ينطلق هذا الكتاب في النظر لنبوة محمد والنبوة عامة من افتراض اولي مؤداه ان النبوة ظاهرة انسانية صرفة وان الاله الذي تتحدث عنه النبوة لم يحدث النبوة ويصنعها انما النبوة هي التي احدثت الالها وصنعتها ويركز الكتاب في تفسير ظاهرة النبوة النبوة علي جانبها الابداعي والاخلاقي او جانب الخيال في نشاطهاوان النبوة ليست مجرد نشاط فري منعزل وانما هي ايضا نشاط اجتماعي يتداخل فيه نشاط المجتمع الذي يحيط به فان الكاتب يعالج ايضا البعد الاجتماعي للنبوة وهو بعد الذي ماكان من الممكن للنبوات الناجحة ان تنجح بدونة .
نظرات في كتاب نبوة محمد” للكاتب الدكتور محمد محمود بقلم كاظم حبيب
اسم الكتاب: – مدخل لقراءة نقدية
اسم الكاتب: محمد محمود (أكاديمي من السودان) دار النشر: مركز الدراسات النقدية للأديان، مكان النشر: لندن، بريطانيا، سنة النشر: ط 2 /2013 عدد صفحات الكتاب: 474 صفحة
أعيد نشر هذا المقال لثلاثة أسباب هي: تسلمي إلى الكثير من الرسائل والمطالبات بإعادة نشر المقال بهدف الوصول إلى من لم يتسن له قراءته أولاً، وبسبب إعادة قراءتي للكتاب والفصل التاسع منه على نحو خاص وإضافة فقرة للمقال حول هذا الفصل الخاص بالمنافقين ثانياً، وبسبب ملاحظات جيدة وردتني من صاحب الكتاب الصديق الدكتور محمود محمد، إضافة على ضرورة جلب انتباه القارئات والقراء إلى أهمية هذا الكتاب. كاظم حبيب
المدخل: يتضمن البحث العلمي المميز لذي أنجزه الباحث الأكاديمي والكاتب السوداني الدكتور محمد محمود مقدمة قصيرة ولكنها تكشف عما يمكن أن يواجهه هذا الكتاب من المتشددين والمتطرفين والجهلة من محاولات للتشويه والإقصاء والتشكيك بكل ما هو علمي وخاضع للتحليل المادي التاريخي والمصاعب التي يواجهها البحث العلمي عموماً في هذه المرحلة التي بدت وكأنها صعود للفكر غير التنويري الغائص في الأساطير والخرافات والخزعبلات الفكرية والرافض للفكر النقدي من جهة، ويشعرنا من جهة أخرى بأهمية الخوض في مثل هذه الأبحاث مستنداً إلى الحكمة التي طرحها أبن خلدون في كتابه “المقدمة” إذ كتب ما يلي: “إنه لا يكفي أن تصف موج البحر، وظهور السفن، حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر .. لا بد لك أن تفهم ما في القاع.. قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش… وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً، يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركاباً .. وينزفون عرقاً، وتتمزق أجسامهم تحت السياط.. أجل، ينبغي أن تعطيني صورة كاملة، عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور”. ثم يضيف الدكتور محمد محمود مسألة مهمة جداً تمس استقلالية وجدية البحث العلمي حين يؤكد ضرورة رفع القدسية عن كل شيء حين يراد التعمق حتى القاع في البحث العلمي بهدف الوصول إلى الحقائق الصلدة وليس برؤية مسبقة، ولكن بافتراضات علمية يسعى البحث للتيقن منها أو رفضها، أي البحث بهدف الوصول إلى الاستنتاجات العلمية التي يصعب دحضها من خلال إيراد الأساطير التي تناقلتها المجتمعات البشرية منذ العهود السومرية والأكدية والآشورية والكلدانية وعموماً البابلية أو الفرعونية أو غيرها كالتوراة والإنجيل والتلمود والمدراش …الخ والمسطرة من جديد وبصيغ وأساليب أخرى في القرآن.
