أدونيس في مهرجان أثير: العرب ينقرضون ولو اجتمع العالم حول مائدة مستديرة فماذا لدينا لنقدمه؟

ضيف «مهرجان أثير» في دورته الثانية التي حملت إسم دورة «إبن دريد»، كان الشاعر والمفكر أدونيس. ربما يختصر هذا الحضور الكثير مما قد يقال في هذا المقام، إلا أن الشعراء الشباب الذين حضروا بدورهم، وهم من صفوة الأسماء العربية الجديدة، رفعوا مستوى ندوات وأمسيات مسقط إلى أقصاها. إذ يندر أن نجد عقوداً سبعةً من التجربة والتجديد تحتشد في حيّز محدود من الزمان والمكان.
في الأمسية الأولى التي كان شاعرها الأوحد أدونيس، بعد أن افتتح الأمسية رئيس تحرير صحيفة أثير الأستاذ موسى الفرعي الذي يدهشك بالخطط الثقافية التي يعدّها مع الشاعر العُماني عبدالله العريمي، وهي خطط تصلح لزيارة القمر مرتين، معبراً «إن الإيمان بالجمال أسلوب حياة، والمهرجان هو الطريقة المثلى في الدفاع عن هذه الجماليات التي يمثلها إرثنا العربي الكبير». ثم قرأ الشاعر أدونيس قصيدة «الوقت» الشهيرة له، بإلقاء أخّاذ وهو يحضن فيها سنبلة الوقت ورأسه برجُ نار.

Advertisements

على هامش المهرجان. كان لقاء للشاعر أدونيس مع المشاركين ولم تخلُ أيّ منها من الأسئلة القلقة والإشكاليات التي يلهج بها الشاعر بكل صراحة أينما حلّ. ولمّا تعرَّض غير مرّة لنقدٍ صريح من بعض المشاركين، سواء لجهة موقفه أننا كعرب غير جاهزين بعد للديموقراطية، أو إزاء تصرحاته حول الأحداث في سوريا، أوضح موقفه من الراهن العربي

وشرح مقولته أن العرب آيلون إلى الانقراض بأنه لا يعني أن العرب سينقرضون فرداً فرداً من العالم، بل إنه يتحدث عن الانقراض الحضاري..

وقال: «اليوم لو اجتمع العالم حول مائدة مستديرة لكي يدرسوا مصير البشرية أو مستقبل الإنسان وماذا يمكن أن يقدم هؤلاء المؤتمرون على هذه الطاولة المستديرة وحضر الصيني والأميركي وحضر الإسرائيلي وحضر العربي، ماذا لدينا كعرب أن نقدم على هذه الطاولة.. العالم أو الشعوب توجد بوجود قدراتها الإبداعية وبقدراتها الحضارية وليس بأشياء أخرى. العالم العربي اليوم كما تشاهدون هو في نظر العالم كله ثلاثة أشياء فقط: ثروة نفطية، وفضاء استراتيجي وبشر يمكن استخدامهم، بهذا المعنى أقول نحن ننقرض.. بهذا المعنى الإبداعي وليس بمعنى أن البشر ينقرضون واحدا واحدا وأنا أتحدى أن يقول أحدٌ لنا ماذا لدينا لنقوله للعالم اليوم. هل لنا ما يجعلنا نؤثر في مصير العالم إلا سلبياً، نحن يسرّنا للاستعمار عمله. لا تظنوا أن الغرب يحبنا بل هو يحتقرنا لأنه لا يرانا إلا مجرد أدوات، نحن يسرنا للاستعمار أن يخلق أسلوباً جديداً، إذ لم يعد المستعمر بحاجة إلى أن يرسل جيوشاً، بل صارت له جيوش وطنية داخل البلدان ذاتها وهو يرسل فقط خبراء للتدريب ويرسلهم باتفاق معنا».
وقال أدونيس كنت من البداية أعتقد أنه «في البدء كانت الكثرة وليس الواحدية، ولذلك قررت أن أخرج من هذا الإطار الوحداني المغلق». وأضاف: «كل شيء في الواحدية وظيفي: الثقافة وظيفة والإنسان نفسه وظيفة وكل يقدرّ ببعده الاستعمالي أو بعده الاستخدامي» مشيرا إلى أنه «إذا كان الإنسان وظيفة نفسه فالمجتمع يتحول إلى آلة أكثر مما يكون مجتمعا بشريا قائما على التنوع والكثرة والاختلافات التي هي أساس بناء المجتمع».
أمّا في ما خص اتهامه بالوقوف إلى جانب النظام في سوريا بينما وقف مع الثورة الإيرانيّة سابقاً، فكان واضحاً برفضه لكل ثورة تخرج من المسجد. وذكّر بمقالاته الثلاث التي كتبها إثر الثورة الإيرانية معبراً أنه في البداية لم يكن وحده مع الثورة بل أيضاً كبار الكتاب والمفكرين الغربيين وعلى رأسهم ميشيل فوكو نفسه، بوصفها حركة شعبية ومثالا فريدا للثورات في تاريخ العالم التي لم يقم بها العسكريون وحدهم ولم يقم بها الاقتصاديون وحدهم ولم يقم بها العمال وحدهم وإنما قام بها شعب بكامله في مختلف فئاته، والأكثر من ذلك لم يستخدم فيها العنف. إلا أنه رفض لاحقاً أن تقوم الثورة الإيرانية على الدين.. أو أن تقوم أي ثورة على الدين، باعتبار الدين مسألة شخصية.

