دين

مَـن هـو المثـقَّـف الدِّينـي؟

By nasser

August 20, 2017

فـاخـر السـلطـان[*]

التجديدُ في الدين جهدٌ فكري يقوم له الإنسانُ المثقفُ لطرح معرفة جديدة ومفهوم جديد عن الدين. إنه بمثابة مدرسة فكرية ينتمي إليها باحثٌ يسعى إلى طرح رؤى دينية متصالحة مع الحداثة، مع التأكيد، في آنٍ معًا، على أهمية العلاقة الروحية الإيمانية بالله. فالباحث هنا لا ينتمي إلى المدرسة الفقهية التقليدية المحافظة، التي هي في الواقع مدرسة تاريخية ماضوية ليست على وفاق مع الحداثة لأنها تسعى إلى تركيب الماضي على الحاضر أو القديم على الجديد.

المنتمي إلى مدرسة التجديد، إذن، إنسانٌ مثقفٌ وحداثي، وفي الوقت نفسه، غير منقطع عن التدين؛ أي أنه ينتمي إلى مدرسة فكرية لها علاقة طبيعية واضحة، بل ومميَّزة، مع الحداثة ومع العقلانية، ويسعى أيضًا إلى علاقة إيمانية خاصة مع الباري جلَّ وعلا استنادًا إلى التجارب الروحية التي خاضها الأنبياءُ في حياتهم. وهو يرفض كذلك أن يضحِّي بجانب على حساب الجانب الآخر: فمثلما أن لجانب الإيمان والتدين أهميةً في الحياة، كذلك فإن الجانب الحداثي والعقلاني لا يقل أهمية في نظره عن الجانب الأول. هو شخص يعتقد أنه يمكن في زماننا الحديث إنتاج فهم جديد لما جاء به الوحي الإلهي (القديم)، وأن ذلك الفهم (الكلام) بمثابة نبع جارٍ باستمرار، غير قابل للنضوب أو التوقف، يغذي الإيمان ويتعايش مع الحداثة.

نستطيع، إذن، أن نطلق على هذا الإنسان صفة “المثقف الديني”: فهو مثقف لأنه يعتمد في تفكيره على العقل المستقل عن الوحي، وهو ديني لأنه يهتم بعلاقته الروحية مع الله، لكن إيمانه نابعٌ من إرادة حرة وقائمٌ على البحث والتحقيق المستمرين. فتديُّن المثقف لا يستند إلى التقليد والتلقين، ولا يخضع لضغوط الإرث الاجتماعي، ولا يقوم على الجبر أو الإكراه، ولا على العاطفة، ولا على العادات والتقاليد، ولا على المصالح الدنيوية، ولا على الخوف من السلطات الاجتماعية، كالأسرة والأصدقاء وجماعات الضغط الدينية والسياسية. إنه يتبنَّى حياة تتوازن فيها العقلانية والتجربة الإيمانية الروحية؛ إذن هو يجمع العقلانية والإيمان معًا. إنه يعيش في إطار هوية تتسم بالواقعية وبالتغيير والتجديد باستمرار؛ وهي عناصر مهمة في دعم العقلانية وفي عملية البحث عن الحقيقة الدينية وفي محاربة الخرافات الدينية (وغير الدينية)، وكذلك في تثبيت الإيمان.

إن مفاهيم كـ”الردة” و”البدعة” وتصنيفات من نحو “كافر” و”مؤمن” لا يمكن أن تجد لها طريقًا إلى قاموس المثقف الديني: هي مفاهيم وتصنيفات تتبنَّاها السلطات السياسية والدينية لمآرب تتعلق بأمور السلطة والسيطرة والوصاية؛ وهي كذلك مفاهيم وتصنيفات تعيش في كنف الهوية الجماعية للمتدينين التقليديين، أنصار الفقه التقليدي المحافظ، الذين ما يلبث الكثيرون منهم أن يوظِّفوا الدين لتحقيق مصالحهم الدنيوية. وهذه النوعية من المتدينين هي الفئة التي يستند تديُّنها إلى الجبر، لا إلى الإرادة والاختيار، إلى الإرث الاجتماعي وسلطاته، إلى العادات والتقاليد، إلخ؛ همُّها “هويتها” الدينية وظاهر الدين و”قشره” ومصالحها، لا الإيمان وأثره الاجتماعي على أخلاق المجتمع وأثره النفسي على توازن الفرد.

