أزاميل/ سمير أمين/ الحوار المتمدن-العدد: 4001 – 2013 / 2 / 12 – 15:41
أثارت مقالتي عن الإسلام السياسي المنشورة في مجلة “منثلي ريفيو” الأمريكية والتي ذكرتها في التقديم تعليقات مفكرين اختلفوا مع أطروحاتي القائلة بأن الإسلام السياسي يخدم موضوعيًا أهداف إستراتيجية واشنطن. ولم تفاجئني هذه التعليقات التي أتت بما كنت أنتظره.
دحر حطة واشنطن والإسلام السياسي
1- كان الهدف من المقالة طرح إستراتيجية تسعى إلى إنجاز هدفين هما: دحر خطة واشنطن التي تسعي إلى تكريس السيطرة العسكرية الأمريكية على صعيد الكوكب من جانب، ودحر الإسلام السياسي من الجانب الآخر.
وأزعم أن الهدفين لا يقبلان الفصل بينهما. أضيف أن أحزاب الإسلام السياسي “المعتدلة” و”المتطرفة” لا تختلف– في رأيى- من حيث جوهر الهدف الذي تسعي إلى إنجازه، بل فقط في وسائل تحقيقه، وبالتالي فإن الطرفين يتكاملان أكثر من كونهما يتناقضان.
علي أن عرض الأسباب التي دفعتني إلى هذا الموقف يفتح باب النقاش حول مسائل نظرية هامة وأعمق تخص مفاهيم “الحداثة” و”التمركز الأوربي” و”التكوين التاريخي للثقافات السياسية” لمختلف الشعوب وما يترتب عليه من اختلاف في تحديد طابع التحدي.
2- لقد اقترحت فك ألغاز مفهوم “الحداثة” انطلاقًا من تحليل يشدد على مشاركة تبلور الحداثة من جانب، وبزوغ الرأسمالية في الآفاق من الجانب الآخر، حيث إن الظاهرتين لا تنفصلان عن بعض.
ليس هذا المنهج هو منهج خطاب المركزية الأوروبية. بل على العكس تمامًا، أوضحت أن التشديد على هذه العلاقة التاريخية الجوهرية يلغي صلاحية مقولات التمركز الأوربي. وبالتالي أزعم أنني قدمت نقدًا جذريًا لهذا الخطاب، نقدًا يتجاوز سرد ظواهر تجلياته (علي نمط ما قدمه ادورد سعيد).
وتوصلت إلى أن الحداثة “القائمة بالفعل”، بسبب علاقتها المباشرة مع تبلور الرأسمالية التاريخية- وأقصد هنا النمط التاريخي للرأسمالية التي لا يمكن فصلها عن نمط للتوسع على صعيد عالمي له طابع استعماري، “استقطابي” من الأصل- أن هذه الحداثة غير مكتملة، بل غير متناسقة في تأثير فعلها على مجتمعات المراكز والتخوم في المنظومة العالمية؛ فهي حداثة “مشوهة” وأن التحدي الحقيقى- في رأيى- هو كيف يمكن تطوير الحداثة لتتجاوز حدودها الراهنة، وذلك في مقابل الدعوة إلى “التخلص” من الحداثة.
3- أما القول بأن تدهور أوضاع المجتمعات الإسلامية وتفاقم الفقر في صفوف شعوبها هو السبب الذي يقف وراء انتشار دعوة الإسلام السياسي فهو قول صحيح، ولكنه لا يعدو أن يكون بديهية.
إن صميم أطروحتي فيما يخص توسع الرأسمالية على صعيد عالمي يقوم على توضيح الآليات التي أنتجت بالضرورة “الاستقطاب”، بمعني تصاعد اللامساواة بين المراكز والتخوم، وذلك منذ الأصل. ثم قلت إن هذا التوسع ذو طابع استعماري (وهو مصطلح مرادف للاستقطاب) يتجلي في نهاية المطاف في تخريب حضاري بالنسبة لشعوب بأكملها، بل يؤدي أحيانًا إلى إبادتها.
فالمنتظر في هذه الظروف هو بالفعل انبثاق ردود فعل من الشعوب الضحايا. ويمثل الإسلام السياسي نمطًا من رد الفعل المنتظر، بيد أنه لا يمثل النمط الوحيد المحتمل.
فإذا كانت أطروحتي حول الاستقطاب الذي يصحب بالضرورة توسع الرأسمالية التاريخية صالحة، فإن الاستنتاج المنطقي الذي لا مفر من التوصل إليه يتلخص في القول بأن مواجهة التحدي تقتضي الخروج من منطق الرأسمالية، وبالتالي فإن السؤال الصحيح ليس هو معرفة ما إذا كان الإسلام السياسي رد فعل على تدهور أوضاع المجتمعات الإسلامية أم لا (فله طابع رد الفعل دون شك)، إنما السؤال هو ما إذا كان مشروع الإسلام السياسي قادرًا على إنجاز الهدف (الخروج من الرأسمالية) أم لا. وإذا كانت الإجابة سلبية لأصبح هذا المشروع بديلًا قائما على أوهام.
4- لم أجمع في سلة واحدة الإسلام السياسي المعاصر وإسلام المجتمعات في عصور تاريخها السابقة على الغزو الاستعماري. على العكس من ذلك لفت النظر إلى الاختلاف الجوهري بين الظاهرتين.
