قراءة في النقد المسيري لـ”ما بعد الحداثة” بقلم محمد الدخاخني قد يبدو، للوهلة الأولى، أن مصطلح “المادية السائلة” الذي يصك به وينعت عبد الوهاب المسيري (ت:2008) ما بعد الحداثة – بجانب ترسانة أخرى من الصكوك كـ: المرحلة الاستهلاكية، الفردوسية، البراغماتية، اللاعقلانية، المادية، المادية الجديدة، المادية السائلة[1] (التي لا يفتأ يكررها ويحلو له أن يكررها) – قد يبدو فعّالا وذا”قدرة تفسيرية وتركيبية عالية”، في حال استخدمنا المنظومة التوصيفية المسيرية، من حيث إن أعلام التيار ما بعد الحداثي، كـ نيتشه وهيدجر وفوكو وديلوز وغاتاري وليوتار وبودريار وفاتيمو وإيهاب حسن[2]، يمتلكون أطروحات مادية، إلّا أن اللامفكر فيه أو المسكوت عنه بفعل هذا الصك هو نوع مهم من القراءات التي يُمكن وسمها بالما بعد الحداثية؛ تلك التي تقرأ أعمال هؤلاء المذكورة أسماؤهم أعلاه، وتتخذ موقفا من العقل كجوهر حداثي، وتخرج منها بنتائج أقرب للّامعقول، بل تزحزحها لنواح صوفية وعرفانية وإشراقية، بما ينتج، مثلا، أطروحات تتعاطى بأثر رجعي مع فلاسفة أو صوفية مسلمين باعتبارهم تفكيكيين، كما يفعل كلٌ من أيان ألموند وعلي حرب مع ابن عربي[3]، وكما يفعل عبد الكريم سروش مع جلال الدين الرومي[4]، كذلك ما يتداخل به طه عبد الرحمن مع إشكالات العقل وتهويماته وموقفه النقدي من النظرة اللاتكافؤية التي يقيمها محمد عابد الجابري (ت: 2010) بين العقل البياني والعرفاني والبرهاني – مع أخذنا في الاعتبار للأبعاد المنطقية واللغوية التي يضفيها طه عبد الرحمن على منهجيته بغية تأصيلها أو تأثيلها، حيث تتوافق والمجال التداولي الإسلامي العربي، ولا نبالغ في حال قلنا أنها شيفرة تميزه[5]-. من ثم يبقى التوصيف المسيريّ أسير التجربة الما بعد حداثية الغربية، حتى في نقده لها، وهو ما يسهّل – استراتيجيا – التخلص من مثل هذه التصورات بمُجرّد نعتها بالماديّة وربطهابالرأسمالية.
يرى المسيري أن: “منتجات الحضارة الغربية الحديثة في مرحلة السيولة […] لا تقوض خصوصيتنا وهويتنا وتماسكنا وحدنا وحسب، وإنما تقوض خصوصية وهوية وتماسك المجتمعات الغربية ذاتها”[6]، وتصورنا أن هذا القول بقدر ما هو توصيفيّ تحليليّ للنزعة أو الحالة ما بعد الحداثية، من حيث إن هذه الأخيرة تقدم الاختلاف على الهوية والتشظي على الوحدة، إلّا أنه أيضا تضليليّ من حيث إيمان الأطروحات ما بعد الحداثية بالخصوصية في إطار الاختلاف، أو بتعبير فوكو: “اليوتوبيا غير المتجانسة”، كذلك بتعبير ديلوز: “التدمير الطريف”[7]، كما يتضح هذا في حملتهم على “حقوق الإنسان”، باعتبارها إيديولوجيا تنميطية شموليّة، لا تؤمن بالتنوع، فضلا عن مقت أطروحاتهم للأنساق الكليانية الشمولية ودعوتهم للتفكير في حكايات أو سرديات صغرى والعمل على اليومي والجزئي. كما يقول: “يتصور البعض أن ما بعد الحداثة بإصرارها أن كل شئ خاضع للصيرورة وأن الواقع تعددي، هي أيديولوجيا ثورية تعددية. لكن ما لا يدركه هؤلاء أن ما بعد الحداثة هي دعوة للتسوية لا للمساواة، وأن تعدديتها هي إنكار للمعيارية ولأي نظم من أي نوع”[8]، وينطبق على هذه الفقرة ما ينطبق على سابقتها، فبقدر ما هي دقيقة في كون ما بعد الحداثة غير معيارية، لأن المعيارية لها بعد أخلاقي موضوعي أو الأخلاقية لها بعد معياري وما بعد الحداثة لا معيارية لا أخلاقية، بقدر ما هي مضللة من حيث إن ما بعد الحداثة لا هي دعوة مساواة ولا دعوة تسوية، طالما تحدثنا في “المستوى الثقافي”.
