مكانة الحجاب بين فضائل العرب

لن أنشغل في هذا المدخل بموضوع الحجاب بالذات ، بقدر ما سأمهد لمناقشة الموضوع بتحديد المعاني و المفاهيم ، مع فرش الأرضية التاريخية تمهيداً و تأسيساً حتى نستطيع أن نميز في التعامل مع قضية الحجاب بين الخيطين الأبيض و الأسود . و لنتفق بداية حول معاني ما يطرح من ألفاظ حول هذه القضية ، و لنبدأ بمعنى الفضيلة كقيمة معيارية لسلوك المسلم الأخلاقي ، إذ يضع مشايخنا الحجاب كفرض ديني ، و الفرض حسب الفهم الإسلامي يقف علي الدرجات العليا علي سلم القيم و السلوكيات التى تميز المسلم بالفضيلة و الشرف ، و هي التي تميزه عن بقية بني الإنسان من مختلف الملل و النحل ؛ في كافة أنحاء المعمورة .
إذن لنتفق مبدئياً حول معني الفضيلة كقيمة أخلاقية معيارية لقياس السلوك ، فالمعلوم في الفرع الفلسفي المعروف بعلم الأخلاق ، أنه ليس لفرد أن يحدد السلوك الفاضل ليفرزه عن السلوك الرذيل غير الفاضل و الشرير بالضرورة ، مهما بلغت مكانة هذا الفرد . إنما المجتمع هو الذي يضع التعريفات و المواصفات و التفاصيل و يفرز بين نوعي السلوك ، لأنه لو كان ذلك بيد الفرد ، فإن الفرد لا يريد أى قيود علي سلوكه ، و لا يشتهي سوى إنطلاق رغباته و شهواته التي تحقق سعادته الشخصية بإشباع هذه الرغبات ، بغض النظر عن غيره من أفراد جماعته أو مجتمعه ، و مدى ما يحصل لهم من ضرر إزاء تحصيله لأغراضه وحده دون عنهم . لذلك فإن الجماعة هي التي تبحث عن تحديدات السلوك بغرض النفع العام للجماعة كلها و دون أن تصاب بالضرر و مع ما يتفق و ظروفها و بيئتها و جغرافيتها ، بغرض أساسي ، هو البقاء و عدم الفناء ، أو عدم الذوبان في جماعات أخرى لها نظم و تعريفات أخرى مختلفة لقيمتي الفضيلة و الرذيلة .

و عندما تضع الجماعة فضائلها المرغوبة لديها ، فإنها تلزم الفرد بالتنازل عن بعض رغباته مقابل قبول الجماعة لعضويته فيها ورضاها عنه .
و من هنا فإن الفرد الذي يريد رضا جماعته ، عليه أن يشتري ودها بالتنازل عن بعض رغباته و أن يلتزم بتعريف الجماعة للفضيلة و توصيفها للسلوك الفاضل ، وذلك مقابل نياشين شرف تضعها الجماعة علي صدره ، فيقال عن فلان رجل أمين أو رجل صادق ، و عن فلانة بإنها امرأة طيبة أو زوجة صالحة . و الفرد بذلك لا يتقاضي عما تنازل عنه و خسره مالاً أو عقاراً لأن الفضيلة شأن معنوي لذلك يكون مقابلها بالضرورة شأناً معنوياً غير مادي ، فتعطي الفرد السمعة الحسنة و التي قدرتها الجماعة منازل و مراتب إجتماعية لإشباع غروره و من ثم شعوره بالسعادة ، وعليه ترتقي مراتب الفرد الإجتماعية بمدى إلتزامه بفضائل مجتمعه و ترّفعه عن الصغائر المرذولة .
و بإختلاف ظروف الجغرافيا بين بلاد الوفرة الخصيبة و بلاد الندرة الجافة الفقيرة ، و بين بلاد السواحل و بلاد العمق القاري ، يختلف أيضاً التاريخ ، فتختلف المصالح المرجوة بين بيئة و أخرى و قدرها و زخمها ، كما تختلف المعاني الإنسانية للشهامة و المروءة و الفضيلة و الرذيلة و الخير و الشر باختلاف تلك الظروف المجتمعية الإقتصادية الجغرافية ، و من ثم يتم تعريف أى قيم و كل القيم بأنها معيارية أى أداة قياس للسلوك تختلف من مواطن لآخر و من زمن لآخر ، و إن صلح بعضها في مكان أو زمان بعينه ، فإنه يكون خراباً عاجلاً في زمان و مكان آخرين .
نضرب لذلك مثلاً من المجتمع العربي في جزيرة العرب إبان العصرين الجاهلي الأول و الجاهلي الثاني أو الآخر، قبل الإسلام . فنجد العربي في جاهليته الثانية و قد دارت محاور حياته كلها حول التجارة ، حتي قيل في المثل السائر في الدنيا ( أن كل عربي تاجر ) . و كانت التجارة في جزيرة العرب بداية لتحول عظيم بالمجتمع عن سابق نمطه الجاهلي الأول ،نمط القبيلة المتنقلة وراء الكلأ و عيون الماء ، التي كانت تعيش عالة علي الطبيعة لا تنتج إنما تسعي وراء منتج الطبيعة النادر و الشحيح في الصحارى ، لتشرب مائه و تتغذي علي عطائه نباتاً أو بروتيناً حيوانياً يأتيها ناتجاً طبيعياً من تلاقح قطعانها . و في مثل هذه البيئة حيث النادر الشحيح من الخيرات الطبيعية ، عاش المجتمع العربي في جاهليته الأولى صراعاً قبلياً دائباً لا يهدأ و لا يتوقف على الخيرات الضنينة ، حتى كان العربي يذبح العربي من أجل حفنة
تمرات أو إزار أو درع أو سيف أو سكين أو قوس ، أو من أجل حيازة موطن الماء ،
كان الصراع الاجتماعي إذاك صراع حياة أو موت ، فهو صراع صفري يفوز أحدها و يخسر الآخر حياته و ممتلكاته لصالح المنتصر ، و في مجتمع كهذا لا يكون ثمة معنى للحديث عن الفضائل كالأمانة و النخوة و المروءة و الشرف ، لأن مثل هذه المعاني لابد أن تفضي بصاحبها إلي الفناء جوعاً و عطشاً بالضرورة ، أو التحول إلي العبودية لقبائل أخرى منتصرة .