وقد بذلت بعض المجهود للنظر في مقام الديانات في البناء الاجتماعي “القديم” (أي السابق على الرأسمالية وعولمتها ونوع “الحداثة” التي صحبتها) ودورها في إعادة تكوين المجتمع بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتم التركيز في مقولاتي بهذا الصدد على المقارنة بين نمط “أوربا المسيحية الإقطاعية” من جانب ونمط العالم العربي الإسلامي (قبل الغزو الاستعمارى) من الجانب الآخر، ثم إلقاء بعض الملاحظات حول مقام الديانات والعقائد الميتافيزيقية بشكل عام في عصر الهلنستية (انطلاقًا من الإسكندر ثم الإمبراطورية الرومانية) وفي تاريخ الصين.
وكنت توصلت إلى استنتاج أعطيه أهمية حاسمة، ألا وهو أن مجالات التماثل في دور الأيديولوجية الدينية في هذه المناطق والعصور أهم من أوجه التباين الناتج عن “خصوصيات” كل منها.
كأن الخاص هنا لم يعد كونه تجليًا للعام، وضربت الأمثلة التي أراها مقنعة بصلاحية استنتاجي، وأهمها الاهتمام المماثل هنا وهناك في تطوير فكر يتيح التوافق بين “العقل” (بمعني منطق أرسطو) و”الإيمان”.
وقد اقترحت تفسيرًا لهذا التماثل الدال. وهو أن الأيديولوجيا تقوم في جميع هذه المجتمعات التعددية بدور محوري في إضفاء شرعية على نظام حكم له طابع “خراجي” (ويشمل هذا مجموعة من الأنماط الإقطاعية الأوربية وأشكالا أخري “شرقية” إسلامية وصينية وغيرها)، كما اقترحت أن المستوي السياسي (السلطة) هو المسيطر على المستوي الاقتصادي في هذه النظم (في مقابل انقلاب العلاقة وهيمنة “قوانين الاقتصاد” التي تصبح “مستقلة” في النمط الرأسمالى)، وأن النمط المطلوب الفعال للأيديولوجيا المناسبة للقيام بهذا الدور (أي سيطرة المستوي السياسي على المستوي الاقتصادى) هو النمط النمط “الميتافيزيقي المطلق” (في مقابل مقام العلوم الحديثة التي تكتفي بالبحث عن حقائق جزئية ونسبية)، وأن العقائد الدينية (هنا المسيحية والإسلام) مثلت الشكل الذي اتخذه الخطاب الميتافيزيقي المطلوب. علمًا بأن هناك مذاهب ميتافيزيقية أخري غير دينية الطابع قد قامت بدور محوري مماثل في عصر الهلنستية وفي عصر سيادة الكونفوشيوسية في الصين.
كما توصلت إلى استنتاج آخر لا يقل أهمية، وهو أن ظهور الرأسمالية (ومعها الحداثة) قد أنتج انقلابًا في العلاقة بين المستويين السياسي والاقتصادي، وبالتالي أضفي على المستوي الأيديولوجي مقامًا ومحتوي آخر تمامًا. حيث إن مقام الديانة وفهم محتواها قد تجددا، فألغيت المفاهيم القديمة، أو على الأقل- إذا استمر الاعتماد عليها ظاهريًا- فقدت فعاليتها في إدارة المجتمع “الحديث”، في المراكز وفي التخوم.
أما العلوم- بمعني البحث عن حقائق جزئية ونسبية- فقد أصبحت أهم من البحث عن الحقيقة المطلقة الشاملة.
5- وبالتالي فإن الإسلام السياسي هو ظاهرة حديثة وليس استمرار لظاهرة قديمة. هذا هو ما قلته بالتشديد عليه.
قلت أكثر من هذا. قلت إن جميع المذاهب والحركات النشطة في الساحة في العالم المعاصر، والفاعلة في المجالات المختلفة الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، هي “حديثة” لأنها- بكل بساطة- لا يمكن فصلها عن واقع الرأسمالية، فالليبرالية الديموقراطية البرجوازية (المحافظة والإصلاحية)، والمشروعات الاشتراكية (الاشتراكية الديموقراطية والشيوعية التاريخية)، والفاشيات، والأيديولوجيات القومية وتحت القومية، وأيديولوجيا العنصرية للاستعمار، وخطب المقاومة للشعوب المضطهدة، وحركات الانعاش الديني في أشكالها المتباينة من السلفيات والأصوليات، وكذلك المذاهب التي تدعو إلى إعادة قراءة العقائد للتكيف مع مقتضيات المستقبل مثل لاهوت التحرير، بل والطوائف والبدع العديدة الظاهرة في الساحة كل يوم، فجميع هذه الحركات حديثة الطابع وليست “بواقي من الماضي”.
6- إن الاعتراف بأن الحركات المذكورة هي حديثة الطابع مقولة مرضية بحد ذاتها. فالمشكلة هي تحديد معناها ومقامها، وبالتالي توضيح أوجه التباين بينها، والتمييز بين الحركات والمذاهب التي تدفع نحو الأمام في سبيل تجاوز الرأسمالية وتطوير الحداثة، وبين تلك الحركات التي لا تهتم بالإشكاليات المذكورة فتنقل النقاش إلى أرضيات “الخصوصية”.
أعتبر نفسي ماركسيًا بمعني أنني أنظر إلى الأدوات التي تقترحها المادية التاريخية على أنها أفضل الوسائل في المتناول للتحليل العلمي في مجال علوم الاجتماع. أقول إنها الأدوات التي تتيح أكثر من غيرها إدراك طابع التحدي الذي تواجهه الشعوب والطبقات ضحايا الرأسمالية ونمط حداثتها. علمًا بأن التوظيف الخلاق لهذه الأدوات ليس تمرينًا بسيطًا يسيرًا، بل يحتاج إلى التطوير المتواصل.
