ترى #ناجيةالوريميبوعجيلة أن علاقة المؤسسة الدينية بالسلطة السياسيّة معقّدة وغير مستقرّة، ومتغيّرة بتغيّر موازين القوى بين الطرفين، وخاصّة بتغيّر السياسة الثقافيّة والاجتماعيّة المتّبعة.
وقد مرّت هذه العلاقة -في تاريخ الدولة العربيّة الإسلاميّة- بوضعيّات متباينة. وبحكم طبيعة المهامّ الموكولة إليها في البداية والتي تجعلها في علاقة قارّة بمختلف الفئات الاجتماعيّة – أي “بمادّة” السلطة وفق الاصطلاح الخلدوني – تحوّل نفوذها الاجتماعيّ إلى نفوذ سياسيّ نقلها من موقع التبعيّة إلى موقع الاستقلال.
فكان أن تجرّأت على فرض إملاءاتها على السلطة -وعلى المجتمع- وفق تصوّرها “المؤسّسيّ” للدين.
توطئة:
للمؤسّسة الدينيّة علاقة معقّدة بالسلطة السياسيّة: إنّها علاقة غير مستقرّة، ومتغيّرة بتغيّر موازين القوى بين الطرفين، وخاصّة بتغيّر السياسة الثقافيّة والاجتماعيّة المتّبعة.
وقد مرّت هذه العلاقة – في تاريخ الدولة العربيّة الإسلاميّة – بوضعيّات متباينة، لعلّ أكثرها تباينًا تلك التي كانت في العصر العبّاسيّ الأوّل.
حين تجاوزت المؤسّسة الدينيّة وظيفتَيْ تنظيم الحقل الدينيّ وإضفاء الشرعيّة على السلطة القائمة، إلى وظيفة الرقابة المباشرة على الاختيارات الثقافيّة لهذه السلطة.
وبحكم طبيعة المهامّ الموكولة إليها في البداية والتي تجعلها في علاقة قارّة بمختلف الفئات الاجتماعيّة – أي «بمادّة » السلطة وفق الاصطلاح الخلدوني – تحوّل نفوذها الاجتماعيّ إلى نفوذ سياسيّ نقلها من موقع التبعيّة إلى موقع الاستقلال.
فكان أن تجرّأت على فرض إملاءاتها على السلطة – وعلى المجتمع – وفق تصوّرها «المؤسّسيّ » للدين.
ومن الحريّ التنبيه بدءًا إلى أنّ الجدل الدائر حول وجود مؤسّسة 1 دينيّة في الإسلام من عدمه، هو جدل غير واضح المنطلقات ولا النتائج، لأنّنا لا نجد اتّفاقًا على دلالة هذا المصطلح لدى مختلف الأطراف المتجادلة.
فهناك من يستعمله في مفهومه المسيحيّ الكنسيّ الذي أفضى تاريخيًّا إلى المطالبة بفصل الدين عن الدولة في أروبّا. وبناءً على هذا المفهوم ينفي بشكل قاطع أن تكون الممارسة الدينيّة في الإسلام عرفت هذه المؤسّسة.
وكان أبرز ممثّل لهذا الموقف، المفكّر محمّد عابد الجابري.
فهو يعتبر أنّه «لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي، في أيّة فترة من فتراته، مؤسّسة خاصّة بالدين متميّزة من الدولة، فلم يكن الفقهاء يشكّلون مؤسّسة، بل كانوا أفرادًا يجتهدون في الدين ويفتون فيما يعرض عليهم من النوازل أو تفرزه تطوّرات المجتمع من مشاكل 2» .
وهناك من يستعمل مصطلح المؤسّسة الدينيّة في مفهومه الذي يقرّره علم الاجتماع الديني، فيؤكّد وجوده في الثقافة وفي الممارسة الإسلاميّة، شأنها شأن سائر المجتمعات الدينيّة.
وممّن يمثّل هذا الموقفَ المختصُّ في الإسلاميّات محمّد أركون. فهو يعتبر أنّ دور المؤسّسة الدينيّة هو الدفاع عن الرؤية الرسميّة للدين، وأنّ سؤال «هل هناك وظيفة كهنوتيّة في الإسلام؟ » هو سؤال مشروع والإجابة عليه هي حتمًا بالإيجاب: نعم هناك مؤسّسة دينيّة في الإسلام شأنه شأن سائر الأديان.
يقول أركون: «إنّ السؤال المطروح على هذا النحو، هو أكثر ملاءمة من السؤال الذي يطرح غالبًا بصدد غياب الكهنوت في الإسلام. الكهنوت، بالفعل، وظيفة عامّة جدًّا وجوهريّة جدًّا، بحيث نعثر عليها بأشكال وإجراءات متنوّعة، في جميع الديانات التوحيديّة والمتعدّدة الآلهة.
نحن إذن بإزاء وظيفة ذات مدى انتروبولوجي 3» . ويضيف: «إنّ الإسلام وإن خلا من التنظيم التراتبي للسلطات الروحيّة )قبل الفصل بين الكنيسة والدولة في الغرب(إ أنّ هناك هيئة من علماء الدين، من اللاهوتيّين الذين يشرفون على الدين الحقّ وعلى تطبيق الشريعة الدينيّة في علاقتها مع سلطة الدولة 4» .
وهذا ما سمّاه أركون بالإسلام الأرتدوكسي الذي تسببّ في التضييق على الاختلاف المشروع، وفي توظيف المقدّس لصالح السلطات الزمنيّة.
وعمومًا يمكن أن نقول إنّ هناك أدياناً مهيكلة تنظيميًّا فيها مؤسّسات قائمة على تراتبيّة واضحة وعلى تقسيم دقيق للأدوار كما هو الشأن في تاريخ المسيحيّة، وأخرى توجد فيها جماعات منتظمة بشكل أو بآخر تقوم بالوظيفة ذاتها، ودون أن تكون مهيكلة، كما هو الشأن في تاريخ الإسلام.
فوظيفة المؤسّسة الدينيّة في المجتمعات الكتابيّة قارّة، في حين أنّ الهيكلة ونمط الأدوار وطبيعة الفواعل متغيّرة.
ولذلك كان من المناسب أن ننسّب المفهوم وفق الظروف والأوضاع المتغايرة، فنتعامل معه من خلال التمييز بين مستويين: مستوى الوظائف المحدّدة التي تحتكر القيام بها جماعة أو جهة بعينها من ناحية، وهذا هو الثابت؛ مستوى التنظيم أو الإطار الخارجيّ من ناحية ثانية، وهذا هو المتحوّل.
إنّ جوهر المؤسّسة الدينيّة هو إنتاج معرفة دينيّة رسميّة، لها دور أساسيّ في تكوين النظام الاجتماعي .
ونحن إذ نحاول – في هذا البحث – أن ندرس الأدوار التي قامت بها المؤسّسة الدينيّة في الماضي، فذاك أساسًا للتقييم والمراجعة الهادفيْن إلى الكشف عن آليّات التوظيف السياسيّ للمنظومة الدينيّة سواء من قبل السلطة أو من قبل «الجماعات ».
وإلى الارتقاء بهذه المؤسّسة عمومًا من مجرّد التوظيف العارض في هذا الاتّجاه أو ذاك، إلى الوظيفة السامية المنوطة بعهدتها في تنظيم المجال الديني.
ولا تخلو العودة إلى الماضي من الإشكاليّات الناجمة عمّا ران عليه من تصوّرات لاتاريخيّة لا تفعل إلاّ أن تكبّل الفكر الإسلامي الراهن بجملة من القيود غير المعرفيّة وتعوق بناء فكر متحرّر من كلّ عوامل الخلط – المتعمّد وغير المتعمّد – بين ما هو مقدّس، وما هو بشري تاريخيّ 5.
