قراءة في مفهوم العنف السياسي (حنة أرندت نموذجاً)([1]) بقلم عماد الدين ابراهيم عبد الرازق
لا يُعتبر العنف ظاهرة جديدة وليدة اليوم أو الأمس القريب، وإنَّما ظاهرة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ حتى تصل إلى بدء وجود الإنسان على سطح الأرض، وقصة قابيل وهابيل هي أبرز مثال على ذلك. والعنف هو تعبير عن القوّة الجسديّة التي تصدر ضدّ النفس أو ضدّ أيّ شخص بصورة متعمّدة. وقد تمَّ تعريف العنف في المعجم الفلسفي بأنَّه مضادٌّ للرفق، مرادف للشدّة والقسوة، والعنيف هو الشخص المتصف بالعنف، فكلّ فعل شديد يخالف طبيعة الشي يكون مفروضاً من الخارج، فهو بمعنى ما فعل عنيف، وعرّف في العلوم الاجتماعية بأنَّه استخدام القوّة استخداماً غير مشروع أو غير مطابق للقانون. وكلمة العنف (Violence) مشتقة من الكلمة اللاتينيّة (viol are) التي تعني ينتهك أو يغتصب، فالعنف انتهاك أو أذى يلحق بالأشخاص. أمَّا التعريف الاصطلاحي للعنف، فهو الإكراه المادّي الواقع على شخص لإجباره على سلوك أو التزام. وهناك أنواع للعنف منها: العنف البدني، والعنف الشفوي، والعنف بالتسلّط على الآخرين لإحداث نتائج اقتصاديّة ونفسيّة وعقليّة[2].
أمَّا العنف عند (أرندت)، فهي لم تهتم به إلّا من دائرة اهتمامها بالسياسة، ولم تمتهن السياسة وتفكّر فيها إلّا بناء على ما عاشته من ألم الإقصاء والإبعاد والنفي. لقد كان قدر أرندت أن تولد في أسرة يهوديّة، وفي زمن ونظام سياسي رأى في اليهود أكبر أعدائه، حيث تحوّلت اليهوديّة في دولة هتلر النازيّة إلى تهمة يعاقب عليها القانون، لذلك كان أغلب ما كتبته أرندت السياسيّة المناضلة في حركة طلابيّة ألمانيّة وصهيونيّة هي كتابات تدور حول السياسة، ويفتح عينها على التوتالتياريّة والعنف. إنَّ اهتمام أرندت بالعنف إذن أمر طبيعي وعادي عندما نتج عن مسارات تكوينها المعرفي والسوسيوسياسي العامر بكلّ مكونات العنف وأعراضه، صراع عاشته مرّة كيهوديّة غير مرغوب فيها، ومرّة أخرى كطالبة تعيش الخصام بين معلميها، ومرّة ثالثة كمناضلة تحاول بناء أمّة تضع حدّاً لضياع اليهود في العالم. ويجب أن نشير إلى حقيقة هامّة وهي أنَّ أرندت لم تكن الوحيدة بين المفكّرين المعاصرين التي تكلمت في العنف وقامت بتحليله، بل سبقها الكثيرون، مثل سارتر، وسوريل، وفانون. ويجب أن نلفت الانتباه إلى أنَّ كتابات أرندت حول العنف لم تكن إلّا الاطلاع والنظر في كتابات بعض المفكّرين من أمثال إنجلز وكلاوزفتش اللذين يعتبران العنف ظاهرة إنسانيّة قديمة قدم البشر، أمّا أرندت، فتنظر إلى العنف على أنَّه ظاهرة معاصرة، بل وأبرز الظواهر على الإطلاق.
أولاً: تعريف العنف عند أرندت
إنَّ ما يجعل مقاربة أرندت للعنف مقاربة فريدة من نوعها هو استحضارها المبكر للعقل الدلالي للعنف، فهي تشير إلى أنَّ مفهوم العنف غالباً ما يتمّ خلطه مع مفاهيم أخرى مثل سلطة أو قوّة (Force) أو نفوذ أو قدرة، وترى أنَّها مفاهيم يعجز العلم السياسي عن التمييز بينها بشكل واضح، فحتى أكبر المفكّرين، تقول أرندت على لسان أنترفيس، يستخدم مفاهيم السلطة والنفوذ والقدرة بشكل تعسّفي، رغم أنَّ هذه المفاهيم تشير إلى ظواهر متمايزة، كما أنَّها تشير إلى كيفيّات مختلفة.