هناك مذاهب أخري لا تقل أهمية، وهي السائدة في الساحة طالما سادت الرأسمالية. بعضها بدافع صراحة عن جوهر النظام باسم تفوق الليبرالية الديموقراطية البرجوازية (وهابرماس يمثل هذا الفكر)، وبعض المذاهب الأخري الفاعلة في الساحة هي رجعية صراحة (والفاشيات تمثل النمط المتطرف منها). ولكن أزعم أيضًا أن هناك مدارس فكرية تظل تتحرك في إطار سيادة الرأسمالية- طالما تعطي أهمية مركزية لاحترام مبادىء “الملكية الخاصة”- وذلك بالرغم من اتخاذها شكل الخطاب “الديني” (أو شبه الدينى) أو القومي (أو شبه القومى).
وأعتبر أن الإسلام السياسي المعاصر (وكذلك الهندوسية السياسية والبوذية السياسية والمسيحية الأصولية الأمريكية وغيرها) ينتمي إلى هذه المجموعة التي تقدم إجابات لا تعتمد على تحديد علمي لطابع التحدي، وبالتالي تروي أوهامًا خطيرة حول قدرتها على تغيير العالم.
وإذا كان بعض هذه الحركات قد نجح في تعبئة مناضلين من أصول شعبية وفقيرة دليلًا على نوعية طابعها السياسي، فالنجاح هنا لا يعدو كونه وجهًا واحدًا للعملة، والوجه الآخر هو فشل اليسار (الاشتراكي خاصة) في مواجهة المد اليميني الذي تلا انهيار الأنماط التي سادت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتشمل السوفيتية والشعبويات الوطنية لعصر باندونج.
يجب أن نعمم أن الساحة السياسية ليست ساحة تحتلها بالضرورة قوة تقدمية من جانب ورجعية من الجانب الآخر. فقد يحدث أن تحتل مقدم المسرح قوي ينقصها الوعي فيقع المجتمع في مأزق لا مخرج منه. وهو أمر لا ينفرد الإسلام السياسي به، فقد كتبت أن العديد من الحركات التي تشكل “المنتديات الاجتماعية”- ولو نادت ببعض المبادىء التقدمية وقدمت بعض التحاليل المفيدة- إلا أنها لم تطور بعد- وإلي اليوم- تنظيرًا على قدر التحدي.
لقد بادرت مبكرًا بنقد مشروعات باندونج وبيان حدودها وتناقضاتها، فنشرت عام 1963 كتابًا عن مصر الناصرية أبديت فيه مخاوفي من أن تنتهي التجربة “بالعودة إلى حظيرة الكومبرادورية” (ألفاظي في الكتاب) الأمر الذي تحقق فيما بعد باسم “الانفتاح، وأن تملأ موجة “إسلامية” الفراغ الأيديولوجي الذي خلقه الفكر القومي البحت، وهو أيضًا ما حصل. نعم، أفتخر بصلاحية هذه التنبؤات التي توصلت إليها باكرًا.
7- لا أزال أرفض جميع أنواع القراءات “الثقافوية” للتاريخ والسياسة. وأقصد من وراء هذا المصطلح تلك المقولات القائمة على تصديق “ثوابت” يُزعم أن الشعوب و”الجماعات” تتسم بها، فتفرض انفراد كل مسيرة من المسيرات التاريخية المتباينة ظاهريًا. وذك سواء أكان لهذه الثوابت مصدر ديني أوغيره (ثقافى)، نافيًا بذلك فعل قوي تفرض نفسها على صعيد تاريخ الإنسانية بأجمعها، واقترحت التركيز في التحليل على ما أسميته “الثقافة السياسية التاريخية” بديلًا للخطاب الفارغ من “الخصوصيات” و”الثقافة” (دون صفة تنعت بها).
ذكرت أن الأيديولوجيا القومية معرضة لخطر الوقوع في الفخ، بمدحها للقومية بأسلوب تنقصه روح النقد، وفي أحوال عديدة إعادة كتابة التاريخ حتي يناسب توجهات الأيديولوجيا.
لقد اتهمت المقاربات والمقولات أوروبية التمركز- بالتحديد- بالثقافوية، وهو عنصر لا مفر منه لإضفاء مصداقية لأطروحاتها حول “الخصوصية الأوربية” و”الاستثناء الأوربي” و”المعجزة الأوربية” و”انفراد أوربا باختراع الحداثة”. ولكني اتهمت أيضًا “التمركز الأوروبي المعكوس” (وهو المصطلح القوي الذي استخدمه جلال العظم) الذي تتسم به الثقافويات الشرقية، الإسلامية، العربية وغيرها في آسيا وأفريقيا. ولأنني أعطيت الأولوية لمفهوم العام، فقد قدمت مبكرًا في كتاب مشترك مع أندري جندر فرانك صدر عام 1978 أطروحة تزعم أن الحداثة ومعها الرأسمالية كانتا في المخاض في مناطق أخري خارج أوروبا.
وفي كتابات تالية استكشافية تجرأت بقول إن الصين قد بادرت في اختراع الحداثة والرأسمالية قبل أوروبا بثلاثة أو خمسة قرون. وأشرت هنا إلى التطور نحو تعميم علاقات التبادل التجاري على نطاق لا سابق له في تاريخ أوروبا قبل القرن التاسع عشر، واختراع نمط البيروقراطية الحديثة، وإلغاء “الدين السياسي” واستبداله بمبدأ العلمانية، واتخاذ خطوات في التقدم التكنولوجي ضمنت تفوق الصين إلى أيام الثورة الصناعية، كما ذكرت ما هو معلوم عن علامات بزوغ نمط التحديث والرأسمالية المحتمل في الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة ازدهارها.