إنّها التصوّرات التي كرّستها الثقافة الرسميّة والتي لا تستقيم إلاّ في ظلّ الطمس والحذف لجملة من المعطيات «غير المرغوب فيها 6» ، فيما يتعلّق بتاريخ العلاقة بين
المؤسّستين السياسيّة والدينيّة، وبما ينجرّ عن تحالفهما من إعلاء لاختيارات معيّنة إلى مستوى «الحقيقة » غير القابلة للمساءلة. وسنركّز في دراستنا لهذه العلاقة على آليّات التحوّل وظروفه، وما يمكن أن يفرزه من نتائج، وذلك من خلال مراكز الاهتمام التالية:
- المؤسّسة الدينيّة والولاء للسلطة: مرحلة النشأة.
- الاستقلال ومحاولة التحكّم في اختيارات السلطة.
- الفكر السياسيّ الرسميّ وتحديد دور المؤسّسة الدينيّة.
المؤسّسة الدينيّة والولاء للسلطة: مرحلة النشأة
في القرن الثاني للهجرة، ومع انتشار التدوين وتأسيس العلوم، ووجود مسالك جديدة لنشر المعرفة المكتوبة، ازداد وعي السلطة السياسيّة بأهمّيّة تنظيم المجال الديني والسيطرة عليه، عن طريق ضبط مدوّنته المرجعيّة وتحديد مكانتها في الثقافة السائدة ومكانة الفاعلين القائمين على هذه المدوّنة.
لقد كان الاختلاف في المجال الدينيّ خاصّة كبيرًا، لا في مستوى الدوائر المذهبيّة السياسيّة المتصارعة آنذاك وحسب، بل في مستوى الدائرة الرسميّة نفسها. وذلك لغياب التوحيد والتجميع حول المدوّنة المرجعيّة ذاتها، وحول القراءة ذاتها.
ومن هذا المنطلق لم تكن عناية أوائل الخلفاء العبّاسيّين بكسب ولاء العلماء لتوطيد سلطتهم ولتنظيم المجتمع وفق معايير موحّدة، لتقلّ عن عنايتهم بإزالة العقبات السياسيّة والعسكريّة التي كان يمثّلها خصومهم من أمويّين وطالبيّين وغيرهم.
لقد سعى أبو جعفر المنصور – المؤسّس الفعليّ للدولة العبّاسيّة – إلى توحيد المدوّنة المرجعيّة بين جميع أصقاع المملكة، في الوقت نفسه الذي كان يخوض فيه مواجهات عسكريّة مع منافسيه على السلطة.
كان يتّصل بالعلماء لتثبيت هذا الأمر أو ذاك، أو بالأحرى لتبرير هذا الأمر أو ذاك، ويطلب منهم تدوين رصيد معيّن من الحديث ليفرضه على الجميع ويلغي ما يخالفه.
اتّصل بمالك بن أنس وطلب منه إعداد نُسَخ من «الموطّأ » لاعتمادها رسميّاً.
قال مالك: «لمّا حجّ المنصور، دعاني فدخلت عليه، فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: عزمت أن آمر بكتبك هذه – يعني الموطّأ – فتنسخ نسخًا، ثمّ أبعث إلى كلّ مصر من أمصار المسلمين بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث 7» .
وقد رفض مالك هذا الأمر «لأنّه قد رسخ في قلوب أهل كلّ بلد ما اعتقدوه وعملوا به، وردّ العامّة عن مثل هذا عسير ». والدالّ هنا – بصرف النظر عن موقف هذا العالِم – هو حرص السائس على توحيد المرجعيّة الدينيّة التي يمكن من خلالها توحيد المواقف والتصرّفات.
إنّه يعي جيّدًا الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة لنوعيّة الأحاديث المتداولة، وكان عازمًا على إخضاعها لتصفيةٍ قوامُها ما يدعم السلطة استقرارها على جميع الأصعدة. لقد وصل به الأمر إلى أن نهى مالكًا نفسه عن رواية أحاديث بعينها.
وعندما لم يمتثل لأمره عاقبه عقابًا صارمًا. كان ذلك في ما سُمِّي بمحنة مالك. إذ نهاه أبو جعفر عن رواية الحديث التالي: «̎ ليس على مستكره طلاق ، ثمّ دسّ إليه من يسأله، فحدّثه به على رؤوس الناس…
فأمر بتجريده وضربه بالسياط، وجُبِذت يده حتّى انخلعت من كتفه، وارتُكب منه أمر عظيم 8» .
ومن بعده حاكم الخليفةُ المهديُّ شريكًا – القاضي والمحدّث – بسبب ما بلغه عنه أنّه روى حديثًا يمسّ من استقرار السلطة العبّاسيّة. والحديث هو: «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإذا زاغوا عن الحقّ فضعوا سيوفكم على عواتقكم، ثمّ أبيدوا خضراءهم 9» .
وكانت المحاكمة بعيدة كلّ البعد عن المجادلة العلميّة، لأنّ الباعث عليها كان سياسيًّا، الأمر الذي وعاه المحدّث جيّدًا وجعله يجنح إلى الإنكار.
بل إنّ خطاب بعض المحدّثين في حضرة السلطان يحيد عن الاصطلاح الدينيّ إلى الاصطلاح السياسيّ المناسب للسياق: فعوض نسبة الحديث إلى الرسول بما هو رسول الله، نجد نسبته إلى الرسول بما هو ابن عمّ الخليفة العبّاسيّ. قال أحد المحدّثين مخاطبًا الرشيد: «إنّ ابن عمّك صلّى الله عليه وسلّم قال.. 10» .
وواضح ما في هذا التحوير في الدوالّ من غايات الإبراز «الدينيّ » لصفة السائس، وللمرجعيّة المتعالية التي تحيل عليها قرابته من الرسول.
لقد كان الخليفة العبّاسيّ – في مرحلة تأسيس الدولة خاصّة – يستعين بجماعة من العلماء «المحدّثين » أولئك الذين يمتلكون هذا الصنف من المرجعيّة المتعالية، ويستطيعون استثماره على الوجه المطلوب.
وتُفهم استعانته هذه على ضوء ما كان يشهده الحكم العبّاسيّ من منافسة قويّة من أحلاف الأمس – ضمن إطار الحزب الهاشمي 11 – وهم الطالبيّون الذين يتميّزون بمشروعيّة دينيّة ذات بال، من جهة فاطمة بنت الرسول، ثمّ من جهة عليّ ذي المكانة المرموقة من حيث النسب ومن حيث العلاقة بالرسول.
فكان لازمًا على العبّاسيّين تكوين ثقل «دينيّ » موازن يضمن لهم التمتّع بمشروعيّة مضاهية، هي من باب ما أكرمهم به الله من «ميراثهم من نبيّه » كما قال أبو جعفر المنصور 12 .
وكان السعي إلى «بناء » هذا الثقل الدينيّ الموازن، أي المقوّمات المعنويّة، متزامنًا مع بناء أسس الدولة في مقوّماتها المادّيّة.
ومن الدالّ في هذا الصدد أن نجد في أخبار تأسيس أبي جعفر المنصور للعاصمة بغداد، رصيدًا من الأحاديث مداره التأسيس لحقّ بني العبّاس في السلطة.
كان ذلك في مصدر مخصّص لتاريخ هذه المدينة ولمن سكنها أو زارها من العلماء، وهو «تاريخ بغداد » للخطيب البغدادي.
ففي فصوله الأولى نتبيّن كيفيّة الجمع بين أخبار تأسيس المدينة وأخبار تأسيس المشروعيّة الدينيّة للسلطة العبّاسيّة.
إذ نجد على سبيل المثال فصلاً يشتمل على عدد من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، تبشّر بخلافة بني العبّاس، وتبيّن فضلهم وتفضيلهم على سائر الأطراف المنافسة 13 .
وهي أحاديث يتداولها الرواة ويصلونها – في معظمها – بابن عبّاس تحديدًا. وكانت تُتَداول في المجالس «العلميّة » التي كان يعقدها الخلفاء في البلاط.