وفي تصورنا أن استراتيجية المسيري الهجومية لما بعد الحداثة لا تتعاطى مع وسائطها المعرفية أو أدواتها التحليلية والتوصيفية أو بناها الفكرية، كموقفها من الحقيقة والسلطة والأنساق الفكرية الشمولية والموضوعية والتراث الفلسفي الغربي والاختلاف واليومي والجزئي والمثقف والجذور وتأكيدها على مكانة الريفي والفطري والخصوصي والعرفي[9]، إنما تقفز على ذلك كلّه لتقبض على بعض النتائج وتضخمها، فتستحيل ما بعد الحداثة – عند المسيري – لأيديولوجيا تهدف للشذوذ الجنسي وتدمير الأسرة وتهشيم خصوصية الشعوب ونشر الفن المقزز[10]. كذلك، رغم محاولاته الرصينة لتقديم تصور جديد للعقل العربي والمسلم عن اليهود ورفضه للنظرة السكونية والقارّة لهم، إلّا أن المسيري عند نقده جاك دريدا Jacques Derrida، الفيلسوف الفرنسي، بدا بعيدا عن منهجه في الطرح والتداول، فهو حين يتحدث عن دريدا يقول: “إن هامشية دريدا جعلته مرشحا لأن يكون فيلسوف التفكيك الأول، فهو نفسه إنسان مفكك تماما: فهو فرنسي ولكنه من أصل جزائري، وهو جزائري ولكنه عضو في جماعة استيطانية فرنسية، وهو يهودي سفاردي لا ينتمي إلى التيار الأساسي لليهودية، وهو لا يؤمن بهذه اليهودية ولا يكن لها الاحترام ولكنه مع هذا يشير إليها دائما. وإن كان هناك دال بدون مدلول، فإن جاك دريدا الفيلسوف الفرنسي الجزائري اليهودي السفاردي هو هذه الحالة، فهو ليس فرنسيا ولا جزائريا ولا يهوديا ولا سفارديا”، والمرء لا يستطيع أن يقابل قراءة المسيري لدريدا بأي شكل جاد؛ فالرجل لا يتعاطى مع مفكر له نصوصه، وإنما مع مريض مُحمّل باضطراب الهوية والعقد النفسية يحتاج لعلاج دوائي أو سريري! فضلا عن أنه يختزل التفكيكيه في دريدا ثم يختزل دريدا في هيئة مريض. وهنا يثور السؤال حول الموقف من بقية التفكيكيين غير اليهود، كذلك من شخصية كإداورد سعيد، لطالما أفاد منها المسيري، تنعت نفسها بـ”خارج المكان Out of Place”[11]، من حيث شتاتها بين فلسطين ومصر وأمريكا، أو بين الهويات، بل بين اسمها نصف الإفرنجي نصف العربي، بل – فوق ذلك – من اللاجئين والبدون stateless. وهذه المقارنة – بالطبع – تصح في حالة واحدة هي حشر أنفسنا في النقد الأنثروبولجي النفسي الذي يشتغل عليه – هنا – المسيري، وهو نهج نقدي لنا عليه تحفظات عدة ليس هنا مجال بسط القول فيها.[12]
على كل، لما كان “دريدا المسيري” على هذه الهيئة، صار طبيعيا أن يكون ميشال فوكو Michel Foucault، الفيلسوف الفرنسي، على هيئة قريبة منها، فرغم نقد صاحبنا للإنسان ذي البعد الواحد، إلّا أنه لا يتعاطى مع فوكو إلا من حيث هو: “الشاذ الجنسي الذي يذهب لسان فرانسسكوا كي يمارس علاقة سادية مازوكية مع فحل أمريكي!” وهو لا يتجاوز ذلك ليقرأ أطروحاتهولو من هذا المنطلق، كما فعل جيمس ميللر James Miller في كتابه: ولع ميشال فوكو The passion of Michel Foucault[13]، حيث قرأ أعمال فوكو من منطلق هويته كمثليّ، فكل ما يفعله المسيري القيام بتسمير فوكو في وصمه، والنظر له بشكل سكوني وقار، ثم تعليب أفكاره في جُملة واحدة تقول: “فوكو يؤمن بميتافيزيقا الصراع”.
