اتجاهات الفكر الديني المعاصر في إيران
يحاول الباحث الإيراني مجيد محمدي في هذا الكتاب استعراض آراء عدة مفكرين إسلاميين إيرانيين لعبوا دورا مهما في نقد الفكر الديني المعاصر وتحليله، وقد تم اختيار هؤلاء المجددين من مراحل زمنية مختلفة ومن اتجاهات متعددة، تبدأ بالميرزا النائيني منظر الحركة الدستورية قبل قرن، مرورا بمرتضى مطهري وعلي شريعتي ومهدي بازرجان الذين لعبوا دورا أساسيا في بلورة المفاهيم الإسلامية والتنظير الحركي في مرحلة ما قبل انتصار الثورة الإسلامية، وانتهاء بعبد الكريم سروش الذي ما يزال يلعب دورا مهما في أوساط العديد من النخب المثقفة الإيرانية.
ولعل الأمر الهام في هذه الدراسة أنها تفتح أمام القارئ العربي نافذة على التنوع الفكري الذي شهده حقل التجديد الديني في إيران خلال المائة سنة الأخيرة، وهو تنوع يجهله الكثير في العالم العربي حتى المتخصصون في دراسات التجديد والإصلاح الفكري.
|
الميرزا محمد حسين النائيني (1860-1944م) هو مجتهد معروف، وعالم أصولي بارز، دفعه حضوره في الأحداث السياسية المرتبطة بثورة الدستور في إيران إلى الاهتمام والتفكير في القضايا السياسية الاجتماعية.
ولعل أبرز وأهم الأمور في حياته هو الرسالة الدستورية ونضاله الفكري والعملي ضد الاستبداد، وكان هذا النوع من النضال يتطلب فهما آخر للنصوص الدينية، ونظرة تختلف عن نظرة سائر علماء الدين السائدة آنذاك، وبهذا الهدف كتب رسالته المشهورة التي سماها “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”.
ولكي يستعرض حقيقة الاستبداد في هذه الرسالة، فإنه يمهد لذلك بعدة مقدمات: الأولى, حول ضرورة الحكومة والسلطة السياسية. الثانية, حول مبدأ السيادة الوطنية. الثالثة, حول المسؤوليات والشؤون الحكومية التي يعبر عنها بإيجاز بـ”حفظ جوهر الإسلام”.
أما المقدمة الرابعة فهي تدور حول تقسيم الحكم السياسي إلى نوعين لا ثالث لهما: حكم قائم على أساس الملكية، والحكم القائم على أساس الولاية الذي لا يعترف أصلا بأن يفعل الحاكم ما يريد، بل يقوم على إنجاز الوظائف الحكومية وتأمين المصالح العامة التي تتوقف على وجود السلطة، وتتحدد سلطة الحاكم بحدود المسؤوليات والوظائف وتتقيد بعدم تجاوزها.
ولكي يدافع النائيني عن الدستورية دفاعا دينيا، ويزيل الصبغة الاستبدادية عن الدين، فإنه يسلك طريقا خاصا إلى الدين من خلال الاعتقاد بأنه ما دام وجود السلطة السياسية أمرا لا مفر منه ، وما دمنا لا نعيش في عصر الإمام المعصوم، فإننا نستطيع بقبول مبدأ المحاسبة والمراقبة والمسؤولية الكاملة أن نقلل من احتمالات فساد السلطة السياسية، وبالتالي فهو لا يرى جدارة أي شخص بشكل مطلق لتسلم مقاليد السلطة في عصر الغيبة.
وأما عن نظرة النائيني للعلاقة بين الدين والمجتمع، فإنه يرى أن الدين بوصفه نظاما فقهيا، ليس من مهمته تقديم كل ما يحتاج إليه الإنسان، وإنما مهمته أن يبين “حكم” القضايا وليس القضايا نفسها، وبهذا المعنى فإن الدين لا يدعي شموليته لكل شيء: الفن والسياسة والعلم، بل في أفضل الحالات ينظم العلاقة بين الفن والسياسة والعلوم الموجودة في الساحة، وبينها وبين المجتمع ككل.