ومن المفيد أن نورد منها الحديث التالي وهو منسوب إلى أمّ الفضل زوجة العبّاس، فيما ترويه من قصّتها مع الرسول وما تنبّأ به في شأن حملٍ لها: «عن ابن عبّاس قال: حدّثتني أمّ الفضل بنت الحارث الهلاليّة، قالت: مررت بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو في الحجر، فقال: يا أمّ الفضل إنّك حامل بغلام. قالت: يا رسول الله، وكيف وقد تحالف الفريقان أن لا يأتوا النساء؟ قال: هو ما أقول لك، فإذا وضعتِه فأتيني به.
قالت: فلمّا وضعته أتيت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأذّن ي أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى، اذهبي بأبي الخلفاء.
قالت فأتيت العبّاس فأعلمته، فكان رجلاً جمي لبّاسًا فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قام إليه فقبّل بين ينيه ثمّ أقعده عن يمينه.
ثمّ قال: هذا عمّي فمن شاء فليباه بعمّه. قالت: يا رسول الله بعض هذا القول. فقال: يا عبّاس لم لا أقول هذا القول؟ وأنت عمّي وصنو أبي وخير من أخلف بعدي من أهلي. فقلت يا رسول الله ما شيء أخبرتني به أمّ الفضل عن مولودنا هذا؟
قال: نعم يا عبّاس إذا كانت سنة خمس وثلاثين ومائة فهي لك ولولدك، منهم السفّاح ومنهم المنصور ومنهم المهدي 14» . من الواضح أنّ هذا الخبر مشكّل لغرض الردّ على منافسي العبّاسيّين من الطالبيّين الذين يرون أنّهم أحقّ بخلافة الرسول.
ويظهر ذلك في البنية اللغويّة والدلاليّة للخبر، ممثّلةً في العناصر التالية: الرسول – مبلّغ الحقّ والناطق بالحقّ – هو الذي يتنبّأ بأن تكون الخلافة في سلالة العبّاس؛ مكان الحادثة هو الحرم المقدّس: الكعبة؛ التوقير والمعاملة الخاصّة بالعبّاس؛ ثمّ الحضور المكثّف لسجلاّت المدح والتفضيل «للعمّ » دون بقيّة الأقارب.
والنتيجة الحاصلة من وراء هذه العناصر هي «ثبوت » المشروعيّة الدينيّة لبني العبّاس 15 .
وخارج البلاط، كانت أوامر الخليفة الموجّهة إلى العلماء والمحدّثين – حيثما وُجِدوا – على درجة هامّة من البروز، ممّا يؤكّد حرص السلطة على إيجاد فئة من هؤلاء تتكفّل بمهمّة الدفاع عن المعرفة التي تريد تأسيسها ونشرها بين الناس. فأبو جعفر المنصور يبعث القائم على موسم الحجّ عبد الصمد بن علي الهاشمي، إلى مجموعة من العلماء – فيهم سفيان الثوريّ والأوزاعي – ليكتب عنهم أحاديث بعينها.
ويتّضح من خلال الحوار الذي دار أثناء المقابلة بين ممثّل الخليفة والعلماء، أمران: الأوّل، أنّ البعض منهم لم يكن مديناً بشيء للسائس لذلك اختار عدم الدخول في الفئة الخادمة له، بينما كان الثاني مديناً له بما كان يلبّيه من طلباته المختلفة، وبما كان «يحسن » إليه.
والأمر الثاني، أنّ نوعيّة الأحاديث المطلوبة سياسيّة، فالموالي للخليفة يحثّ الرافض للولاء على القبول قائلاً: «يا أبا عبد الله إنّ هؤلاء قريش وليس يرضون منّا إلاّ الإعظام لهم 16» .
وممّا يرجّح هذا الأمر أنّ ممثّل الخليفة شخصيّاً هو الذي يقدم لكتابة أحاديث بعينها، وأنّ الثوريّ يثبت على الرفض ثباتاً «غريبًا »، في حين أنّه كان يحدّث كلّ من يطلب منه ذلك، في عاديّ الأحوال.
ويبدو أنّ أبا جعفر – وبسبب هذا الرفض – نهى عن مخالطة الثوريّ وعن تداول كتبه. هذا ما نجد أصداءه واضحة في مخالفة بعض العلماء لأمره واتّصاله بهذا العالم «المعاقَب » طالباً منه أن يحدّثه.
وعندما طلب منه الثوريّ أن يذهب إلى الكوفة ويأتيه بكتبه من هناك، حتّى يستطيع القيام بمهمّته على أكمل وجه، رفض العالم وبرّر موقفه قائلاً: «أنا أختلف إليك وأخاف على دمي، فكيف أذهب وآتي بكتبك؟ 17» إنّها عمليّة حصار لمعرفة دينيّة نشزت عن الانخراط في المعرفة الرسميّة وخططها التبريريّة، طلبًا لتنظيم معيّن للمجتمع، ولمشروعيّة تضنّ بها السياسة الفعليّة المتّبعة.
ولن يكون كسب هذه المشروعيّة إلاّ بتوفير لشروط الموضوعيّة لإنتاج المعرفة الدينيّة المطلوبة ولتداولها ونشرها بين الناس. وهي تقريب العلماء والإحسان إليهم، وتمكينهم من ظروف ملائمة لممارسة وظيفتهم 18 .
لقد كانت السلطة تراهن على كسب ولاء العلماء من خلال استتباعهم ماليًّا. فخصّصت لهم عطاء يتفاوتون فيه بتفاوت مكانتهم في القصر وفي الدولة عموماً.
والأرجح أنّ هذا العطاء ازداد في عهد الدولة العبّاسيّة وخاصّة مع الرشيد ليشمل كلّ القائمين على الدين، طلبًا وتعليمًا وروايةً وإفتاءً.
والأخبار عن إجزال الرشيد العطاء للمحدّثين كثيرة، عرضنا لها في سياق بحثيّ آخر 19 ، ونضيف هنا نموذجًا آخر منها، بليغ الدلالة: قال الرشيد لأحد المحدّثين بعد محادثة بينهما: «عليك بالدعاء لمن ولاّه أمرك ومُر أصحابك بذلك، وقد أمرت لك بشيء تفرّقه على أصحابك، فخرج له مال كثير ففرّقه 20» .
هذا الخبر قائم على الاقتران السببيّ بين عبارتين: «عليك بالدعاء ل.. » و «قد أمرت لك ب.. »، وهو اقتران يكشف بوضوح مستوى من مستويات التقارب الوظيفيّ بين السائس والعالم، تؤكّده حالات أخرى من هذا العطاء المشروط 21 .
ومّما يؤكّد وجود تعاون وظيفيّ بين المؤسّسة السياسيّة والمؤسّسة الدينيّة في مرحلة النشأة، وجود موقف رافض لهذا التعاون، في صفوف العلماء أنفسهم. وقد تردّدت أخبار هذا الصنف الحريص على استقلاليّة العلم في المصادر.
ولم تندثر اندثارًا كلّيًّا لأنّ العالم – وإن قبل موقع التبعيّة للسلطة – يظلّ مشدودًا إلى نموذجيّة الموقع الذي فرّط فيه: موقع الاعتداد بالنفس وبالعلم. فلا يأنف من ذكر العلماء «الصلحاء » المستقلّين برأيهم والمتحمّلين تبعات ذلك.
وقد رأينا أعلاه نموذجًا من هؤلاء متمثّلاً في سفيان الثوريّ، ونضيف نموذجًا آخر متمثّلاً في القاضي والمحدّث شريك، الذي يعترف أنّه باع دينه عندما خدم الخليفة. ونقد الغايات «الدنيويّة » التي كانت وراء طلب صنف من العلماء للحديث.
قال: «تُرى أصحاب الحديث هؤلاء يطلبونه لله؟ إنّما يتظرّفون به 22» ، والظّرف هو «حسن العبارة » و «حسن الهيئة » و «الحذق بالشيء 23» ، وطبعًا المقصود هنا حذق العلم النافق في البلاط. وهذه هي الشروط اللازمة لارتياد البلاطات ومصاحبة الساسة.