أما كيف انتقل هذا المجتمع البدائي الهمجي من جاهليته الأولى إلى جاهليته الثانية أو الأخيرة ، فهو ما يمكن قراءته من قراءة تاريخ العالم في ذلك الزمان ، و ما كان من تأثير لأحداث العالم علي جزيرة العرب ، حتى نقلتها من عصر إلى عصر و من توحش إلى بشرية و من زمن السعي وراء الثمار و الماء و الصيد إلى زمن الإستقرار و إنشاء المدن و العمل بالتجارة ، بل و القيام بعبء تجارة عالم ذلك الزمان ، حتى أصبح العرب بفضل تلك الأحداث الدولية هم وسطاء ثم أصحاب تجارة العالم القديم كله شرقاً و غرباً ، شمالاً و جنوباً .
خلال القرن الخامس الميلادي كانت تجرى تحولات هائلة عالمياً و محلياً ، فقد دخلت إمبراطوريتا الفرس و الروم حرباً طالت في زمناً حتى أصبحت سبعينية ، و طاردت كلاهما الأخرى في مستعمرات كل منها و في كل خرم في العالم القديم ، حتى قطعا مسار طرق التجارة بين كليهما قطعاً تاماً ، مما أدى إلي كارثة إقتصادية عالمية ناتجة عن خنق طرق تجارة العالم .
و لعل أهم السلع التى عز شأنها سلعة كانت مطلباً للقتال العسكري ، هي طيوب الهند و أفريقيا التى كانت هى مصادر علم الصيدلة ، و العلاج للجرحي و غيرهم من مصابين بالأمراض . و لم يبق آمناً من بين طرق التجارة الدولية غير طريق الصحارى الكبرى بجزيرة العرب و هو المار بمكة ، و هو الطريق الوحيد الذى لم يرغب فيه لا الفرس و لا الروم ، و تصادف أن أهم البضائع التى كانت ترد لهذا الطريق هو الطيوب الهندية التى كانت تصل من الهند و أفريقيا إلى موانئ اليمن .
و من ثم تهيأت الفرصة السياسية الدولية والإقتصادية لتحول مجتمعي عظيم في جزيرالعرب ، التى تحول عربها عن أكل بعضهم بعضاً للقيام في البداية بالتجارات الصغيرة التى جعلت عرب الجزيرة يقومون من بعد بعبء تجارة العالم مع نمو الثروات الخيالي الذي وصلنا بعض من خبره مع أسماء تجار بلغت ثرواتهم ثروات الأكاسرة و الأباطرة ، كما كان مثلاً شأن أبي أحيحة الأموي . و حمل العرب بضائع الصين و الهند وأفريقيا من شواطئ اليمن إلى بلاد الإمبراطوريات في رحلة الصيف ، و حملوا بضائع الإمبراطوريات عوداً إلى موانئ اليمن في رحلة الشتاء .
و قاد هذا التحول المجتمعي العظيم المتسارع مع تسارع الأحداث العالمية الضخمة و الهائلة ، قبيلة قريش التي سكنت على منتصف الطريق التجاري المار بمكة ، و استقرت فيها و تحولت بها من مجرد استراحة جرداء إلى مدينة عامرة كبيرة ، تنيخ بها القوافل التجارية التجارية للراحة بضعة أيام قبل أن تتابع رحلتها الشمالية الشامية . حيث كان التجار يجدون كل مطالبهم من خيام فندقية إلي ملاه ليلية و مراقص و خمارات ، إضافة إلى ما يلزم من أرباب قبائل جزيرة العرب كلهم ، إستضافت لهم نماذج منحوتة في فناء كعبتها حتى بلغ عددها بعدد أيام السنة ، فيأتي العربي التاجر ليلهو و يعبد و يستريح أياماً جميلة يستمع فيها إلى شعر عكاظ و يبيع فيها و يشتري من سوق بدر ، ثم يضع أسهمه في القافلة الكبرى السنوية في رحلة الشتاء والصيف ، بينما يتم حفظ التجارة في رعاية الرب الأكبر للتجار ، رب السماء ، الأمين الحافظ للتجارات ، الكريم مع عباده ، فكانوا يودعونها الكعبة كمخزن في حراسة الله و هو الإله الأعظم من كل الأرباب صاحبة التماثيل ، لأن تلك إنما كانت شفاء لهم عند رب السماء كي يستجيب لهم و يبارك لهم في تجاراتهم ، و من ثم أصبحت مكة حينذاك مثل لاس فيجاس و سان فرانسيسكو اليوم ، مرتعاً لكل التجارات و النزوات التى تمثلت أول تجارات في العالم ، التجارة بالجنس والعبيد ما بين صويحبات الرايات الحمرإلى أسواق العبيد الكبرى .
