العقل والدين*
بحث في الأصول الدينية للعقل عند دوركهايم
عندما كان دوركهايم يسعى إلى استخدام علم الاجتماع كوسيلة لبناء نوع من الأخلاق الوضعية، وجد نفسه أمام واقع لا يمكن القفز عليه، وهو الواقع الذي يضع الظاهرة الدينية في قلب البشرية.
وقد ظهرت المسألة “الدينية” عند دوركهايم سنة 1888 في دراسته للطوطم والطابو والزوج مقدس/ دنيوي في مقال نشره بمجلة الحولية السوسيولوجية، يحمل عنوان “تحريم زنا المحارم وأصوله”. غير أن بداية الاهتمام الفعلي بالدين بما هو كذلك دشنها مقال “تعريف الظواهر الدينية” الذي ظهر في المجلة نفسها عاما بعد ذلك؛ أي سنة 1899. ثم نشر في ذات المجلة مقال “في الطوطمية” (1901-1902)، ومقال “درس في أصول الحياة الدينية” في مجلة الفلسفة سنة 1907.
إلا أن كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية الذي صدر سنة 1912 يقترح تصورا جديدا للدين وللقوى الاجتماعية التي ينتجها. ويعتبر ذلك الكتاب ذروة المسار النظري لدوركهايم في تحليله للظاهرة الدينية.
كان دوركهايم يرمي من وراء كتابة هذا المؤلف إلى تفسير نشأة المجتمع وما يجعله ممكنا من جهة، ومن جهة أخرى إلى تسليط الضوء على دور المجتمع في انبثاق الفكر المنطقي. ويراهن دوركهايم في كتابه هذا على الدين كمفتاح لحل هاتين الإشكاليتين. إذ يؤكد دوركهايم على أن التمثلات الدينية تمثلات جمعية، وأن جوهر الديني هو التمييز القائم بين المقدس والدنيوي. فهذا التمييز يوجد في كل ديانات العالم؛ كما أن المقدس، هذا الكائن الجمعي واللاشخصي والمفارق، يمثل المجتمع نفسه. وعلى الصعيد الثاني، يبرهن دوركهايم على أن المجتمع هو مصدر الأفكار الأساسية الضرورية لكل فكر منطقي. ذلك، أن الحياة الاجتماعية هي التي تخول للفرد اكتساب مقولات الفهم، كالزمن والمكان والعدد، إلخ، والمفاهيم الضرورية للفكر المنطقي.
يهدف هذا المقال إلى تقديم التصور البديل الذي اقترحه دوركهايم لشروط إمكان المعرفة بهدف تصحيح ما اعتبره أخطاء المذهبين التجريبي والقبلي في طرحهما لنشأة الأفكار الأساسية للفهم البشري. كما يسعى المقال من وراء هذا الهدف إلى بيان علاقة الدين بنشأة المجتمع كما طورها دوركهايم في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية على وجه الخصوص.
لذلك، يبدأ مقالنا بمقطع يتناول علاقة الديني بالاجتماعي في سوسيولوجيا دوركهايم، وكيف دشن علم اجتماع الدين لحظة نشأة علم الاجتماع نفسه. وفي المقطع الثاني، سنعرض لتصور كل من المذهب التجريبي والمذهب القبلي لنشأة المعرفة البشرية، وخصوصا مقولات الفكر في علاقتها بالفطرة والتجربة. يلي ذلك نقد دوركهايم لهذين التصورين وعرض مقاربته السوسيوتجريبية لانبثاق مقولات الفهم من خلال الممارسات الجماعية للطقوس الطوطمية.
الاجتماعي والديني في العلم الاجتماعي الدوركهايمي:
يندرج اهتمام دوركهايم المبكر بالظاهرة الدينية في سياق نشأة علم الاجتماع ذاته. ذلك أن الصرح المعقد لكل النظريات السوسيولوجية للآباء المؤسسين قام على مساءلة أصل الواقع الاجتماعي ووضعه الأنطولوجي، وهي المسألة التي جعلت الدين منطلقا لها. وفي هذا السياق، يشير شمويل تريغانو إلى أن السوسيولوجيا، التي نشأت في القرن التاسع عشر في خضم التغييرات التي أحدثتها الثورة الصناعية والثورة العلمية والثورة السياسية وما صاحبها من انتشار العلمنة والتحديث، كرست معظم جهودها في بدايتها لتحليل الظاهرة الدينية (Trigano, 2001: 9). وبذلك يكون علم الاجتماع الديني هو ما دشن لحظة ولادة النظرية السوسيولوجية ذاتها.
في هذا السياق، انبثقت سوسيولوجيا إميل دوركهايم (1858-1917) الوفية للتقليد الفرنسي، وخصوصا الفلسفة الديكارتية المنشغلة بالبحث عن الأصول. ذلك أن دوركهايم عكف على الإجابة على أسئلة متعلقة بنفس الموضوع: كيف نشأ المجتمع؟ ما هي القوانين التي تتحكم في الحياة الجماعية؟ كيف أمكن لعدد كبير من البشر، الذين يتمتع كل فرد منهم بحياة داخلية خاصة، أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا بنفس الطريقة، بمعنى ما مصدر “أساليب الفعل والإحساس والفكر” الجماعية؟ (Trigano, 2001: 10).
للإجابة على هذه التساؤلات، تبنى دوركهايم منهجا تجريبيا، حاول من خلاله استخلاص تلك الإجابات من دراسات ميدانية، تناولت بالأساس الحياة الدينية لما يسمى بالمجتمعات “البدائية”، وخصوصا الممارسات الطقوسية الطوطمية. وينطلق دوركهايم، في اختياراته النظرية والمنهجية، من أطروحة أساسية يكون المجتمع بمقتضاها متسما بطابع القداسة. وتتكثف هذه الأطروحة في المنطوق الدوركهايمي الشهير “الله هو المجتمع” الذي استنتجه بالخصوص من دراسته للديانة الطوطمية.
في كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية، يعبر دوركهايم عن قناعته بأن الدين يشكل الرحم الذي ولدت فيه الحضارة ويعتبر الشكل البارز للحياة الاجتماعية. فالدين في رأي دوركهايم “يتضمن في ذاته منذ البداية كل العناصر التي أدت إلى انبثاق مختلف تمظهرات الحياة الاجتماعية. إذ انحدر العلم والشعر من الأساطير والحكايات؛ وانحدرت الفنون التشكيلية من الزخارف الدينية وحفلات القداس؛ وخرج القانون والأخلاق من رحم الممارسة الطقوسية. فلا أحد يستطيع فهم تصورنا للعالم، وتصوراتنا الفلسفية للروح والخلود والحياة، إن لم يكن على دراية بالمعتقدات الدينية التي تمثل صورها الأولية”.[1]
وللبرهنة على صدق هذه الأطروحة، انطلق دوركهايم من التأكيد على أن الميزة الجوهرية للدين هي التمييز بين المقدس والدنيوي. يقول دوركهايم: “إن جميع أشكال الإيمان الديني المعروفة، بسيطة كانت أو معقدة، تحمل خاصية مشتركة: إنها تقتضي تنظيم الأمور الواقعية أو المثالية التي يتصورها الإنسان في نظامين متقابلين يطلق عليهما عادة اسمين مختلفين، هما المقدس والدنيوي”(Durkheim, [1912] 1968: 50).وخلاصة هذا التعريف للدين هو تشديد دوركهايم على فكرة أنه حيثما يوجد “مقدس” مختلف عن “الدنيوي” يوجد دين، وبالتالي فإن الطوطمية تشكل دينا حقيقيا، معارضا بذلك أطروحة فرايزرFrazerالتي لا تعتبر الطوطمية دينا، لأنها تفتقد إلى كائن روحي وإلى صلاة، وبالتاليفهي في رأيه مجرد عدة سحرية.
لا يمكن فصل “الاجتماعي” عن “الديني” في علم الاجتماع الدوركهايمي، كما يتجلى ذلك بوضوح في مقاربته للطوطمية؛ فالطوطم هو في آن واحد رمز للإله ورمز للعشيرة. ذلك أن “إله العشيرة الذي هو مبدأ الطوطمية، لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير العشيرة نفسها، لكنه مجسد في أقنوم (رمز) ومقدم للمخيلات في شكل أنواع محسوسة من النبات والحيوان التي تستخدم كطواطم”. هكذا إذن فإن المجتمع، في رأي دوركهايم، “يتوفر على كل شيء يسمح له بأن يثير في العقول، بفضل الفعل الذي يمارسه عليها، الإحساس بالألوهية، نظرا لأن المجتمع يمثل بالنسبة لأعضائه ما يمثله الإله بالنسبة للمؤمنين به”.