ثم تحدّث عن مقالته الثالثة التي حملت عنوان «الفقيه العسكري» والتي حذر فيها من ظهور شخصية اسمها الفقيه العسكري.

لا يخلو لقاء مع أدونيس مؤخراً من دون الخوض في مواقفه السياسية، ولا سيما من الثورة في بلده وما جرى بعدها ومن مجمل انتفاضات العالم العربي وثوراته، وما يبدو أنها انعطافات تتسم بها مواقفه وحياته، مثل تجربته الشعرية الممتدّة لأكثر نصف قرن، وما حدث في عُمان مؤخرا جزء من هذه الظاهرة.

Advertisements

في جلسة حوارية مع الشاعر الذي حلّ ضيف شرف “مهرجان أثير الشعري” الذي اختتم في مسقط أمس، وضمّت شعراء عًمانيين وعرب، سئل عن تعليله “رفضه مناصرة الشعب السوري في ثورته، بأنها انطلقت من مسجد، ويرفض ذلك المنزع الديني الذي نزعت إليه” كما جاء على لسان الشاعرة الكويتية سعدية مفرح التي أضافت بأنه “يمكننا بسهولة تقبّل هذا التعليل في سياق علمانية أدونيس، لولا سابقته في تأييد الثورة الإيرانية التي انطلقت من “حوزة” يومها، لم يكتفِ أدونيس بتأييد ثورة يقودها “رجل دين” وبشعارات دينية وحسب، بل إنه بالغ كثيراً في تأييدها..”.

أدونيس ردّ بالقول: “إن كلام السيدة قائم على الإشاعات وأنها لم تقرأ سوى مقال واحد من بين ثلاث مقالات كتبتها آنذاك”، مؤكداً أنه لا يريد أن يدخل في جدل عقيم لكنه استطرد: “المقال الأول كان مؤيداً للثورة الإيرانية باعتبارها ثورة قام بها شعب ضد إمبراطور، ووصفتها بأنها حركة شعبية ومثال فريد للثورات في تاريخ الشعوب، قام بها شعب بمختلف فئاته ولم يستخدم فيها العنف، ولست وحدي من أيّد هذه الثورة بل مفكرين وكتّاب كبار مثل ميشيل فوكو وغيره”.

وأضاف: “يجب على السيدة أن تكون قد قرأت المقال الثاني والثالث وكذلك جميع الكتّاب الذين ينتقدونني فيما يخصّ الثورة الإيرانية، حين أعلنت رفضي الكامل بأن تقوم أي ثورة على الدين، فالدين مسألة شخصية وأنا أحترم ذلك وليس مسألة جماعية، فالدين حين يكون جماعياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً فإنه يتحوّل إلى نوع من الطغيان وإلى نوع من الاعتداء على الحريات، أما المقال الثالث فقد حذّرت فيه من نشوء شخصية أسميتها “الفقيه العسكري” وكنت دائماً ضد أن يكون الدين سياسياً”.