وترى أرندت أنَّ الاستعمال الصحيح لهذه الكلمات ليس مسألة لغويّة فقط، وإنَّما هو قبل كلّ شيء مسألة تصوّر تاريخي، لهذا السبب ترفض أرندت أن تمتهن لعبة التعريفات، لأنَّ الأمر لا يتعلق فقط بمجرَّد إهمال لغوي، فوراء هذا الغموض الواضح يكمن اعتقاد محدّد، وهو أنَّ الإشكاليَّة السياسيَّة تكمن في معرفة من المهيمِن ومن المهيمَن عليه، لذلك تبقى مفاهيم مثل سلطة ونفوذ وقدرة وقوّة مجرّد مؤشرات على أدوات الهيمنة التي يستعملها الإنسان من أجل الهيمنة على الإنسان، لذا ترى أرندت أنَّ ما يميز العنف عمّا يشابهه من مفاهيم هو طبيعته الأداتيّة، كما أنّه يشبهه في ملامحه الفينومينولوجيّه[3].
ثانياً: السياسة والسلطة والعنف
ترى أرندت أنَّ العنف لا ينفصل عن السياسة والسلطة، ولا يوجد عنف في السياسة على المستوى النظري أكبر وأخطر من استدعاء التصوّر البيولوجي الكلاسيكي للعنف، هذه هي الخلاصة الكبرى التي تنتهي إليها أرندت في خضمّ تفكيرها في العنف، لذا تشير إلى كلّ من نظر في السياسة إلى اليوم لا يجب أن يقول شيئاً آخر غير هذا.
على سبيل المثال يرى ماكس فيبر أنَّ الدولة هي هيمنة الإنسان على الإنسان باستعمال العنف المشروع (أو بالأحرى الذي يعتبر مشروعاً)، وكذلك يرى (ميلز) أنَّ العنف هو الشكل الأخير للسلطة.
إنَّ هذا الاتفاق العام والغريب في نظر أرندت، الذي يجعل من السلطة السياسيّة تنظيماً للعنف، لا يمكن أن يكون له أيّ معنى إلّا إذا اعتبرنا مع ماركس أنَّ الدولة تشكّل أداة للهيمنة في يد الطبقة المهيمنة.
وتقرّر أرندت أنَّ السلطة من الناحية العمليّة هي الحكم، والحكومة لا تمارس غير سلطة الإكراه والإخضاع باسم المصلحة العامّة في الأنظمة المسمّاة ديمقراطيّة وباسم المستبد في الأنظمة التوتالتياريّة. إنَّ العنف في الأولى لا يمارس إلّا باسم الأغلبّية، في حين أنَّ العنف في الثانية لا يقع إلّا للدفاع عن حدود الله والسلطان، إنَّه يتخذ شكل الواحد في الأولى، في حين يصبح الواحد ضدّ الكلّ في الأنظمة الديكتاتوريّة[4].
ثالثاً: السلطة السياسيّة من الحريّة إلى العنف
كلما ابتعدنا عن أفلاطون وأرسطو واقتربنا من الزمن الحديث والمعاصر، انتقلنا من حضارة القول إلى حضارة الفعل، أي ابتعدنا عن المحادثة والنقاش وانغمسنا في حيز العنف والصراع، وإذا كانت السياسة في زمن أفلاطون وعصره تعني الحكم بالعقل، فإنَّها أصبحت مع فيبر وماركس الحكم بالعنف.
وإذا كانت هذه الأخيرة مجالاً لممارسة حريّة القول وحارساً يحمي حقنا في التعبير، فإنَّها تحوّلت عند كلٍّ من ألتوسير وبوردو إلى أداة ووسيلة تمنع الاختلاف في الرأي من الأصل. إنَّ التحوّل الذي أصاب مفهوم الدولة في الزمن المعاصر يرجع في نظر (أرندت) إلى اختراق التصوّر الماركسي للدولة لمعظم التمثل الذي أدّى إلى ظهور شكل جديد من الدولة التسلطيّة التي أصبح العنف داخلها يلعب الدور نفسه الذي تلعبه السلطة، أي إخضاع الناس، وهذا ما يعني أنَّ العنف هو السلطة. وتقرّ أرندت هذا المعطى الذي استعملت فيه الدولة جهازاً يمارس عنفين مشروعين، بعد أن كانت عند أفلاطون حلّاً لعنف المجال الخاص وإكراهه.