شكلت الظاهرة الدينية منذ الكتابات الأولى لدوركهايم مفتاح إشكالية هذا الأخير المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية، لدرجة إثارة نقد أحد تلامذته، ج. لابي J.Lapie الذي كتب إلى سيلستان بوغلي C.Bougléرسالة يقول فيها، إن دوركهايم “يفسر كل شيء في هذا الوقت بواسطة الدين: تحريم الزواج بين الأقارب مسألة دينية، الألم والمعاناة لهما منشأ ديني، كل شيء ديني…”[2]
علاوة على ذلك، فإن علم الاجتماع كما تصوره دوركهايم يرتبط بعلم اجتماع المعرفة مادام المجتمع البشري يتعرف على ذاته ويعرف العالم انطلاقا من الدين (Trigano, 2001: 19). إذ أن الموضوع الأساسي في علم الاجتماع الديني لدى دوركهايم هو إثبات كون العملية التي تنتج تمثل المجتمع لذاته لا تنفصل عن عملية تكونه ذاتها. فقد كان دوركهايم، كما أشرت إلى ذلك من قبل، منشغلا بفهم كيف يمكن لعدد كبير ومتنوع من الأفراد أن ينتجوا تمثلا مشتركا يوحدهم. ولذلك طرح أسئلة، ظل بعضها بلا إجابة، حول المضمون التجريبي للتمثلات الجماعية. وقد أدى به سعيه إلى العثور على إجابة صادقة تجريبيا على تلك الأسئلة إلى الانطلاق من ظاهرتين غير منفصلتين ليبين كيف ينشأ المجتمع: أولا، ظاهرة الممارسات الملموسة التي تربط الأفراد فيما بينهم، مانحة واقعا ملموسا لعلاقة التضامن التي توحدهم؛ ثانيا ظاهرة الطبيعة الاجتماعية للمعرفة (Ogien,2007: 137).
في كتابه الأشكال الاجتماعية للفكر، يشير ألبير أوجيان (Ogien, 2007: 25) إلى أن هناك تصورين للاجتماعي لدى دوركهايم: تصور مفارق يمنح لضمير جمعي مستخرج من المجتمع سلطةَ ممارسةِ الإكراه على السلوكات الفردية، وتصور محايث يكمن أصلا في المعرفة بما أنها تعبر عن الأشكال الأولية للالتزام الاجتماعي. ويعني ذلك أن دوركهايم يعتقد أن شروط المعرفة لا تفلت من البحث التجريبي.
هذا البحث التجريبي في شروط إمكان المعرفة يجد ميدانه المفضل في الممارسات الدينية الطوطمية. وقد فصَّل دوركهايم الكلام في هذا الموضوع في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1912، والذي شكل منطلقا ما أصبح يعرف في الأدبيات السوسيولوجية بـ “دوركهايم الثاني” الذي كرس أعماله التي تبتدئ بكتاب الأشكال الأولية وما بعدها، لبناء نظرية سوسيولوجية للمعرفة، والذي أضحى موضوعا لإعادة تقييم معاصرة يمكن أن نلاحظ فيها ما يمكن أن نطلق عليه “أعراض فتغنشتاين” (Ogien (2009): 19).
المقولات في المذهبين التجريبي والقبلي:
تجدر الإشارة في البداية، على خلاف الرأي الشائع، إلى أن المقولات لم تعالج على يد الفلاسفة القبليين فقط، بل حظيت بنفس القدر من الاهتمام من قبل الفلاسفة التجريبيين أيضا. والاختلاف بين هؤلاء وأولئك يتمثل في تصورهم لمصدر هذه المقولات.
أي دارس للفلسفة لم يسمع عن مقولات أرسطو؛ أي هذه “الأصناف المتنوعة” التي أراد هذا الفيلسوف أن يرجع إليها كل مواضيع فكرنا، حيث تشمل المقولة الأولى كل الجواهر، بينما تشمل المقولات التسع الأخرى كل الأعراض”؟ (Arnauld & Nicole 1965: 49). وكلمة “مقولة” (catégorie) مشتقة من مصدر القول، وهي ترجمة للفظ اليوناني categoria التي تعني “العلاقة”. وقد لاحظ أرسطو أن المعرفة ترتكز على عشرة أسس، أطلق عليها اسم “المقولات”، وهي: الجوهر substance، الكم quantité، الكيف Qualité، الإضافة relation، المكان lieu، الزمان temps، الوضع position، الملكية possession، الانفعال action، الفعل passion.
مع ديفيد هيوم D.Hume بلغ الهجوم على المذهب العقلي أوجه في القرن الثامن عشر، وخصوصا في كتابيه الأساسيين رسالة في الطبيعة البشرية (1739-1740) وبحث في الفهم البشري (1748) اللذين يهدفان إلى تحليل أصول أفكارنا. ومعلوم أن الفلاسفة التجريبيين كانوا يستخدمون مفهوم “الفكرة” بالمعنى الذي يعزوه له ديكارت؛ أي المحتوى الذهني الذي ندركه مباشرة (كوتنغهام، 1997: 90).
انطلق هيوم من قبوله الموقف التجريبي لجون لوك الذي بمقتضاه تكون أفكارنا مستقاة من التجربة. ويقسم هيوم محتويات الذهن إلى المعطيات الحسية التي يتم إدراكها مباشرة، ويطلق عليها “الانطباعات”، من جهة؛ والأفكار أو المعاني التي تمثل نسخا باهتة للانطباعات من جهة أخرى. ويقصد هيوم بالانطباع “كل مدركاتنا الحسية حين نسمع أو نرى أو نشعر أو نحب أو نكره أو نرغب أو نريد”. فالانطباعات إذن، ظواهر أو حالات وجدانية أولية، ولذلك فإنها تمثل إدراكاتنا القوية والواضحة. أما الأفكار (المعاني)، فإنها تمثل صورا للانطباعات، وبالتالي فهي أقل منها وضوحا وقوة. فالأفكار لا تختلف عن الانطباعات إلا في ضعف “القوة والحيوية التي تقع بهما على الذهن”.
لا ينكر هيوم وجود العقل أو الذهن الذي يمارس الانطباعات والأفكار ويمتلكها ويتذكرها ويقيمها. غير أن العقل في رأيه “مجموعة من الإدراكات الحسية المختلفة التي توحدت معا بشتى الارتباطات…عندما أتغلغل فيما أسميه “نفسي”، أعثر دائما على إدراك حسي معين أو آخر، كالحرارة أو البرودة، الضوء أو الظل، الحب أو البغضاء، الألم أو اللذة. ولا أستطيع أبدا، أن ألاحظ شيئا غير الإدراك الحسي”. وإذا كان هيوم يعتبر “علاقات المفاهيم” مجرد تحصيلات حاصل، (مثل: ضِعْف اثنين هو أربعة)، فإنه يرجع مجموع “قضايا الواقع” إلى التجربة، ويعتبر من المستحيل الوصول إليها بمحاكمات قبلية. إن الاستدلال في البرهنات العقلية التي تكشف عن العلاقات بين الأفكار أو المفاهيم استدلال برهاني استنباطي لا يحتاج إلى التجربة. أما الاستدلال في البرهنات العقلية التي تكشف عن العلاقات بين أمور الواقع، فإنه استدلال استقرائي يقوم على التجربة كما هو الحال في العلوم الطبيعية التي ترتكز على العلاقة بين السبب والنتيجة.
وبالمقابل، يشدد المذهب العقلي على أن مصدر المعرفة البشرية هو العقل، وعلى أن هذا الأخير مسلح بمجموعة من الأفكار الفطرية التي تساعده على تنظيم الإدراكات الحسية. وهذا سبب تسمية هذا المذهب بالقبلية (Apriorisme). وبالفعل، كان إيمانويل كانطKant، شأنه شأنلايبتسLeibniz، يصر على أنه يجب استخدام القدرة الفاعلة للعقل في معالجة وفهم أبسط إحساس. فالعقل يلامس العالم، وهو مسلح قبليا بما يسميه كانط “مفهوماتالعقل”. ومقاربة العالم دون الاعتماد على هذه المفهومات ليست “تجريبا”، بل هي مجرد إدراك حسي مباشر يطلق عليه كانط “الحدس”. صحيح أن كانط لا ينكر كون الانطباعات الحسية ضرورية لمنح محتوى لتجربتنا، وبالتالي لا ينكر أن التجريبيين محقون في هذه النقطة. إذ بدون معطيات حسية، لن يكون للعقل شيء يفكر فيه، وبالتالي سيكون فارغا من المحتوى.