حين كنت أدرس في الجامعة المستنصرية كان الأستاذ الكبير إبراهيم كبة يدرس تاريخ الفكر والمذاهب الاقتصادية. وكنت في حوار معه حول الدين الإسلامي والفكر الديني عموماً فأشار بما معناه: عزيزي أبا سامر، أنا أعالج في محاضراتي نقد الدين والفكر الديني المسيحي بشكل مباشر وواضح، وهذا يتوجه مباشرة إلى الدين والفكر الإسلامي، فهما في الجوهر واحد، ولكن الأوضاع وهيمنة الفكر الديني المتخلف لا تسمح بتوجيه النقد المباشر للإسلام أو الفكر الإسلامي”. هكذا كان وهذا هو واقع العراق والدول العربية في الموقف من الدراسات والأبحاث العلمية في الدين والفكر الديني، وهي المشكلة التي عانى منها اليهود والمسيحيون في القرون الوسطى وبعدها بفترة غير قصيرة، ولكن فترة التنوير والتطور الرأسمالي، وخاصة المجتمع البرجوازي الصناعي لعبا دورهما في تغيير اتجاه التفكير والعقل في أوروبا والولايات المتحدة وكند واستراليا على وجه الخصوص، رغم أن المدارس الدينية فيها ما تزال تمارس أسلوبا مقارباً للماضي مع تفتح نسبي أفضل وعجز عن مواجهة الدراسات والبحوث العلمية. في حين أن الإسلام ما يزال يعيش الفترات التي عاشتها منذ قرون الديانة المسيحية وقبل ذاك الديانة اليهودية. ( بعد سقوط الدكتاتورية الصدَّامية بالعراق دعيت لإلقاء محاضرة في نادي اتحاد الأدباء والكتاب في العراق وقد تطرقت إلى أهمية نقد الدين والفكر الديني. وبعد الانتهاء من المحاضرة قدم أحد مسؤولي الاتحاد نقداً لي بشأن نقد الدين وقال يفترض أن نتحدث عن نقد الفكر الديني. أدركت حينها المصاعب التي تواجه الاتحاد من قبل قوى الإسلام السياسي المسيطرة على السلطة السياسية ولم ارغب وأنا الضيف والزائر أن أخلق مصاعب إضافية للاتحاد، فقلت نعم كما تريد نقد الفكر الديني، في حين كنت أقصد بالتحديد نقد الدين والفكر الديني الكثير من المقالات قبل ذاك، كاظم حبيب).
كما يتضمن الكتاب الذي نحن بصدده ثلاثة عشر فصلاً وخاتمة. بحث في الفصل الأول بزوغ النبوة في الإسلام وأساسها الفعلي المنطلق من أرضية الإيمان اليهودي المسيحي بوحدانية الله والمرتبطة أيضاً بالحنيفية التي كانت منتشرة في حينها في مكة والمنطقة بأسرها، والتي كانت بدورها توحيدية الإله ورفضت كثرة الآلهة كما عرفها العرب والتي تجلى وجودها في “بيت ألآلهة أو “الكعبة”.