أمَّا العنف الأول، فهو عنف مادّي تمارسه عبر وسائلها الأيديولوجيّة. إنَّ المجال العام لم يعد مجالاً لممارسة الحريَّة وخلق المساواة بقدر ما أضحى مجالاً تنتج فيه كلّ أشكال العنف وأكثرها قوّة، في الوقت الذي تحوّل فيه المجال الخاص من مجال يقمع المساواة ويستبعدها، إلى مجال لا مجال للحريّة والمساواة إلّا بداخله. إلّا أنَّ أهمّ انتقال ترصده أرندت هو تحوّل مظاهر العنف السياسي المعاصر الذي لم يعد مجرّد حرب تنتهي بخضوع أحد الطرفين أو مجرّد صراع يبقى أحد طرفيه حيّاً بعد أن يقضي على الاخر. إنَّ العنف السياسي المعاصر يمكن أن يكون صامتاً كما يمكن أن يكون بارداً، حيث لم تعد الحرب مواجهه مباشرة بين طرفي النزاع، بل يمكن أن تنوب عن المتنازعين أطراف اخرى، ويمكن للحرب كشكل من أشكال العنف أن تتخذ أشكالاً ومظاهر أخرى دون المواجهة التي تخلف وراءها قتلى، كالحرب الباردة بين أمريكا وروسيا. ولم تكتفِ أرندت عند تفكيرها في العنف بإعادة إنتاج الخطاب السياسي السائد، بل تجاوزته عندما أقلعت عن المنهج الفيبري والماركسي، واعتبرت أنَّ الدولة والسلطة السياسيّة ليستا فقط أو لا تكونان فقط أداة للإكراه في يد طبقة معيّنة، لأنَّ هذه الطبقة تكون محرومة من استعمال هذه الآلة كما رغبت، كما أنَّها ليست هي الجهاز الذي يمتلك الحق[5].
فالعنف عند أرندت تعبير عمّا هو فردي، ومن ثمّ فإنَّ شعار الواحد ضدّ الجميع هو خير تعبير عن العنف، وبتعبيرها فإنَّ العنف من الناحية الظاهرة قريب من المقدرة، وبالنظر إلى أدوات العنف تبدو كغيرها من الأدوات استخدمت بهدف مضاعفة طبيعة المقدرة حتى تستطيع أن تحلّ محلها في آخر مراحل تطوّرها[6].
وقد ميزت أرندت ثلاثة أصناف من العنف: العنف العسكري، والقمع الداخلي، والعنف المترتب على التقدّم التكنولوجي، وتذهب إلى أنَّ الأخير أكثرها تهديداً للحريّة، لأنّه يترتب عليه قضاء مبرم على الحريّة بصورة عامّة، وحريّة الفكر بصورة خاصّة، إذ توجّه معظم الأبحاث لخدمة ما هو عسكري. وتشير أرندت إلى أنَّ العنف في أكثر صوره ضراوة تجسّد في القرن العشرين، ومع هذا فهو ليس نتاجاً لهذا القرن، وإنَّما نتاج للعنف الإجرامي الذي ورثه هذا الجيل من الأجيال السابقة. وتقول في هذا إنَّ الحماس الضارب لدى اليسار الجديد واندفاعاته ومصداقيته، إن جاز لنا هذا القول، ترتبط جميعها بالقلق الناتج عن التطوّر الانتحاري للأسلحة الجديدة[7].
فالجيل الراهن هو الجيل الأوّل الذي يترعرع في ظلّ القنبلة النوويّة، وقد ورث أبناء هذا الجيل من جيل الآباء تجربة التغلغل الكثيف للعنف الإجرامي في العمل السياسي وتعلموا في المدارس الثانويّة والكليّات أشياء كثيرة عن معسكرات الإدارة والاعتقال وعن المجازر الجماعيّة وأعمال التعذيب وعن المسالخ الجماعيّة للمدنيين خلال الحروب التي بدونها لا يمكن للعمليات العسكريّة الحديثة أن تكون ممكنة، حتى لو اقتصرت على استخدام الأسلحة التقليديّة[8].