غير أن كانط يطرح سؤالا جوهريا في كتابه نقد العقل الخالص: ما مصدر “المفهومات” التي بواسطتها يختبر العقل العالم؟ يجيب كانط إن كل المفهومات مستقاة من اثني عشرة “مقولة” أساسية، كمقولتي الجوهر والسببية. ويؤكد كانط أن هذه المقولات هي أفكار قبلية؛ أي فطرية وسابقة على التجربة، وتعتبر الشروط المسبقة الضرورية لقدرتنا على اختبار العالم. وإذا كان العالم سيبدو لنا على النحو الذي بدأ به؛ أي إذا كنا سنفهم العالم بطريقة ما، فيجب أن يتطابق فهمنا مع هذه المقولات: “إن الصحة الموضوعية للمقولات بوصفها مفهومات قبلية تقوم على أنه بمقدار ما يتعلق الأمر بشكل الفكر، لا يمكن أن تصبح التجربة ممكنة إلا من خلالها. وهي ترتبط بالضرورة والقبلية والتجربة، بسبب أنه لا يمكن التفكير في أي موضوع من التجربة إلا بواسطة تلك المقولات”.
استدلال دوركهايم على الطابع الاجتماعي للمقولات:
يؤكد دوركهايم على أن علم اجتماع المعرفة كما يتصوره هو نفسه يقوم، أفضل من البدائل الفلسفية (التجريبية والقبلية)، بتعليل عمومية وكونية وضرورة وصدق مقولات الفكر التي تشكل الشرط الأساسي لإمكان المعرفة. وللبرهنة على صدق دعواه، يعمد دوركهايمإلى نقد كل من المذهبين التجريبي والقبلي وبيان تهافتهما في تفسير صدق تلك المقولات. ذلك أنهما، وفقا لنقد دوركهايم، يفسران نشأة المعرفة بالعلاقة القائمة بين الفرد والواقع المادي، وبالتالي، فإنهما لا يقدمان أي برهان تجريبي لعملية المعرفة. ولذلك يؤكد دوركهايم على أن علم الاجتماع يبقى وحده القادر عل تجاوز المأزقين من خلال المحاججة على أن المعرفة ظاهرة اجتماعية.
فمن جهة أولى، ينطلق المذهب القبلي من مسلمة أن المقولات لا يمكنها أن تكون مشتقة من التجربة، بل إنها تمثل شرطا “سابقا منطقيا” لها. والظاهر أن دوركهايم يعتبر الشرط السابق منطقيا مكافئا للشرط السابق سيكولوجيا أو للشرط الفطري. غير أن المذهب القبلي، حسب دوركهايم، لا يفسر خصائص مقولات الفهم، وهي العمومية والكونية والضرورة. فالقبليون لا يفسرون شيئا عندما يقولون إن قدرة العقل على تجاوز التجربة وعلى إدراك العلاقات بين الأشياء ملازمة لطبيعة العقل البشري نفسه. بينما كان أولى بهم، تبعا لدوركهايم، أن يفسروا لنا من أين يستمد العقل هذه القدرة. وبعبارة أخرى، إذا كانت الفلسفة القبلية تعتبر المقولات “معطيات عديدة بسيطة، غير قابلة للاختزال، ومحايثة للعقل البشري بفضل تكوينه الخاص” (Durkheim, [1912] 1968 :18) فإنها لم توضح مصدر هذه المقولات السابقة على التجربة. فما زال من الضروري تفسير “القدرة المدهشة” للعقل على تقديمِ شكلٍ لتجربتنا. لذلك ظل دوركهايم غير مقتنع بالبرهان المتعالي القائل، إن المقولات تجعل التجربة ممكنة: فقد اقترح القبليون أن العقل البشري فاض عن العقل الإلهي. ومن البديهي أن يستبعد دوركهايم هذا الحل، لأنه لا يمكن التحقق منه تجريبيا. علاوة على ذلك، يعلن دوركهايم أنه حل خاطئ، مبرهنا على ذلك بكون ثبات العقل الإلهي وعدم قابليته للتغيير يتعارضان مع تنوع أشكال المقولات عبر الزمان والمكانDurkheim, [1912] 1968:20-21)). لذا يبقى السؤال مطروحا: كيف يمكن لخطاطات مفهومية (مقولات الفهم) أن تفرض شكلا على الواقع وتترك في نفس الوقت لهذا الواقع خاصيته كموضوع معرفي؟(Ogien, 2007: 24).
ومن جهة ثانية، يعلن دوركهايم عن رفضه للمقاربة التجريبية الكلاسيكية لشروط إمكان المعرفة لكونها تفشل في تفسير كونية وعمومية وضرورة المقولات. يعتقد دوركهايم أن المقولات هي “الأرضية المشتركة التي تلتقي فيها جميع العقول” (Durkheim, [1912] 1968 :19). وعليه، فإن الطابع الكوني لمقولة معينة تفسره خاصيتها ككيان يمكن،مبدئيا على الأقل، إيصاله وتبليغه لكل العقول(Durkheim, [1912] 1968: 619 n1). أما الطابع الضروري للمقولات، فإنه يتمظهر في كوننا عاجزين عن تفاديها. والحال أن المذهب التجريبي، حسب دوركهايم، يفشل في تحليل هذه الخصائص الخاصة بالمقولات نظرا، لأنه يقيم هذه الأخيرة على انطباعات حسية وإحساسات تتميز بخصائص نقيضة تماما: فالإحساسات خاصة وخصوصية، وهو ما يتعارض مع العام والكوني. كما أن الحرية التي نتمتع بها فيما يتعلق بإحساساتنا تتعارض مع طابعها الضروري. هكذا إذن، إذا لم تكن كونية المقولات وضرورتها سوى مظهرين خادعين لا يطابقان شيئا في الأشياء ذاتها، كما يتضح من خلال معالجة المذهب التجريبي الكلاسيكي لها، فإن هذا الأخير يعجز عن تفسير كيف يتمكن مجموعة من الأفراد عبر مجموعة من الأحاسيس من إدراك موضوع ما بطريقة متطابقة (23: 2007Ogien,).
كان هدف دوركهايم من توضيح فشل التجريبية والقبلية في تفسير نشأة المعرفة البشرية هو تقديم تصور بديل لهما يتمتع بالصدق التجريبي ومبرهن عليه تجريبيا. وارتأى أن قبول فكرة الأصل الاجتماعي للأفكار الأساسية التي تقوم عليها المعرفة سيفسر كل الصعوبات التي اعترضت البدائل الفلسفية الكلاسيكية. هذا الاقتراح الدوركهايمي يرتكز على الفكرة التي سبق لدوركهايم أن عرضها في مقال “التمثلات الفردية والتمثلات الجماعية” (1892): لا يمكن تفسير ظاهرة المفاهيم المشتركة، التي يسميها دوركهايم “التمثلات الجماعية” على أساس الفعل الفردي حتى وإن كان معتبرا في سياق جماعي.
صحيح أن دوركهايم احتفظ باعتقاد الفلسفة القبلية بأن معرفتها تتكون من نوعين مختلفين من العناصر: تجريبية ومفهومية، وأنها تصدر عن مصدرين مختلفين، وأنه لا يمكن اختزالهما في بعضها البعض. غير أن علم اجتماع المعرفة الدوركهايمي يرفض أن يكون لهذه العناصر مصدر فردي كما هو الحال عند كانط، بل يذهب أبعد من ذلك، عندما يماهي بين المقولات والتمثلات الجماعية. فالأفكار العامة والمفاهيم، بما فيها المقولات، تعتبر في رأي دوركهايم تمثلات جماعية تهم علم الاجتماع، بينما تمثل التمثلات الفردية موضوع علم النفس.ويعتبر دوركهايم التمثلات الفردية أفكارا خاصة مستمدة من الإحساسات، في حين تنشأ التمثلات الجماعية من “انصهار” التمثلات الفردية أثناء فترات “الانفعال الجماعي”.