يدور الحديث في هذا الفصل عن نظرة علي شريعتي (1933-1977م) لمسألة الدين.
وبرأي الكاتب فإن مفتاح فهم منهج شريعتي في المعرفة الدينية هو فهمه بوصفه عالم اجتماعي دينيا. فشريعتي ينظر إلى الدين من حيث إنه كيان اجتماعي، وكونه عنصرا فعالا في الحركات الاجتماعية، ويركز على أدائه العملي في المجتمع.
ففي بحثه عن التوحيد لا يتحدث عن التوحيد والشرك بمعناهما الكلامي، وإنما يتحدث عن التوحيد والشرك الاجتماعيين، حيث يرى أن التوحيد هو النظام الذي يحقق الوحدة الاجتماعية، في حين الشرك هو الدين الذي كان دائما يبرر التمزق الاجتماعي والشرك الطبقي.
“لا يتحدث شريعتي عن التوحيد والشرك بمعناهما الكلامي، وإنما يتحدث عن التوحيد والشرك الاجتماعيين، حيث يرى أن التوحيد هو النظام الذي يحقق الوحدة الاجتماعية، في حين الشرك هو الدين الذي كان دائما يبرر التمزق الاجتماعي والشرك الطبقي”
من هنا فإنه يرى الصراع بين الشرك والتوحيد صراعا اجتماعيا أكثر من مواجهة كلامية، لأن التوحيد كان على طول التاريخ حركة من أجل القضاء على التمزق الطبقي، والتفرقة العنصرية، وبشكل عام من أجل تحطيم الشرك الطبقي والفئوي في الوسط البشري، وعلى هذا الأساس فإن الأديان غير التوحيدية بالمعنى الخاص كانت من أكبر حماة وأهم خنادق الدفاع وتقديس النظام الطبقي والتفرقة البشرية على طول التاريخ.
كما أن شريعتي يرى أيضا في مسألة الاجتهاد، وإعادة صياغة الفكر الديني من خلال ضرورة الاستعانة بجميع الإمكانات العلمية التي توصل إليها العالم المعاصر، في مجالات العلوم الإنسانية وبالذات علم تاريخ الأديان والعلوم الاجتماعية والاقتصادية، والاستشراف وعلم معرفة الإنسان علميا وفلسفيا، ويرى أن سر عدم نجاح الإيرانيين في مجال الدراسات الإسلامية وإنضاج الفكر الإسلامي المعاصر، يكمن في أن هؤلاء العلماء كانوا في أغلب الأحيان بعيدين عن الرؤية العلمية الإنسانية الحديثة.
وأسلوب آخر ينتهجه شريعتي في دراسة الأديان عامة ودراسة الإسلام خاصة، هو الاهتمام بدراسة الأساطير الدينية لكشف ذلك الوجه من الحقيقة الذي لا يتضح لنا من خلال التجربة المباشرة.
ويرى أن إحدى السبل التي اتبعها الإنسان لتهدئة قلقه واضطرابه الدائمين هو اتجاهه نحو الأساطير والحكايات والآثار الفنية. وفي تحليله للدين يرى أن إحدى المهمات الأساسية للدين هي معالجته لهذا القلق والاضطراب الذي يعاني منه الإنسان، وخلافا للكثير من علماء الأساطير والأديان والذين يعتقدون بأن الأساطير والرموز هي من خصائص الأديان القديمة، يرى شريعتي أن هذا الاتجاه لم يتوقف ولم يكن محدودا بفترة زمنية معينة، وأن الأساطير تتمتع بحقيقة أكبر مما يتمتع به التاريخ.