وتشير إلى أنَّه قد ترتب على هذا العنف خلق جيل سلبي بصورة واضحة، فاقد القدرة على الإبداع. لقد أضحت الغاية القصوى لهم أن يظلوا على قيد الحياة، ولئن سألت أحدهم سؤالين بسيطين: كيف تريد للعالم أن يكون بعد خمسين سنة؟ وكيف تريد لحياتك أن تكون بعد خمسة أعوام؟ سيكون أيّ جواب مسبوقاً بعبارة شرط أن يظلّ العالم قائماً، وأن أظلّ على قيد الحياة[9].
ويجب أن نشير إلى حقيقة هامّة وهي أنَّ العنف عند أرندت ليس مرادفاً للسلطة، لأنَّ السلطة، وفقاً لما تقول، هي قدرة الإنسان على الفعل المتناسق، وليست خاصيّة فرديّة، بل إنَّها تقود إلى مجموعة، وتظلّ موجودة طالما ظلت المجموعة مع بعضها بعضاً، وحين نقول عن شخص ما إنَّه في السلطة، فإنَّنا نشير إلى أنَّه قد منح تخويلاً من قبل عدد من الناس لكي يتصرّف باسمهم، وفي اللحظة التي تختفي فيها الجماعة التي نتجت السلطة عنها، تختفي سلطة المتسلط بدورها[10].
وترى أرندت أنَّ فقدان القدرة على الفعل المتناسق يدلّ على فقدان مشروعيّة السلطة عنها، وعلى ذلك فالسلطة تختلف عن العنف وتتمايز عنه في المصدر والغاية، فالعنف عندها فردي المصدر والغاية، ويحوي في ذاته فناءه، ولا يترك خلفه ذكرى يدخل من خلالها إلى ذاكرة التاريخ، وما يترتب عليه من حكم إنَّما هو حكم استبدادي يحوي هو الآخر بين طياته أسباب فنائه[11]. إنَّ ما يترتب عليه ليس حريّة سياسيّة، وإنَّما حريّة فرديّة تقوم على القصر، إنّها نمط من أنماط العبوديّة، وفي الوقت ذاته نتاج للفقر الاقتصادي، وليس نتاجاً لأفكار سياسيّة، أي أنَّ ما يترتّب على العنف هو حريّة الفرد التي تستلزم القضاء على حريّة الآخرين[12].
وهناك حقيقة يجب ألّا نغفلها ونحن في سياق الحديث عن العنف عند أرندت، وهي أنَّها تنطلق في بحثها داخل دائرة العنف من رفض كلّ التصوّرات الاختزاليّة التي هي بالضرورة تمثلات إقصائيّة وأحاديّة البعد، تستحضر معطى وتغيّب أكثر من جانب، خاصّة أمام ظاهرة عانت إلى وقت قريب من جهل مركّب تحوّل إلى أكبر عائق من العوائق الإبستمولوجيّة أمام فهم العنف، خاص بتلك المعرفة التي جعلت من العنف ظاهرة عاديّة، لهذا تقرّر أرندت منذ البداية تخطّي هذه العوائق إلى جانب رفضها للتفسيرات البيولوجيّة. وتشير كذلك إلى أنَّ العنف لم يظهر على شكل واحد عبر التاريخ، فالصراعات القديمة حسبما تقول أرندت نقدت كلّ معانيها في الزمن المعاصر، لذلك يختلف العنف المعاصر اختلافاً جذريّاً عن العنف القديم، ولا يماثله إلّا في القليل من بناه وغاياته، إذ لم ينبنِ على غرار هذا الأخير على مبدأ إذا ما ربح هذا الطرف أو ذاك. إنَّ العنف المعاصر كما تحلله أرندت هو عنف عقلاني، ليست الغلبة هدفه، ولا النصر أعزّ مطالبه، بل هو يسعى أساساً إلى إخضاع الخصم وإضعافه عن طريق الكثير من الوسائل، على رأسها التسابق نحو التسلح الذي لا يعتبر إعداداً للحرب واستعداداً لها بقدر ما يعدّ وسيلة لتقوية ذلك الإخضاع، وأقوى