كتب منصور الناصر
تركت قيادة ما أسميه جيل الألفين في العراق التظاهرات التي انطلقت يوم 1 أكتوبر..آثارا أدهشت الجميع أفرادا وحكومات، فقد كان حماسهم للتعبير عن أنفسهم مثيرا جدا للإنتباه.
كان واضحا فقدان أفراد هذا الجيل لشيئ ما..لم يعد تحالف السلطة-السياسة-الدين يقدمه.هذا الاحساس تولد لدي حين زرت صدفة قبل قليل، مكانهم المفضل على الانستغرام..فرحهم باكتشاف هوية تجمعهم كان طاغيا، الكل يتفنن بارتداء العلم العراقي..البعض يبكي تأثرا..فين الفولة.. كما يقول المصريون؟الفولة برأيي، إنهم وجدوا أنفسهم أخيرا ..وجدوا ما يستطيعون التوحد تحت رايته والتعبير عن أنفسهم..
جربوا قبل ذلك الكثير..ووجدوا انه لم يكن مقنعا ولا كافيا.. بل إنه كان عاملا محفزا يفرق بينهم.. يهدر طاقاتهم ويستعبدهم.مشكلة الجيل الجديد مثل أي جيل سابق، ثقافية،الفرق أن أجيال القرن الماضي كانت تجد نفسها في الانتماءات الدينية والعقائدية، وهي انتماءات تفرق وتعزل، تحجب وتمنع، تتحيز وتمانع، تحاول بعبثية غبية أن ترغم الجميع على اتباع مذهب واحد وقائد واحد وعلى الجميع “الاقتداء” به..هذا النموذج لم يستطع هضمه الجيل الألفي الذي ولد قبل ومع نهاية القرن العشرين، لأنه جيل نشأ مع ثورة الإنترنت والموبايل وألعاب الاونلاين..جيل يدرك بحدسه أن “معناه” وهويته لا يستطيع الخطاب الديني بطقوسه الانعزالية وتعاليمه المتشددة أن تمثله...فهو يشعر “ويرى” أن هناك تناقضا بين الثقافة “المنفتحة” التي ينشأ عليها نظرائهم في العالم، والثقافة التقليدية التي تدعمها السلطة،انه جيل لا يريد أن يكون تابعا، بل حرا مستقلا ويمكن له أن يبدع بنفسه ما يشاء..هكذا تعمل وسائل الاتصال الحديثة..ان تكون لديك صفحة بروفايل خاصة باسمك.. في هذا الموقع أو ذاك هنا.. ايميل خاص، موبايل خاص، CV خاص، تميز في أمر ما.. ولو كان على شكل قصة شعر..بل لك ان تقرر “بنفسك” أن تكون لديك عدة أسماء، وليس اسما واحدا..هذه كلها ثقافة..تحدد مسارات وتوجهات معينة سلفاانها أنساق وفقا لفوكو..وليست خيارات...سلطات ما بعد ٢٠٠٣ لم تفهم الأمر ولن تفهمه، فهي تعتمد ثقافة “نسقية” خارج التاريخ، وتظن انها صالحة لكل زمان ومكان، ولا إشكال بالتالي في تطبيقها مع تعديلات بسيطة في أي وقت..هكذا تفهم السلطة الجديدة الأمور..هذه قدرتها القصوى.لهذا قدمت ما لديها.. و”حشدت” عراقيا منذ ٢٠٠٣ كل قواها في تجييش الجيوش، معاداة التوجهات الأخرى وإثارة مخاوفها، مع تلقين “الأتباع” ثقافات العصور الوسطى، وجعلتها النموذج الأسمى والأقدس،لهذا ملأت الشوارع بالمواكب، ودعمت الشباب وشجعتهم على ممارسة مختلف أنواع الطقوس..
جرب هذا الجيل تلك الطقوس كلها، لم يعترض كثيرا، بل تطرف بعضهم فيها،حتى شعر في النهاية انها غير كافية، فلم تقدم له زادا يكفيه لترشيح نفسه إلى العالم المعاصر، انه زادٌ على العكس، يرفض هذا العالم، ويحاربه، من جهةويحاول طمس شخصية الفرد لصالح الجماعة من جهة أخرى..وصفات الثقافة السلطوية هذه على اختلاف “مرجعياتها”، هي السبب، فهي تسير وفق تيارين أساسيين مهيمنين هما ولاية الفقيه شيعيا والسلفية سنيا، على اختلاف تمظهراتهما.هذان التياران أخذا فرصتهما لأقصاها، وهما في طريقهما الطبيعي للانهيار التام.فلم يتمكنا في النتيجة سوى إضافة المزيد من الخراب على الخراب..ولم يعد شيء يشفع لأنصارهما، سوى الشكوى من سياسة القوى الكبرى ضدهما.. أو التغني بالانتصار في بعض المعارك الهامشية هنا أو هناك،
هذا التداعي السلطوي-الثقافي، لمخلفات القرون الوسطى، إضافة إلى واقع الفقر والفساد والبطالة وانعدام الفرص والتغيرات الاجتماعية الهائلة، ترك أثره بين الشباب الذين باتوا يرون بضغطة زر شباب العالم ويعقدون مقارنة بين واقعهم المنغلق العدواني، وواقع نظرائهم المنفتح الإيجابي..
هنا كان العلم العراقي هو الملاذ..فقد كان ينطوي على “المعنى” المفتوح الذي يتقبل وجود الجميع تحت ظلاله الدافئة.. وهي ظلال وطنية تعتز بخصوصية أفرادها وعاداتهم لكنها لا تقدمها باعتبارها أفضل العادات والثقافات.. إنما هي مجرد لون من ألوان الحياة..لا ينفي ثقافة الآخر ولا يجعلها عدوة له..وهذا ما فشلت في تحقيقه اديان السلطة و”أتباعها”.
يتبع