“سجل مطهري حضوره في كل قضية وموقف يحاول الخصم من خلاله إثارة علامات استفهام حول الدين, فإذا تمسك الخصم بالجانب العلمي، طرح نفسه متمسكا بالعلم، وإذا كان الطرف الآخر يقدم نظاما جديدا في المعرفة، كان مطهري يستخرج المنهج المعرفي من القرآن ”
يُعد الشهيد مرتضى مطهري (1919-1979م) أحد أكبر الدعاة والمدافعين عن الدين في إيران المعاصرة، الذي أوجدت آراؤه ونشاطاته مساحة كبيرة جدا من التأثير والتغيير.
نهض مطهري من الحوزة العلمية وانطلق في التبليغ والدفاع عن الدين، وفي خضم التنافس الأيديولوجي المطروح في تلك الفترة، قدم مطهري الدين بوصفه أيديولوجيا وبرنامجا متكاملا للحياة، وقام بتشريح مبادئ هذا المشروع والدفاع عنه.
وقد سجل مطهري حضوره في كل قضية وموقف يحاول الخصم من خلاله إثارة علامات استفهام حول الدين. فإذا تمسك الخصم بالجانب العلمي، طرح نفسه متمسكا بالعلم، وإذا كان الطرف الآخر يقدم نظاما جديدا في “المعرفة”، كان مطهري يستخرج المنهج المعرفي من القرآن، وإذا كان الخصم يطرح نظما مختلفة للتربية والتعليم، كان يحاول أيضا استخراج نظام خاص في التربية والتعليم من الإسلام.
وبالتالي فالملاحظ أن بعض هذه الدفاعات كانت كلامية وفلسفية، وبعضها الآخر تاريخية واجتماعية، وبالتالي لم يكن مهما لدى مطهري التمسك بإطار خاص في بحوثه بل كان باعث الدفاع عن الدين هو الذي يسوقه إلى مناطق البحث المختلفة.
والوجه الآخر الذي يظهر كون مساعي مطهري هي مساع دفاعية هي الشواهد المختلفة التي كان يسوقها في البحوث المختلفة من الغربيين والمستشرقين حول القضايا الدينية والفكرية.
وكمثال فإنه يستشهد لدى البحث عن حاجة الانسان للدين واهتمامه بالغاية والهدف بما يقول ويل ديورانت، ولدى البحث عن رغبة الإنسان في العبادة بمقالات إريك فروم، وهنا يقف مطهري موقف الفيلسوف المدافع عن الدين الذي يجادل خصمه ولذلك فهو يستخدم مقبولات الخصم لإفحامه، وهذا الموقف الجدلي الذي يُعد من ميزات كل فكر كلامي خير دليل على كون مساعي مطهري كانت مساعي دفاعية.
يعتبر مهدي بازرجان (1908-1995م) أحد أبرز الدعاة المدافعين عن الإسلام والقرآن في الفترة المعاصرة، إذ ترتكز كل كتاباته ومحاضراته على إثبات أحقية الإسلام وانسجامه مع العلم والمكتسبات العلمية البشرية.
ولعل إلقاء نظرة عابرة على عناوين انتاجاته الفكرية يشهد على هاجسه الديني وسعيه الفكري لمعالجته هذا الهاجس، ولكن هذا الهاجس لم يظهر في القوالب التقليدية للفقه والعرفان والفلسفة، بل شكل الفكر التجريبي والعلمي أساس تأملاته وأفكاره الدينية.
“رغم كل ما بذله بازرجان من جهود في سبيل الإصلاح الديني وإعادة الروح إلى الدين، لم يستطع كغيره من المدافعين والمفكرين الدينيين الذين واجهوا نفس المشكلة أن يجد حلا لإشكالية كبيرة، وهي انسجام الدين مع الزمن ”
وقد عاش بازرجان في فترة زمنية تميزت بالانفتاح على الغرب والتقاط النماذج الغربية، وكانت إيران في تلك الفترة مصابة بحمى الإصلاحات، وكان هو أحد أفراد البعثة الطلابية الأولى الموفدة إلى أوروبا العام 1928م. وقد تأثر شخصيا بشكل كبير بالميزات الأربع للحضارة الغربية وهي التفكير الديمقراطي والتحرري، والروح الاجتماعية والتفكير العملي، ويمكن ملاحظة هذا التأثر بوضوح في بحوثه الدينية.
