- تنقّل بين الشعر والمسرح والفكر والتاريخ، وكتب عشرات الكتب عن العقائد الدينية للشعوب القديمة وعن تاريخ الديانات والحضارات، آخرها كتاب صدر قبل أسابيع بعنوان “أنبياء سومريون”… إنه المؤرخ والأستاذ الجامعي والشاعر والكاتب المسرحي العراقي المقيم في هولندا خزعل الماجدي.قبل فترة وجيزة، زار الماجدي القاهرة وألقى محاضرة بعنوان “كيف تحوّل عشرة ملوكٍ سومريين إلى عشرة أنبياءٍ توراتيين”. وعلى هامشها كان هذا الحوار مع رصيف22. الذي أجرته الإعلامية والكاتبة نضال ممدوح
حين ركدت الحضارات الشرقية ونامت طويلاً في حلمها السعيد نامت معها شعوبها وتخلفت وأصبحت تقاوم التحديث وترضى بالدول والحكومات المستبدة. لا شك في أن هناك تواشجاً وتناغماً بين الجانب السياسي السلبي للحضارات الشرقية والجانب الاجتماعي السلبي لمجتمعاتها. ونحن اليوم نصطدم بقوة بتلك المجتمعات التي ترفض التغيير ولا تريد أن تبذل جهداً من أجل التغيير والعمل والعلم.
حركة المجتمعات تغيّر الدين وتزيد من مادته السياسية والاجتماعية، لكن الدين يبقى ممسوكاً بالأصول التي نشأ منها، بمعنى أن الأصول التي قام عليها الدين تظل ثابتة وتتحول في اللاشعور الجمعي للأفراد إلى نوع من الأركيتايب (النماذج البدئية) والرموز والأساطير، والذي يتطور هو الشكل الاجتماعي للدين والأنماط السياسية له. لكن حركة الأديان ككل تتطور وتنتج أدياناً مختلفة حسب مراحل التاريخ الكبرى (قديم، وسيط، حديث، معاصر).
“الفرق بين العقل المسيحي والعقل الإسلامي أن الأول توقف واستبدلته المجتمعات المسيحية الغربية بالعقل العلمي”
العقل الإسلامي عقل تاريخي، مثل كل العقول، بدأ في القرن السابع الميلادي واكتملت أسسه في العصر الكلاسيكي العباسي لغاية ظهور المتوكل في القرن التاسع للميلاد. ثم دخل في مرحلة الاجترار وما زال إلى يومنا هذا مجتراً معاداً وهذا ما يعرفه المسلمون عامةً. والأصول الماسكة له والتي شكّلت الفكر الإسلامي الأول هي النواة الصلبة الجامدة التي ما زالت تعيد المجتمعات الإسلامية إلى الخلف دائماً.
الفرق بين العقل المسيحي والعقل الإسلامي أن الأول توقف واستبدلته المجتمعات المسيحية الغربية بالعقل العلمي، في حين لم يُستبدل العقل الإسلامي بعد بعقل آخر.
جذور الديانات الإبراهيمية تمتد في تربة الديانات الشرقية التي سبقتها في المنطقة مثل ديانات الرافدين ومصر والشام واليمن وغيرها، الأساطير في تلك الديانات القديمة مكون أساسيّ من مكوناتها، والأساطير بنية ثابتة موجودة في كل دين ولذلك كان لا بد من أساطير إبراهيمية أيضاً، وهكذا جرت عمليات تحوير كبرى لأساطير العالم القديم لجعلها أساطير عالم وسيط إبراهيمي.
فمثلاً، قامت الزرادشتية بتحويل الآلهة القديمة إلى ملائكة في نظامها الروحيّ، وكان هذا الإجراء محط اعتبار وأهمية للديانات الإبراهيمية، فأخذته وعملت به لأنه يتفق مع نزعتها التوحيدية. وقامت الغنوصية بابتكار نوع من التوحيد الباطني الخالي من الوحي والمعتمد على معرفة الله في الروح التي تدور داخل الجسد، فقامت الديانات الإبراهيمة بأخذ هذا المفهوم ووضعت الوحي بدل المعرفة. وهكذا، حدثت عمليات قصّ وقطع ومونتاج واسعة جداً للأساطير والتراث القديم قام بها كهنة الأديان الإبراهيمية وجعلوها مناسبة لتوجهاتهم.