يتحدث دوركهايم عن أربع مصطلحات دون أن يتحمل عناء تحديد الاختلافات بينها: التمثلات الجماعية، والمفاهيم، ومفاهيم التصنيف، والمقولات (Pickering, 1993: 52).كما يلاحظ أن دوركهايم يستخدم في مناسبات عديدة لفظ “مفاهيم” في مقابل عبارة “المفاهيم المجردة”. ومن الواضح أنه يستخدم لفظ “مفاهيم” بمعنى “التمثلات” ويستبدلهما بعضهما ببعض (Durkheim, [1912] 1968: 621). إن المفاهيم، حسب دوركهايم، تشبه من حيث خصائصها التمثلات الجمعية: فهي خارج الزمن، وخارج الفرد، وقادرة على أن تكون كونية، وهي من إنتاج المجتمع، وأعلى من المفاهيم الفردية (Durkheim, [1912] 1968: 625, 437). أما مفاهيم التصنيف، فإنها نوع خاص من المفاهيم أو التمثلات الجمعية، وتستخدم لتصنيف التجربة الفردية والاجتماعية.
يسلط وليامز بايكرينغ (Pickering, 1993) الضوء على مفهوم المقولة لدى دوركهايم من خلال التمييز بين أهداف التفسير في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية وأهداف التفسير في مقال “في بعض الأشكال البدائية للتصنيف”. ويلاحظ بايكرينغ أن كتاب الأشكال الأولية هو وحده الذي يعالج المقولات بمعناها الكانطي. بينما يعالج المقال مفاهيم التصنيف فقط، كمفاهيم تصنيف اتجاهات المكان والوحدات الزمنية. ليست مفاهيم التصنيف هي المقولات، وإنما تعني الطرائق التي تتمثل بها مختلف المجتمعات مقولات الزمان والمكان والصنف. وعندما يقول دوركهايم إن المقولات ليس لها شكل محدد، وإنما يتغير شكلها عبر الزمان وتبعا للمكان، فإنه يعني بذلك تلك الطرائق في تمثل المقولات.
وإذا كان بايكرينغ يستحضر مقولات الزمن والمكان والصنف، فإن وارين شماوس (Schmaus, 1998: 180) يؤكد على أن تمييز بايكرينغ بين المفاهيم المشتركة كونيا والطرائق المختلفة في تمثل هذه المفاهيم المشتركة يمكن أن يعمم ليشمل كل المقولات. فمقولة السببية مثلا يتم تمثلها أيضا بطرائق مختلفة في أماكن وأزمنة مختلفة. ويرى دوركهايم أنه في المجتمع الواحد تتنوع تمثلات مفهوم السببية بتنوع العوامل الاجتماعية، كالمستوى التعليمي، ومن تخصص علمي إلى آخر(Durkheim, [1912] 1968: 625, 527). هكذا، فإن مقولات الزمن والمكان والصنف والسببية توجد في كل المجتمعات، لكن هذه المفاهيم تكون موضوع تمثلات بطرائق مختلفة.
يقول دوركهايم في مقدمة كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية: “تقدم دراسة الظاهرة الدينية أداة لإحياء المشكلة التي عولجت إلى اليوم على يد الفلاسفة فقط” (Durkheim, [1912] 1968: 12). ذلك أن “أهم الأفكار البشرية، كالزمان والمكان والجنس والنوع والقوة والسببية والشخص، وباختصار هذه الأفكار التي أطلق عليها الفلاسفة اسم المقولات وتتحكم في النشاط العقلي، تطورت في قلب الدين” (Durkheim, [1912] 1968: 35). وفي ذات السياق، يؤكد روبين هورتون على أن دوركهايم يعتبر اللحظة التي ولد فيها الدين هي اللحظة التي ظهرت فيها إمكانية كل أشكال الفكر العليا (Horton, 1973: 260). وبالفعل، “إن أعظم خدمة قدمها الدين للفكر هي أنه أسس أول تمثل لما يمكن أن تكون عليه علاقات القرابة بين الأشياء” (Durkheim, [1912] 1968: 340).مثلما أن الدين قادر على “تحرير العقل من خضوعه للمظاهر الملموسة، وبالتالي تعليمه كيف يتحكم فيها والربط بين الأشياء التي تفرق بينها الحواس”(Durkheim, [1912] 1968: 340).
إن الاستدلال الحاسم في علم اجتماع المعرفة لدى دوركهايم، والمتعلق بالبناء الاجتماعي للمقولات، يتمثل في كون القوى التي تختبرها الجماعة أثناء “الفوران الجماعي” لا يمكن للأفراد المشاركين في هذا الفوران أن يؤولونها إلا كقوى فاعلة خلف الأشياء الملاحظة نفسها ومتحكمة كليا في كوسمولوجيتهم. ذلك أن الفعل المتبادل بين الضمائر الفردية ينشط في التجربة الدينية الجماعية لدرجة أنها تتحول إلى تمثلات جماعية تمارس، بعد نشأتها، إكراها على إدراكات الأفراد أثناء حياتهم اليومية. (Joas, 1984: 568).
يرى دوركهايم أن الطبيعة البشرية هي جمع بين الكائن الفردي والكائن الاجتماعي. هذه الثنائية توازي التمييز الذي تقيمه كل الأديان بين كيانين مختلفين، هما الجسد والروح، اللحم والنفس. وتجد هذه الثنائية تعبيرات فلسفية لها لدى ديكارت وكانط اللذين عارضا بين الإحساسات (sensations) والمفاهيم (concepts)، أو بين الشهوات الحسية والسلوكات الأخلاقية (Jones, 2005: 81). ويعتقد دوركهايم أن مفاهيمنا “تمارس عنفا” على إحساساتنا، وأن سلوكاتنا الأخلاقية تزعج غرائزنا وميولاتنا. ويرجع ذلك، حسب دوركهايم، إلى أننا “لا نستطيع أبدا أن نكون في وفاق تام مع ذاوتنا، حيث لا يمكن لنا أن نتبع واحدة من طبيعتينا إلا وعانت الأخرى. وبالتالي، فإننا مجبرين على أن نعيش دائما منقسمين ضد ذواتنا” (Durkheim,[1912] 1968: 8).
ولا يخفى أن هذه الثنائية الديكارتية هي ترجمة للتمييز بين المقدس والدنيوي، وهو تمييز يتوقف كله على أسباب اجتماعية. فالمجتمع لا يمكن أن يوجد دون أن يتسرب إلى العقول الفردية، ولا يمكنه أن يتسرب إلى العقول الفردية دون أن يرفع الفرد فوق ذاته. فالفرد يوجد سجين “وجودين”: الأول ينحدر من كياننا الفيزيقي ويعبر عنه وينعكس في الإحساسات والشهوات التي يسعى الفرد إلى تحقيقها؛ وينحدر الثاني من المجتمعويعبر عنه، ويؤدي إلى انبثاق العقل والفعل الأخلاقي اللذين بدونهما لن يكون المجتمع ممكنا. ويمكن أن نعبر استعاريا على ذلك بالقول: إن الإله (أي المجتمع) يتوقف وجوده على البشر (أي الأفراد)، مثلما يعتمد البشر (الأفراد) على الإله (المجتمع) فيما يخص أفضل صفاتهم؛ وعندما يتم الاعتراف بذلك، يستنتج دوركهايم، فإن مهمة علم الاجتماع الدين تصبح واضحة: تفسير طبيعة وأصل القوى التي تقوم عليها الأفعال الاجتماعية(Jones, 2005: 80). هاهنا تظهر الصعوبة التي اعترضت دوركهايم في تفسير العلاقة السببية بين الضمائر الفردية والضمير الجمعي. وقد انتابت دوركهايم شكوك في إمكانية البرهنة على وجود هذه العلاقة السببية بين الضمائر الفردية والضمير الجمعي التي يعتبرها نوعين من الكائنات المتمايزة من حيث الطبيعة (Ogien, 2007 :23). إذ كيف “يتسرب” المجتمع إلى العقول الفردية؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب فهم مصدر القدرة على تشكيل تمثلات متطابقة مع الآخرين؛ أي يجب فهم كيفية نشأة الفكر المنطقي.