وفي المعنى نفسه نجد أيضاً خبرًا طريفًا يُروى عن العالم أبي بكر بن عيّاش، تُفهم منه إدانةٌ ضمنيّةٌ لمن طلب الحديث لغاية «منكرة « :» كان في سكّة أبي بكر بن عيّاش كلب، إذا رأى صاحب محبرة )يعني طالب الحديث( حمل عليه، فأطعمه أصحاب الحديث شيئًا فقتلوه، فخرج أبو بكر، فلمّا رآه ميّتًا، قال: إنّا لله، ذهب الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر 24» .
وقد اختزل هذه المواقف النقديّة أحد العلماء المتأخّرين من خلال كشفه عن جناية التبعيّة للسلطان على حقيقة العلم واستقلاله، يقول: «وبالجملة الدخول على السلاطين خطر عظيم لأنّ النيّة قد تحسن في أوّل الأمر ثمّ تتغيّر بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم ولا يتماسك عن مداهنتهم وترك الإنكار عليهم.
وقد كان سفيان الثوري رضي الله عنه يقول: ما أخاف من إهانتهم لي إنّما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم 25» . إنّ هذه المعطيات – وغيرها كثير – تثبت وجود فئة من العلماء الذين رفضوا الولاء للسلطة، التزامًا منهم بضرورة استقلال المعرفة الدينيّة.
كما تثبت هذه المعطيات وجود فئة أخرى من العلماء انخرطت في هذا الولاء انخراطاً شبه كلّيّ.
وقد نجحت هذه الفئة الثانية في احتلال مكانة اجتماعيّة مميّزة بفضل الدعم المعنويّ والمادّي الذي كانت تتتمتّع به وبفضل اكتسابها صفة المشتغل بالعلم «الإلهيّ ».
وأصبحت تحظى بانتشار اجتماعيّ واسع وبتمويل إضافيّ متأتّ من شريحة من الأثرياء تتكوّن في الغالب من العلماء الموسرين المتعاطفين معها.
وسيمثّل هذا التمويل لاحقاً عاملاً من عوامل قدرتها على مجابهة السلطة عندما تتخلّى عن «الثوابت » التي وقع حولها التحالف.
ولئن وجدنا بعض الأسماء من هؤلاء العلماء الموسرين المموّلين لحركة «طلب العلم » مثل عبد الله بن المبارك 26 ، وعبد الرحمان بن مهدي 27 ، ويحيى بن معين 28 ، وإبراهيم بن إسحاق الحربيّ 29 ، فإنّه يجب الإقرار بصعوبة البحث في هذا الجانب بسبب التكتّم الذي كان يُفضّل في مثل هذه الحالة، لأنّها موضوعة تحت فعل البرّ والإحسان.
وفعل البرّ والإحسان يجب ألاّ يُشهر لأنّ المنّ «يذهب الحسنات 30» كما استقرّ في الأدبيّات المتداولة. لكن من المرجّح إلى حدّ بعيد أنّ الأمر تحوّل إلى ظاهرة قوّت الجماعة ومكّنتها من الاستغناء عن عطاء السلطة عندما ستدخل معها في مواجهة لاحقاً 31 .
غير أنّ الصفة التي نجحت هذه الفئة في اكتسابها وفي احتكارها – وهي صفة المشتغل بالعلم الإلهيّ – كانت أهمّ عامل من عوامل نجاحها في اكتساب ولاء العامّة لها، وفي مرورها لاحقًا إلى العمل السياسيّ بشكل مباشر.
فقد حفل خطابهم – في باب التعريف بأنفسهم وبوظيفتهم – بسجلاّت التميّز المطلق عن الناس وعن نظرائهم، من حيث أشخاصهم ومن حيث علمهم: فهم «الطائفة الناجية القائمون على الحقّ 32» . وهم
«ورثة الأنبياء 33» ، وهم الذين يصلّي الله عليهم 34 ، وهم المشتغلون بمدوّنة لا تقلّ مكانة عن الكتاب المنزّل. قال الأوزاعي: «كان جبريل ينزل على رسول الله بالسنّة كما ينزل بالقرآن 35» .
ولذلك كان المحدّث منهم يتطهّر قبل أن ينتصب للتحديث 36 ، إبرازًا لكونه يشتغل بنصّ مقدّس قداسة الكتاب المنزّل. أمّا وظيفتهم فهي الاختصاص بجانب من المعرفة الدينيّة، يفوق ما هو واجب على العموم معرفته.
ويعمدون إلى الحديث المتداول والذي يتّجه إلى الجميع بفرض طلب العلم – وهو: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم » – ليحدّدوا دلالته تحديدًا يخدم احتكارهم للمعرفة الدينيّة.
فأوّلوه على أنّه يقيم حدًّا فاصلاً بين ما هو متاح للجميع من معرفة الدين، وما تختصّ به فئة معيّنة: سأل أحد المحدّثين عبد الله بن المبارك «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، أيّ شيء تفسيره؟ قال: ليس هو الذي تطلبون، إنّما طلب العلم فريضة، أن يقع الرجل في شيء من أمر دينه، يسأل عنه حتّى يعلمه 37» .
ولا يتعلّق الإشكال هنا بسؤال «العاميّ » في ذاته، فهذا أمر مفهوم في مجتمعٍ، من يحسنون فيه القراءة والكتابة ويهتمّون بالعلم قليلون، بقدر ما يتعلّق بمن يمكن أن يُتَوجّه إليهم بالسؤال من العلماء.
هذا ما يوضّحه واضع علم الأصول الشافعي حين قسّم في – مرحلة أولى – العلم بالدين إلى علْميْن: علم عامّة وعلم خاصّة، وحين ميّز – في مرحلة ثانية – بين من يجوز له من العلماء أن يجيب على أسئلة العامّة، أي أن ينشر «الفهم الصحيح » للدين، ومن لا يجوز له ذلك.
يقول: «قال لي قائل: ما العلم؟ وما يجب على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم علمان علم امّة لا يسع بالغًا غير مغلوب على عقله جهله… وعلم خاصّة وهو ما ينوب العباد من فروع الفرائض وما يُخَصّ به من الأحكام وغيرها 38» .
ولا يعدو تقسيمه هذا، أن يكون مجارةً لواقع الحال اجتماعيًّا وثقافيّاً كما ذكرنا، كنّ ما يعلنه في مرحلة ثانية من تفرّد فئة من العلماء بمهمّة التصدّي للفقه في الدين، هو الذي يُبِين عن نزعة احتكاريّة تعكس فكرًا مؤسّسيًّا يقصي – بكلّ الوسائل- كلّ ما يخالفه.
لقد صرّح الشافعي بمنع من يخالف لمنظومة التي يمثّلها، من القيام بفهم الدين وإفهامه للناس. وهو تصريح ترجمت عنه ظاهرة التكرار المعنويّ البارزة في خطابه.
ففي أكثر من سياق يكرّر معنى أنّ العلم بالدين وممارسة الاجتهاد لهما شروط لا بدّ من توفّرها، وهي ذات الشروط التي سبق أن ضبطها في تصوّره لمصادر التشريع، خاصّة من خلال ما رجّحه من مواقفَ في المسائل الخلافيّة مثل السنّة المشرّعة مع الكتاب، والإجماع، وما يدخل في باب الاجتهاد وما لا يدخل.
ومن أكثر المكوّنات الخِطابيّة دلالة في خطاب الشافعي في هذا الصدد، حضور أساليب المنع، والنفي، وعدم الإجازة، موجّهةً إلى من لا يخضع لمنطلقاته من العلماء أنفسهم، وخاصّة «أصحاب الرأي » أو «أصحاب العقول » كما سمّاهم.
ولْنلاحظْ في الأمثلة التالية الحضور المكثّف للأساليب السالبة هذه: «ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلاّ بالاستدلال بما وصفتُ في هذا.