بهذا ظل المسيري، في أحسن الفروض، على يمين ناقدي الحداثة، مع تشومسكي وهابرماس وغلنر ومدرسة فرانكفورت،[14] في حالة نوستالجيا لعصر الأنوار، وهو ما يتجلى في شبقه بفن عصر النهضة، وهو فن يمتاز بالوحدة والنسق المغلق والتمثل، رغم انتقاده له (أي: انتقاده لعصر النهضة)، بل في مرتبة أكثر يمينية وأشد تبسيطية، حيث زيادة النبرة الأخلاقية[15]والسمت الهجائي عن العبارات المحمّلة بثقل فلسفي وتداخل مُتماسك. وفي أسوء الفروض، ولا نجور على الرجل في حال قلنا ذلك، فإن المسيري حين يروم نقد الحداثة يجلب أطروحات ما بعد الحداثة، وحين يشتغل على نقد ما بعد الحداثة يتدجج بمقولات الحداثيين، وذلك على طريقة “اللهم اضرب الظالمين بالظالمين”، وهذه “المنهجية”تعد تقليدا عتيقا لطالما انتشر في مؤلفات الملل والنحل.
وبهذه المناسبة، نود التعليق على نقطتين منهجيتين في أطروحات المسيري بشكل عام: (1) لا يُمكن لباحث، يروم الجدة والإضافة في مُداخلاته، أن يجترح الحديث في مسألة ما دونما التحلي بمنظومة مصطلحية ومفاهيمية ما، والبُحاث في ذلك على ثلاثة أنواع:
أ- باحث مُحلى بمنظومة صاغتها مدرسة أصيلة أو وافدة، ويعمل على التوسل بها في غير ما تغيير أو تحريف وهو السلفي في كل مذهب أو تيار؛
ب- باحث يصك آلياته التفسيرية أو الوصفية تحت معية مدرسة معينة، مع إدخال بعض التقويمات التي سببها حزمة من الظرفيات،وهو الإصلاحي؛
ج- باحث يحفر أو ينحت آلياته التحليلية، داخل مجال تداولي محدد، في غير ما التزام بمدرسة بعينها مع إصراره على تأسيس منهجه الخاص غير المألوف وغير المسبوق، وهو داعية نفسه. وهم أيضا على الترتيب: المُقلد والمجتهد وذو العلم. ونؤكد أن كل نوع من هذه الأنواع يحتاج محددات وأشراط إضافية كي يستقيم عوده ويستقر عموده، كما أن مواطن الإبداع لا يخلو منها معين أي نوع فيهم بحال، ويضاف إليه إدراكنا للأنواع البينية بين كل نوع والذي يعقبه. وفي محيطنا الإسلامي العربي وافرة هي نماذج التقليد وبوتيرة أقل أمثلة الاجتهاد. أما قسم ذوي العلم، ففيه جفاف شديد. ويقع عبد الوهاب المسيري، في اعتقادنا، في مسافة بينية بين نموذجي “السلفي” و”الإصلاحي”، بحسب تقسيماتنا لأصحاب المنظومات الاصطلاحية. (2) تُثير فكرة تكتم المسيري على مراجعه أو مصادره الكثير من الأسئلة، والتي قد تكون سيئة النية، بل تجعل الباحث – في فكر الرجل – غير قادر على مقاومة اعتبارات التوثيق البحثي وما هو أكثر، ورغمأن الاستفاضة في هذه النقطة تحتاج معالجة مستقلة، خصوصا لآراء المسيري في قضية “المراجع”، والتي تحدث عنها في صدارة موسوعته الثانية، كما نجدها منثورة في غير موضع من كتاباته، كذلك رغم الرأي المقبول – عندنا – الذي يرى أن سبب عزوف المسيري عن إدراج مراجعه ومصادره – أو تكتمه عليها – هو عدم اعتقاده أن أعماله أعمال نهائية وأنها مجرّد مسودات جادة[16]، رغم ذلك كله، فإن المسيري بسكوته عما رجع إليه وتوسل به من نصوص وأعمال، فإنه، ونقول ذلك على سبيل المثال لا الحصر، يجعلنا نعتقد أنه استخدم كثيرا – في معالجته لتيارات ما بعد الحداثة – كتاب ديفيد هارفي David Harvey، حالة ما بعد الحداثة The condition of Postmodernity[17]، ونقل منه – كما نقول – بـ”الحرف الواحد”، دونما كشف المصدر للقارئ، وهو ما يعيدنا للنقطة (أ).
في الأخير، يبقى عبد الوهاب المسيري واحدا من أهم المفكرين العرب في العقدين الأخيرين، ومن أوسعهم أثرا، في تقديرنا، وهذه القراءة التي قدمناها لا تروم الأستاذية على مفكرنا الكبير، ولا التقليل من شأنه، كما أنها لا تهدف نصرة تيار فكري معين، لكنها تجترح قراءة نقديّة لأعمال المسيري وأطروحاته بما يثريها ويغنيها.