في مقال “علم الاجتماع الديني ونظرية المعرفة” (Durkheim, 1909: 757-759)، يؤكد دوركهايم بدون تحفظ على “الدور الأساسي” الذي تلعبه بعض التمثلات الجماعية؛ أي المقولات. وتتميز هذه الأخيرة بكونها أسمى المفاهيم، لأنها “تتحكم في كل المفاهيم الأخرى وتتجاوزها…إنها تتحكم في النشاط المنطقي برمته” (Durkheim, 1913: 37). فمن وجهة نظر تراتبية، يعتقد دوركهايم أن وظيفة المقولات تتمثل في “التحكم في مجموع المفاهيم الأخرى واحتوائها؛ إنها قوالب دائمة للحياة العقلية” (Durkheim,[1912] 1968: 628). وبخصوص مصدرها، حاول دوركهايم البرهنة على أن المقولات لا تنتج من العقول الفردية ولا تُفسَّرُ بها، بل إنها “نتيجة للتاريخ وللفعل الجماعي” (Durkheim, 1909: 758).
كان دوركهايم يرغب في أن يوضح أن محتويات المعرفة ليست وحدها مبينة اجتماعيا، وإنما أشكال فعل المعرفة ذاتها أيضا: فمقولات المكان والزمان والقوة والسببية والشخص والجنس يكتسبها الفرد، انطلاقا من مشاركته في الحياة الاجتماعية: “شيد البدائيون المجال العالمي على منوال المجال الاجتماعي، بمعنى على منوال المجال الذي يشغله المجتمع وكما يتمثله المجتمع؛ ويعبر الزمان على إيقاع الحياة الاجتماعية؛ ولم تكن فكرة الجنس (genre) في البداية سوى مظهر آخر لفكرة الجماعة البشرية؛ كما استخدمت القوة الجماعية وفعاليتها كنموذج أصلي للقوة والسببية، الخ.” (Durkheim, [1909-1912] 1969: 677-681).
يقدم دوركهايم هذا التشاكل بين التنظيم الاجتماعي والبنية المنطقية اعتمادا على أمثلة مستمدة من الدراسات الاتنولوجية حول القبائل الأسترالية “البدائية”.وانطلق خصوصا من الممارسات الطقوسية في الديانات الطوطمية التي يعتبرها أحد أشكال الدين الأكثر أولية وبدائية. هذا المتن الإثنولوجي سمح لدوركهايم بطرح نظريته حول انبثاق الاجتماعي (الأخلاقي) من الديني، استنادا إلى مسلمته الأساسية المتمثلة في رفض التفسير الفرداني الخاص بالفلسفات الكلاسيكية (المذهبين التجريبي والقبلي) وبالفلسفة البراغماتية. ذلك أن تفسير الصدق التجريبي للمعرفة التي تمثل شكلا آخر من الاجتماعي، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال الجمعي، وخصوصا من خلال التجربة المباشرة للقوة الأخلاقية التي يولدها الإنجاز الجماعي للممارسات الاجتماعية ذات الطبيعة الطقوسية.
في دراسة رائدة حول نظرية المعرفة عند دوركهايم(Rawls,1996; 2001)، عكفت عالمة الاجتماع الأمريكية آن وورفيلد راولس على دراسة نظرية المعرفة عند دوركهايم التي اعتبرتها الاستدلال الذي أهمله شراحه. وأقامت راولس مقاربتها على مفهوم “الممارسة”، وخصوصا على تعريف دوركهايم للظاهرة الاجتماعية كمجموعة من الأصوات والحركات المسموعة والمرئية. وبالفعل، تشير راولس إلى أن دوركهايم تساءل في كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية عن المصدر الذي تنبثق منه المعتقدات، وأنه برهن على أن التمثلات والمعتقدات يسببها الانجاز الجماعي للممارسات الطقوسية. تكتب راولس: “بالنسبة لدوركهايم، ليست الممارسات الاجتماعية مجردة وليست مجرد منتوج للأفكار والتمثلات والمعتقدات، بل إن الأفكار والتمثلات والمعتقدات ظواهر ثانوية. إن المجتمع بالنسبة لدوركهايم مكون أساسا وقبل كل شيء من ممارسات منجزة بشكل ملموس، تنبثق منها قوى اجتماعية حقيقية يختبرها المشاركون بشكل جماعي. إن بعض هذه القوى الاجتماعية تنتج أفكارا أساسية يستشعرها جميع المشاركين في الطقس، وهي الأفكار التي يسميها دوركهايم مقولات الفهم”.
إن لجوء دوركهايم إلى فكرة “الممارسات الطقوسية”، وخصوصا الطقوس المحاكاتية les rites mimétiquesالتي تمارس بشكل جماعي في الديانات الطوطمية الأسترالية، يمَكِّن من ضمان صدق تجريبي لعلم اجتماع المعرفة. وإذا كان من غير المقبول تفسير المعرفة بنوع من السببية المادية، فقد ابتكر دوركهايم نوعا آخر من السببية، وهي السببية الأخلاقية التي تنبثق من الانفعالات التي يولدها في كل فرد مشارك التحقيق المشترك للنشاط الجماعي.
يطلق دوركهايم في الأشكال الأولية مصطلحات عديدة على الانفعالات: “أحاسيس” feelings، “مشاعر”sentiments، “انطباعات حسية” sensations، “إثارة ذهنية”، انطباعات impressions.ويدرج كل هذه الكلمات في الكلمة émotions (انفعال). ويتحدث دوركهايم على انفعالات نوعية، مثل “السعادة” و”الراحة” و”التبعية” و”الاحترام” التي يؤكد أنها تطابق فكرتي الوحدة الأخلاقية والقوة الأخلاقية (Rawls, 2001: 8).
يفسر دوركهايم انبثاق الانفعالات بأطروحة “خاصية القدرة التوليدية للدين” التي استعارها من الفلسفة البرجماتية (Jones, 2005: 93). وقد استلهم وليام جيمس نفسه هذه الظاهرة التفسيرية من عالم النفس الفرنسي شارل فيري (Ch. Féré) الذي كان مهتما بمفعول المثيرات الحسية على النشاط العضلي، ورتب سلسلات من التجارب التي استخدم فيها جهاز “قياس القوة” لقياس قوة الانقباضات العضلية ليد شخص تحت تأثير العديد من المثيرات. ويشير جيمس في كتابه مبادئ علم النفس (1890) إلى أن أقصى قوة تبقى ثابتة نسبيا من يوم لآخر؛ لكن إذا تلقى الشخص إثارة حسية (انطباعا حسيا)، كالحرارة والبرودة والوخز والحكة والإثارة الكهربائية للبشرة، فإن قوة الانقباض تزداد عادة. وأصبح مفعول التقوية هذا يحمل اسم “توليد القوة” (Jones, 2005: 93).
فصَّل وليام جيمس الحديث عن هذه الخاصية التي تجعل من الدين “قوة توليدية” في كتابة الضروب المتنوعة للتجربة الدينية (1902)، وضرب لها مثالا بحالة سان أوغسطين الشاب كمثال كلاسيكي لما سماه “تنافر الشخصية” أو “الذات المنقسمة”.[3]
في هذا السياق، طرح دوركهايم تصوره للدين كظاهرة لها قدرة على إنتاح الانفعالات أو الانطباعات، مثل “انطباعات الابتهاج، والسلم الداخلي، والسكينة، والحماسة التي تعتبر بالنسبة للمؤمن دليلا تجريبيا على صدق معتقداته”(Durkheim,[1912] 1968: 4). وقد دافع دوركهايم على فكرة “خاصيةالقدرة التوليدية للدين” (وفكرة “ازدواجية الطبيعة البشرية”) في اللقاء الذي نظمته الجمعية الفرنسية للفلسفة بتاريخ 4 فبراير 1913. فالإنسان الذي يكون أمام ربه، يقول دوركهايم، “يكون لديه إيمان بالحياة، وحماسة للحياة، وهي حماسة لا يجربها في الأوقات العادية. حيث تكون لديه قوة أكبر لمواجهة مشاق الوجود، ويكون قادرا على القيام بأمور عظيمة ويبرهن عليها بسلوكه”(Durkheim,[1912] 1968: 5). لكن هذه النتائج لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان الإله حاضرا في ذهنه “بواسطة طاقة كافية للتمثل الذي يعبر عليها حتى تكون فعالة”. هكذا، يجب أن تكون الآلهة “محط إيمان، ومحط إيمان مع ثقة جماعية”، حيث “لا يمكن لثقة كل فرد على حدة أن تكون قوية إلا إذا كانت مشتركة بين الجميع” (Durkheim,[1912] 1968: 6).