ولا يقول بما استحسن فإنّ القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق 39» ؛ و «ليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء حلّ ولا حرم، إلاّ من جهة العلم، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس 40» ؛ و «الواجب على العالمين أن لا يقولوا إلاّ من حيث علموا 41» ؛ و «هذا الذي لا يسع أحدًا عندنا جهله ولا الشكّ فيه 42» ؛ و «كان حلال الله وحرامه أولى أن لا يقال فيهما بالتعسّف والاستحسان 43» ؛ و «لا يقول فيه إلاّ عالم بالأخبار، عاقل للتشبيه عليها 44» ؛
و «إذا كان هذا هكذا كان على العالم أن لا يقول إلاّ من جهة العلم، وجهة العلم الخبر اللازم بالقياس بالدلائل على الصواب 45» ؛ و «لم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلاّ من جهة علم مضى قبله 46» ؛ و «لا يقيس إلاّ من جمع الآلة التي له القياس بها 47» ؛ و «لا يكون لأحد أن يقيس حتّى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن 48» ؛ و «لا يحلّ لفقيه عاقل أن يقول في… ليس له أيضًا أن يقول بقياس.. 49» .
ولا يبدو هذا الاستعمال المكثّف لأساليب النفي المتعلّقة بوضعيّات وبإمكانات معرفيّة مغايرة للمقرّر رسميّاً – أو بالأحرى لما سيقرّره رسميّاً الخطاب الأصوليّ – مشدودًا إلى الجدل الافتراضيّ، بقدر ما يبدو مشدودًا إلى المسجَّل فعلاً من مواقف وقراءات مختلفة دافع عنها علماء آخرون، لعلّ في صدارتهم عصرئذ الحنفيّة والمتكلّمين.
بهذا الاعتبار تكون لفئة معيّنة من العلماء مكانةٌ خاصّةٌ لا يشاركها فيها علماء آخرون لا يتّفقون معها على تصوّرها للعلم. فهي التي يجب أن تقود البقيّة وتبيّن لهم الصحيح من الخاطئ والحلال من الحرام. وكما كانت القيادة والتفرّد بالحكم سياسيًّا، شرطًا لاستقامة أمر «الرعيّة » وفق التصوّر السائد عصرئذ، كانت القيادة والتفرّد بالمعرفة دينيّاً، شرطًا لاستقامة أمر «المؤمنين ».
ومن الدالّ في هذا الصدد أن يتّحد الخطابان السياسيّ والدينيّ في مصطلح الرئاسة والزعامة وهو: «أمير المؤمنين ». فيقال «أمير المؤمنين » للخليفة 50 والمقصود الإمارة السياسيّة، ويقال أيضًا «أمير المؤمنين » في الحديث فلان أو فلان 51 ، المقصود الزعامة الدينيّة. وهذا اصطلاح مشترك يشي بتقاسم ضمنيّ للسلطة في المجتمع «المسلم »، بين طرفين: السائس من ناحية، والعالِم أو «رجل الدين » من ناحية ثانية.
الاستقلال ومحاولة التحكّم في اختيارات السلطة
مثّلت مؤشّرات التميّز التي اختصّت بها فئة من العلماء عواملَ متظافرةً جعلتها تتمتّع بسلطة «أدبيّة » في نفوس العامّة وبسلطة عمليّة أتاحتها لها ظروف انهيار السلطة المركزيّة في بغداد في مطلع القرن الثالث للهجرة 52 . وكان هذا الانهيار السياسيّ بالنسبة إلى الجماعة مناسبةً أولى مرّت فيها إلى التحرّك الفعلي والتدخّل في الشأن العام. كان دورها حينذاك تعويض أجهزة الدولة الغائبة 53 ، لفرض النظام إزاء الفوضى المنتشرة في العاصمة بغداد 54 .
في هذه المناسبة تولّى قيادة «الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر » بعض العلماء، ويعنينا منهم أحمد بن نصر الخزاعي الذي سيقود لاحقًا تحرّكًا سياسيًّا معارضًا. قال عنه الطبري: «كان أحد من بايع له أهل الجانب الشرقيّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسمع له في سنة إحدى ومائتين، لمّا كثر الدعّار بمدينة السلام، وظهر بها الفساد والمأمون بخراسان 55» .
وقال ابن الجوزي: «كان أحمد بن نصر وسهل بن سلامة – حين كان المأمون بخراسان – بايعا للناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 56» . وأصبحت الحركة بمثابة جهاز سياسيّ يفرض النظام بالقوّة، وخضع لها الناس خضوعهم للسلطان. قال ابن كثير عن أحد قادتها: «وصار باب داره كأنّه باب دار السلطان 57» . وقال الطبري: «وجعل له ديوانًا يثبت فيه اسم من أتاه 58» ، وكان من بين من أتاه الخليفة العبّاسيّ المنصور بن المهدي الذي نُصّب ببغداد والمأمون بخراسان، ولم ينجح في مهمّته 59 .
ولئن انتهى هذا التحرّك الذي قاده العلماء مع عودة سلطة الدولة عندما استقرّ الخليفة المأمون في بغداد، فإنّ نتائجه كانت على درجة كبيرة من الأهمّيّة من حيث وعي العلماء بمكانتهم الاجتماعيّة-السياسيّة، وخاصّة بقدرتهم على منافسة السلطة، وتوجيه اختياراتها، وتحديد المعايير التي تنظّم حياة المجتمع. لقد جعل منهم تحالفهم التقليديّ مع سلطة الخلافة حرّاساً للاختيارات التي مثّلت أساس هذا التحالف. وسيثبتون على الدفاع عنها ضدّ كلّ مخالف لها.
وجاء حكم المأمون مغايرًا للمستقرّ من سياسة الدولة العبّاسيّة في المسألة العقديّة خاصّة، ومن ثمّة جاء مغايرًا للثوابت التي طالما دافع عنها العلماء الموالون للسلطة السياسيّة «التقليديّة 60» . فتحرّكوا «لنصرة الله ،» وكان في مقدّمتهم العالم أحمد بن حنبل. واتّبعوا أساليب مختلفة في تأليب العامّة على السلطة «الكافرة :» في المستوى الدينيّ كثّفوا الفتاوى المكفّرة للخليفة 61 ولمن سايره في سياسته معتبرين يّاهم أصحاب بدع.
وفي المستوى القضائيّ – الذي كان لهم فيه حضور بارز – عملوا بمعايير التعديل والتجريح التي يرونها، مخالفين في ذلك السياسة القضائيّة التي أقرّتها السلطة، والمتمثّلة في عدم التمييز بين الطوائف.
وفي المستوى السياسيّ تحرّكوا عمليًّا من خلال نشر رقاع في الطرقات تتضمّن تهجّمًا على الخليفة وقدحًا فيه ودعوةً إلى التمرّد عليه. هذا ما أثبته ابن طيفور في «كتاب بغداد » في نصّ هامّ يكاد يتفرّد بما احتواه من معطيات غابت – أو بالأحرى غُيّبت – في المصادر الرسميّة المتداولة: «ذكر إبراهيم بن السنديّ قال: وجدنا رقاعًا في طرقات بغداد فيها شتم للسلطان وكلام قبيح فكرهت رفعها على جهرتها لما فيها، وكرهت أن أطوي ذكرها وأنا صاحب خبر فينقلها من جهة أخرى فليحقني ما أكره، فكتبت: إنّا أصبنا يا أمير المؤمنين رقاعًا فيها كلام السفهاء والسفلة، وفيها تهدّد ووعيد، وبعضها عندنا محفوظة إلى أن يأمر أمير المؤمنين فيها بأمره. فكتب إليّ بخطّه: هذا أمر إن أكبرناه كثر غمزنا به، واتّسع علينا خرقه. فمُر أصحاب أخبارك متى وجدوا من هذه الرقاع رقعة أن يمزّقوها قبل أن ينظروا فيها، فإنّهم إن فعلوا ذلك لم يُر لها أثر ولا عين 62» .