بلا شك. لكن الأديان التوحيدية الإبراهيمية خففت كثيراً من الأساطير المتعلقة بالله، فتسربت الشحنة الأسطورية باتجاه الملائكة والأنبياء والأولياء ومعجزاتهم، وهذا ما أسمّيه بخريف الأسطورة، إذ لم تعد الأساطير مباشرة قوية ساطعة كما في الأديان القديمة بل أصبحت غير مباشرة وتنتشر كالرذاذ في نصوص الكتب المقدسة.
أهم الأساطير التي بقيت هي أساطير البدايات (الخليقة) وأساطير النهايات (الإسكاتولوجيا) أي كيف بدأ العالم وكيف سينتهي وهي موجودة بوضوح في الديانات الإبراهيمية وتتشابه بشكل كبير مع ما في الديانات القديمة.
أنشأت الحضارات الزراعية النهرية في بدايتها ديانات الخصب المليئة بالحب والجنس والتكاثر والحكمة والكتابة والفنون، ولكن ظهور الملوحة والسبخ والتصحر جاء بالديانات الهوائية الطقسية التي مالت نحو السلطة والقوة وهي التي انتصرت على الديانات الزراعية وأخضعتها لها. ثم ظهرت الديانات التوحيدية (اليهودية والإسلام بشكل خاص) من رحم الديانات الطقسية هذه، وبقيت المسيحية تحمل صدى الخصب لكن النزعة الشمسية فيها توسعت وجعلتها طقسية أيضاً، وحملت الصحراء عقائدها الدينية بقوة في التوحيد وأصبحت الأصولية نزعة مهمة من نزعاتها.
لا شك أن للعلم دوراً عظيماً في تنوير الإنسان وتوسيع مساحة حياته ونعيمها، لكن الإنسان سيبقى بحاجة إلى الروحانية وأظن أن مستقبل الأديان سيكون في الروحانية وستذوب تدريجياً العقائد المتشددة في الأديان لصالح الجانب الروحاني الذي قد يكون منها أو من الفنون والآداب معاً، وهو ما يتجه إليه الكثيرون في الغرب وخصوصاً الذين هجروا الأديان المعروفة.
لقد اكتشفت أن هناك حلقة مفقودة بين أديان التعدد وأديان التوحيد شغلتها تيارات دينية غنوصية بشكل خاص، ومعها تيارات مسارية وهرمسية، هي التي بدأت بالتوحيد الباطني العرفاني (الغنوصي) السريّ على طريقتها، فانبثقت من حضورها المؤثر هذا التوحيدية اليهودية ثم المسيحية وجاء الإسلام في أعقاب هذا التأثير في وقت متأخر نسبياً ولكنه كان ضمن دائرة التأثير المباشر وغير المباشر لها.
إن هذه الحلقة المفقودة التي تجمع المسارية والهرمسية والغنوصية هي البادئة بفكرة التوحيد العرفاني الباطني الخالي من الوحي، والتي تحملت عناء الاصطدام مع كتلتين كبيرتين: الأولى هي كتلة الماضي الصلد للأديان التعددية المشركة، والثانية هي كتلة الأديان ذات التوحيد الظاهري الناشئة حديثاً والمؤمنة بالوحي والتي انتعشت بفضل المناخ الروحاني والفلسفي الذي أشاعته المرحلة الهلنستية.
وبعد صراع طويل، تمكن التوحيد الباطني من الانتصار على الأديان المشركة ولكنه فشل أمام الأديان التوحيدية الظاهرية الجديدة (غير العرفانية) التي أخذت التوحيد وجعلت منه شعاراً مميزاً لها وجعلته ظاهرياً لا باطنياً وأسبغت عليه صفة الوحي وهيأت له شرائع متزمتة، أصبحت مع الزمن موجهة لعقائده وفازت بالتوحيد النهائي ولكنها دمرت كل تلك الجذور الأولى التي بدأها التوحيد العرفاني (الغنوصي) ودمرت كل ما يمت بصلة إلى التوحيد العرفاني الباطني الذي تسلقت عليه وظهرت من خلاله.
الدين ليس فيه علم، لأن العلم يقوم على الملاحظة المباشرة والتجربة المختبرية والرياضيات، وما ظهر من علوم في الدين هو علوم مزيفة لا صلة لها بالحقيقة العلمية، أما التاريخ فهناك سرد تاريخي في الأديان لكنه سرد غير دقيق ومكتوب لصالحها وقد قوّض علم التاريخ الحديث ومعه علم الآثار السرد التاريخي الديني وبيّن عيوبه.