وركز الفصل الثاني على البيئة الاجتماعية والفكرية والسياسية العامة والديانات التي برزت حينذاك والتي أثرت في نبوة محمد. أما الفصل الثالث فيبحث في نبوة محمد ولحظته التأسيسية لدينه الجديد الذي لم يكن مفاجئاً للكثير من العرب حينذاك بسبب معرفتهم لهذه الظاهرة الإنسانية وخاصة أن لهم تجارب مع الديانتين اليهودية والنصرانية وقبل ذاك مع الحنيفية. أما الفصل الرابع فيتطرق بتفصيل وعمق إلى مرحلة النشوء الأولى في مكة والمصاعب الكبيرة التي واجهته من القوى التي انحدر منها وتبنى فكرها وعقيدتها وآمن بآلهتها ولم يثقوا باحتمال أن يكون نبياً أو مرسلاً من إله واحد أحد، في ما عدا قلة من القريبين منه وممن لم تكن فكرة الإله الواحد غريبة عنهم. لقد عانى أتباع محمد الكثير في مكة، وكان المؤمنون بدين محمد مسالمين ولم يكونوا عنيفين في مواجهة مناهضيهم. وخصص الباحث الملتزم بعلمية عالية الفصلين الخامس والسادس للمرحلة الجديدة، لفترة الهروب إلى المدينة وبدء خلق التضامن والتآخى بين المهاجرين والأنصار في يثرب وبناء دولته (دولة المدينة) التي لم يكن غيره فيها نبياً ومشرعاً ومسؤولاً عن الدعوة للحروب والغزوات والاقتصاد وترتيب معيشة قواته المتنامية التي نشطت لديهم الرغبة في التوسع على حساب مناطق أخرى وللحصول على المزيد من الأموال والأسلاب والرقيق والجواري. وهنا نتابع معاركه المستمرة ضد اليهود والمذابح التي نظمت ضدهم وخاصة بني قريظة. لقد كرس محمد سلطته وسيطرته على المدينة وعلى أتباعه وبدأ سعيه الجديد للعودة إلى مكة التي بدأ بها دعوته وفشل في إقناع أهلها واجبر على الهروب منها.
الفصلان السابع والثامن يعالجان المعارضة المستمرة له في مكة حتى بعد عودته إليها ونجاحه في العودة. ويحلل هنا قوى المعارضة في مكة، في حين يخصص الفصل الثامن للمعارضة اليهودية والمسيحية في المدينة. وإذ يبدو إن محمداً في عداء مستحكم ضد اليهود، فإنه كان قليل الشدة في مواجهة أتباع الديانة المسيحية. لقد تحول محمد أثناء وجوده في المدينة بالمقارنة مع فترة وجوده الأولى في مكة إلى ساع للحروب والتوسع والقتل لنشر الدعوة وكسب المؤيدين والحصول على المزيد من الأراضي الخصبة والثمار والأموال والعبيد. لقد تميزت الفترة بالعنف الصاعد الذي اقترن ليس بالحروب فحسب، بل وبالاغتيالات والتمثيل بالموتى أو حتى أثناء قتلهم، ولكن في مرحلة لاحقة حرُم المُثلة بالميت من بعض المشرعين المسلمين.
وخصص الكاتب الفصل التاسع لمواجهة المنافقين، أي مواجهة الأوس والخزرج وغيرهم ممن لم يؤمنوا بدين محمد إيماناً صحيحاً، وكان عليهم شديداً، إلا أنه لم يستطع مواجهتهم عسكريا لأن إعلانهم الظاهري للإسلام حماهم، واكتفى محمد بإدانتهم وتهديدهم بعذاب الآخرة. وحين ينتهي القارئ من متابعة أحداث هذا الفصل المهم تثار لديه مجموعة مهمة من الأسئلة بارتباط مع صراعات تلك الفترة والتي عرضها بكشل تحليلي دقيق إلى حدود بعيدة وبالاعتماد على المصادر الكثيرة المتوفرة والتي يعتد بها يومكن الاعتماد عليها. ومن بين الأسئلة المهمة يمكن أن يطرح ما يلي: لماذا يجبر الإنسان أو جماعة من البشر على النفاق؟ وهل يلجأ الإنسان إلى النفاق لو لم يكن مجبراً على ذلك؟ وهل يمكن أن يصبح الإنسان منافقاً لو امتلك حريته، أو حرية الاختيار بين هذا الدين أو ذاك وبين هذا الفكر أو الرأي أو ذاك، وكذا الحال مع الجماعات البشرية؟ وهل النفاق هو حيلة الضعيف عموماً أمام القوي الذي يريد فرض رأيه وإرادته وعقيدته على الآخر، مما يجبر الآخر على التنازل ظاهرياً ويضمر غير ذلك؟ وهل ينشأ أي ودٍ بين المنافق المجبر على نفاقه، لأي سبب كان ومنها الانتهازية وتحقيق مصالح معينة، وبين الذي فَرَضَ عليه النفاق، أم تنشأ عداوة أو كراهية فعلية؟ أرى بوضوح ودون أي لبس بأن محمداً وبطريقة تعامله مع غير المسلمين وضعهم أمام أمرين: إما القبول بالإسلام مؤمناً أو منافقاً أو رافضاً له، وفي الحالة الأخيرة يمكن أن يعرضه إلى مصاعب جمة، وربما يكلفه ذلك حياته. ولهذا يختار النفاق في حالة عدم قناعته بدين محمد. وهذا الأمر شمل أيضاً بحدود غير قليلة اليهود في فترة محمد والخلفاء الراشدين. وفي العلاقة بين المنافق المجبر على نفاقه مع الذي فرض عليه النفاق تنشأ لوحة قاتمة من المخاتلة والمخادعة لتجاوز مواقف صعبة للطرفين.