و حتى تشتري قريش أمن تجارتها الدولية ، فقد أشركت القبائل العربية الأخرى في تجارتها بنسب تعود علي أصحابها بقدر ما دفعوا في قوافلها . و منحت آخرين جعالات لوقوفهم علي الطريق التجاري الطويل ، لتجعلهم حراساً للقوافل بدلاً من نهبها ، حرصاً علي استمرار سيولة الطريق كضامن لحياة عربية أفضل ، و إدراك من العربي ثاقب ، بعد تجارب أكتشف معها أنها أفضل طريقة للحفاظ علي أمن هذا الطريق من كل سؤ . لأنه الطريق العالمي الوحيد ؛ وان إستمرار سيولة و أمن هذا الطريق سيكون ضامناً لعدم احتلاله من قبل إحدى الأمبراطويتين ، لأن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوا فيها وسلبوا التجار مكاسبهم و فرضوا عليهم الضرائب الباهظة ، و جعلوهم أذلة ، و كان العرب في غنى عن كل هذا ، و أكثر غنى بما حققوا من مكاسب قامت كلها على معاني و كلمة و فضيلة ( الأمانة ) ، فكان كل تاجر حريصاً على أن يعرفه الآخر بأنه ( الصادق الأمين ) ، و ثابروا في هذا الشأن ، لأن الصادق الأمين كان الناس يسلمونه تجاراتهم فيأخذ نسباً أعظم من قرنائه نظير الإشراف علي قوافل التجارات ًو ثمناً لوعثاء الطريق و مشقته . و هكذا كان للمتغير الدولي دوره في ظهور فضائل محلية من نوع جديد لم تكن معروفة و لا حتى مفهومة من قبل زمن الجاهلية الأولى ، كالوفاء بالعهد ، لأن التجارات عهود شفاهية أو مكتوبة ، يكفي نقض بعضها حتى لا يثق الناس في مواثيقها كلها ، فتخسر و تبور ، لذلك كان عربي العصر الجاهلي الثاني حريصاً علي الوفاء بالعهد الذي كان تطبيقه والإلتزام به ، حافظاً للمال المتداول بين أيدي كثيرة و قبائل عديدة ، و ضماناً لحقوق المساهمين قبائل وأفراد و حراس في قوافل التجارة الدولية . و هي فضائل لم يعرفها العصر الجاهلي الأول ، هذا ناهيك عن فضائل متلازمة مثل كرم الضيافة حتى لا يهلك حاملوا التجارات في فيافي الصحارى ، لطوارئ الرياح ومشاكل المرض سواء للبشر أو للجمال فيجدوا في القبائل المتبدية مراكز للراحة و الإستشفاء ، و لأن العائد يعود بفوائده علي الكل ، فكان للكريم علي الطريق اُعطيات تقتطع من عائد القافلة كلها بعد عودتها سالمة آمنة ، رداً للكرم بكرم أعظم يحقق لصاحبه العائد المادي و التكريم المعنوي لفضله وكرمه ، و رد من الجماعة للجانب المادي بالمادي مع تكريم صاحبه و إشهار شأنه بفضيلة الكرم ، و بلغنا من بينهم حاتم الطائي بكرمه الأسطوري و هاشم جد النبي الذي كان يهشم الثريد لقومه أزمان المجاعات لذلك لقبه العرب هاشماً بينما أسمه الأصلي هو عمرو.
و قد كان النبي يذكر قريشا مقرونة بالأمانة دوماً ، و من حديثه لأبي قتادة إبان حرب النبي مع قريش قوله : ” يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة من بغاهم أكبه الله على فيه ” . السيرة الحلبية ج 2 ص 525 .
المهم مع هذه التحولات في الجزيرة بدء ظهور الشعور القومي نتيجة إلتقاء العرب في الأسواق ، ثم تقارب لغاهم المختلفة للتفاهم ، حتى صاروا يتفاهمون بلغة العاصمة التجارية مكة لغة قريش ، فكان إن بزغ شعور قومي يدفع العرب لإختيار أنفسهم شعباً واحداً له لغة واحدة و أب واحد هو يعرب بن عدنان ، الذى يعود لإسماعيل بن إبراهيم الخليل ، تقارباً مع التوراة و تأثراً بيهود الجزيرة و أساطيرهم عن آباء البشر الأولين . و هنا بدأ حلم العرب في توحد قبائلهم في دولة . بعد أن شعرت بالتآزر بعد أن كانت تأكل بعضها بعضاً في معادلة صفرية مستمرة . و من كان يكسر هذه الفضائل المستحدثة كانت قبائلهم ترفضهم و تلفظهم خارجها بلا حماية و لا رعاية في مجتمع بلا شرطة و لا قانون ، و النسب للقبيلة هو دعامة للفرد في مواجهة غوائل المجتمع البدوي ، و قد شكل هؤلاء الملفوظون من قبائلهم من اشتهروا بلقب الذؤبان و أحياناً الصعاليك ، و هم من مرق علي قيم مجتمعهم غير معترف بها و لا بفضائل جماعته ، و عادة ما شكل هؤلاء خطراً مستمراً على التجارات جاءت به حكايات القوافل ، كفرز موضوعي ضروري بحسبانه تمرداً يتبنى مبادئ مخالفة ، و ما خالف فضيلة المجتمع فهو رذيلة، مقابل الفرز الأعظم للفضائل الكبرى الخادمة لمصالح الجماعة و كبار التجار و ذوي الوجاهة مثل الوفاء بالعهد و الأمانة و الكرم .
عندما ظهر الإسلام عاد بالعرب إلى زمن الغزو و الأسر و السبي ، و السلب و النهب ( من قتل قتيلاً فله سلبه ، ومن أسر أسيراً فهو له / حديث نبوي ضمن شريعة الحرب) ، و هو أخشى ما كان يخشونه العرب على تجارتهم ، خاصة عندما هاجر النبي و أصحابه إلى يثرب حيث عنق الطريق التجاري الدولي ، و أخذوا يقطعون الطريق علي قوافل قريش التجارية في حصار إقتصادي يطلب تركيعها للنظام الجديد و الدولة الجديدة الطالعة على صفحة الزمان في جزيرة العرب . و هو ما جاء أول ما جاء على لسان النبي ينادي اتباعه قبل الغزوات و السرايا و الفتوح ، و قد تم تجنيدهم و تجييشهم و تدريبهم شهوراً سابقة في يثرب للقيام بمهامهم التى ألقاها التاريخ علي عاتقهم ، فقاموا يغيرون تاريخ العالم . يقول النبي :” أحلت لنا الغنائم و لم تحل لأحد من قبلنا ، و ذلك أن الله رأى عجزنا و ضعفنا فوهبها لنا ، الثعلبي /العرائس / المكتبة الثقافية / بيروت ، ص 249 ” . مصحوباً بالآيات القرأنية تضع قواعد نوزيع الغنيمة بعد إنتصار الغزو ” و اعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه و للرسول و لذوي القربي و اليتامى و المسكين و ابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا علي عبدنا يوم التقى الجمعان و الله على كل شئ قدير ، .. فكلوا مما غنمتم طيباً حلال و اتقوا الله إن الله غفور رحيم ، 41 ، 66 / الأنفال ” .