كانت كلّ هذه التحرّكات التي قام بها جماعة من العلماء موقفًا سياسيًّا معارضًا لسياسة بعينها، ولم تكن سعيًا إلى الحلول محلّ السائس، لأنّها كانت تحرص على المحافظة على الهويّة القرشيّة «للخليفة ». فكان الخليفة البديل إبراهيم بن المهدي 63 ، وهو خليفة عبّاسيّ سابق، وكانت له تجربة تمرّد على المأمون قبل هذا 64 . وهو ليس من العلماء 65 لكنّه العبّاسيّ المناسب الذي يستجيب للشروط العقديّة للتحالف التقليديّ بين المؤسّستين الدينيّة والسياسيّة.
ولا تكمن خطورة هذا التحرّك فيما حقّقه سياسيًّا –لأنّه فشل في هذا الجانب أمام ردّ فعل أجهزة الدولة – بقدر ما تكمن فيما حقّقه اجتماعيًّا عن طريق كسب العامّة إلى صفّه وتوسيع الهوّة بينها وبين سلطة الدولة بعد اتّهامها بالبدعة والكفر. والعامّة هي التي ستكون العامل الحاسم في إنهاء سياسة «النشاز » الثقافيّ-الدينيّ بعد فشل التمرّد الثاني الذي قام به العلماء في حكم الواثق سنة 231 ه.
كان هذا التحرّك الثاني من الأهمّيّة بمكان، على الرغم من أنّه لم يلفت انتباه الدارسين مثلما لفت انتباههم التحرّك الأوّل الذي برز فيه ابن حنبل. وقد تزعّمه أحمد بن نصر الخزاعي العالم المحدّث 66 . كان من قادة التحرّك الذي قام مقام أجهزة الدولة في بغداد في مطلع القرن الثالث كما رأينا، قال الذهبي: «كان هو وسهل بن سلامة حين كان المأمون بخراسان بايعا الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثمّ قدم المأمون فبايعه سهل ولازم ابن نصر بيته، ثمّ تحرّك في آخر أيّام الواثق، واجتمع إليه خلق يأمرون بالمعروف 67» .
عاد إذن إلى التحرّك من جديد في عهد الواثق «الكافر » – كما يدعوه – بغاية الإطاحة به وإنهاء سياسته. وقد كان لعلماء بارزين مثل يحيى بن معين وابن الدورقي وأبي خيثمة – وهم ممّن امتحنهم المأمون سابقًا – دور فاعل في هذه الثورة. قال ابن الأثير: «كان سبب هذه الحركة أنّ أحمد بن نصر كان يغشاه أصحاب الحديث كابن معين والدورقي وأبي زهير وكان يخالف من يقول القرآن مخلوق، ويطلق لسانه فيه مع غلظة الواثق وكان يقول إذا ذكر الواثق: فعل هذا الخنزير، وقال هذا الكافر »، ووقعت مبايعته «على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 68» من قبل عدد من العلماء المسايرين له في معارضته للسلطة، ومن قبل العامّة.
إلاّ أن أجهزة السلطة الأمنيّة تنتبه إلى التحرّك وتمسك بهذا «العالم » الذي أراد أن يحلّ هذه المرّة محلّ «السائس » لفرض ثوابت ثقافيّة- دينيّة كان يرى أنّها وحدها تمثّل الحقيقة. وينتهي الأمر نهايةً مأساويّة و «ظافرة » في الوقت نفسه: هي مأساويّة من حيث العقاب القاسي الذي سلّط على المتمرّدين وفي مقدّمتهم هذا العالم، وظافرة لأنّها حوّلت هذا العالم إلى شهيد «دافع عن الحقّ » في تصوّر العامّة. وجاءت هذه النهاية لتدعم النتائج الحاصلة مع نهاية التحرّك الأوّل الآنف الذكر، بطريقة ساهمت إلى حدّ كبير في نسج علاقة التنافس و «الصراع » بين المؤسّستين السياسيّة والدينيّة.
هكذا نتبيّن من خلال هذين التحرّكين أنّ جماعة من العلماء، قد تحوّلت عمليًّا إلى مؤسّسة منتجة لمعرفة دينيّة ذات ثوابت عقديّة، وقادرة على مجابهة السلطة إن هي «زاغت » عن «الصراط المستقيم ». غير أنّ هذا الأمر – وإن ساندته السلطة العبّاسيّة المحافظة عصرئذ – فإنّه سيثير الكثير من الاحترازات في الفكر السياسيّ الرسميّ من حيث ضبط العلاقة بين السلطة السياسيّة من ناحية والسلطة الدينيّة من ناحية انية.
وهذا ما ركّز فيه النظر واضع علم العمران عبد الرحمان بن خلدون، معتبرًا أنّ المسألة الدينيّة تدخل في مهامّ السائس أو «الخليفة »، لكنّ المسألة السياسيّة لا تدخل في مهامّ العالم «رجل الدين .» الفكر السياسيّ الرسميّ وتحديد دور المؤسّسة الدينيّة لقد مثّل الفكر السياسيّ عند ابن خلدون حصيلة تأليفيّة متطوّرة للفكر السياسيّ الرسميّ داخل الدائرة السنّيّة. وكان من بين القضايا المحوريّة التي وقف عندها قضيّة العلاقة بين الدعوة الدينيّة والملك. فقد خصّص لها فصولاً، من قبيل «في أنّ الدول العامّة الاستيلاء، العظيمة الملك، أصلها الدين، إمّا من نبوّة أو دعوة حقّ 69» ؛ و «في أنّ الدعوة الدينيّة تزيد الدولة في أصلها قوّة على قوّة العصبيّة التي كانت لها من عددها 70» ؛ و «في أنّ الدعوة الدينيّة من غير عصبيّة لا تتمّ 71» .
ويصل الأمر عنده إلى درجة تمييز الملّة الإسلاميّة عن سائر الملل بالارتباط الشرطي فيها بين الدين والملك، أي بين الدين والسياسة. فهو يعقد فصلاً بعنوان: «في شرح اسم البابا والبطرك في الملّة النصرانيّة، واسم الكوهن عند اليهود 72» ، يجزم فيه بأنّ اليهوديّة والنصرانيّة ليس من شأنهما الاعتناء بالمسألة السياسيّة، إنّهما من قبيل الخلافة وليستا من قبيل الملك. هنا يمحّض ابن خلدون كلاًّ من هذين المصطلحين لدلالة بعينها: الخلافة هي خلافة النبيّ في القيام بالملّة، فالخليفة «يحملهم على أحكامها وشرائعها، ويكون كالخليفة فيهم للنبيّ فيما جاءهم به من التكاليف .»
أمّا الملك فهو من قبيل «ضرورة السياسة للاجتماع البشري »، أي «لا بدّ لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم 73 عن مفاسدهم بالقهر، وهو المسمّى بالملك ». ووجه تميّز الملّة الإسلاميّة أنّها قائمة على الجهاد ونشر الدعوة «وحمل الكافّة على الإسلام طوعًا أو كرهًا »، وعلى هذا الأساس تندرج وظيفة نشر الدعوة ضمن الوظيفة العامّة السابقة وهي تنفيذ أحكام الشرع. ولذا يحكم بأنّ «الملّة الإسلاميّة اتّحدت فيها الخلافة والملك… وأمّا ما سوى الملّة الإسلاميّة، فلم تكن دعوتهم عامّة ولا الجهاد عندهم مشروعًا إلاّ في المدافعة فقط. فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك ». فهم ليسوا «مكلّفين بالتغلّب على الأمم كما في الملّة الإسلاميّة، وإنّما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصّتهم .»
هكذا يجعل ابن خلدون الدعوة الدينيّة قرينة الدولة، لكنّه سيجعل وظيفة رجل الدين ثانويّة وتابعة لوظيفة صاحب العصبيّة القويّة أي السائس. ويؤكّد ابن خلدون أنّ رجال الدين يكتسبون قيمتهم ومعنى وظيفتهم من ولائهم للسلطة. وأنّهم إن تمرّدوا ورفعوا لواء الإنكار على السلطان أو حاولوا الحلول مكانه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهم ينحرفون انحرافًا خطيرًا عن واجبهم، ويقعون في ارتكاب الإثم. يقول: «ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء. فإنّ كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طريق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله؛ فيكثر أتباعهم والمتلبّسون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرّضون بأنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين، لأنّ الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنّما أمر به حيث تكون القدرة عليه 74» .