وهذا الموقف من أتباع الديانات الأخرى أو ممن عبدوا الآلهة غير إله محمد والمسلمين، على وفق ما جاء بالقرآن، والذي يجد تعبيره في السنة النبوية وتلك الأحاديث المنقولة عن محمد أيضاً ومن ثم في الشرائع المتعددة، فيها الكثير من القسرية السياسية والاجتماعية على الدخول في الإسلام أو في الخروج منه، وهي التي فسحت في المجال على ظهور المنافقين المجبرين على إظهار غير ما يضمرون. وهي الحالة الشاذة إنسانياً والاعتيادية إسلامياً التي تمارس اليوم ممن يدعون إلى السلفية وممارسون ما كان يمارس في فترة محمد وفي فترة الخلفاء من بعده، أي منذ 1436 سنة (هجرية)، رغم أن محمداً كان ذكياً وواعياً لسبل التعامل مع المنافقين لصالح القضية التي كان يعمل من أجلها وكان إستراتيجياً وتكتيكياً بارعاً، إذا ما استخدمنا لغة العصر الراهن.
وحين كان يدرك خطأ ما في تصرف معين مارسه، يتحدث عن ذلك في اليوم التالي بآية قرآنية تطرح الصيغة التي تقررت بالقرآن في التعامل مع المنافقين. وهو ما جسده الكاتب الدكتور محمد محمود بشكل بارع في موقف محمد بعد وفاة ودفن عبد الله بن أبيّ بن سلول، زعيم الخزرج وموقف عمر المخالف له. (نبوة محمد، ص 273-297). ويمكن متابعة الموقف من المعارضة حينذاك في الفصل الثامن من هذا الكتاب. وهنا تبرز أيضاً الأهمية الآنية لهذا الكتاب (نبوة محمد) في منح القارئ القدرة على إجراء مقارنة بين لما كان يحصل في فترة محمد وعلى ايدي الخلفاء والولاة وشيوخ الدين وبين وما يحصل اليوم على أيدي التنظيمات السلفية الجهادية كالقاعدة وداعش والنُصرة وغيرها من التنظيمات الإسلامية السياسية الإرهابية أو من الدول التي تنسب للدولة دين!
أما الفصول الأربعة التالية فتبحث في الرسالة المحمدية وما بثه من الشعائر كالصلاة والصوم والآذان، وكذلك في الأخلاق التي تقترب جداً من الوصايا العشر الواردة في الديانتين اليهودية والمسيحية، أو التي لا تختلف عنها إلا بالصياغة والأسلوب ولكنها واحدة في المضامين. وهنا يأتي الموضوع المهم والبارز في الفصلين الثاني عشر (صناعة محمد من البداية إلى الكلمة) والثالث عشر (الفعل والصفات الخصوصية) حيث يبحث الكاتب بعناية كبيرة، كما في الفصول السابقة، صناعة محمد وصناعة الجماعة والمجتمع للنبوة ومن ثم دور السلطة في هذه الصناعة وفي نشر الدين. ويتجه صوب ثلاث مسائل جوهرية هي:
1) خصوبة خيال محمد وتجربته واطلاعه على الديانتين اليهودية والمسيحية وتأثره بهما بالإضافة للحنيفية والوثنية العربية، وقدرته على استخدام هذا الخيال في صناعة القصص والأساطير أو إعادة صياغة القديم منها وتقديمه لأتباعه.