Advertisements
Advertisements

بمقاييس فضائلنا المعاصرة لن يكون مفهوماً كيف يكون القتل و الغنم حلالاً طيباً ؟ و قد يقف العقل حائراً يحاول أن يفهم و لإيمانه تثبيتاً . و بمقاييس مواد معاهدة جينيف لابد أن تجفو الروح السلب و القتل و الغنائم ، لكن الإسلام كان يعلم ما هو فاعل ، كان هو الأعلم بزمانه و ظروفه ، و إن العربي لا يخضع لعربي إلا إذا كان ذا شأن عظيم كالنبوة المصحوبة بالقوة ، فهذه القبائل لا توحدها و تضمها تحت سلطان دولة يثرب المدينة إلا القوة القاهرة لأنفة البدوي التى تجعلة يرفض الخضوع لسلطان من غير سلطان قبيلته .
و هذا بالتحديد ما جعل قريشا سيدة عالم التجارة تجزع علي تجارتها التي ستؤدي إلى خراب الجزيرة كلها ، فكان قطع المسلمين لطريق التجارات و الإستيلاء علي ما فيها و قتل حراسها و مرشديها يعني كساد التجارة و بوارها . و هو ما يمثله قولهم : ” لتقطعن عنا الاسواق فتهلكن التجارة ، و ليذهب ما كنا نصيب فيها من المرافق / سيرة ابن هشام في الروض الأنف للسهيلي 4 / 186 ” . أو ما عبر عنه لسان صفوان بن أمية يردد لسان حال قريش و هى تقول : ” إن محمدا و اصحابه قد عوروا علينا متجرنا ، فما ندري ماذا نصنع بأصحابه و هم لا يبرحون الساحل ؟ و أهل الساحل قد وادعوا محمداً ( أى دخلوا في حلفه و سلطانه ) ، و إن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموال ، فلم يكن لنا من بقاء ، و إنما حياتنا على التجارة إلى الشام في الصيف ، و إلى اليمن في الشتاء / أبكار السقاف / نحو آفاق أوسع / الأنجلو / القاهرة ، ج2 ، 1458 ” .
لذلك طمأنهم الإسلام وأعطاهم برهاناً على مكاسبهم المقبلة ، بما كسبه جنوده من الغزو و السلب و النهب الحلال ، أحل من لبن الأم و برضي و مباركة و مشاركة سماوية بالملأ الأعلى الذين نزلوا يحاربون مع المسلمين لتأكيد هذة الحلالية ، مع برهان آخر بعدة غزوات علي بلاد الروم كراً و فراً و استقطاع أرض بقبائلها من الرومان لتخضع لسلطة يثرب مثل وادي القرى و تيماء ، موجها نظر العرب إلى حيث كنوز العالم ، فكان البديل بالغزوالخارجى هو الأعلى و الأكثر عائدية ، ناهيك عن كون المحارب لو مات لدخل جنة عرضها السماوات و الأرض . كان البديل للتجارة هو فتح الباب لغزو دول الحضارات المحيطة حيث الثروات الهائلة و كنوز الأباطرة و الأكاسرة و الأمراء الدوليين و سادة العالم القديم . و تطميناً بعبارات مباشرة يقول القرآن مخاطباً قريشا و العرب : ” و إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله و الله عليم حكيم / 28 / التوبة ” . و يشرح ابن هاشم مصدر هذا الفضل الذي سيغنيهم بقوله : ” يغنيكم الله من فضله أى من وجه غير ذلك .. قاتلوا الذين لا يؤمنون بالكتاب و اليوم الأخر من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، أى ففي هذا عوض عما تخوفتم من قطع الأسواق ، فعوضهم الله بما قطع عنهم بأعناق أهل الكتاب من الجزية / المسعودي / مروج الذهب 2/ 57 ” .

عاد المجتمع العربى فى جزيرتة إلى فضائله القديمة التى كانت قد أصبحت في العهد الجاهلي الأخير رذائل منبوذة من المجتمع ، نتيجة الطارئ الجديد الإسلامي ، و لكنها لبست ثوباُ جديداً أكثر تماسكاً و قوة ، ثوب الدين الواحد الجامع ، في شكل أوامرو نواه و حدود و جزاء و عقاب دنيوي و أخروي ، و هو ما مهد فيما بعد لإكتشاف التشريع القانوني الذي لم يعرفه العرب من قبل ، إلا في شكل مواضعات اجتماعية فاضلة و غير فاضلة .
و المعنى في كل ما سلف أن الفضيلة معنى يتطور و يتغير بتطور الزمن و تغيرظروف المجتمع محلياً نتيجة إرتباطه بالمجتمع الإنساني و ما يحدث علي سطحه من أحداث تاريخية . و لا توجد فضيلة ثابتة تناسب كل المجتمعات ، فما هو فضيلة في زمن ، قد يكون أشر الرذائل في زمن أخر داخل نفس المجتمع ، و ما هو رذيلة في مجتمع قد يكون فضيلة كبري في مجتمع آخر ، كذلك تتغير دلالات الفضيلة بتغير الزمن و متطلباته .
أضرب هنا مثلاً آخر من تاريخنا العربي : عن زياد بن جزء الزبيدي قال في فتوح مصر : ” لما فتحنا باب إليون ( بابليون ) تدنيا قرى الريف فيما بيننا و بين الأسكندرية قرية قرية ، حتى وصلنا إلي بلهيب ، قرية من قرى الريف يقال لها الريش و قد بلغت سبايانا المدينة و مكة و اليمن . أرسل صاحب الأسكندرية إلى عمرو بن العاص : إني كنت أدفع الجزية إلى من هو أبغض إلى منكم معشر العرب ،للفرس و الروم . فإن إحببت أن أعطيك الجزية علي أن ترد علينا ما إصبتم من سبايا أرضي فعلت . فكتب عمرو بن العاص بذلك إلى عمربن الخطاب فأجابه : أما بعد ، فإني قد جائني كتابك تذكر أن صاحب الأسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن نرد عليه ما أصبتم من سبايا أراضيه ، و لعمري لجزية قائمة لنا ، و لمن بعدنا من المسلمين أحب إليّ .. أما من تفرق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكة و اليمن ، فإنا لا نقدر علي ردهم ، و لا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به / الطبرى / ج 2 / أحداث سنة 20 / دار الكتب العلمية / ص 512 ، 522″ .