8- بيد أنني دعوت أيضًا إلى إعادة قراءة النهضة العربية للقرن التاسع عشر وهي حركة أخذ اليسار العربي بشكل عام- البرجوازي الديموقراطي والشيوعي فيما بعد- ينظر إليها “بكسل”، على أنها فتحت السبيل للخروج من الانحطاط، فالدخول في التحديث بما فيه تبلور القومية العربية بصفتها ظاهرة حديثة. فوضعت إصبعي على التباس فهم النهضة العربية “لأختها” –النهضة الأوروبية- وغياب إدراكها معني ومدي “نقد الدين” في الأخيرة ودعوتها للعلمانية. وقد أدي هذا الالتباس إلى إجهاض مشروع النهضة وفتح السبيل لسلسلة ردات تالية قادت في نهاية المطاف إلى الإسلام السياسي المعاصر.
هذا ولابد من أن نعي أن انتصار “الرأسمالية التاريخية”- بمعني ذلك النمط الذي تكاملت عناصر تكوينه في أوروبا- ومعه انتصار الحداثة الموازية لها (ولو أنها حداثة مشوهة) قد وضع نقطة النهاية لاحتمال اختراع أنماط أخري للرأسمالية والحداثة نابعة من أصول ثقافية أخري.
فأنتج هذا التطور تحديًا جديدًا لا مفر من مواجهته كما هو.
9- إن ظاهرة “الإسلاموفوبيا” حقيقة في المجتمعات الغربية المعاصرة، وبالتالي فإن حساسيات ضحايا التوسع الاستعماري في مواجهتها أمر طبيعي ومفهوم.
بيد أن هذه الفوبيا ليست الوحيدة التي أخذت في التصاعد خلال العقود الأخيرة. فهناك أيضًا “صينوفوبيا” تجلت في الحملات الوقحة للدفاع عن الثيوقراطية البوذية القائمة على نظام الرق والتي يقودها الدلاي لاما في التبت.
لم تفاجئني هذه الظواهر. إذ إنني توصلت في تحليلي للتحدي المعاصر للرأسمالية “المتهالكة”- كما أسميتها- إلى توضيح الأسباب التي دفعت الاستعمار الجماعي للثالوث (للولايات المتحدة، أوروبا، اليابان) لتبني مشروع يسعي إلى تكريس نظام عالمي قائم على مبدأ “الأبارتهيد” على صعيد عالمي (ألفاظي في تحديد المشروع)، أي بكلمة أخري مشروع حرب متواصلة ضد جميع شعوب الجنوب، لا ضد المسلمين فقط.
10- لا يصح الجمع السريع بين ظاهرة إسلام الضواحي الشعبية في أوروبا وأمريكا وظاهرة الإسلام السياسي في المجتمعات الإسلامية. فظاهرة “إسلام الضواحي” لا تعدو كونها انتفاضة مهاجرين فقراء، شأنها شأن احتجاجات اجتماعية أخري. فهي رد فعل على ممارسات تمييز لها طابع اجتماعي طبقي قبل أن يكون ثقافيا.
علمًا بأن المشروعات السياسية التي تسعي إلى إعادة ترتيب المجتمع على أساس تنظيم “جماعات ثقافية”- باسم “احترام الفروق”، وهو مبدأ مقبول في حد ذاته- هي في نهاية المطاف سياسات تكرس التمييز، لا تلغيه. فليس صدفة أن الحكومات الرجعية في الولايات المتحدة وبريطانيا على الأخص هي التي تنادي بهذا النوع من “الحل” للمشكلة.
وسوف يخطئ اليسار- في رأيى- إذا ساند هذا المشروع الرجعي وبحث عن تحالف على أرضيته مع الجماعوية الفاعلة في صفوف المهاجرين؛ حيث يؤدي هذا إلى مساندة مشروع السلطة، ولو دون وعي.
أزعم أن مسئولية اليسار تقع في مجال آخر، وهو المشاركة في تنظيم نضال المهاجرين من أجل ضمان تنفيذ حقوقهم في العمل والسكن والتعليم والصحة، بالإضافة إلى المساواة في التعامل معهم.
11- إن تناول موضوع الإسلام السياسي عبر خطاب عام يغفل تنوع الظروف الملموسة المحيطة والمتغيرة من قطر إلى آخر، يحمل بالتأكيد مخاطر خطيرة، فينبغي تفادي هذا الجمع.
لذلك فقد اقترحت التمييز بين الإسلام السياسي في السعودية وباكستان من جانب وفي البلاد الأخرى- على الأقل- من جانب آخر. فالوهابية في الجزيرة العربية تعد ظاهرة خاصة، وتجليًا لنمط غليظ للعقيدة هو نتاج لمجتمع ظلت تحكمه أشكال عتيقة من الممارسات المجتمعية تجاوزتها المجتمعات الإسلامية الأخري منذ زمن بعيد، سابق على الإسلام نفسه. ثم أصبح هذا المذهب أيديولوجية لدولة هي نفسها أصبحت حليفًا مرؤوسًا للولايات المتحدة. على أن الثروة النفطية قد خلقت ظروفًا مناسبة لانتشار المذهب الوهابي في صفوف الإسلام السياسي السني المعاصر، ترتبت عليه ردات تدميرية واضحة، في سلوك رجعي لأقصي حد، خاصة بالنسبة إلى النساء، واختزال العقيدة في شكلية طقوسية، وعنصرية طائفية متعصبة في مواجهة الشيعة.
ويحمل “الإسلام السياسي” في باكستان “عيب الولادة”. فالهند وطن موحد حضاريًا بالرغم من تنوع الانتماءات الدينية، وقد انتشر الإسلام فيه بمرافقة الغزوات الإيرانية والتركية والمغولية. بيد أن الطبقة التي استولت على الحكم باسم الإسلام في مناطق شاسعة من القارة ظلت صغيرة من حيث العدد، بينما الشعب- بما فيه هؤلاء الذين أسلموا- ظل هنديًا، لغويًا وثقافيًا وحضاريًا.