ضمانة للسلم، إلّا أنَّ هذا لا يعني أنَّ العنف ينتهي دائماً بالسلم، وأنَّ نهاية الحرب السلام، لأنَّه ما أن ينتهي عنف، حتى يبدأ عنف آخر. إنَّ العنف كما تفهمه أرندت هو ظاهرة كونيّة، فالعنف يستحيل إلى مجرّد خطاب نظري وخطابي ما لم يصطدم صراع الأجيال مع المصالح الملموسة لهذه الجماعة، وهذا هو حال الثورة الطلابيّة في ألمانيا، فالثورة الطلابيّة في ألمانيا ليست هي نفسها في الولايات المتحدة أو فرنسا، لم تقتنع أرندت يوماً ما بمفهوم كما تتبناه الحركات الطلابيّة والعمّاليّة على السواء، لأنَّه مفهوم يعاني الكثير من الأزمات، أهمّها أنَّه غير مبني على نظريّة. كما ترفض أرندت خطابات سارتر الساحرة، وطوباويّة سوريل، وشعوبيّة فانون الداعية إلى العنف[13].
كما ترى أرندت عند تحليلها للنظم الشموليّة أنَّ العنف يتعارض جوهريّاً مع السياسة بل يقصيها ويغيبها تماماً، وأنَّ العنف يعبّر في كثير من الأحيان عن مشاعر لا ترتبط بالضرورة بالسياسة كالخوف من الموت والفناء والبحث عن الخلود. وتشير أرندت إلى ظهور العنف المضاد للسلطة عند غياب الحريّة، والعنف لا يمثل إلّا مسلكاً من المسالك التي تلجأ إليها السلطة، وهي عندما تقوم بذلك تحاول تبريره، إنَّ الأفعال السياسيّة الحقة لا تحتاج إلى تبرير، أمّا العنف، فيوجب في أغلب الأحيان التبرير، لذا تقول أرندت لا يمكن للعنف أن ينحدر من نقيضه الذي هو السلطة، وأنَّه يتعيّن علينا لكي نفهم العنف على حقيقته أن نتفحّص جذوره وطبيعته، والعنف بما أنَّه يتمايز عن السلطة أو القوّة أو القدرة، فهو بحاجة دائماً إلى أدوات، كما أشار إلى ذلك إنجلز منذ زمن بعيد، وفعل العنف تسيّره مقولة الغاية والوسيلة، وبما أنَّ النتائج التي يسفر عنها عمل البشر تتبدّى دائماً منفلتة من رقابة من يقومون بالعمل، فإنَّ العنف يحمل في ذاته عنصراً إضافيّاً تعسفيّاً.
لقد ظلَّ العنف في أغلب الأحيان قضيّة نظريّة وفصاحة لفظيّة، حين كان التصادم بين الأجيال غير متطابق بعد مع التصادم بين المصالح الملموسة للجماعات، وقد كان هذا الأمر ملحوظاً في ألمانيا حين كان من مصلحة الهيئة التعليميَّة أن تجمع أكبر عدد ممكن من الطلاب لحضور الندوات والمحاضرات[14].
رابعاً: طبيعة العنف
تشير أرندت إلى أنَّ العنف ينتج عن الغضب، وهذه مسألة يتفق عليها الجميع، وشأن الغضب أن يكون لا عقلانيّاً ومَرَضيّاً، والعنف الذي هو أدواتي في طبيعته يبدو واقعيّاً بالنظر إلى أنَّه يكون فعّالاً في الوصول إلى الغاية التي من شأنها أن تبرّره. وترى أرندت أنَّ العنف أحياناً يكون سلاح إصلاح أكثر ممّا هو سلاح ثورة، ففرنسا ما كان لها أبداً أن تحوز على القانون الأكثر جذريّاً منذ نابليون ليمكنها أن تبدّل وتغيّر من نظامها التعليمي العنيف لولا أنَّ الطلاب الفرنسيين لم يقوموا بانتفاضتهم، وفي ألمانيا ما كان أحد يمكن أن يلاحظ وجود أقليّات منشقة لولا قيامهم بأعمال استفزازيّة[15].