Advertisements

ودافع أدونيس عن الحق الشخصي في الإيمان، موضّحاً “لكن أن يُفرض عليّ دينٌ فهذا عدوان، والمجتمع الذي لا يسمح بتعدّد الأديان والآراء والبدائل، فهو مجتمع مغلق، وأنا لا أتردّد في القول بأنني كمؤمن سيكون إيماني ناقصاً وجاهلاً أيضاً إذا لم أسمح لجاري كمواطن في أن يؤمن كما يشاء، وما فرْض دين واحد إلا مسألة تأويل حوّلت الدين نفسه إلى نظرة أيديولوجية، وحينما يتحوّل الدين إلى أيديولوجيا يصبح ديناً سياسياً وسلطوياً مما يقتل البعد الروحي والأساسي الذي تقوم عليه الأديان”.وإن كان ما يقوله أدونيس هنا ليس موضع خلاف بين العلمانيين والديمقراطيين العرب، إلا أن هذا النقاش يبعدنا عن حقيقة أن هناك مجازر ترتكب اليوم بحق الشعب السوري.

بدا الشاعر محتاجاً إلى توضيح، على طريقته التي لا تخلو من الاستفزاز: “شخصياً لا أرى أي هواجس أو أمور روحية بالمعنى الإنساني العميق في المجتمعات العربية، والعالم العربي الإسلامي لا علاقة له بالأبعاد الروحية الكبرى التي أراها في الحضارات الأخرى”. كما نافح أدونيس -رداً على النقد- عمّا قاله حول “انقراض العرب”: “أنا أتحدث عن الانقراض الحضاري وليس الفردي”.

Advertisements

وختم بالقول: “توجد الشعوب بقدراتها الإبداعية والحضارية، والعالم العربي في نظر العالم ثلاثة أشياء فقط: ثروة نفطية، وفضاء استراتيجي وبشري يمكن استخدامه، وهذا هو المعنى الإبداعي حين أقول بأننا ننقرض وأنا أتحداكِ أن تقولي لنا ماذا لدينا لنقوله للعالم اليوم أو أن نؤثّر في مصير العالم إلا سلباً؟ لا تظني أن الغرب يحبنا، الغرب يكره العرب والمسلمين لأنه لا يرانا إلا مجرد أدوات يسّرت له استعمارنا، فلم يعد المستعمر بحاجة إلى أن يرسل جيوشاً، صارت له جيوش وطنية داخل البلدان ذاتها”.

لعل هذا الكلام من صاحب “أغاني مهيار الدمشقي”، يفسّر اندفاع بعض الجيوش “الوطنية” إلى قصف شعوبها بمجرّد أن تخرج مطالبة بالحرية.———–


لا يغيب اسم أدونيس عن حديث للمفكر صادق العظم أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق والأستاذ الزائر إلى بعض الجامعات والمراكز الأميركية. لا سيما في السنة الثانية من عمر الثورة السورية، سواء كان ذلك في جريدة «الحياة» كما في حواره الأخير في 22 نيسان(أبريل) 2013 مع الصحافية علياء الأتاسي، أو في جريدة «الشرق الأوسط» في أكثر من مناسبة حيث نسب إلى أدونيس موالاة حزب البعث العربي السوري لأسباب مذهبية. أمّا هنا، في «الحياة» فهو يجعل أدونيس نوعاً من داعية لولاية الفقيه بل معلّماً وكاتباً قروسطيّاً، إذ يقول: «تبنّى خطاباً مدافعاً عن ولاية الفقيه وليس عن الثورة ودافع عنها بلغة قروسطية تماماً كأنّه شيخٌ أو فقيه. شرح ولاية الفقيه بلغة الإمامة والولاية».