ونمت حركة التحرر الهندي بالتشديد على وحدة الوطن مع احترام التعدد الديني، في إطار مشروع دولة حديثة علمانية إلى حد ما. هذا بينما اجتهدت السلطات البريطانية لتفريق الحركة (وهذه السياسة بديهية عند الاستعمار بالطبع). هكذا اخترع الإنجليز- بمعونة المستشرقين في خدمتهم- مذهب الإسلام السياسي الذي تبناه أبو العلاء المودودي، والذي أقيمت على أساسه دولة باكستان. وينطبق ذلك على أصحاب السلطة كما ينطبق على هؤلاء الذين أقاموا فيما بعد أحزابًا “إسلامية” معتدلة (في صفوف الفئات الوسطى) و”متطرفة” (عبأت مناضلين في الأوساط الأكثر فقرًا”).
هذا بينما يحتل الإسلام السياسي في المجتمعات الأخري مقامًا مختلفًا. فالدولة هنا أقيمت على أساس الاعتراف بتعدد أوجه الذاتية وتصديق مبدأ الوطنية (أو القومية) العربية وغيرها (إيرانية، أندونسية). وانطلاقًا من هذا الموقف خطت مجتمعات هذه الدول خطوات- ولو محدودة- نحو علمنة النظم.
فليس الإسلام السياسي هنا هو ظاهرة “ما بعد كولونيالية” كما يزعم مذهب “ما بعد الحداثة” (الموضة الأمريكية)، بل هو ظاهرة “ما بعد باندونج” بمعني أنها ازدهرت على أنقاض مشروع باندونج.
تختلف إذن الأوضاع فيما يخص مقام الإسلام في تعريف الذاتية. ففي السعودية وباكستان تم تجاهل بل والتنكر للذاتية الوطنية، لصالح التصديق على انفراد الذاتية الإسلامية، على خلاف الوضع في البلدان الإسلامية الأخري.
ومما ترتب على إنكار الوطنية: فتح الباب أمام التصديق على ذاتيات “تحت وطنية”، إقليمية في باكستان وقبائلية في الجزيرة، تفعل فعلها المدمر الذي يغلق باب التطور، وتم- إلى الآن- التغلب على هذه الأمور المدمرة بفضل الثروة النفطية في الجزيرة والدكتاتورية العسكرية في باكستان. فأغلق باب التطور الديموقراطي الذي يعتمد أصلًا ضرورة تغليب الذاتية الوطنية.
لم يكن الإسلام في حد ذاته محور المقاومة ضد الكولونيالية، كما يحلو أن يقال في أيامنا (وهذا هو إلى حد كبير اختراع حديث وتزييف للتاريخ الحقيقى). ويقوم مثل الجزائر دليلًا قاطعًا في هذا المضمار. فلم تقاوم السلطات الفرنسية “الإسلام”، بل على العكس من ذلك اعتمدت على رجال الدين السلفيين وأعطت لهم سلطة تنفيذ الشرعية على أهل البلد. حتي أن الجمهورية الجزائرية الجديدة هي التي بادرت في تطوير- خجل- نحو علمنة القانون، وليس الفرنسيون. فالمفارقة إذن هي أن الحركات الإسلامية تطالب بالعودة إلى ممارسات النظام الكولونيالى!
علي أن الخطوات التي خطتها نظم باندونج في هذا المجال ظلت محدودة للأسباب التي ذكرتها، أي غياب التقدم الديموقراطي الصحيح. ووجدت العديد من هذه النظم في تصديق الجانب الديني للذاتية (سوا كان الإسلام أو الهندوسية أو البوذية أو غيرها) خيارًا مفيدًا في مواجهة “الخطر الشيوعي”، خاصة عندما بدأت شرعية شعبوية تلك النظم تتآكل. هكذا فتحت الناصرية الأبواب لإنعاش ما أصبح فيما بعد الإسلام السياسي كما ذكرت في كتابي الباكر عن “مصر الناصرية”.
واليوم تمثل القوي الثلاث البارزة التي تحتل مقدم المسرح (النظام، الإسلام السياسي، الليبرالية “الديمقراطية” حليفة الولايات المتحدة) أجنحة لطبقة واحدة، هي الكومبرادورية.
12- يقال إن الإسلام السياسي يحارب الولايات المتحدة وبالتالي لا يجوز استبعاد اعتبار هذه الحقيقة الواضحة عند تقييم دوره. وهذا هو بالفعل ما تقوله الولايات المتحدة والتي لا تستطيع أن تقول غيره، لأن هذا الحرب هو المبرر الوحيد الذي يعطي “شرعية” لمشروع السيطرة العسكرية على الكوكب باسم “محاربة الإرهاب”، خاصة وسط الرأي العام في الغرب فينبغي أن ننظر إلى هذه “الحروب” عن كثب.
إن حركة الطالبان هي التي تطلق النار على جيوش الاحتلال في أفغانستان. بيد أنهم مستعدون لأن يتحولوا إلى حلفاء واشنطن شرط أن تنسحب القوات الأجنبية. وهنا وقعت واشنطن في فخ حقيقي فالانسحاب مستحيل إذ يلغي تمامًا مصداقية الحجة القائمة على محاربة الإرهاب. فلا شك أن بن لادن لا بد أن يظل موجودًا، وتصريحاته مفيدة، تأتي دائمًا في الوقت المناسب.