الخاتمة
رأينا فيما سبق أنَّ اهتمام أرندت بالعنف لم يأتِ إلّا من اهتمامها بالسياسة، وهذا أمر طبيعي وعادي، لما مرّت به من أحداث سياسيّة كبيرة جعلتها تقوم بتحليل ظاهرة العنف التي تراها ظاهرة معاصرة خاصّة بالمجتمعات الحديثة وليست ظاهرة قديمة، كما هو شائع عند معظم المفكّرين السياسيين. والعنف يمثل الصراع من أجل السلطة، بل يمثل أقصى درجات السلطة، فالسلطة تمثل شعار الجميع ضدّ الواحد، أمّا العنف، فإنَّه يمثل شعار الواحد ضدّ الجميع، لذا يمثل العنف اللجوء إلى أدوات القمع، وترى أنَّ القوّة نستخدمها في الاستعمال اليومي كمرادف للعنف، ويتميّز العنف بطابعه الأدواتي، كما أنَّه يمثل الشرط الأولي لوجود السلطة، والحرب أيضاً تمثل شكلاً من أشكال العنف، ويجب أن نشير إلى أنَّ كلّ استخدام للقوّة لإرغام الآخر أو جعله يتصرّف دون إرادته يمثل عنفاً، والعنف قد يكون ماديّاً ملموساً يتمثل في قبضة اليد والمسدّس، وقد يكون عنفاً غير مادّي مثل العنف المؤسّس على علاقات الاستغلال والهيمنة.
ويأخذ العنف صورتين مختلفتين: عنف الحياة اليوميّة، والعنف السياسي؛ ففي الأوّل يتّجه العنف ضدّ الضحيّة في ذاتها، وفي الثاني فإنَّ ضحيّة العنف ليست مطلوبة في ذاتها، إمَّا لأنَّها ترمز لنظام سياسي، أو يهدف منها إلى خلق مناخ إرهابي يسبّب أزمة للنظام السياسي. كما يجب أن نوضح أنَّ العنف عند أرندت ليس مرادفاً للسلطة، كما أنَّ السلطة مغايرة ومختلفة عن العنف في المصدر والغاية، فالعنف يحوي في ذاته فناءه، ولا يترك خلفه ذكرى يمكن أن يدخل بها ذاكرة التاريخ، وما يترتب عليه من حكم إنَّما هو حكم استبدادي يحوي هو الأخر أسباب فنائه. والعنف بوجه عام يحتاج إلى تبرير وتوجيه عندما يكون في طريقه إلى الهدف الذي يتبعه، وفقدان السلطة يصبح مغرياً لأصحابها باستخدام العنف.
المراجع:
1- رجب بدبوس: القاموس السياسي، دار الكتب الوطنيّة، بنغازي، 1996.
2- حنة أرندت: في العنف، ترجمة: إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، 1992.
3- حنة أرندت، أسس التوتالتياريّة، ترجمة: أنطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، 1993.
4- Hannah Arendt: the human condition, Chicago1958.
[1]– نشر في الملف البحثي “العنف: قضايا وإشكالات” بتاريخ 29 مارس 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تقديم وتنسيق: الطيب بوعزة ومحفوظ أبي يعلا.
[2]– رجب دبوس، القاموس السياسي، دار الكتب الوطنية، بنغازي، 1996، ص 219.
[3]– حنا ارندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، 1992، ص 65
[4]– حنا ارندت، أسس التوتالتيارية، ترجمة انطوان أبو زيد، دار الساقي، بيروت، 1993، ص 85
[5]– Hannah Arendt: the human condition, Chicago, 1958, p78.
[6]– حنة أرندت، في العنف، ص 6.
[7]– المرجع السابق، ص 27.
[8]– حنة أرندت، في العنف، ص 25.
[9]– المرجع السابق، ص 18.
[10]– المرجع السابق، ص 39.
[11]– Hanna Arendt: The human condition, p244.
[12]– Hannah Arendt: On Revolution, new York, p34.
[13]ـ حنة أرندت، في العنف، ص 87.
[14]– المرجع نفسه، ص 98.
-[15] المرجع السابق، ص 56.