وبهذا يعدّل الخطاب السياسيّ الرسميّ تعديلاً هامًّا ما دأب على الإشادة به خطاب العلماء من مبادرات «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » التي جدّت في تاريخ الخلافة العبّاسيّة خاصّة. إنّهم يعتبرونها «أجرًا »، بينما يعتبرها ابن خلدون «وزرًا »، حرصًا منه على عدم التشريع لسلطة أخرى منافسة لسلطة الدولة، أو التشريع لسلطة «ذات رأسين .)bicéphale( » على هذا الأساس حدّد ابن خلدون مكانة العلماء وما تحيل عليه من دور: إنّها لا تتجاوز الاستعانة بعلمهم في الشريعة، و «التجمّل بهم » في البلاط. إنّهم موظّفون لدى الدولة، ولا يحقّ لهم بأيّ حال أن يتطاولوا على السلطان.
يقول: «وصار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة وأخذها بأحكام الشريعة لما أنّهم الحاملون للأحكام، المفتون بها. ولم يكن إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم، وإنّما هو لما يتلمّح من التجمل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية، ولم يكن لهم فيها من الحل والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحلّ والعقد إّنما هو لأهل القدرة عليه. فمن لا قدرة له عليه فلا حلّ له ولا عقد لديه. اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعيّة عنهم، وتلقّي الفتاوى منهم فنعم 75» .
وبين خطاب كخطاب ابن خلدون يلحق المؤسّسة الدينيّة بالمؤسّسة السياسيّة، وخطاب يوكل إليها دور الرقابة على السلطة والمجتمع، ظلّت العلاقة بين الطرفين متراوحة يحكمها الشدّ والجذب. خاتمة هكذا نتبيّن من خلال البحث في تحوّلات العلاقة بين المؤسّستين السياسيّة والدينيّة جملة من المعطيات الاجتماعيّة-الدينيّة، يمكن إيجازها في ما يلي:
- بقدر ما تفتقر السلطة السياسيّة في المجتمع التقليديّ إلى المشروعيّة المستمدّة من نوعيّة السياسة الاجتماعيّة المتّبعة، تلجأ إلى إيجاد المشروعيّة الدينيّة وتحمي من يترجم عن هذه المشروعيّة من علماء يمثّلون مؤسّسة دينيّة.
- إنّ السلطة التي تراهن على المشروعيّة الدينيّة، وتظلّ في حاجة إلى خدمات العلماء أو رجال الدين، يمكن بسهولة أن تُوظّف ضدّها المرجعيّة الدينيّة عندما لا تُرضي اختياراتُها هؤلاء العلماء.
- إنّ السلطة السياسيّة بتشجيعها على وجود جهة تترجم عن «الحقيقة » الدينيّة، وبتقديمها إيّاها بهذه الصفة أمام العامّة – مادّة السلطة – هي في الحقيقة تصنع منافسًا جدّيّاً لها، قادرًا على افتكاك النفوذ الرمزيّ منها، وتركها مقتصرة على وسائل الإكراه المادّية التي لا تبدو نافعة في مستوى السيطرة على الضمائر.
- إنّ الفكر الذي تنتجه المؤسّسة الدينيّة فكرٌ إقصائيّ في الغالب، لا يقبل بسهولة حقيقة الاختلاف، والمؤسّسة السياسيّة عندما تستند إليه، تفوّت على نفسها فرصة إدارة الاختلاف بشكل متسامح يبعث على الاستقرار المجتمعي.
- لم يعد بإمكان المؤسّسة الدينيّة اليوم أن تتجاهل التطوّرات الجوهريّة التي أدخلتها الحداثة على مفهوم الحقيقة 76 ، وهي تطوّرات ليس من شأنها أن تلغي دور هذه المؤسّسة، لكن من شأنها أن تعدّله وأن توجّهه توجيهاً إنسانيًّا روحيّاً، بعيدًا عن الدوغمائيّة وعن الموقف الإقصائيّ.1.
لا يحتوي الرصيد المعجمي القديم للغة العربيّة على عبارة «مؤسّسة » ولا على دلالاتها، إلاّ إذا استثنينا دلالة تأسيس البناء: «وقد أسّ البناء يؤسّه أسًّا وأسّسه تأسيسًا… أسست دارًا إذا بنيت حدودها ورفعت من قواعدها، وهذا تأسيس حسن ». ابن منظور، لسان العرب، مادّة «أسس ». لكنّ غياب الاسم لا يعني بالضرورة غياب المسمّى، لأنّ أسماء أخرى يمكن أن تؤدّي الدلالة ذاتها، من قبيل الجماعة ، وأصحاب كذا ، وأهل كذا .
للاطلاع على باقي تفاصيل المقال، يرجى الضغط على الرابط أسفله :
الهوامش 2. محمّد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1996 ، ص 62 . لكنّ الجابري عندما يعترف أنّ السلطة السياسيّة في الإسلام كانت في حاجة دائمة للتبرير الدينيّ، فهو يعترف بشكل غير مباشر بضرورة وجود فئة قبلت القيام بهذه المهمّة الخاصّة ومن ورائها المهمّة العامّة المتمثّلة في الدفاع عن اختيارات السلطة في سائر المجالات، وهذا هو جوهر المؤسّسة الدينيّة في علاقتها بالمؤسّسة السياسيّة. انظر فصل “الدين والدولة.. في المرجعيّة التراثيّة”، في الكتاب نفسه، ص ص 57 – 63 3. محمّد أركون، نافذة على الإسلام، ترجمة صيّاح الجهيم، بيروت، دار عطيّة للنشر، 1996 ، ص 105 4. المرجع نفسه، ص 106 5. محمّد أركون، الإسلام، أروبّا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، 2001 ، ص 181 6. المرجع نفسه، ص 1847. شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1996 ، ج 8، ص 78 8. المصدر نفسه، ج 8، ص ص 79 – 81 9. المصدر نفسه، ج 8، ص 21510 . الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 1، بيروت، دار الكتب العلميّة، د. ت، ج 2، ص 173 11 . كان المنصور قد حلّ الحلف الهاشميّ الذي جمع بين قومه والطالبيّين، ودخل في صراع معهم حول الأحقيّة بالسلطة. انظر على سبيل المثال: محمّد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقا، الفخري في الآداب السلطانيّة والدول الإسلاميّة، بيروت، دار صادر، ص ص 164 – 168 12 . أبو الحسن بن علي المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت/ صيدا، المكتبة العصريّة، 2005 ، ج 3، ص 250 13 . الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 1، ص ص 62 – 6 14 . المصدر نفسه، ج 1، ص 62 15 . كانت سياسة الدولة العبّاسيّة تستجيب لأهداف تركيز السلطة وتقويتها أكثر ممّا تستجيب لطلب رضا الرعيّة عن طريق سياسة عادلة، وهذا ما يزيد في حاجتها إلى المشروعيّة الدينيّة وإلى فئة العالمين القادرين والقابلين لإضفاء هذه المشروعيّة عليها. انظر في هذه السياسة، أبو الفرج بن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1992 ، ج 8، ص ص 48 – 52 16 . الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 2، ص 159 17 . المصدر نفسه، ج 2، ص 160 18 . كان المنصور يرى أنّ أخبارًا بعينها -وهي تلك التي تنصّ على أحقّيّته بالسلطة- يجب أن “تثبت في ألواح الذهب وتعلّق في أعناق الصبيان” )الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 1، ص 64 ( فضلاً عن روايتها وتدريسها. 19 . انظر بحثنا “الاختلاف وسياسة التسامح” )قيد الطبع( تكفّلت بنشره مؤسّسة “مؤمنون بلا حدود”. 20 . الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 2، ص 174 21 . وأعطى الرشيد لمحدّثين آخرين مبالغ هامّة رضاء منه على ما قدّموه من إجابات على مسائل مختلفة. الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 8، ص ص 498 ، 507 22 . المصدر نفسه، ج 8، ص 208 23 . ابن منظور، لسان العرب، مادّة “ظرف”. 24 . الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 8، ص 502
