الرئيسية

نشر أوسع دراسة تاريخية بالوثائق عن سايكس بيكو: حدود العراق وأسطورة الدولة المصطنعة ج1

By nasser

July 10, 2015

Jun 26 2015by Sara Pursley

قد لا تكون هناك دولة ـ أمة حديثة دُعيت “مصطنعة” أكثر من العراق. وبينما يُقرّ معظم الباحثين بأن جميع الدول ـ الأمم مصطنعة، بمعنى أنّ بشراً أنشأوها، فإن العراق، على ما يبدو، مصطنع أكثر منها كلها. وتبدأ القصة دوماً بمعاهدات السلام التي وُقِّعتْ في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والتي وضع أثناءها الأوربيون حدود العراق، وحدود دول عربية مشرقية أخرى، على نحو مزعوم، وتقريباً دون أي أساس. وكما يقول ديفد فرومكين في كتابه المقروء على نطاق واسع “سلام ينهي كل سلام”:

كانت حقبة اختُرعتْ فيها بلدان الشرق الأوسط وحدودها في أوربا. فالعراق، وما ندعوه الأردن الآن، مثلاً، كانا اختراعين بريطانيين، خطوطاً رسمها سياسيون بريطانيون على خريطة فارغة بعد الحرب العالمية الأولى، فيما وضع حدود المملكة العربية السعودية والكويت والعراق موظفٌ مدنيٌّ بريطاني في 1922.(1)

هذه قصة مألوفة بالنسبة لنا جميعاً، بما أن باحثين وصحفيين ومعلقين سياسيين من جميع المشارب كرروها إلى ما يقارب القرن الآن. وقد كرّرْتُها أنا نفسي في عدة مناسبات.

أثار تنظيم الدولة (داعش) سرد “الدولة المصطنعة” أيضاً حين نشر فيلم فيديو دعاه “نهاية سايكس بيكو” في صيف 2014 صرّح فيه أن إلغاء الحدود بين سوريا والعراق إعلان لنهاية نظام الدولة ـ الأمة الذي فرضته القوى الاستعمارية في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، ووعد بأن هذه “ليست الحدود الأولى التي سنزيلها”. وفي خطبة ألقاها في مسجد في الموصل في تموز\يوليو، قال قائد التنظيم أبو بكر البغدادي:”لن يتوقف هذا الزحف المبارك حتى ندق آخر مسمار في نعش مؤامرة سايكس بيكو”.

تلا ذلك حشد من التعليقات الإعلامية، ونتأت خرائط سايكس بيكو عبر الإنترنت كدليل مؤيد، أو على الأقل كتزيين مؤيد، لسلسلة من الآراء حول إعلان تنظيم الدولة. وبدا الرد المهيمن، حتى بين معارضين أقوياء لتنظيم الدولة، كما لو أن التنظيم يلغي فعلاً اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916 سيئة الصيت بين بريطانيا وفرنسا التي قسمت ووزعت الأراضي العربية للإمبراطورية العثمانية، وكما لو أن هذه هي النهاية المنطقية للحدود المصطنعة التي أنشأتها القوى الاستعمارية منذ مائة عام. وقالت مقالة نشرتْها وكالة رويترز بعنوان “سايكس بيكو رسمت خطوطاً على رمال الشرق الأوسط تغسلها الدماء”: إن الاتفاقية كانت “من حيث الجوهر مشروعاً إمبراطورياً، لم ينتبه إلا قليلاً إلى الجغرافيا والأرض، أو العرق”. ووافق المثقفون العامون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على ذلك؛ وحتى قبل تمدد تنظيم الدولة، استُشهدبكلام لنعوم تشومسكي قال فيه إن “اتفاقية سايكس بيكو تتداعى، وهذه ظاهرة مثيرة… لكن سايكس بيكو كانت مفروضة إمبراطورياً وتفتقر للشرعية؛ ما من مبرر لأي من هذه الحدود، باستثناء مصالح القوى الإمبراطورية”.