والكلام هنا يشير، إلى الفقيه الإيراني، طبعاً، ما دام المتكلّم يربط الخطاب «بالثورة». كما سبق للدكتور العظم استحضار اسم الخميني والثورة الإيرانية بصدد الكلام على أدونيس، في مناسبات مختلفة.
وكان في حديث له مع الإعلامية زينة يازجي في تلفزيون دبي 25 حزيران (يونيو) 2012 قد قال عن أدونيس إنه «نظّر بلغة الإمامة، كأنه من القرون الوسطى. كلنا كنّا مع الثورة. ولكن هو قدّمها بلغة لاهوتية شيعية، وبيّن كيف أن الإمامة استمرار للنبوة، ودافع عن ولاية الفقيه. تقرئين كأنك تقرئين في الكتب الصفراء». إلى أن يقول: «أدونيس صالح النظام. كتب في جريدة «الثورة».
وبما أنّ أدونيس يرفض الردّ، ويقول لي: «كل ما كتبته مُثْبَت في كتبي وهي في المكتبات. وأنا أثق بذكاء القرّاء»، فإنني أجد نفسي ملزَمة بالتصحيح. إذ مهما كان الاتّهام بالمذهبية سلاحاً رائجاً بل دارجاً وسهلاً هذه الأيام، ولا يخفى على الأذكياء، فإنني أعتبره، في مثل وضعنا وتاريخنا وقيَمنا، كأفراد وكأسرة، إساءة لا يمكن السكوت عنها.
يشير الدكتور العظم هنا، كما يبدو، أو كما يَظنّ هو، إلى مقالات نشرها أدونيس مباشرةً، بعد الثورة على نظام شاه إيران، في جريدة «النهار العربي والدولي»، وهي ثلاث. أولى المقالات كانت بتاريخ 12شباط (فبراير) 1979، أي بُعَيْد تأليف حكومة مهدي بازركان الليبرالي في 5/2/1979، ولم يكن هناك (أو لم يكن قد وصلنا) إلا الشعارات والنيات المتداخلة والدعاوة الواسعة حول هذه الحركة والحماسة التي حظيت بها حتى في الغرب، ولا سيما في فرنسا، وبين كبار المثقفين وبعض الفلاسفة، ومنهم ميشيل فوكو نفسه.
وكانت المقالة الثانية في 26 شباط نفسه؛ وقبل دخول «الثورة» في مرحلة التصفيات، وكل ما رافق ذلك من تطورات وعسكرة. ثم كانت هناك مقالة ثالثة بعد مرور سنة وبضعة أشهر بعنوان «الفقيه العسكري». في ما بعد، جمع أدونيس، في كتاب واحد، المقالات الثلاث المذكورة مع دراسات كتبها مطلع الثمانينات حول أعلام الفكر الديني في عصر النهضة، وألْحَقَ الكتاب، بوصفه جزءاً ثالثاً، بـ»الثابت والمتحوّل». أي أدرجه تحت العنوان العام لأطروحته التي كان قد نشرها فور مناقشتها عام 1973. والكتاب الذي يضمّ المقالات عن إيران هو الآن في طبعته العاشرة منذ 1911. ويمكن من شاء أن يطّلع عليها كي يحكم على لغتها ومضمونها، ويقرر ما إذا كانت داعية لولاية الفقيه أو حتى معنيّة بالشأن الدينيّ. كما يمكن أن يقارن بين اللغة البسيطة بل الصحافية لهذه النصوص الموجزة، وبين دراسات في الكتاب نفسه والجزء نفسه تحت عنوان: الفكر المستعاد، أو عصر النهضة، وتتناول هذه الأخيرة أعمال الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا والكواكبي، كما تتناول كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهّاب (ص77- 90 ). (وأيضاً كان هذا النصّ الأخير – مع نصوص إيران المُشار إليها – مادة لكتيّب وقصة أكثر غرابة وافتراء، نُسب فيه أدونيس إلى الوهابية والخمينية معاً، ووصل الكتيّب إلى لجنة نوبل، وليس هنا مجال سرد هذه المهزلة).