هنا لابد أن نلحظ بشدة استمرار فضيلة الوفاء بالعهد و الحرص عليها في الزمن الإسلامي ، متوارثة من زمن الجاهلية الثاني الذي تنتسب إليه أعظم مكارم العرب و فضائلهم في الأمثال و القصص التي وصلتنا عنهم . و قد حرص الخليفة عمر علي العمل بهذه الفضيلة و خشي معاهدة صاحب الأسكندرية على شرط و عهد أن يعيد إليه بموجبه نساء و حريم بلاده المسبيات ، فهو مما لا سبيل إليه ، فلن يعيد أحد في مكة أو المدينة أو اليمن ما وصله من حريم مصر و أخذه نصيباً و فيئا حسبما كان يوزع عمر الفئ و الجزية علي العرب ، كل حسب رتبته الإجتماعية و نسبه بين العرب ، ففرض أولاً لهاشم ، ثم لأصحاب بدر ، ثم للسابقين ، ثم للمهاجرين ، ثم للأنصار ، ثم لباقي قبائل العرب .
رفض الخليفة هذا الشرط المعاهد للصلح لأن إستعادة النساء اللاتي تم توزيعهن متعة للعرب مسألة شديدة الصعوبة ، و هو ما يعني مخالفة الوفاء بالعهد كفضيلة راسخة منذ العصر الجاهلي الثاني صانع المكرمات ، بينما لم يلحظ الخليفة بالمرة أن سبي النساء يخالف فضيلة إجتماعية متفق عليها بين دول العالم القديم إسمها الحفاظ علي العرض من الهتك . و الأمر ببساطة دون محاولة تغليف أو تجميل للتاريخ ، أن هتك عرض العدو لم يكن رذيلة في القانون الأخلاقي الإسلامي ، و إذا كان الزمن قد تغير و أصبحت مشاعرنا اليوم لا تقبل سبي النساء و نكاحهن ، فإن زمنهم كان سبي و هتك العرض علامة رجولة و فحولة و قوة و بطولة ، ناهيك عن كون ركوب السبايا كان إعلان نصر و فوز لله و جنوده المسلمين .، فكان كل قائد فاتح يتغنى بعدد ما سبي من نساء بلاد الحضارات ليوزعوا علي عرب الجزيرة و يباع الفائض في أسواق النخاسة . كان ذلك علامة نصر بغض النظر عن الوسائل و علاقتها بسلم القيم . كان السبي هو ضريبة الهزيمة على من لا يستجيب لأحد المطالب الثلاثة : الإسلام ، أو الجزية ، أو الحرب ، و ما يتبع الحرب للمهزوم من تحوله من إنسان حر إلى عبد مملوك هو و ما يملك من مال أو عقار أو بهائم أو نساء ، حسب قانون الحرب الإسلامي . كانت تلك هي ضريبة المعادلة الصفرية ، وقد أدت شريعة الحرب الإسلامية إلى تقيق مرادها، فكثيراً ما دفعت إلى إستسلام بلاد عظمى للإمبراطورية الطالعة دون استمرار المقاومة ، لما شهدوه يحدث لبلادهم ونساءهم وأطفالهم ، وعندما اكتشفوا أن عند العرب قانون يقول إن ما أخذه العرب عنوة هو ملك لمن أخذه ، و هو غير ما يؤخذ بالاستسلام بعهود تعفي المهزوم من العبودية المباشرة ليدفع ضريبة الرؤوس جزية و هو صاغر . ما يذكرنا بما حدث منذ قريب في هجرة فلسطينية واسعة إلى خارج فلسطين بعد عدة غزوات قامت بها العصابات الإسرائيلية الأورجون و اشتيرن و غيرها على دير ياسين و قبية و كفر قاسم فكان أن ترك الناس كل ما يملكون و هربوا بجلودهم .
و ما بين اليوم و الأمس أربعة عشر قرون ، و مع ذلك سمح الظرف العالمي بإستعادة مبدأ كان مطلوباً في زمنه و إنتهى زمنه وأصبح قيمة مرفوضة ، إستعاده الظرف العالمي من مكمنه في سلة مهملات و قمامة التاريخ ، ليقيم الإسرائيليون لهم دولة بغض النظر عن الوسائل بمقاييس اليوم ، لأن الرذيلة لابد في السياق الموضوعي للأحداث أن تتحول إلى فضيلة يتم تغليفها بكونها إستعاده لأرضهم من العربي المحتل ، و إنها حالة دفاع وطني مستمر ضد محيط متوحش يتنمر لها حسبما يقولون إن صدقا أو كذبا .
المعادلة الصفرية كانت تحافظ علي حياة البعض بعد أن يتم القتل البعض و يأخذوا ما لديهم لإستمرار المحافظة علي حياة البعض ،و قد إستدعى ظرف العالم و تكوين إسرائيل إستدعاء تلك الفضيلة القديمة بمبرر إقامة دولة إسرائيل المباركة من الرب و حتمية قيامها حتى يصدق الواقع مع نبؤات الكتاب المقدس . لتكتسب المعادلة الصفرية قداسة ورعاية إلهية مباشرة لتصبح أعلى من الفضيلة ، لكونها مقدسة .


