخية قوامها البشري جماهير اليسار المدني والديني، بعيداً عن المسميات الطبقية والدينية والمذهبية والعرقية والحزبية. 3. الإرادة المجتمعية في العراق وإن كانت مقموعة بفعل عوامل التركيع النفسي والاختطاف الاسلاموي، إلا أنها تمثل الرحم الذي سينبثق منه التغيير المقبل. 4. القياسات الفيزيائية التقليدية تصبح عوامل مضللة في تقييم حركة الاحتجاجات في بلد مخرب في وعيه الحقوقي، ومشوّه في ثقافته السياسية، ومستلب في إرادته الوطنية، فما يحدث في هذه الاحتجاجات ترتكز على القياسات الاجتماعية التراكمية وعياً وسلوكاً، لا القياسات الفيزيائية. 5. الصراع السوسيوسياسي في العراق هو صراع ثقافي أكثر منه طبقي. 6. مشروع السلطة السياسية في العراق يستند إلى اسطرة الدين، وهو يشهد المزيد من التآكل يوم بعد يوم. 7. المجتمع العراقي بدأ يخترق شرنقة الوعي الزائف، بفعل المشروع الوطني للحركة الاحتجاجية التنويرية الساعية إلى دولة المواطنة. قبل الخوض في مناقشة أيّ من هذه الفرضيات علينا التذكر جيداً بأن تحدي الفرضيات الأساسية واحدة من أهم تقنيات التحليل والذي من خلاله يمكننا التوصل إلى استدلالات متينة. وواضح جداً من خلال هذه الفرضيات، إن الكاتب يضعنا معه في قلب الصراع الدائر اليوم في العراق بين عصرين متناقضين (عصر الأسلمة المتهافتة الراحلة، وعصر الوطنياتية المقبلة). جميع الفرضيات أعلاه تحتاج إلى مناقشات وبحوث وأدلة ساندة ليتم اعتمادها في تقييم وضع معقد كما نشاهده فيما يتعلق بالوضع العام في العراق أو ما يتعلق بالاحتجاج ثقافة وسلوكاً. ولأن جميع الفرضيات المذكورة متداخلة ومترابطة لذلك فإن من شأن دحض أية فرضية منها خلخلة البحث كله. فهل نحن حقاً في مرحلة أفول الأسلمة وبزوغ الوطنياتية؟ هل فعلاً نحن إزاء ولادة كتلة تاريخية من خلال التقارب بين التيار المدني والتيار الصدري؟ هل فعلاً أن الإرادة المجتمعية ستنبثق من تظاهرات التحرير وتحقق التغيير المنشود؟ هل سيأتي التغيير من التحرير أم من صندوق الانتخابات؟ هل الكتلة التاريخية ستكون قادرة على تحقيق أغلبية سياسية أم أن المعادلات تبقى كما هي مع حصول بعض التغيرات الجزئية؟ كيف ستتم إزاحة الإسلام السياسي في مرحلة الانتصار (ما بعد داعش)، والحشد الشعبي سيدخل الانتخابات المقبلة، وعيونهم على منصب رئيس الوزراء؟ اعتقد أن الإفراط في التفاؤل لا يقل خطراً من الإفراط في التشاؤم. كما اعتقد أيضاً بأن الانحياز الواضح للكاتب وتعاطفه العميق مع المتظاهرين جعله يبتعد أحياناً عن الموضوعية في التقييم، فنحن نعيش نظاماً سياسياً يقرر فيه الصوت الواحد نوع التغيير، فهل ستتم فعلاً إزاحة الإسلام السياسي في الانتخابات المقبلة؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تجعلنا في شك من دقة الفرضيات رغم جماليتها وقوتها في رسم سيناريو وردي لعراق جديد، مع التركيز دائما بأننا في حاجة ماسة إلى جعل تلك الفرضيات الى واقع ملموس، لأن استمرار الحال الحالي يعني المزيد من التدهور واستمرار الدوران في حلقة اللامعنى التي ابتلى بها العراق منذ 2003 ولغاية الآن.
اربيل / المدى