أما في العراق فالواقع- للأسف الشديد- هو أن “الإسلاميين” لا يحاربون فقط قوات الاحتلال وخدامها. هل يمكن إغفال نجاح الخطة الأمريكية في إثارة الحرب الأهلية بين السنة والشيعة؟ ولئن فشلت الخطة الأمريكية السياسية، بمعني أن السلطة المرؤوسة الحليفة لم تكسب بعد درجة من المصداقية تستطيع بها أن “تحكم” في غياب قوات الاحتلال، إلا أن المقاومة العراقية من جانبها تظل عاجزة عن دحر القوات الأمريكية. فالمقارنة مع فيتنام في غير محلها إذ إن الفيتناميين طردوا العدو عسكريًا ، وذلك دون الاعتماد على دعوة دينية الطابع. فهل أيديولوجيا الإسلام السياسي بريئة من هذا الفشل؟
نعم.. ألحق حزب الله في لبنان هزيمة بجيوش إسرائيل، بيد أن الشيوعيين أثبتوا أيضًا قدرة مماثلة عندما كانوا يمثلون القوي الرئيسية في جنوب لبنان، ثم تحالفت إيران وسوريا لإحلال حزب الله محلهم. وقد تم ذلك في جو حياد إيجابي من قبل الدول الكبري التي خشيت هي الأخري “الشيوعية” أكثر من “الإسلامية”.
وفي الوقت نفسه أدخل حزب الله لبنان في مأزق سياسي إذ إن مشروعه غير مقبول خارج الشيعة، بالإضافة إلى أن مساندة جماهير الشيعة هي نفسها أمر مشكوك في حقيقة، بالرغم من أن الولايات المتحدة وآيات الله تحلوا أن تكرره.
وهل أثبتت حماس في فلسطين قدرة في مواجهة العدو الإسرائيلي تفوق فعالية قوي بديلة احتمالية؟ هل يمكن إغفال أن إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا شاركت في إفشال هذه البدائل؟
لم يعلن الإسلام السياسي الحرب ضد الولايات المتحدة. هي الولايات المتحدة التي اتخذت المبادرة بإعلان الحرب ضد جميع شعوب الجنوب في إطار مشروعها العالمي. وقد اختارت واشنطن منطقة “الشرق الأوسط” للقيام “بالضربة الأولي”. ولم يكن اختيار واشنطن هذا لأن الشعوب الذي تسكنها مسلمة. بل لأسباب أخري، بالأساس: الثروة النفطية وموقعها الجغرافي الذي يتيح استيطان قواعد عسكرية دائمة فيه قادرة على تهديد الصين وروسيا والهند (إذا احتاج الأمر).
وقد لاحظ ذلك جميع المختصين بالجيوستراتيجا مثل حسنين هيكل. وذكرته أنا منذ أوائل التسعينيات. وقد أثبتت التطورات التالية- أي تغلغل النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطي والقوقاز- صلاحية تحليلنا للهدف الاستراتيجي الأمريكي الصحيح.
ولو غابت التناقضات التي ترتبت على بسط المشروع العسكري الأمريكي لكان التعايش بين واشنطن ونظم “إسلامية” تحكم بلدان المنطقة أمرًا يسيرًا وطبيعيًا، على نمط التحالف العضوي مع السعودية وباكستان. فالإسلام السياسي هو للاستهلاك المحلي فقط، لا يمثل خطرًا على سيادة الاستعمار سياسيًا واقتصاديًا.
وبالعودة إلى “الاسلاموفوبيا” التي تستغل بالفعل التطورات المذكورة، فلا صعوبة في إدراك الأسباب التي دفعت جماهير شباب الغرب لتنتظم في مظاهرات وراء صور هوشي منه وجيفارا وإعلام فلسطين، لا وراء آيات الله وبن لادن. وهو ما أتمني أن تفهمه شعوبنا أيضًا.
13- نعم. أدافع عن العلمانية وفصل مجال السياسة والدولة عن الدين فصلًا نهائيًا. العلمانية هي شرط إقامة ديموقراطية خلاقة دون حدود، متحررة من واجب تدعيم مبادراتها بإعادة تفسير الماضى- الديني وغيره- من أجل إضفاء شرعية للتغيير المطروح. علمًا بأن الحدود التي يفرضها هذا المنهج تقف دائمًا عقبة في سبيل تجذير الحركة.
لذلك شاهدنا أن جميع الثورات الكبري التي فتحت الأبواب لخطوات حاسمة في إنجاز الديموقراطية والتقدم الاجتماعي (ولو أن تطورات لاحقة قد فرضت ردات في بعض الأحيان) قد لجأت إلى أنماط جذرية من العلمانية.
وبشكل عام ظلت إنجازات العلمانية بطيئة فتجلت في خطوات إلى الأمام، ولحظات تردد وردات، رافقت أمواج المد والجزر في مسيرة “التحديث” البرجوازي، وانبثاق مبادرات شعبية تجاوزت حدود الأولي وفتحت آفاقًا نحو الاشتراكية، كما رافقت الردات التي أصابت هذه المبادرات.
وقد تعددت أشكال العلمانية البرجوازية التي نشأت في أوروبا لإنهاء الحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت، فأنجزت خطوات أولي خجلة لم تتجاوز حدود مفهوم “التسامح” المتبادل.
ولقد تكوّن المجتمع الذي أصبح فيما بعد الولايات المتحدة على أساس هجرة طوائف عانت من اضطهاد السلطات القائمة في أوروبا (انجلترا خاصة) فاستوطنت في أمريكا معتمدة مبدأ التسامح، وإلي يومنا لم يتجاوز مفهوم العلمانية هناك حدود التسامح.