صحيح أن النص الأول – حول إيران – كان عرضاً للقضية التي طرحت مع «الثورة الإسلامية» في ضوء الآمال التي أيقظتها أو حُمِلَت عليها، كما بدت في الأيام الأولى، وكأنها حركة تحررية محضة و «إسلام بلا مذاهب» و«ثورة شاملة»، وكما فهمها أدونيس أو كما خُيّل إليه، فسجّل ملاحظته لظواهر أربع. أقتصر منها على ثلاث نقاط تبيّن قراءته لها ومنحى رؤيته، وطبيعة لغته: يقول في ص. 170 – 171: «اليوم يقدم لنا ما يحدث في إيران بخاصة، وفي المجتمعات العربية بعامة، فرصة جديدة، للتأمل في الدين ودوره المحرك في العالم الإسلامي…». «الظاهرة الأولى هي أن الدين يحرك إيران في اتجاه التحول». «الظاهرة الثانية هي أنّ هذا المحرِّك أشمل من أن يكون دينيّاً محضاً بالمعنى الإيماني الغيبي. إنّ له فوق ذلك، أبعاداً سياسية اقتصادية، اجتماعية. إنه بتعبير آخر يتحرك في أفق ثورة شاملة».
وفي الظاهرة الثالثة يبدو لأدونيس أنّ هذا الإسلام «المُحرِّك «يتحرك» من أجل تحقيق التحرر في الداخل: العدالة والمساواة، وحرية الإنسان، وكرامته، والإلحاح على أن يكون سيّد نفسه، ومصيره».
هذا التفاؤل الذي يسقطه أدونيس على الثورة الإيرانية قد جاء في الأيام الأولى بعد الدخول السلمي إلى البــــرلمان الإيراني، وفي أعقاب قرار بازركان إغلاق سفــارة إسرائيل وافتتاح سفارة فلسطين. ولعلّ كثيرين يذكــــرون أصداء هذا الحدث الأخير. لا سيما أنه جاء بعـــد اتفاقية كامب ديفيد بأربعة أشهر وفي مناخ الغضب العربي أو الاستياء، وخروج مصر يومذاك من محور «المقاومة». ولا أعرف أين رأى الدكتور العظم في هذا كله دعوة أو شرحاً لولاية الفقيه. مع ذلك لا بدّ من القول إن أدونيس بالغ في التفاؤل وتسرّع في الحكم.
لكنّ المقالة الثانية، وكانت بعد أقلّ من أسبوعين، فقد جاءت خاصة بالأسئلة والشكوك. إذ في سياق مناقشته لما يمكن أن تحققه هذه الثورة يكرر في نهاية كل مقطع عبارة «وفي هذا الأفق يتحرك شيء من القلق والخوف». ويختتم أدونيس المقالة بهذا التحفّظ : حسبي أن أشير إلى القلق والخوف من أن تغالي جماهيرُنا وقياداتها، أيضاً، فتنسى ثورتها الخاصة أو تنسى أن عليها أن تقوم هي بثورتها الخاصة، وتكتفي بأن تُسقط على الثورة الإيرانية رجاءها وآمالها، أو أن تجعل منها استيهاماً آخر». (ص. 180). تاريخ ظهور المقالة ( 26 شباط 1979) أي بعد 25 يوماً من عودة الخميني إلى إيران، ولم تكن ملامح النظام الجديد المتزمت قد ظهرت ولا السياسة العنفية في تلك المرحلة قد بدأت أو عُرفت.
أما المقالة الثالثة فجاءت بعد أكثر من عام، وتُختَتَم بهذا الحكم الإجمالي على الاتجاهات «العروبوية القومية»، وفق تعبيره، و»الإسلاموية» معاً. يقول في الصفحة 184-185 من الجزء الثالث للكتاب نفسه:
« وأخشى من مجيء الوقت الذي نقول عن أصحاب هذا الاتجاه الإسلاموي، [كما يسميه] ما نقوله ويقولونه عن الاتجاهات العروبوية القومية السابقة: لم تستطع مسلّماتُها أن توحّد لا أدباءها ولا مثقفيها ولا جماهيرها، فضلاً عن سياسييها – ما يسمح بالقول إنّ صياغاتها المفهومية كانت خارج الحركة الحيّة للبشر – تاريخاً وواقعاً وتطلّعاً، وكأنها مجرد أضغاث أحلام، أو مجرد رواسب استيهامية. وكما نقول إن الاتجاهات العروبوية أسّست للمثقف العروبي العسكري، أخشى أن نقول عن الاتجاهات الإسلاموية إنها تؤسس للفقيه العسكري». (26 تموز – يوليو 1980). فأين هو التبشير والتنظير أو شرح ولاية الفقيه كأنها استمرار للنبوّة؟ وهل هذه لغة فقهية صفراء قروسطية؟ الجواب عند القارئ.