إن أوضح مثال عن واقعة المكوِّن الانفعالي للمقولات، في رأي دوركهايم، هما مفهوما المقدس والدنيوي اللذين يلفهما عنصر انفعالي. بل يذهب دوركهايم إلى حد الحسم في أنه “ربما ليس هناك تمثل جماعي غير هذياني بمعنى من المعاني” (Durkheim,[1912] 1968: 325).
هذه الانفعالات التي يشعر بها المشاركون في الطقس الجماعي تنتج لديهم شعورا بقوة مجهولة ولا شخصية، توجد داخل كل فرد منهم دون أن تنصهر به: “يمكن القول إنها الإله الذي تعبده كل ديانة طوطمية. إلا أنه إله لا شخصي، لا اسم له، محايث للعالم، منتشر في عدد لامتناه من الأشياء” (Durkheim,[1912] 1968: 269). لكن يجب ألا نسيء تقدير هذا التصور ونعتبره مجرد تعبير استعاري. بل بالعكس، إن هذه القوة واقعية: “إن كل الكائنات التي تتوحد في نفس المبدأ الطوطمي تعتبر نفسها بذلك وكأنها مرتبطة أخلاقيا بعضها بعضا؛ إذ تشعر بأن عليها إزاء الآخرين مجموعة من واجبات المساعدة والتطوع…” (Durkheim,[1912] 1968: 271). وتتمثل “واقعية” هذه القوة الأخلاقية في قدرتها الخلاقة للإلهي وتضمنها لمبدأ الفعالية، سواء الفعالية الطقوسية أو السحرية، كما وضح ذلك هوبيرHubert وموسMauss من خلال فكرة “المانا”. إن هذه القوة، في رأي دوركهايم، هي المجتمع ذاته. هكذا، فإن الإله والمجتمع يولدان لدى الأفراد إحساسا بتبعية كلية ودائمة. إنهما مبدآن مفارقان، مختلطان، يمارسان الإكراه والسلطة الأخلاقية.
إن القوة الدينية، الجماعية والمجهولة، يمثلها الطوطم الذي يعتبر في رأي دوركهايم شعارا. إنه مصدر المقدس وحامله. فالقوى الدينية، حسب دوركهايم، قوى أخلاقية تفعل في كل فرد. فهي “تترجم ليس فقط الطريقة التي بها تؤثر الأشياء المادية على حواسنا، بل تترجم أيضا الطريقة التي يؤثر بها الضمير الجمعي على الضمائر الفردية” (Durkheim,[1912] 1968: 319). وباختصار، يمكن أن نستخلص مع دوركهايم أن هذه القوة الأخلاقية هي المجتمع. هكذا، فإن الدين يشكل نسقا من التمثلات يمكّن الأفراد من بناء صورة عن المجتمع، ومن أن يقيموا مع هذا الأخير علاقات منظمة ومضبوطة.
إذا أردنا صياغة هذا التصور الحلزوني والمعقد للدين كمصدر للمعرفة وللمجتمع في عبارة بيانية واضحة، يمكن القول إن الأفراد يجتمعون في البداية ليكونوا “تجمعا” agrégationيتميز بالعرضية والحيوانية. وعندما ينخرط هؤلاء الأفراد مجموعين في طقس طوطمي، فإنهم يتحولون إلى مشترك (communauté) من خلال انبثاق مجموعة من الانفعالات والمشاعر المشتركة كحالات داخلية، مثل مشاعر التجاور والتشابه والتلاؤم والتنافر والوحدة الأخلاقية والقوة الأخلاقية. هذه الأخلاق المنبثقة في شكل رغبات وتوقعات ومعتقدات تؤدي إلى ولادة المقولات الأساسية الضرورية لنشأة أية معرفة جماعية، مثل مبادئ المنطق ومبادئ العقلانية وقواعد اللغة التي تتبلور في “أساليب للفعل والتفكير والإحساس” القائمة على مؤسسات اجتماعية ومنطقية.
هكذا يعتقد دوركهايم أنه صحح أخطاء المقاربات الفلسفية الكلاسيكية لنشأة المعرفة المتمثلة أساسا في عجزها عن تقديم أي برهان تجريبي على صدق تلك المعرفة، نظرا لأنها استندت في برهناتها على علاقة الفرد بالعالم المادي. ويكون دوركهايم بذلك قد وضع أهم لبنة في صرح علم الاجتماع كعلم تجريبي طبيعي يستجيب لمطلب السببية كمطلب علمي ضروري لكل تخصص معرفي يريد أن يكون علما.
البيبليوغرافيا:
-Arnauld A. et Nicole P., (1965), La logique ou l’art de penser, Paris, Presses Universitaires de Presses.
-Durkheim E. & Mauss M., «De quelques formes primitives de classification (contribution à l’étude des représentations collectives) » L’année Sociologique n° 6 (1903), in Marcel Mauss, Œuvres, t. II, éd. de Minuit, 1974, p. 13-89
-Durkheim E., (1909), «Sociologie religieuse et théorie de la connaissance », Revue de Métaphysique et de morale, VII, pp. 733-758. Texte repris comme introduction pour Les formes élémentaires de la vie religieuse, coll. «Quadrige », Presses Universitaires de Presses.
-Durkheim E., (1912) (1968), Les formes élémentaires de la vie religieuse, Paris, coll. «Quadrige », Presses Universitaires de Presses.
-Durkheim E., (1913), «Révision: Lévy-Bruhl- Les fonctions mentales dans les sociétés inférieures », Année Sociologique, XII, pp. 33-37
-Durkheim E., [1909-1912] (1969), Recension de Lévy-Bruhl, Les fonctions mentales dans les sociétés inférieures, Paris, Presses Universitaires de Presses.
-Horton R., «Lévy-Bruhl, Durkheim and the Scientific Revolution », in R. Horton & R. Finnigan (eds.), Modes of Thought: Essays on Thinking in Western and Non-western Societies, London: Faber.
-James, W. [1902] (1958), The Varieties of Religious Experience: A Study in Human Nature, New York: New American Library.
-Joas H., (1984), «Durkheim et le pragmatisme. La psychologie de la conscience et la constitution sociale des catégories », Revue Française de Sociologie, Vol. 25, n° 4, pp. 560-581
-Jones R. A., (2005), «Practices and Presuppositions: Some Questions about Durkheim and Les Formes élémentaires de la vie religieuse, in J. C. Alexander & P. Smith (eds), The Cambridge Compagnon to Durkheim, Cambridge, Cambridge University Press.
-LaCapra D., (2001), Emile Durkheim. Sociologist and Philosopher, Aurora, Colorado: The Davies Group, Second Ed.
-Ogien A., (2007), Les formes sociales de la pensée. La sociologie après Wittgenstein, Paris, Armand colin, coll. «Individu et Société».
-Ogien A., (2007), Les règles de la pratique sociologique, Paris, coll. «Pratiques théoriques», Presses Universitaires de Presses.
-Pickering W. S. F., (1993), «The Origins of Conceptual Thinking in Durkheim: Social or Religious ?», inS. Turner (ed.), Emile Durkheim. Sociologist and Moralist, London and New York, Routledge.
-Rawls A. W., (2001), «Durkheim’s Treatment of Practice. Concrete Practice vs Representations as the Foundation of Reason», Journal of Classical Sociology, Vol. 1(1), pp. 33-68
-Rawls A. W., (1996), «Durkheim’s Epistemology: The Neglected Argument», The American Journal of Sociology, Vol. 102, No. 2 (Sep., 1996), pp. 430-482
-Schmaus W., (1998), «Durkheim on the Causes and Functions of the Categories », in N. J. Allen, W. S. F. Pickering & W. Watts Miller (eds.), On Durkheim’s Elementary Forms of Religious Life, London and New York: Routledge.
-Trigano S., (2001), Qu’est-ce que la religion? La transcendance des sociologiques, Paris, Flammarion.
-كوتنغهام ج. (1997)، العقلانية فلسفة متجددة، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، حلب، مركز الإنماء الحضاري.
*- نص المداخلة الذي ألقي في الندوة التي نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان: “إشكالية الدين والتدين: أسئلة، مقاربات، نماذج”،بتاريخ 5 ـ 6 أكتوبر2013، الرباط، المغرب.