أما العلمانية الجذرية فهي ظاهرة أخري ظهرت في عصر الثورات الكبري انطلاقًا من اللحظة اليعقوبية للثورة الفرنسية. وفي المقابل لم تخط العلمانية في معظم بلدان أوروبا (بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا وغيرها) بخطوات جذرية مماثلة بسبب تنازلات البرجوازيات في مواجهتها للنظم الأرسطوقراطية القديمة التي اعتمدت بدورها على نفوذ وسلطة الكنائس.
فتقدمت وتراجعت حركة العلمانية بحسب حركة الكتل الاجتماعية السائدة والحاكمة في تحديد شروط إعادة تكوين المجتمع الرأسمالي. هكذا نشاهد في أوروبا في المرحلة الراهنة ردة في مجال العلمانية توازي رجعة الديموقراطية إلى الوراء، نتيجة تحكم الأوليجاركية الاحتكارية المنفردة في السلطة. ويقدم نص دستور الاتحاد الأوروبى- وما يحيطه من خطاب حول “الأصول المسيحية” (بل اليهو- مسيحية عند البعض) للحضارة الأوروبية- دليلًا على هذه الردة.
وقد تخلفت مسيرة العلمانية في تخوم المنظومة العالمية لأسباب بنيوية تتعلق بتخلف البرجوازية ثم ضعف الكتل التي قادت حركات التحرير الوطني. لذلك نشاهد هنا خطوات خجلة فقط تميل إلى العلمانية ولا أكثر. وتمثل تركيا الكمالية نمطًا من هذا النوع من التقدم المحدود المدي.
بيد أن تسجيل غياب مبادرات جريئة نحو العلمانية ليس عذرًا للتخلي عن النضال من أجل دفع الحركة إلى الأمام (كما أن تسجيل غياب الديموقراطية ليس عذرًا لقبول الأمر الواقع!)، بالأولي اعتبار أن العلمانية “غير مطلوبة”، أو على الأقل أن عليها أن تتكيف مع خصوصيات الحضارة المحلية باسم “احترام الفرق”.
لا فرق في هذا الصدد بين مجتمعات المراكز والتخوم. فالمطلوب من الجميع هو التقدم نحو إقامة وتكريس ديموقراطية خلاقة، وهي تفترض بدورها تقدم العلمانية الصحيحة التي تفتح آفاق الاشتراكية عبر مراحل انتقال طويلة ومتتالية.
فلا تخص العلمانية- بل العلمانية الجذرية- الشعوب “المسيحية” فقط كما يزعم الإسلام السياسي والسلفية المعاصرة. وإنما يهم إنجازها الجميع، فالمجتمعات الإسلامية لن تتقدم دون فصل الدين عن الدولة والسياسة، والهند لن تتقدم دن إلغاء الطابع المقدس لنظام الطوائف الاجتماعية (نظام “الكاست”) في علاقته بالعقيدة الهندوسية، والشعوب البوذية لن تتقدم دون إلغاء النظام الثيوقراطي للدلاي لاما. وبدون إقامة ديموقراطية خلاقة لن تنجز هذه المجتمعات تقدمًا اجتماعيًا ملحوظًا ولا خطوات حاسمة في سبيل التحرير من تسلط الاستعمار في شؤونها.
إن عصرنا هو عصر ردة على جميع المستويات، في البلاد الإسلامية والأخري، في الجنوب والشمال. فأصبحت مواجهة هذه الردة مواجهة صريحة تفرض نفسها على الجميع، دون استثناء.
14- لا يقتصر موضوع موقع العقيدة الدينية ومقامها في التاريخ- بل في تصورات المستقبل- على إشكالية العلمانية. ولست من هؤلاء الذين يعتقدون أن التأملات حول ما “فوق الطبيعة” سوف تتلاشي وتنتهي “من نفسها”* فكتبت أن الإنسان “حيوان ميتافيزيقي”، يحتاج إلى هذه التأملات ليتغلب على كرب الحياة، وأن أفضل النظم الاجتماعية (بما فيها الاشتراكية “المتكاملة” للغد البعيد) لن يلغي هذه الحاجة. وأشارك هنا تلك الجملة التي كتبها ماركس والتي أثارت الكثير من التعليقات الملتبسة في شرح معناها- أقصد المقارنة التي طرحها ماركس بين الدين والأفيون. فالأفيون دواء لا غني عنه لتخفيف شدة الألم. بيد أن تناول هذا الدواء يحمل في طيه خطرًا جسيمًا وهو التنويم والتخلي عن البحث في أسباب الألم وبالتالي إنماء قدرة مقاومة المرض**.
اجتهدت في كتابات أخري في قراءة تاريخ الديانات (ولا سيما المسيحية والإسلام) بالتركيز على التحولات في تفسيرها التي أتاحت لها أن تتكيف مع تحولات المجتمع، وبالأخص تلك التحولات التي أتاحت للمسيحية أن تتكيف مع التطور من الإقطاعية إلى الرأسمالية. كما تابعت المجهود الذي يبذله البعض من علماء اللاهوت في طرح مفاهيم جديدة للعقيدة تتمشي مع مقتضيات النضال من أجل الاشتراكية. أقصد هنا بالطبع لاهوت التحرير. ورحبت بهذه الحركة الفكرية التي تمثل أحد روافد الالتقاء مع التنوع الذي أدعو إليه. أقول إن العالم الإسلامي هو الآخر في حاجة إلى تحريك فكره الديني لكي يحقق هو الآخر تكييف الإسلام لمقتضيات المستقبل. وإن النضال في هذه الساحة- وإن لم تكن الساحة التي أتحرك أنا بالأساس على أرضيتها- لا يقل أهمية عن أي نضال آخر.