كان هناك بضعة آراء مخالفة، شكك معظمها في حدوث عملية إلغاء حقيقية للحدود بين سوريا والعراق. فقد كتب ستيفن سيمون في عدد آب\أغسطس من مجلة فورين أفيّرز (الشؤون الخارجية):” لم يتضمن عرض الرعب المنبعث من سوريا حتى الآن نهاية حدود سايكس بيكو…باختصار، رغم الهرج والمرج في المنطقة، تبدو اتفاقية سايكس ـ بيكو حية وجيدة”.

كان الأكثر ندرة هو انتقادات سرد سايكس ـ بيكو نفسه، أو سرد الدولة المصطنعة الأوسع، والذي تُشكّل هي منه خيطاً واحداً. وكان هناك بعض الاستثناءات الملحوظة، بينها المقالة الرائعة لدانييل نيب، التي قال فيها إن انسحار الباحثين في كل مكان بكيف يمكن أن يتم إنشاء خريطة أفضل للمنطقة “ليس أكثر من فنتازيا مستمدة من توهّم، أو وهم مقطّر من شظايا حلم نصف مُتَذَكَّر”.(2) لكن شظايا الحلم نصف المتذكر كان لها سطوة قوية إلى حد كبير. والواقع أن قلة أزعجت نفسها بالتشكيك بزعم أن الحدود التي تحداها تنظيم الدولة أنشأتها في الحقيقة اتفاقية سايكس ـ بيكو في 1916. وكان شبه الإجماع هذا مذهلاً ليس فقط لأن معلومات أكثر صحة كانت متاحة لكل من يختار البحث عنها، بل أيضاً لأنها كانت متاحة في شكل خرائط سايكس ـ بيكو المعروضة بذكاء فوق جميع المقالات، كما لو أن هذه الصور تخدم بالفعل لتوضيح المزاعم المطروحة.  ونادراً ما استدعى التفسير أن خريطة سايكس ـ بيكو لا تشبه كثيراً الخريطة الحالية للمنطقة. وفي الحقيقة، يمكن القول بسهولة إلى حد ما إن حدود المنطقة التي يسيطر عليها تنظيم الدولة حالياً تبدو مثل حدود سايكس ـ بيكو أكثر من الحدود المعترف بها دولياً بين العراق وسوريا. سأعود إلى هذه النقطة فيما بعد.

ما أنا مهتمة به، كمؤرخة  للعراق، ليس فقط ما يمكن أن يشكل سَرْداً تاريخياً أكثر صحة لتكوّن العراق (رغم أن هذا سيكون جزءاً مما يتبع) لكن أيضاً كيف يمكن أن نفكر حول هذا الفصل الغريب بين الصور المعروضة والقصة المروية حولها. يوحي هذا بأن المؤرخين الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تصحيح السجل التاريخي ربما لم يُشككوا بسرد الدولة المصطنعة. بالأحرى، إن السرد نفسه، قد يحتاج إلى فحص أكثر صرامة. من أين أتى؟ ما هو تاريخه؟ وكيف ارتبط بتاريخ الاستعمار والقومية والحرب والاحتلال في العراق في القرن السابق؟ ما نوع العمل الذي حققه هذا السرد تاريخياً، وما الذي يحققه اليوم؟

إن خطاب العراق كدولة مصطنعة، كتجمّع غير عقلاني لأقوام غير متجانسين، بزغ في العشرينيات، كما سأبين في الجزء الثاني من مقالتي هذه. وكان الخطاب في الأصل سرداً استعمارياً، استُخدم للقول إن العراق ليس متناغماً بعد بما يكفي كي يحكم نفسه، بخلاف مطالب الوطنيين العراقيين، ويجب بالتالي أن تحكمه بريطانيا. كيف أصبح أيضاً فيما بعد خطاباً قومياً ـ وخاصة خطاباً قومياً عربياً ـ يمكن أن يساعد في شرح استمراريته. وفي أعقاب الغزوتين الأميركيتين في 1991 و2003، نُفض الغبار عن هذا الخطاب وقُدِّم بطرق خبيثة عديدة من قبل المعسكر المؤيد للحرب والمدافعين عنه فيما بعد. في النهاية، ما الأذى الذي نجم عن تدمير بلاد لم توجد بشكل أصيل أبداً في المقام الأول؟

اضغط هنا لمشاهد بقية المقال والجزء الثاني منه مع الخرائط كافة