وكان يؤمن أن العلم لا يطور الحياة الدنيوية للإنسان نحو الأفضل فحسب، بل يهيئ البيئة الاجتماعية للإقبال على الدين بشكل أفضل، وهو يرى أن العلوم المعاصرة ساهمت في كشف أسرار القرآن وإثبات كونه من عند الله.
فمثلا نستفيد من علم الأحياء وعلم الأجنة لتأييد الخلق وتطورات الإنسان السابقة واللاحقة، ومن علم الأجواء الجوية لتطبيق الآيات على الظواهر الجوية. وبنظرية النسبية الجديدة لأينشتاين نستطيع أن نفهم بشكل أفضل بعض الآيات القرآنية حول الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، والحاسوب هو الآخر يساعدنا في هذا المجال، فباكتشاف رموز مفاتيح السور تثبت أصالة القرآن وصيانته من أيدي العابثين، كما تظهر بذلك المعجزات العددية في القرآن والتي تعد بالعشرات.
ورغم كل ما بذله بازرجان من جهود في سبيل الإصلاح الديني وإعادة الروح إلى الدين، لم يستطع كغيره من المدافعين والمفكرين الدينيين الذين واجهوا نفس المشكلة أن يجد حلا لإشكالية كبيرة، وهو الزعم بوجود مجموعة من الثوابت في الدين والقول في الوقت نفسه بانسجام الدين مع الزمن واستجابته لمتطلبات العصر.
إن أهم نص مكتوب يوضح لنا نظرة عبد الكريم سروش المولود عام 1945م إلى الدين، هو كتابه “نظرية القبط والبسط في الشريعة” الذي طرحه في إيران في السبعينات، بعدما شهدت الساحة الإيرانية الكثير من التطورات في الفكر الديني وفي الأجواء الثقافية والسياسية للبلاد، وهو يرى أن نظريته تعتمد من جهة على الفكر الديني التقليدي، وتأخذ بنظر الاعتبار من جهة أخرى مكتسبات الفكر والمعرفة البشرية، وبالتالي فهي منهج لطرح جديد و”عصري “للدين.
ويرى سروش أن الأجزاء المختلفة للمعرفة البشرية هي في تعاط مستمر فيما بينها، وإذا ما شهد العلم إبداعا فإنه يترك تأثيره على علم الفلسفة، وأن تحول الفهم الفلسفي يغير فهم الشخص حول الإنسان والكون، وعندما يأخذ الإنسان والكون وجها آخر فإن المعرفة الدينية تأخذ معنى جديدا أيضا.
“يرى سروش أن نظريته تعتمد من جهة على الفكر الديني التقليدي، وتأخذ بنظر الاعتبار من جهة أخرى مكتسبات الفكر والمعرفة البشرية، وبالتالي فهي منهج لطرح جديد وعصري للدين”
وأن التحول والتطور في المعرفة الدينية ليس ناجما عن المؤامرة والخيانة ووسوسة الشيطان، بل هو من لزوم التغييرات القهرية في الكون، وحركة الذهن، وسعة استيعاب الفهم، وطموحات الفكر وتطلعات الروح البشرية المعادية للجهل.
وخلافا لمطهري وشريعتي لا يعد سروش المجتهدين من رجال إحياء وإعادة بناء الفكر الديني، لأن الاجتهاد لديهم هو تغيير في الفروع وليس تحولا في المبادئ والأصول، ولذلك فهو يرى أن المستنير الحقيقي في إعادة بناء الفكر الديني هو الشخص الذي يجيز الاجتهاد في الأصول أيضا.