وبوصفه مؤسِّسًا للمعرفة الدينية وصاحب تجارب إيمانية روحية معًا، فإن المثقف الديني، من خلال انتمائه إلى مدرسة التجديد في الدين، لا يمكن له أن يطيق الإيديولوجيا. فمدرسته التي تؤسِّس للبحث العلمي في المعرفة الدينية وتشجع التجارب الإيمانية الروحية لا تستطيع أن تتعايش مع أية مدرسة “مؤدلَجة”، وذلك بسبب سلوك الأخيرة المتزمت وحرصها على سدِّ باب البحث عن “الحقيقة” إذا تعارضت هذه وفهمَها وتفسيرَها أو تضاربت مع مصالحها وسلطاتها الدنيوية. ففي حين أن سعي المثقف الديني، من خلال مدرسة التجديد في الدين، ينصب على فتح الآفاق أمام مختلف الباحثين عن الحقيقة الدينية وغير الدينية، نجد أن جهد المؤدلَج وأتباع مدرسة الإيديولوجيا يتركز على تحديد فهم للحقيقة بعينه، وعلى إغلاق بابها عند الحد الذي وصلوا هم إليه والتضييق على مَن يسعى إلى فكِّ أغلال فهمها للخروج من أسر هذا الفهم الضيق إلى ساحة حرية البحث العلمي والمعرفي.

إن مدرسة المثقفين المجددين للفهم الديني تُعارض مسعى الفقهاء لاستخراج فتاوى أو أحكام فقهية مستندة إلى “الحيل” الشرعية كجزء من عملية “التجديد” في الفقه والدين. فالعديد من الفقهاء وُصِفوا بأنهم “مجددون” لا لشيء إلاَّ لأنهم عارضوا تنفيذ بعض الأحكام والحدود الشرعية، كحدِّ قطع يد السارق أو رجم الزاني والزانية، وسعوا لتعطيلها أو إلغائها بذريعة أن ذلك يتوافق مع بعض المفاهيم الحديثة ويمنع “إهانة” الدين ويمثل “تجديدًا” فيه! لكن مهما حققت جهودُ هؤلاء الفقهاء من نتائج، فإنهم لا يجوز أن يوصفوا بـ”المجددين” لأنهم لم يسعوا للاجتهاد في أصول الدين، بل في فروعه، وسعوا في الواقع لتأجيل تنفيذ بعض الأحكام والحدود، واستفادوا في سبيل ذلك من “الحيل” لتحقيق مصلحة معينة.

التجديد في الدين لا يتم من أجل مصلحة، بل من أجل ممارسة التغيير في حدِّ ذاته. لذا فإن على التجديد أن يطال الأصول: علم الكلام وعلم الأخلاق؛ كما ينبغي أن تتم إعادة النظر في مفاهيم أساسية في الدين، كالتوحيد والنبوة والوحي والمعاد، وصولاً إلى التعايش مع الحداثة ومفاهيمها. فإلغاء حدٍّ أو حكم شرعي أو وقفه ليس سوى اجتهاد في فروع الدين من أجل أن يتماشى ذلك مع شكل الحياة الجديد، في حين أن المطلوب هو تعديل الأساس الذي تقف عليه تلك الفروع: كأن يتغير، مثلاً، الفهم الديني القديم المتعلق بحقوق الباري مقارنةً بحقوق الإنسان، بحيث يصبح احترام حقوق الإنسان هو المؤسِّس لاحترام حقوق الله عزَّ وجل (العكس هو السائد حاليًّا، حيث يتم انتهاك حقوق الإنسان بذريعة الدفاع عن حقوق الله!)، فنكون بذلك قد خطونا خطوة مهمة في قضية التعايش مع المفهوم الحديث لحقوق الإنسان، ولَما لجأ الفقهاء إلى “الحيل” الشرعية لإثبات أن الفقه لا يتعارض مع مفاهيم الحداثة.

إن الفقهاء الذين يصفون أنفسهم بـ”المجددين” أو بـ”الإصلاحيين” يعتقدون – خطأً – أن الرابط الوحيد الذي يربط الحداثة بالدين الإسلامي هو الرابط الفقهي؛ لذا يسعون لملء هذا المقعد الشاغر من خلال “الحيل” الفقهية، مستندين إلى مفاهيم مثل “لا حرج” و”لا ضرر”، في استعراض مملٍّ لإثبات قدرتهم على العيش في ظل الحداثة. فإذا كان هناك مسعى لتغيير الفقه وتجديده، لا مناص من أن يسبقه مسعى لتغيير فهمنا للأسُس التي يقوم عليها هذا الفقه ولتطويره.