علي أنني قد توصلت إلى أن العالم الإسلامي لم يدخل بعد- للأسف- في مرحلة التحول المطلوب فقلت إن نهضة القرن التاسع عشر لم تعِ بمدي التحدي الحقيقي، والآن يرفض الإسلام السياسي فتح باب هذا النقاش، مكتفيًا بجملة فارغة “الإسلام هو الحل”.
كان الأخ السوداني محمود طه قد فتح باب الاجتهاد وفقه التحرير، وقد حكم عليه نظام النميري، الإسلامي رسميًا بالإعدام. ولم تحتج شخصية واحدة تزعم الانتماء إلى تيار من تيارات الفكر “الإسلامي” المعتدل أو الجذري والثوري على هذه الجريمة الفاحشة.
ليس الإسلام السياسي حركة “إنعاش ديني”. كلا هو حركة سياسية توظف الخطاب الديني، بل توظف خطابًا سلفيًا دون تحفظ. فاختزلت العقيدة معه إلى ممارسات طقوسية. لقد كرس الإسلام السياسي العودة إلى مفاهيم عصر الانحطاط، لا غير.
فليس من الصدفة أن الإسلام السياسي قد فتح باب العودة للتمييز الطائفي، وفتح باب التعصب وتصاعد الكراهية بين السنة والشيعة.
اتمني أن يدرك القارىء تمامًا موقع نقاشي، دون التباس. فقد وجهت نقدي “لتسييس الدين” بمعني تعبئة الإيمان في خدمة مشروع سياسي، أيًا كان، كما يفعل “الإسلام السياسي”. فالتشديد على نعت “السياسي” في محله تمامًا.
أما تناول إشكالية “الفكر الديني” فهو موضوع آخر وقد أبديت بهذا الصدد ملاحظات تخص التفسيرات المتباينة التي تتابعت واصطدمت في التاريخ. وكان مجهودي يسعي إلى كشف الأسباب التي تفسر هذه الأطروحات على أرضية سمات ومشاكل المجتمع المعني.
لم يكن هدفي كشف ما هو “الدين الصحيح” (الإسلام الصحيح، أو المسيحية الصحيحة، أو حتي الماركسية الصحيحة!). فلم يكن لاهتمامي طابع ميتافزيقي، بل تاريخي علمي بحت.
علي أن للمؤمن الحق المطلق- الذي لا أنكره- في البحث عما يراه الإيمان الصحيح في إطار العقيدة الدينية التي ينتمي إليها، فللمؤمن هنا الحق في أن يختار السلفية، كما له الحق في أن يختار مذهبًا آخر يدعو إلى تطوير تفسير العقيدة، “فتح باب الاجتهاد” إذا رأي ذلك ضروريًا لانعاش الفكر الديني نفسه.
أما الخلط بين المنهجين، أي الخلط بين تناول مشاكل الفكر الديني وتناول مشاكل الفكر السياسى- ولو زعم هذا الأخير أنه “فكر ديني”- فهو أسلوب أيديولوجي رخيص.
15- ما العمل إذن؟ ما هي مقتضيات إعادة بناء الشروط التي تتيح ازدهار الفكر وتطوير العمل كي يتحقق التحرر والتقدم؟
لقد رفضت في هذا المجال أطروحة “الليبرالية السياسية الديموقراطية المزعومة”، ورفضت بالتالي قولها أن التطور المطلوب يمر في المجتمعات الإسلامية بالتنازل في مواجة مطالب “الإسلام”. فليس الاعتراف أن “العقيدة الدينية” تحتل مقامًا هامًا في هذه المجتمعات أكثر من بديهية. هل يجب أن نستنتج من هذه البديهية أن “التفاهم” مع الإسلام السياسي أمر ضروري، لا مفر منه؟ كلا إذ يفترض هذا الموقف احتكار الإسلام السياسي تمثيل المقام المذكور للعقيدة. على العكس من ذلك أقول إن دحر أوهام الإسلام السياسي هو الشرط لانعاش العقيدة نفسها، إلى جانب إنجاز التقدم في جميع مجالات الحياة الاجتماعية. تلك مسئولية اليسار التقدمي، وهي مسئولية حاسمة. وللنضال في الساحة الأيديولوجية أهمية لا أود التقليل من أهميتها.
علي أن محور النضال الأساسي هو الصراع الطبقي على أرضية التحديات الملموسة التي تواجهها الطبقات الشعبية التي تعاني من الاستغلال والاضطهاد.
فالمعارك الحاسمة التي سوف تحكم اتجاه التطور نحو الأفضل أو الأسوأ هي المعارك من أجل ضمان حقوق الكادحين، حول العمل والأجور، التنظيم النقابي الحر، حق الأحزاب والتظاهر، حق الفلاحين في الأرض التي يزرعونها، حق حصولهم على وسائل استغلالها، حقوق المواطنين في التعليم والصحة والإسكان.
ليس الخوض في هذه المعارك بديلًا للنضال من أجل الديموقراطية وللنضال ضد الاستعمار وأعوانه (وخاصة إسرائيل). بل على العكس من ذلك سوف تظل المطالب الديموقراطية والعمل ضد الاستعمار والصهيونية شعارات فارغة، وفي نهاية المطاف خطابا لن تقتنع الجماهير به دون الخوض في المعارك الطبقية. فالجبهة الاجتماعية الوحيدة التي تستطيع أن تقود إلى إنجاز الأهداف الديموقراطية والتقدم الاجتماعي والتحرر من سيادة الاستعمار هي تلك الجبهة الشعبية القائمة على مبدأ الالتقاء مع التنوع بين مختلف فئاتها.
- نتيجة التقدم العلمي، لست أنا من أنصار “العلموية”.
** ولست أنا من أنصار العلموية. علماً بأن منهج العلموية يقوم على انحصار الفكر في تراكم المعلومات العلمية.