المؤكّد أن العظم لم يقرأ الكلام على ولاية الفقيه في مقالاته حول إيران. فمن أين جاء بهذا التوصيف؟ وهل يعرف المصدر حقّاً؟ أم هي بعض الشائعات؟
في سياق بحثي عن الجواب أعدتُ قراءة أطروحة أدونيس التي ناقشها عام 1973 ونشرها فور المناقشة، أي قبل الثورة الإيرانية بأكثر من خمس سنوات. ووجدت أنه، في الجزء الأول، أي في صلب الأطروحة (وليس في الجزء المُلحَق)، في فصل بعنوان «أصول الإبداع أو التحوّل» يستعرض، مجموع حركات التمرّد والثورات والتحولات السياسية والفكرية – الدينية التي حصلت بعد مقتل الخليفة الرابع في السنة الأربعين للهجرة. وكانت بدايات هذه الحركات سياسية تمثلت في الصراع حول الخلافة. لكنها مع توالي الثورات، وتعدد الهزائم والفواجع وتجدد النظرات والمطالب، وتنوّع الاجتهادات والتأويلات لدعم الأهداف، والالتفاف أحياناً حول شخصيات رمزية، سارت تلك الحركات في اتجاه تكوّن المذاهب والنظريات، وبينها القول بالإمامة. وكل هذه المعلومات والكلام الذي يصفه الدكتور العظم «بالقروسطي» و «الكتب الصفراء» لتعريف الإمامة، مستقى بنصه، من المصادر المعروفة والكتب الأمهات المعتمدة في كل المباحث بدءاً من المؤرخ والمفسر والفقيه الشافعي، الشهير، أي الطبري (310 هـ.) في كتابه « الطبقات الكبرى»، وصولاً إلى ابن حزم والبغدادي والمبرِّد وابن خلدون وعدد كبير من مشاهير المؤلفين القدامى ومن المصريين المعاصرين. والأهم بل الجوهري، هو أن السياق ليس سياق تنظير وإبداء للرأي، ولا تبشير أو تنفير، بل سياق تمهيد وتعريف وتسلسل تاريخي، بلغة المرجع ونصه، في كثير من الأحيان. وتحتل لائحة المراجع حوالى ثلث الكتاب. ويمكن لمن شاء أن يرجع إلى هذا الجزء الأول من «الثابت والمتحوّل» (دار الساقي، ط. 10، ص. 223 -243).
أمّا الحركات التي تشكل صلب الموضوع وتمثل ما سماه أدونيس «التحوّل»، فهي ثورة الزنج وثورة القرامطة والتصوّف والفلسفة. (وليس التشيع كما زعم البعض.) كما أنّ هذا النص تأريخي تحليلي سابق، ولا علاقة له بالثورة الإيرانية المعاصرة. وإذاً على أي نص استند الدكتور العظم؟ ومن أين جاء بهذا الكلام؟
ما هي غاية الدكتور العظم من الإلحاح على المسألة المذهبية كلما ذكر أدونيس؟ ولماذا في هذه المرحلة تحديداً؟ هل لهذا علاقة بقوله «أدونيس صالَح النظام»؟ (كأن أدونيس دولة أو حزب أو ميليشيا أو زعيم سياسي). ما معنى مصالحة النظام؟ وهل الذهاب إلى بلد مصالحة؟ هل الصداقة الخاصة مع شخص ما مصالحة للنظام؟ وهل كل من عاش في سورية وعمل في البلد – بلده، ولو أشهراً أو سنة واحدة، متصالح؟ إذاً هل أمضى الدكتور العظم كل هذه السنوات في دمشق متصالحاً أم متخاصماً مع النظام؟