25 . عبد الرحمان بن الجوزي، تلبيس إبليس، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر، 1994 ، ص 109 26 . ابن عساكر، تاريخ دمشق، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1997 ، ج 32 ، ص ص 453 ، 457 27 . المصدر نفسه، ج 4، ص 6؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 10 ، ص 247 28 . الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 14 ، ص ص 178 ، 185 29 . المصدر نفسه، ج 6، ص 28 30 . جاء في تفسير الطبري جمع للمتداول من الآراء في مسألة إظهار التبرّع أو العطاء منّاً به. ففي تفسير لآية “يا أيّها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي ينفق رئاء الناس ولا يؤمن بالله ولا يؤمن بالله الآخر” )البقرة، 264 ( نجد أنّ المنّ وإظهار التصدّق بالمال يبطل التبرّع، ويشكّك في سموّ غايته من ورائها. يقول: “لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمنّ والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله رئاء الناس وهو مرآته إيّاهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناس في الظاهر أنّه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه، وهو غير مريد به الله ولا طالب منه الثواب، وإنّما ينفقه كذلك ظاهرًا ليحمده الناس عليه فيقولوا: هو سخيّ كريم، وهو رجل صالح “. محمّد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1994 ، مج 2، ص 152 31 . البغدادي، تاريخ بغداد، ج 12 ، ص 271 – 272 ؛ شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 11 ، ص 167 32 . محمّد بن مفلح المقدسي، الآداب الشرعيّة، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1999 ، ج 1، ص 230 33 . المصدر نفسه، ج 1، ص 234 34 . المصدر نفسه، ج 2، ص 37 35 . المصدر نفسه، ج 2، ص 292 36 . ابن الجوزي صفوة الصفوة، بيروت، دار المعرفة، 1985 ، ج 2، ص 178 37 . الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقّه، الرياض، دار الوطن، 1997 ، ص ص 26 – 27 38 . محمّد بن إدريس الشافعي، الرسالة، بيروت، المكتبة العلميّة، ص ص 357 – 359 39 . المصدر نفسه، ص 25 40 . المصدر نفسه، ص 39 41 . المصدر نفسه، ص 41 42 . المصدر نفسه، ص 478 43 . المصدر نفسه، ص 507 44 . المصدر نفسه، ص 507 45 . المصدر نفسه، ص ص 507 – 508 46 . المصدر نفسه، ص 508 47 . المصدر نفسه، ص 509 48 . المصدر نفسه، ص 510 49 . المصدر نفسه، ص 511 50 . عبد الرحمان بن خلدون، المقدّمة، تحقيق عبد السلام الشدّادي، الدار البيضاء، بيت العلوم والفنون والآداب، 2005 ، ج 1، ص 382 51 . يوضّح السيوطي في ألفيّته الجهاز الاصطلاحي المميّز لأصحاب الحديث، وفي مقدّمته مصطلح أمير المؤمنين. يقول: “وبأمير المؤمنين لقّبوا أئمّة الحديث قِدْما نسبوا”. ويعلّق المحقّق أحمد شاكر قائلاً: “أطلق المحدّثون ألقابًا على العلماء بالحديث، فأعلاها أمير المؤمنين في الحديث، وهذا لقب لم يظفر به إلاّ الأفذاذ النوادر… كإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل..”. ألفيّة السيوطي في علم الحديث، تحقيق أحمد محمّد شاكر، بيروت، المكتبة العلميّة، د.ت، ص 92 52 . كان هذا الانهيار خلال الفتنة بين الأمين والمأمون ابنيْ الرشيد، وسمّيت الحركة التي قادها بعض العلماء والصلحاء، بحركة المطوّعة. 53 . في الفصل الذي عقده الطبري للحديث عن حركة المطوّعة وظروف نشأتها سنة 201 ه، نجد حضورًا بارزًا لسجلاّت من قبيل: كان الشطّار يفعلون ويفعلون “ولا سلطان يمنعهم”؛ واعتدوا على قرية كاملة “وجاء أهلها فاستعدوا السلطان عليهم… فلم يردّ عليهم شيئًا ممّا كان أخذ منهم”؛ وأظهروا الفساد في الأرض والظلم والبغي “والسلطان لا يغيّر عليهم”. محمّد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1991 ، ج 8، ص 551 54 . عزّ الدين بن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1987 ، ج 5، ص ص 430 – 431 55 . الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 9، 136 56 . ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 11 ، ص 165 57 . ابن كثير، البداية والنهاية، ج 11 ، ص 8
58 . الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 8، ص 552 59 . المصدر نفسه، ج 8، ص 553 60 . اهتممنا كثيرًا بتجربة المأمون في بحوثنا، وركّزنا في كلّ مرّة على إشكاليّة محدّدة. ركّزنا على إشكاليّةِ أن تخالف السلطة السائد، فتُهمَّش في الخطابات الرسميّة تهميش الواقعين في الأطراف، في كتابنا “في الائتلاف والاختلاف: ثنائيّة السائد والمهمّش في الفكر الإسلامي القديم )ط 2، سوريا، دار بترا، 2010 ، ص 300 – 320 (؛ وركّزنا على إشكاليّة السياسة المتسامحة بين الوجود والعدم في السياسات التي عرفتها الدولة العربيّة الإسلامية، وموقع سياسة المأمون منها، في كتابنا “الاختلاف وسياسة التسامح” )مرجع مذكور(؛ ثمّ – وفي هذا البحث- نرى كيف تتعرّض المؤسّسة السياسيّة – ممثّلة في الدولة في عهد هذا الخليفة- لمناوأة المؤسّسة الدينيّة، وأسباب تفكّك التحالف الوظيفيّ بينهما. ومن خلال مختلف هذه الإشكاليّات، نسعى إلى الكشف عن عمق هذه التجربة وفرادتها في محيطها السياسيّ والثقافيّ، الأمر الذي يجعلها مميّزاتها في تواصل مفهوميّ مع مبدأ التحديث. 61 . أطلق يحيى بن عامر بن إسماعيل سنة 200 ه على المأمون لقب “أمير الكافرين”. تاريخ الأمم والملوك، ج 8، ص 545 62 . ابن طيفور، كتاب بغداد، ص 42
3 . لم يكن هذا التحرّكُ التحرّكَ الوحيد الذي قام به ابن المهدي للإطاحة بالمأمون، بل كان له قبل المحنة تحرّك آخر قام به سنة 210 ه، وفشل فيه. انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري، ج 8، ص ص 602 – 606 64 . سنة 210 ه، ثار ابن عائشة، وهو إبراهيم بن محمّد بن عبد الوهّاب العبّاسيّ، على المأمون ومعه قوّاد من جيش المأمون محمّد بن إبراهيم الإفريقيّ، ومالك بن شاهي، وفرج البغواري، “فدوّنوا الدواوين، وأثبتوا أسماء الرجال، وسمّوا العمّال”. )اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 459 (. وقد كان هؤلاء يسعون إلى تنصيب إبراهيم بن المهدي بدل المأمون )ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 5، ص 475 (. 65 . أبو الحسن الماوردي، أدب الدين والدنيا، ص 30 66 . الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 11 ، ص ص 166 – 167 67 . المصدر نفسه، ج 11 ، 167 68 . ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 6، 69 . ابن خلدون، المقدّمة، ج 1، ص 266 70 . المصدر نفسه، ج 1، ص 267 71 . المصدر نفسه، ج 1، ص 269 72 . المصدر نفسه، ج 1، ص ص 388 – 394 73 . في النصّ الأصلي “يزعمهم عن مفاسدهم بالقهر”، والمعنى لا يستقيم. 74 . المصدر نفسه، ج 1، ص 270 75 . المصدر نفسه، ج 1، ص 378 76. Georges Balaldier, Préface de Mary Douglas, Comment pensent les institutions, Paris, La Découverte, 1999, p. 14.