هنا لابد أن يطرأ سؤال يطرح نفسه بلا تردد : إذا كان الإسلام قد أجاز وطء المسبيات و نكاحهن بلا عدد ، و شراء الإماء لنكاحهن بلا عدد ، و أعطى الزوج بالإضافة إلى حريمه أربع زوجات حرائر ، و كلهن ( إماء و زوجات ) حلال أحل من لبن الأم ، و الزوجات هن من ينجبن الأبناء الصرحاء الأحرار بالدم ، أما لو أنجبت الجارية فيتم إعطائها لقب فيه شبه إعتراف و عدم إعتراف هو ( أم ولد ) فتقف فى مرتبة بين الأمة وبين الحرة . فإذا كان للرجل كل هذا الحشد من النساء في آن واحد ، فما هو المقصود بالزني كرذيلة في الإسلام ؟ و ما معني هتك العرض؟ و هل يمكن تصور كل هذه الأجساد في حضن رجل فرد و يفكر في الزنى ؟ و لماذا ؟ و هو لابد أن يستدعي السؤال بالنتيجة : و هل كان ذلك متوفراً لكل إنسان في دولة الإسلام منذ زمن النبي و حتى إنتهاء دولة الخلافة العثمانية ؟ هذا ما يحاول أن يوعز لنا به أنصار الدولة الإسلامية من الإخوان وأنصارهم ، فيحكون لنا عن إزدهار زمن الخلافة الراشدة لإنها كانت تطبق الشريعة حتى كانوا يشترون الجارية بوزنها ذهباُ ، دون أن يشعروا بأي مشكلة مع كون هذه الجارية كانت حرة في بلادها قبل أن تخطف لتباع ، و أن نهر الأموال الذي فاض علي العرب لم يكن لتمسكهم بتطبيق الشريعة ، و لكن لأنهم سلبوا البلاد المفتوحة و هتكوا عرضها و سلبوها كنوزها و خيرها و حلبوها حلباً .
لدينا في كتب الفقه الإسلامي تفاصيل طويلة تجعل من عارفها يعرف كيف كان الرجل يفضل أن يشتري جارية لو كان له مال ، علي أن يتزوج لما في الزواج من أعباء ، و يقول الفخر الرازي بشأن اقتناء الإماء ” و لعمري أنهن أقل تبعة ، و أخف مؤنة من المهائر ( أى الحائر المدفوع لهن المهر ) ، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهم أم لم تعزل ” .
و بهذه الكتب تفاصيل لنكاح السراري و الإماء في أبواب طوال تحدد الفارق بين نكاح الحرة و نكاح الأمة ، و مكان الحرة القانوني و مكان الأمة و تراتبهما الطبقي و ما يترتب علي ذلك في الواقع من حيث الحق و الواجب ، و أبحاث حول جواز نكاح الإبن لجارية / أَمة أبيه من عدمه ، و حد الزنى العقابي على الحرة الذي يختلف عن عقاب الأمة الزانية ، فالأمة الزانية عقابها التقريع و التخوبف و ربما الضرب و إن كررت فعلها يبيعها صاحبها في السوق و لو بخردلة . أما الحرة فعقابها القتل رجماً للثيب و الجلد للبكر . كذلك هناك بحوث حول ملابس الحرة و ملابس الأمة ، إذ لم يكن الرجل يعتبر أن الأمة ذات شرف فهي أقل من كونها شئ ، لذلك كانت الإماء تتبرجن و تتزينن ، وفي الجاهلية الثانية كانوا يتاجرون بالإماء دعارة مقابل المال في مكة حتى جاء الإسلام و أنكر هذا الفعل و حرمه و جرمه . أما الحرة فلابد لها من ملابس خاصة واضحة تميزها بشكل قاطع بعلامات تقول أنها حرة ، و أن يكون ذلك الملبس بقصد الإعلان ، لذلك كان الرجل العادي في السوق يستطيع أن يميز بين الأمة و بين الحرة ، و أنه ربما حاول التحرش بالأمة ، لكنه أبداً لا يتحرش بالحرة ، لذلك ازداد الإسلام تمييزاً لنسائه الأحرار عن نسائه الإماء بالخمار ، فأمر بقوله : ” و ليضربن بخمورهن علي جيوبهن 31 / النور ” . و يشرح الشيخ يوسف قرضاوي معنى الأية بقوله : ” إن أوامر الإسلام كانت بمخالفة المشركين و المجوس كأوامرللنبي ، و أن القرطبي فسر فقال : إن النساء زمن النبي كن يغطين رؤوسهن بالأخمرة و يسدلنها علي الظهر فيبقى النحر مكشوفاً ، فأمر بإسدال الخمر علي الجيب أى الصدر، و كان غطاء رأس كالرجال ، كجزء من طبيعة البيئةلإتقاء الشمس الحارقة : قل يا أيها النبي لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين / 59 / الأحزاب ، و سبب نزولها أن عادة الأعراب التبرز في الصحراء و ليس داخل البيوت ، فكان بعض الفجار يتعرضن للمؤمنات مظنة أنهن جواري غير عفيفات ، فجأت الآية لتميزلباساً للحرائر المؤمنات ، و كان عمر يضرب الجارية إذا تحجبت محافظةً علي تميز الحرة بزيها ، و في زمننا لا توجد جواري ، و الكنف داخل البيوت ، و انتفي شرط إدناء الجلابيب للتميز بين الحرة و الأمة / حلقة الظاهريون الجدد / قناة الجزيرة ” .