مع ذلك، لا يستطيع الدكتور العظم أو غيره أن يقول إن النظام صالح أدونيس. لأنه استبعده بكل الأساليب. حتى في الأشهر التي كتب فيها في جريدة «الثورة» كانت مجلته وكتبه ممنوعة كما في السابق، وكما بقيت ممنوعة على امتداد نصف قرن. وهل بدّل أدونيس أفكاره لمّا كتب في جريدة الثورة؟ ماذا يمثل أدونيس في سورية أو غيرها من دون شعره وأعماله ومشروعاته وأفكاره؟ وأين كانت هذه المصالحة لمّا أصدرت وزارة الإعلام في التسعينات تعميماً على الصحف توصي فيه بعدم ذكر اسم أدونيس؟ أو لمّا طرد من اتّحاد الكتّاب؟
وبالمقابل، ومع ذلك، فإنني لا أسمّي «مصالحة للنظام» المرسوم الجمهوري أو الإجراءات الاستثنائية التي اتخذت في سورية، لافتتاح دورة خاصة للبكالوريا كي يستكمل الدكتور صادق العظم أوراقه ويتمكن من التعليم في الجامعة، حيث ترأس قسم الفلسفة. ليس هذا ارتباطاً سياسياً أو عقدياً. كان ذلك من مصلحة الجامعة والطلاب، وإرواء لحنين العظم إلى بيته وبلده، ولم يُلزمه بأكثر من أن يكون أستاذاً متميزاً.
وليت الجامعة أو مؤسسات الدولة كانت دائماً بهذه المرونة وهذا الذكاء. ولا أذكر هذا إلا للمقارنة.
مع ذلك، وعودة إلى حكاية «المصالحة»: هل تقلّ كفاءات أدونيس وأعماله وسيرته العلمية وسمعته العالمية، في ميدانه، عن كفاءات الدكتور العظم في ميدانه؟ فلنر كيف تصرفت الدولة نفسها مع أدونيس، وفي المرحلة التي كان فيها يكتب في جريدة «الثورة».
في ذلك الوقت كان رئيس جامعة دمشق صديقنا الدكتور محمد الفاضل يتكلم بحماسة عن مشروعه أو حلمه في إنهاض الجامعة ودعوة كبار الأساتذة السوريين من المغتربات. ألحّ على أدونيس لتقديم طلب للتدريس. وعبثاً حاول أدونيس أن يقنعه باستحالة قبوله، هو شخصيّاً. ولعله قدم الطلب مسايرة، لكي يبرهن للفاضل صحة توقعه. لم يكن في أوراق أدونيس أي نقص، لكن طلبه توقف في شعبة المخابرات ونام هناك نوماً أبدياً. فلجأ الفاضل إلى دعوة أدونيس كأستاذ زائر بوصفه لبنانيّاً. ولما اغتيل الفاضل لم يُسمَح لأدونيس حتى أن يصحح مسابقات طلابه. ونُقِل رئيس تحرير جريدة «الثورة»، الذي توهّم أنه يستطيع أن يبادر، إلى وظيفة هامشية. ولمّا طـرد أدونيـس من اتحاد الكتاب السوريين، لم تُكتَـب كلمة واحدة. لم يرتفع صوت سوري واحد، من هذا المذهب أو ذاك، باستثناء اعتراض للمفكر الراحل أنطون مقدسي وانسحاب الكاتبين الكبيرين حنّا مينه وسعد الله ونّوس من الاتحاد. الحملة العالية الشهامة والواسعة للاعتراض والنقد جاءت من المثقفين اللبنانيين والعرب ومن تجمع الكتاب في السويد.
أما انتقاد أدونيس بأنه لم يدافع عن سلمان رشدي، فكل ما كان يستطيعه أدونيس هو نشر ترجمة عربية لدفاع رشدي عن نفسه في مجلة «مواقف». لكن عمال المطبعة رفضوا أن يصفوا النص.
لأدونيس مع حزب البعث العربي (ومع بعض منتقدي الحزب) تاريخ حافل لا يمكنني أن أرويه هنا. ذات يوم من عام 1956، وكان أدونيس مجنّداً بلا تدريــــــب، أُرسِل في دورية على الجبهة، وراء خط الــــهدنة، بلا سلاح، ولن أروي سائر التفاصيل. ثمّ سُجـــن أشهراً في مكان مثل القبر، وأطلق سراحه من دون تــــوجيه أي اتّهام. وكانت السلطة بأيدي ضباط الحـــــزب الحاكم نفسه. بعد تسريحه من الخدمة الإلزامية بأيام عبر إلى لبنان ليبدأ عمراً جديداً ومصيراً مختلفاً.
ولكن ماذا أقول لأستاذ المنطق في أحكامه ومرتكزاتها؟
————————————————