LaCapra D., (2001), Emile Durkheim. Sociologist and Philosopher, Aurora, Colorado: The Davies Group, Second Ed., p. 236
Bernard, P. (éd (1979), «les durkheimiens», Revue Française de Sociologie, vol 20, n° 1, p.39
البحث في الوسم حسن أحجيج الحياة الدينية دوركهايم العقل——————-
أولا: نشأة المنظر: ولد دور كايم في فرنسا من أسرة يهودية , ودرس في مدرسة المعلمين العليا في باريس , واهتم بالقانون والفلسفة الوضعية لأوجست كونت, وترعرع وتربى دوركايم في ظل تقاليد عصر التنوير, وتأثر بالاضطرابات السياسية والاجتماعية التي عاصرها في شبابه. وفي عام 1887م عين أستاذا بجامعة بوردو حيث القي محاضرات قيمة في التربية الأخلاقية, وظهر في ذلك الوقت اهتمامه بدراسة المجتمع , حيث قدم فصلا دراسيا في علم الاجتماع يعتبر الأول من نوعه في فرنسا, فاثآر جدلا كبير بين العلماء المهتمين بدراسة المجتمع . ووضح في دراسته تأثره بآراء أوجست كونت, وتطويره للمذهب الوضعي والنظرة العضوية إلى المجتمع التي ابتدأها أوجست كونت (حجازي,محمد فؤاد.1988م.68). ولقد ترك دوركايم مؤلفانا وبحوثا كثيرة نشر بعضها في حياته ونشر أتباعه البعض الآخر بعد وفاته والمؤلفات التي نشرها في حياته يمكن ترتيب ظهورها كما يلي :تقسيم العمل الاجتماعي (1893م),قواعد المنهج الاجتماعي (1895م), الانتحار دراسة اجتماعية (1896م), الإشكال الأولى للحياة الدينية(1912م). أما مؤلفاته التي نشرها أتباعه فهي التربية وعلم الاجتماع, علم الاجتماع والفلسفة, التربية الأخلاقية, كتاب الاشتراكية. كما انشأ دوركايم مجلته الاجتماعية المعروفة باسم السنة الاجتماعية أو التقويم الاجتماعي عام 1896م (ابوطاحون,عدلي علي.107).
ثانيا :أهم النظريات التي عالجها : لدى دوركايم إسهامات عديدة في النظريات الاجتماعية والسياسية, ومن خلال قراءتي سوف اقسم إسهاماته النظرية إلى الآتي: 1. تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي. 2. قواعد المنهج في علم الاجتماع. 3. الانتحار. 4. تطور المجتمعات وأشكالها. 5. التفسير الاجتماعي للدين والأخلاق والمعرفة. وسوف أتحدث عن كل قسم على حدة : 1. تقسيم العمل والتضامن الاجتماعي: في أول دراسة هامه لدوركايم حدد لنفسه مهمة أساسية تتلخص في التدليل على نمو تقسيم العمل بوصفة يمثل عملية تاريخية ضرورية ويؤدي بالتالي إلى تزايد التضامن الاجتماعي بين الناس. فهذه (الوظائف ) يؤديها الناس وقد انتظموا في ترتيب طبقي محدد تتباين فيه درجات الثروة والقوة والهيبة الاجتماعية وأيضا إن تطور الصناعة وتقسيم العمل الحاصل به لن يؤدي إلى صراع المصالح والتفكك, لذا على الدولة الاستمرار دعم النسق الأخلاقي العام في المجتمع لكي لايحدث خلاف ذلك. يعتقد دوركايم إن هناك بعض الإصلاحات الاجتماعية الضرورية التي يتعذر بدونها إقامة عدالة حقيقية وإيجاد تضامن اجتماعي قوي. يرى دور كايم انه لا يتعين فصل الأخلاق عن العلم وإنما يجب إن نحاول إقامة علم أخلاقي مختلف تماما عن تلك الفلسفة الأخلاقية ويرجع السبب الأساسي في ذلك إلى إن القواعد الأخلاقية إنما ترتبط ارتباطا وثيقا بظروف الحياة الاجتماعية والتي تعتبر نسبية من حيث الزمان والمكان وهكذا يسعى علم الظواهر الأخلاقية إلى تحليل اثر الصور المتغيرة للمجتمع في تغير طابع المعايير الأخلاقية محاولا ملاحظة ووصف وتصنيف هذه المعايير. يعتقد دور كايم إن تقسيم العمل ظاهرة ليست حديثة النشأة ولكن الجانب الاجتماعي لها أخذ يظهر بوضوح منذ وآخر القرن الثامن عشر. دوركيم يؤيد وجهة نظر العالم أوجست كونت الذي يقول إن تقسيم العمل ليس مجرد ظاهرة اقتصادية وإنما شرط أساسي للحياة. انتقل دور كايم بعد ذلك الى البحث عما إذا كانت هناك نماذج متعددة للتضامن الاجتماعي , وانتهى إلى وجود نموذجين أساسيين للتضامن هما التضامن الالى والتضامن العضوي . فالتضامن الآلي يسود في المجتمعات البدائية أو التقليدية حيث يسود في المجتمع شعور قوي بينما يرتبط التضامن العضوي بالمجتمعات الحديثة التي يزداد فيها تقسيم العمل, فكان المجتمع الذي ينتشر فيه التضامن الالى هو المجتمع الانقسامي, ويتميز هذا المجتمع بسمات اجتماعية خاصة, إذ يغلب على السلوك الإنساني فيه التجانس الاجتماعي, والذي تكون فيه الأفكار والمعتقدات والعادات والآراء, وطرائق السلوك الفردي ولجماعي, أما من حيث القانون والأخلاق والضبط الاجتماعي فهناك ولاء ملحوظ للضمير الجمعي الذي يعني مجموعة المعتقدات والعواطف العامة بين أعضاء المجتمع والتي تكون نسقا خاصا ومثل هذا الضمير العام له وجوده الخاص المتميز فهو يدوم عبر الزمن , ويعمل على توحيد الأجيال , والضمير الجمعي يعيش بين الأفراد لكنه يتميز بالقوة والاستقلال وبخاصة حينما تزداد رجة التشابه بين الأفراد وهذا من وجهة نظر دوركايم. ما الذي يؤدي إلى زيادة تقسيم العمل ؟ يجيب دوركايم إن تقسيم العمل يختلف باختلاف حجم المجتمع وكثافة السكان, وشدة التفاعل الاجتماعي, فازدياد عدد السكان هو العامل الأساسي لتقسيم العمل فقد ترتب على ذلك شدة الصراع من اجل البقاء والاستمرار فكثرة العدد تفرض على الناس ضرورة التخصص المهني, مما يقلل من حدة الصراع, ويتيح فرصة أوسع للحصول على وسائل الحياة.
2. قواعد المنهج في علم الاجتماع : ينظر دور كايم إلى علم الاجتماع من حيث كونه يهتم بدراسة المجتمع وما ينبعث عنه من ظواهر دراسة علمية وصفية تحليلية ولكي يحقق العلم هذه الغاية فانه لابد من منهج علمي يستطيع بفضله إلى الوصول إلى قوانين الظواهر ولقد وضع دوركايم الخصائص التي يجب إن تتميز بها دراسات علم الاجتماع والتي يمكن إيجازها في الآتي : 1. يجب دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها أشياء بمعنى إن تخضع للملاحظة والتجربة. 2. يجب على الباحث إن يتحرر من كل فكرة سابقة يعرفها عن الظاهرة حتى لا يقع أسير الأفكار الشخصية. 3. يجب على الباحث إن يبتدا بتعريف الظاهرة التي يتخذها مادة للدراسة. 4. يجب على الباحث عند دراسة طائفة خاصة من الظواهر الاجتماعية إن يبذل قصارى جهده في ملاحظة هذه الظواهر من الناحية التي تبدو فيها مستقلة عن مظاهرها الفردية. أما فيما يتعلق بقواعد أو خطوات المهج فتتلخص في الآتي: 1. دراسة نشأة الظاهرة والوقوف على عناصرها لان الظاهرة شئ معقد وتتألف من أجزاء كثيرة. 2. دراسة تطور الظواهر والوقوف على مختلف أشكالها. 3. دراسة علاقات التي تربط الظاهرة بما عداها من الظواهر التي تنتمي إلى شعبتها. 4. الانتفاع بمطلق المقارنة في دراسة الظواهر. 5. الكشف عن الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها الظاهرة وما خضعت له هذه الوظيفة من تطور وذك في ضوء دراسة تاريخ الظاهرة. 6. تحديد القوانين التي يصل إليها الباحث من دراساته ويجب صياغة هذه القوانين بدقة لأنها هي التي تكون مادة العلم.