2) دور الصناعة الجمعية المجتمعية للنبوة من جانب أتباعه الذين ساهموا في نشر الدعوة والترويج لها وخيالهم في ابتداع معجزات عند محمد لم يحققها ولم يسجلها لنفسه، بل من عنديات أتباعه مقترنة بسياسة التوسع على الأرض وكسب المزيد من الناس للدين الجديد.
3) أما القوة الثالثة التي لعبت دوراً في صناعة النبوة فهي السلطة، تلك السلطة الفعلية التي تمتع بها محمد ومن هم حوله. وكان النبي محمد يمسك بيديه عمليا ما اصطلح عليه حديثاً بالسلطات الثلاث السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، بما فيها المالية، وسلطة القضاء أو إنزال العقاب بمن يخالف ما جاء به ونص عليه. فهو صاحب القرآن حيث التشريع، وهو صاحب القرار في الحروب والسلام وتوزيع الأسلاب والأموال والأسرى أو العبيد وهو القضاء في حسم الخلافات وإنزال العقاب. لقد أضافت السلطة السياسية عملياً الخيال الثالث لصناعة النبوة ونشرها بقوتين قوة الإقناع وقوة السيف، فمن لم يقتنع بالحجج التي يقدمها المريدون يأتي دور السيف، ولهذا يرفع المسلمون في أعلامهم السيف، كما هو الحال في السعودية، أو كما عبر عنه العرب في تقاليدهم وثقافتهم: السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
والسيف، أي القوة والعنف، هو الذي ساهم في التوسع على الأرض في فترة وجود محمد وفي زمن الخلفاء الراشدين ومن ثم في الدول التي تبنت الإسلام للتوسع، سواء أكانت الدولة الأموية أم الدولة العباسية أم الدولة العثمانية أم الدول الأخرى أينما وحيثما نشأت على دين محمد وديدنه في الحكم. ثم يتضمن الكتاب خاتمة مهمة تلخص النتائج التي توصل إليها الكاتب والتي ستجد الكراهية والحقد والإساءة من المتطرفين والمتشددين وأشباه المثقفين ممن لا يعون أهمية البحث العلمي وضروراته. ويبرز أمامي في هذا الصدد مقال خالد موسى ممثل النظام الإسلامي الاستبدادي السوداني في ألمانيا والمعبر عن هذا الموقف الإقصائي لكل من يفكر بعقلانية وعلمية، فعنده التفكير لا يبتعد عن قاعدة “لا تفكر لها مدبر!” وكفى الله المؤمنين شر القتال. أما الرأي والرأي الآخر فلا مكان لدى هؤلاء الناس الذين تعلموا في الكتاتيب ولم يغادروها فكراً وممارسة.
أين تكمن قوة كتاب نبوة محمد؟
إنها على وفق قناعتي تكمن في النقاط التالية:
1. في معرفته الممتازة لأصول وأسس وقواعد الأديان التي سبقت التوحيدية ومن ثم التوحيدية قبل الإسلام ومن ثم الدين الإسلامي المستلهم منها بسبب دراساته المقارنة وتدريسه لها، وبالتالي فهو يتحدث عن معرفة معمقة وموسوعية في مجال الديانات عموماً والدين الإسلامي خصوصاً.
2. استخدامه للمنهج العلمي النقدي والشفاف في دراسة الأديان الثلاثة التي يطلق عليها بالسماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام، والتحري عن أصولها المشتركة وتفرعاتها والتمايز في ما بينها، سواء في مكان ظهورها أو زمن هذا الظهور أو الظروف التي أوجبت بروزها، إضافة إلى فعل وتأثير الديانتين وكتابيهما على القرآن وعلى عملية جمعه فيما بعد.