مما سبق عرضه نفهم أن ملابس نساء الجاهلية كانت شديدة البساطة ، فهى قطعة قماش تشق من وسطها بفتحة مناسبة تسمح بدخول الرأس ثم تخاط من الجانبين ، فيظل الشق مفتوحاً لعدم معرفتهم بعد بنظام السوستة ، أو الأزرار التي ما كانت تجمع شقاً بحجم الرأس فوق الثديين علي بعضه البعض ، و ما كان لديهم معرفة بشأن الحياكة الأكثر تعقيداً و تخصصاً في بلدان الحضارات و أزيائها ، لذلك يقول القرضاوي : ” كانت المرأة في الجاهلية تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شئ / نفس الحلقة” . و كانت الحرة تلبس خماراً علي رأسها و هو من تخمر الرأس أى تغطيتها حماية للشعر من أتربة الصحاري و حرها ومنعاً لإصابته أيضاً بالحشرات لندرة الماء ، لذلك تسمى المشروبات الكحولية خمراً لأنها تخمر العقل أى تغطيه فلا يعود يميز ، و كان للخمار طرفان يلقيان خلف الرأس فيغطيان الفتحة الموجودة بالقفا أعلى الظهر ، فطلبت الآيات منهمن جعل طرف من طرفي الخمار يغطي فوق الثديين في الجلباب المفتوح و هي المنطقة التي كان العرب يعرفونها باسم الجيب ، و يغطي الطرف الآخرالقفا . و أن يصبح الخمار دالاً علي الحرة المسلمة و مميزاً لها عن عن الإماء حتى أن عمر بن الخطاب ضرب أمة تداري ثدييها بالخمار فأمرها بخلعه وتعرية ثدييهاعلي الفور .
لم ينسانا السؤال إبان الشرح فهو مازال يلح طالباً إجابة : إذا كان للرجل أربع نسوة و عشرات أومئات الجواري فلماذا يزني ؟ و لا ينى المنطق يشعرنا بمدى حيرته إزاء هذا التساهل الشديد في حشد هائل للنسوة في بيت واحد لرجل واحد ، مع تشديد عقوبة الزنى و تغليظها علي الزناة ، فهي أشد الحدود و أفظعها للحس الإنساني و أشد حدود الإسلام غلظة و فظاظة ، فهى تحمل إلى جوار العقوبة هدف إطالة زمن معاناة الجاني و عذابه ، كانت الرجم حياً حتى الموت ، مع إشراك المجتمع في تطبيق العقوبة العلنية في حالة تنفيس بدائي من ذوي الخطايا ، ليرموا علي المحكوم خطاياهم مع كل حجر راجم .
و كان ذو المجاسدعامر بن جشم قبل الإسلام ، و غيره من كبار القوم و وعليتهم ، قد شرعوا للعرب ما أخذ به الإسلام من بعد ، و ذلك مثل حد الزنى الذي أخذه ذو المجاسد نقلاً عن حدود توراة يهود الجزيرة ، ومثل تجريمة وأد القبائل الفقيرة للأطفال وبخاصة البنات ، فأسماة العرب : محيى الموؤدات ..
إن تفحص تلك الخريطة المجتمعية يعني أن نتذكر أن مجتع بدو الجزيرة ، كان مجتمع ندرة شحيح ، يستولي فيه القادرون علي الخيرات بالغزو و السبي و الشراء ، و أن المرأة كانت سلعة ضمن تلك الخيرات ، فتكون النتيجة مع قدرة حيازة نساء أربع و مالاً عدد له من إماء ، أنه لن يتبقى لبقية الرجال فائض من النساء ، و هؤلاء عادة هم غير القادرين و الفقراء المعوزين .
و للحفاظ علي ثروة الأغنياء من الحريم تم اشتراع هذا الحد القاسي منتقلاً من اليهودية إلى عرب الجاهليتين ثم إلى الإسلام ، لأن رذيلة الزنى كان إحتمال وقوعها أكثر من بقية الرذائل كالسرقة مثلاً ، فالشئ المسروق لا إرادة له ، أما المرأة فإنها عندما تريد الزنى فإنها تتحرك و تسعى و تفكر و تحيك ظروف الواقع لتصل إلى سارقها أو بالأحرى إلى سارق مالكها . و مع حيازة قلة من الرجال لمعظم النساء لجأ العرب الفقراء إلى المثلية و إتيان الحيوانات الأليفة ، بل و تأليف حيوانات كالقردة و تدجينها لما في العلاقة الجنسية معها بما يشبه حال الإنسان . كتعويض للفقراء عن نساء لا يحصلون عليهم إزاء مزايدة الأغنياء عليهم في المهور و القدرة الشرائية .
و ظل هذا النوع من الجنس غير السوي مستمراً حتى زمن ظهور الإسلام بل و حتى زمن وضع علوم الأصول و الفقه ، و قال الفقه قوله فيه ، بل تطرق إلى تفاصيله و ما يترتب عليه كشأن اعتيادي معلوم و علاقته ببيقية الفروض الإسلامية ، فتحدث مثلاً عن جماع القرود و الحيوانات كمفسدات للصوم : ” و لو أدخل حشفته أو قدرها من مقطوعها في فرج و لو أولج حيوان قرد أو غيره في آدمي و لا حشفة له فهو يعتبر إيلاج لكل الذكر / أنظر كتاب الإقناع المقرر علي طلبة الأزهر ص 90 ج 1 ” .
و قد استثمر الإسلام هذا الوضع الإجتماعي فأقر العود لنظام الغزو و الغنم و السبي الذي كان قائماً في الجاهلية الأولى ، كمحفز لغير القادرين للدخول في الإسلام و الانخراط في جيوشه للحصول علي الغنائم و السبايا والحصول علي الإشباع الجنسي ، و كان هذا الدافع الجنسي المتغول لدي الفقراء المغتلمين حافزاً يفسر بشديد الوضوح سر الاستماتة البطولية لجيوش المسلمين في القتال و انتصارهم رغم قلة عددها قياساً علي العدو ، في كثير من معارك التاريخ الفاصلة . و من ثم كان تشريع السبي و نكاح السبايا ضرورة عسكرية موضوعية لتحقيق الانتصارات و الفتوحات الإسلامية . كان تشريعاً يليق بزمانه ، لكنه أبداً لا يليق بزمننا ، فليس صحيحاً بالمطلق أن شريعتنا صالحة لكل زمان و مكان ، فهو وهم يجب أن نتخلص منه حتى نستطيع ابتداع ما يصالحنا مع زماننا ، زماننا الذي ألغى كل هذه الألوان من الجنس الإغتصابي و اعتبرها جرائم عظمى ، و لم يبق سوى علي العلاقة القائمة على القبول و التراضي بين الطرفين كسبيل وحيد لمشروعية العلاقة . و كانت البداية من زمن الخديوي إسماعيل في معاهدة مع إنجلترا علي منع بيع و شراء الرقيق السوداني ، و إبراهام لنكولن الذي أصر علي تحرير الرقيق حتى دخلت الولايات المتحدة أفظع حرب في تاريخها ( الأهلية الأمريكية ) و بعدها تم اعتبار الرق وصمة عار في تاريخ البشرية الشرير .