3. الانتحار: ظهرت دراسة دوركايم الهامة عن الانتحار وذلك بعد مضي عامين على نشر مؤلفه قواعد المنهج في الاجتماع وأول خطوة بدئها دوركايم بأنه عرف الانتحار حيث واجه صعوبة في ذلك إلى إن خلص إلى إن الانتحار هو كل حالات الموت التي يكون نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لفعل سلبي أو ايجابي قام به المنتحر نفسه, وهو يعلم انه سيؤدي إلى هذه النتيجة. وبعد إن يحدد دوركايم تعريف الانتحار ينتقل إلى مناقشة نقطة أخرى ذات أهمية وهي المجموع الكلي لحالات الانتحار في بلد معين يسمح لنا إن بحسب معل الانتحار وهذا المعدل هو (الظاهرة الاجتماعية) بعد ذلك حلل الانتحار من ناحية غير اجتماعية مثل ربط الانتحار بالمرض العقلي وأيضا ربط الانتحار بالعوامل الكونية وأخيرا ربط الانتحار بالتقليد والمحاكاة وبعد ذلك يعتقد دوركايم بعد إن فرغ من دراسته لجميع هذه الأمور انه قد نجح في استبعاد العوامل الغير اجتماعية وبذلك ينتقل مباشرة إلى معالجة الأسباب الاجتماعية والمواقف الاجتماعية التي تحدد هذه الأسباب. حاول دوركايم جمع حالات الانتحار في ثلاثة نماذج حيث يتضمن كل نموذج مجموعة من الأسباب الاجتماعية والنماذج الثلاثة للانتحار هي : 1. الانتحار الأناني. 2. الانتحار الغيري أو الايثاري. 3. الانتحار الانومي. 4. التفسير الاجتماعي للدين عند دوركايم : حاول دوركايم في كتابه عن (( الصور الأولية للحياة الدينية ))إن يقدم لنا تحليلا دقيقا لصور ومصادر وطبيعة وأثار الدين من نفس ديانته السيسولوجية . وحاول أيضا دور كايم إن يبحث عن أصل الدين وذلك بتحليل الدين في أكثر المجتمعات البدائية, يعتقد دور كايم إن التغيرات في الشكل تؤدي إلى تغيرات جوهرية في الطبيعة, ويرى إن الوقوف على تطور المجتمع من البسيط إلى المركب سوف يحدد لنا مجرى التطور الأجتماعي . يؤكد دور كايم على إن علم الأجتماع له منهجا مخالفا لدراسة الظاهرة الدينية, الدين بالنسبة لدوركايم يجب إن يدرس كحقيقة اجتماعية . دور كايم يرفض تفسير الدين على انه نتاج تقسيمات عقلية زائفة أو توهم ناجما عن ضغط مشاعر معينة . حاول دوركايم معرفة أصل الديانات من خلال إحدى القبائل الاسترالية التي تسمى الارونتا والتي كانت في نظرة تمثل مرحلة أولى في النمو التطورية فوجد إن أصل الديانات ديانة تعرف باسم التوتمية وهي أكثر صور الدين بساطة وتشير التوتمية إلى اعتقاد داخلي في قوة غيبية أو مقدسة أو في مبدأ يحدد مجموعة من الجزاءات يتعين تطبيقها على كل من يحاول انتهاك المحرمات ويعمل في الوقت ذاته على دعم المسئوليات الأخلاقية في الجماعة.
5. نمط المجتمع عند دوركايم : إن نمط المجتمع عند دوركايم يقوم على صورة التماسك الاجتماعي السائدة في مجتمع ما فثمة مجتمع يسوده التماسك الالى وانخفاض في تقسيم العمل وثمة مجتمع آخر يسوده التماسك العضوي ويتميز بتعقد تقسيم العمل ويصور الجدول التالي أنماط التماسك الاجتماعي عند دوركايم :
م العوامل التضامن الآلي التضامن العضوي 1 السلوك تسيطر عليه التقاليد ومعتقدات وآراء متماثلة تزايد الفردية وينمي التخصص في العمل الفردي. 2 القوانين والأخلاق والضوابط الاجتماعية يتحكم فيه العقاب القهري التأكيد على الصواب والعقاب 3 البناء السياسي الاجتماعات العامة قيام علاقات التعاقد بين الحكومة والمواطنين 4 الاقتصاد المشاركة والملكية المشاعة الملكية التعاقدية والخاصة 5 الدين الطوطمية*النزعة القبلية والتعصب لموطن الإقامة وحدانية الله 6 الانتحار الغيري في سبيل المجاعة الأناني* والانتحار بالا مبرر نتيجة الانحراف عن المعايير.
ثالثا :قدرة النظرية على تفسير الواقع: تناول دور كايم في دراسته عن تقسيم العمل علاقة الأفراد بالتضامن الاجتماع فبالرغم من إن استقلال الأفراد قد اخذ يتزايد بوضوح لكن اعتمادهم على المجتمع قد ازداد أيضا فكيف يمكن إذن إن نجمع في الوقت ذاته بين تزايد الفردية وبين التضامن الاجتماعي فمن وجهة نظري أرى إن السبب هو تغير طرا على التضامن داخل المجتمع وذلك بسبب تقسيم العمل وهذا قريب إلى حد ما إلى فكرة أوجست كونت في تقسيم العمل وقد خالفه في ذلك دوركايم. من وجهة نظري إن ظاهرة تقسيم العمل التي أشار إليها العالم دوركايم أنها تطوره في الوقت هذا إلى الحد الذي جعلها عامة وواضحة لكل فرد تقريبا ولعل الاتجاه الذي غلب الصناعة الحديثة هو عمومية وانتشار هذه الظاهرة. فالصناعة الآن تتجه اتجاها متزايدا نحو استعمال آلات ثقيلة وبهذا يحث تقسيم العمل متزايدا إلى ابعد حد. لقد قراءة قبل فترة إن علماء الاقتصاد يرون إن القانون الأسمى للمجتمعات الإنسانية هو في تنوع المنشات الصناعية. أرى إن المشكلة التي تتصل بتقسيم العمل هي اكتشاف الصلة بين تقسيم العمل والحياة الأخلاقية التي أشار إليها دوركايم رابعا : أهم الانتقادات التي وجهت له :
1. ميز دور كايم بين التضامن الآلي والعضوي إلا انه أهمل نسبيا التمييز بين مستويات العمومية التي تحققها الأنماط الثقافية والقيم والمعايير والمجتمعات والادوارالتي توجد في المجتمع. 2. اهتمام دور كايم البالغ بتحليل مشكلة التماسك والتضامن إلى درجة انه أهمل دراسة الصراع كعملية أساسية في الحياة الاجتماعية. 3. أهمل دراسة المجتمعات الفرعية وهي الأجزاء التي يتكون منها الكل, كما انه تجاهل الفرد ومطالبه لأنه التفت فقط إلى المجتمع وحاجاته. 4. تأثر دوركايم كثيرا بظروف عصره وبالمناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي كان سائدا في فرنسا في ذلك الوقت وقد أدت هذه الأمور إلى إهمال مجموعة من الفروض.. 5. أوجه القصور التي تعاني منها نظريته يكمن في التعريفات, بأنها تعريفات بدائية.
المراجع :
1. ابوطاحون,عدلي على.في النظريات الاجتماعية المعاصرة. الاسكندرية.الكتب الجامعي الحديث. 2. محمد,محمد على.(1989م). تاريخ علم الاجتماع الرواد والاتجاهات المعاصرة.الاسكندرية. دار المعرفة الجامعية. 3. محروس,محمد انور.(2004م) . دراسات وقضايا في علم الاجتماع .الاسكندرية . المكتبة المصرية. 4. الزيات,كمال عبدالحميد.(1980م).بناء النظرية في علم الاجتماع نموذج نظرية تقسم العمل.القاهرة.مكتبة نهضة الشرق. 5. حجازي, محمد فؤاد.(1988م).النظريات الاجتماعية.القاهرة.مكتبة وهبه.