3. استخدامه لأبرز وأكثر المصادر العربية والإسلامية والأجنبية التي بحثت في تاريخ نشوء وتطور الإسلام والتي يشهد لها بأنها الأكثر إلى الصواب في ما نقلته أو تحدثت به، إضافة إلى تحليل أساليب وأدوات نشر الدعوة الإسلامية وصناعة النبوة الجمعية الاجتماعية.
4. في جرأته وصراحته في الكشف عن الحقائق الصلدة دون اعتبار لتلك القوى التي ستسعى بعد نشر الكتاب إلى نهشه. فالحقائق رغم نسبيتها صخور صلدة من لا يعترف بها يصطدم رأسه بها ويتحطم، كما يقول المثل الانجليزي. لقد كشف عن طبيعة النبوة وكونها نابعة من خيال خلاق للإنسان وبالتالي فالنبوة صناعة إنسانية وليست صناعة إلهية، وبالتالي فأن الله لم يصنع الإنسان كما إنه لم يصنع النبوة والمرسلين أو الأنبياء بل الإنسان والأنبياء هم الذين صنعوا إلههم الواحد الأحد.
5. وكان الكاتب محللا دقيقاً ومدققاً وواضحاً جداً في تشخيص العوامل التي دفعت محمد إلى التحول في حالات ثلاث جوهرية هي: أ. من دين كان موجهاً لأهل مكة ومن فيها إلى دين موجه للمدينة ومكة ومن ثم للعالم. ب. من الموقف السلمي في نشر الدعوة، إلى موقف يتميز بالعنف والسادية المرضية في الحروب والقتل والتعذيب والاغتيال والتمثيل ورفض الآخر والدعوة إلى مقاتلته. ج. من الدعوة لدين جديد هو الإسلام إلى العمل من أجل الحكم والسيطرة والتوسع على حساب الغير. وما يرتبط بهذا التحول من متطلبات اقتصادية، أي من غزو وسلب للأرض والأموال والثمار من أجدل تأمين التوسع في القوات والمزيد من حروب الغزو أو “الفتح” الإسلامي.
6. الأسلوب الذي انتهجه النبي محمد في إقصاء الآخر سواء أكان الدين وثنياً أم يهودياً ومن ثم مسيحياً. فرغم إنه اعترف بها وبوجودها ولكنه أكد أنها بنشوء الإسلام انتهى دور الأديان الأخرى ولا بد أن يكون الجميع في صفوف المسلمين، وأنهى عملياً “لكم دينكم ولي دين”. ولم يكن هذا الطرح دفعة واحدة بل تدرج بها ليصل في المحصلة النهائية إلى عدم صلاحيتها، والإسلام هو للجميع. كما بشر بأن الإسلام هو آخر دين ينزله الله لبني البشر وأغلق الباب على كل من يريد أن يدعي النبوة. كما إن روح الإقصاء استمر فعلها لدى شيوخ المسلمين والأحزاب الإسلامية السياسية حتى الآن وبعد مرور أكثر من 14 قرناً على بدء ظهور الإسلام. ويبرز هذا الإقصاء في حينها صارخاً في تهديم الأوثان وفي محاربة اليهود وقتل عدد كبير يصل إلى 600 رجل في بعض الروايات و900 رجل في روايات أخرى مع سبي النساء والأطفال وتحويلهم إلى عبيد وصوب الإسلام، كما حصل هذا مع يهود بني قريظة، أو ما حصل مع الأوس والخزرج وغيرهم. (ملاحظة: استوطنت في يثرب قبل ظهور الإسلام بعدة قرون ثلاث قبائل آمنت بالديانة اليهودية وهي بنو قريظة، وبنو قَيْنُقاع وبنو النضير. طرد محمد قبيلة بني قينقاع وبني النضير من يثرب بعد أن تعززت سيطرته حين رفضوا الإسلام ديناً بديلاً عن دينهم وليكون درساً لبني قريظة، التي تعرضت فيما بعد للمذبحة الرهيبة التي ذكرتها في أعلاه رغم حفاظها على العهد ولم تدعم قوى الأحزاب المكية ضد محمد والمسلمين. ك. حبيب).
أورد الكاتب صلاح يوسف في مثال له بعنوان “الأسباب الحقيقية للتكفير… بعض الآيات القرآنية التي تدلل على رفض محمد والإسلام للديانات الأخرى في الفترة الثانية التي تميزت بالتحول صوب العنف وعدم التسامح مع أتباع تلك الأديان: “يقول محمد في القرآن ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )، كما يقول (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) كما يضيف ( وإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) كما يقول ( كتب عليكم القتال ) ويقول أيضاً ( اقتلوهم حيث ثقفتموهم ) !! القرآن إذن يضج بالأوامر ( الإلهية ؟ ) التي تحرض المؤمنين على قتل الكفار وقطع رؤوسهم كما فعل محمد بقبيلة بني قريظة التي ذبح رجالها وسبى نسائها واسترق أطفالها ونهب أموالها .. لماذا ندفن رؤوسنا بالرمال ولا نجرؤ على البوح بالكلمة الحرة الصادقة ؟؟!” (الحوار المتمدن، صلاح يوسف، الأسباب الحقيقية للتكفير، العدد 4420 بتاريخ 19/9/2013).
7. ويستخلص الكاتب محمد محمود بدقة سليمة إن الانغلاق الفكري على البحث العلمي والتفكير العقلاني قد دفع بالدين الإسلامي والمسلمين إلى الأزمة الحضارية الراهنة، فهم يعيشون في حضارة القرن الحادي والعشرين من حيث استخدام أعلى مستويات منتجات ومنجزات الثورة العلمية والتقنية وثورة المعلومات والاتصالات (الأنفوميديا) من جهة، ولكنهم يعيشون في ما يشبه القرون الوسطى من حيث الفكر ومستوى العقلية والحرية والحياة الديمقراطية، بما في ذلك حرية البحث الأكاديمي وحرية المرأة …الخ من جهة أخرى. إنها المحنة والتناقض الذي يدفع بالمسلمين باتجاهات عدمية ومتطرفة. فهم يعتقدون بالقدرة على العودة إلى الماضي السلفي في الفتح والتوسع وإقامة دولة الله على الأرض بعد مرور 1434 سنة هجرية، ويحق لهم استخدام الحروب والغزوات والعنف كما استخدم في سالف الزمان ليعودوا إلى حكم الخلافة حتى لو مات الملايين من البشر، وهو ما يشاهده ويعيشه الناس في العمليات الإرهابية والقتل الواسع النطاق لتنظيم القاعدة والتنظيمات الإسلامية السياسية المتطرفة والإرهابية، وهي نتاج للتثقيف والتربية الدينية في المملكة السعودية وإيران والسودان والعراق وغيرها، أو في محاولات قوى إسلامية سياسية تسمى معتدلة ولكنها في المحصلة النهائية تصل إلى نفس العواقب السيئة والسلبية كما حصل في مصر على أيدي جماعة الأخوان المسلمين أو ما يجري في العراق والسودان وغيرها.
إن الاستنتاج الأساسي الذي سجله الدكتور محمد محمود والذي أثار ويثير غضب المهووسين بمناهضة البحث العلمي والعلمانية والمتشبثين بقدسية الدين والفكر الديني هو الافتراض الذي طرحه في مقدمة الكتاب وبرهن عليه على امتداد الفصول الـ 13 والقائل: ” وننطلق في كتابنا هذا في النظر لنبوة محمد وللنبوة عامة من افتراض أولي مؤداه أن النبوة ظاهرة إنسانية صرفة، وأن الإله الذي تتحدث عنه النبوة لم يحُدِث النبوة ويصنعها وإنما النبوة هي التي أحْدَثَت إلهها وصنعته.” (المقدمة صفحة ح). وبهذا المعنى فالنبوة فعل إنساني خلاق، خيال نشط وإبداعي فردي، ولكنه يخلق معه خيال مجتمعي جمعي يلتزمه ويدعو له ويعزز وجوده، ثم يكرسه خيال سلطوي تسلطي يذود عنه ويشرع له. يومكن أن نتابع ذلك في الدول ذات الأكثرية الإسلامية التي تتحدث عن الدين باعتباره دين الدولة وتكرسه في دساتيرها وتمنع أي بحث في نقد الدين أو الفكر الديني كما في المادة 126 من الدستور السوداني السيئ الصيت أو قوانين بلدان عربية وبلدان ذات أكثرية إسلامية أخرى.
إذن نحن أمام فكرة علمية مهمة قيلت قبل قرون من الفارابي وبن رشد وغيرهما في أن الإنسان هو الذي خلق إلهه وليس الإله من خلق الإنسان، وليس الإله من خلق النبوة، بل النبوة هي التي خلقت الإله.
لم يكن محمد هو النبي الثالث في التوحيديين، بل كان هناك كثرة من الأنبياء في هذا العالم الفسيح وجلهم أن لم يكونوا كلهم في هذه المنطقة من المشرقين الأدنى والأوسط. وعلى وفق رأي محمد وما ورد في القرآن فأن هناك 25 نبياً يحتلون الصدارة وقد وضعت في نص على النحو التالي كما كنا نتعلمه في المدرسة أو في البيت والذي حفظناه عن ظهر قلب أو في الصدر:
خــمــس وعشرون فخذ بياني هـم آدم إدريـــس نــوح هود***يــونــس إليــاس يــسع داودُ ثــــم شــعــيــب صالح أيوب***إســحـــاق ثم يوسف يعقوب هارون إبراهيم لوط موسى***ذو الكفل يحيى زكريا عيسى ثــم ســلــيــمـان وإسماعيل***خــاتــمــهــم مـحـمـد الـخـليلُ
ولكن الكثير من الأنبياء الذين ظهروا وأعلنوا عن نبوتهم في العالم لم يسعدهم الحظ لبناء دين جديد، والكثير منهم كان كبقية الأنبياء من الذين تبنوا أفكاراً إصلاحية بغض النظر عن النتائج التي وصلت إليها في المحصلة النهائية تلك الأفكار والأديان.
برلين في29/4/2015
* محمد محمود أكاديمي وباحث عمل بالتدريس في كلية الآداب بجامعة الخرطوم ومعهد الدراسات الشرقية بجامعة أكسفورد وجامعة تفتز بالولايات المتحدة حيث كان رئيساً لقسم الأديان المقارنة. نشر العديد من الأبحاث من أهمها دراسته الرائدة عن المفكر الصوفي السوداني محمود محمد طه التي صدرت بالإنجليزية عن مطبعة سيراكيوز بالولايات المتحدة. كما يصدر مجلة العقلاني بلندن
وكان مؤلف الكتاب قد رفض الحوار مع السفير السوداني إلا بشرط رفع مادة قانونية وقال الدكتور محمد محمود:
ما قادر أستوعب مسألة أن يشترط أحد الطرفين على الآخر القيام بعمل معيّن، حتى يكون مؤهلاً للحوار معه! علماً بأن المصداقية الفكرية، تبرز من خلال الموقف الفكري للمحاور، ومن خلال بنية نصوصه! كان سيكون منطقيّاً، لو أنه في أثناء سير الحوار، دعت الضرورة إلى مثل هذا الطلب! أو لو أنه قصره على السفير خالد موسى باعتباره سفير نظام الخرطوم كما قال، أما أن يشترط على كلّ إسلاميّ يريد أن يحاوره هذا الشرط، فأراه أمراً مستغرباً! خاصّةً وأنه لم يُدلِ به في سياق يؤكد احترامه للطرف الآخر!