و استمر الفقه الإسلامي في تحريم الزنى حتى لو تمت العلاقة بالتراضى و القبول من الطرفين ، لأنه اعتداء على فرج يملكه آخر ، هو اعتداء علي الملكية ، فالمرأة لا تملك نفسها و من ثم لا تملك جسدها لتمنحه أو تمنعه ، فالمرأة لابد أن تكون مملوكة لرجل ، لأبيها أو لزوجها أو لأخيها او حتى لابنها . و ذلك حفاظاً على حقوق المالكين الذين كانوا في زمن الفتوحات هم العرب وحدهم فلا أحد يملك شيئاً و لا حتى نفسه إذا كان ضمن المفتوحين ، مما أنشأ أزمات جنسية في معظم الإمبراطورية العربية ، كذلك استمر حد الزنى قائماً و مستمراً للترويع و التخويف و الترهيب ، بينما استشرت ألوان الجنس اللاسوي كالمثلية و الجماع مع البهائم و الحيوانات المستأنسة لتفريغ طاقاتهم الجنسية ، و هى أنواع من الجنس لم تضع له علوم الفقه حدوداً مقررة واضحة متفق عليها بل هى تكاد تكون بلا حدود ، كلون من السماح الغير معلن .
ورغم كل متغيرات العالم الحديث و المعاصر الذي جرم الرق و السبي أو اعتبار المرأة من الأشياء المملوكة ، و ألغى التعدد و جرم هتك العرض و صنفه ضمن أبشع الجرائم ( الإغتصاب ) . فإن فقهاء الإسلام عند موقفهم لا يريمون حراكاً و لا تغييراً و لا تبديلاً ، رغم أن الفضيلة و الرذيلة بنت زمانها و ظروفها و مجتمعها الذي أفرزها و توافق عليها ، و الزمن كله غير الزمن و الناس غير الناس ، مما يلزم معه التواضع على دلالات جديدة لمعنى الزنى عندما يكون جريمة وفق مقتضيات عصرنا ، و هو ما يعني التخلي عن فضائل الأمس التي هى بلا منازع رذائل اليوم ، فلا شئ صالح لكل زمان و مكان . ففي زماننا و في بلادنا و نتيجة ضيق ذات اليد لملايين المسلمين أفرز الواقع زواج المسيار و العرفي و المؤقت و المتعة و الوهبة و الغفلة ، تحايلاً علي تشريع جمده الفقهاء عند القرن الرابع الهجري ، حتى قالوا : لم يترك السلف شيئاً للخلف ليجتهدوا فيه !! و لا تجد البنت أو الشاب حرجاً علي أنفسهم أو علي إسلامهم و يقينهم بدينهم و هما يمارسون تلك الزيجات ، إن المجتمع يجد حلوله رغم أنف أفراد من الفقهاء يريدون تثبيت الزمان .
و ضمن هذا الثبات عند عشرة قرون مضت اضطر الفقهاء للسكوت و ليس التنازل عن حق ملكية الرقبة و معاشرة الإماء نتيجة التوافق الدولي علي تجريم الرق و الاغتصاب ، فحرمته السعودية في الستينات بعد طول إمتناع و تبعتها موريتانيا في الثمانيات ، يقفون عند زمن المسلمة الحرة الشريفة الملزمة بلباس يناسب ظروف بيئتها يخمر فجوة الثديين ، ليجعلوا منه ما أسموه حجاباً لأن المقصود لم يكن تغطية الرأس ، لأن غطاء الرأس كان قائماً بالفعل حرصاً على الدماغ من الحرارة و الآفات و القذارة . و اليوم عندنا السوستة و الحمد لله ، و مع إلغاء الرق تحولت الصفات التى كانت للجواري إلى بنات غير المسلمين بإطلاق فهن كالجواري لا يلزمهن حجاب لأنهن لسن من الأحرار ، لأنهن سيكونن يوماً جواري للمسلمين لأن فريضة الجهاد لا تتوقف مادام هناك فرد واحد في العالم لم يسلم بعد ، رتبتهم هي رتبة الإماء فغير المسلمة غير حرة و بالتالي غير شريفة بالضرورة حسب الموروث العربي ، و هي تحت طائلة السبي في أى وقت يتمكن فيه المسلمون من إخضاع الأرض كلها لدين الله الذي لا يقبل بغيره ديناً : الإسلام . لذلك لابد أن تتميز الحرة اليوم ( و هي المسلمة وحدها ) كما كانت تتميز زمن الدعوة ، بضرب الخمر لكنهم يأخذون الخمر كله ، ما علي الجيب و ما علي الرأس و يخترعون له اسماً جديداً هو الحجاب ، و هو شأن لم يفرضه القرأن علي نساء المسلمين و لا أشار إليه و لا شرعه و لا قننه ، و حتى لو كان فرضاً كما يقولون فهو لتغطية الجيب و لم يتحدث عن الرأس ، فالخمر كان علي الرأس كعادة بيئية صحراوية من الأصل .
و العادة قد نأخذ بها أو لا نأخذ بها ، و لا ترقى مطلقاً لدرجة الفرض . لقد اخترع الإسلاميون لمسلمات زمننا شيئاً ليس في دينهم إسمه الحجاب ، فقط من أجل إثبات وجودهم مع الإصرارعلى طاعة المسلمين لأوامرهم بحسبانهم ممثلي الله قي الأرض ، لتأكيد السيادة و السيطرة على المجتمع ، ومن أجل تمييز المسلمة و فرزها عن غير المسلمة حتى ( يعرفن فلا يؤذين ) . و المعني أنه يتم التسليم بأن غير المتحجبة هى العرضة للأذى دون وضع قانون يمنع عنها هذا الأذى فهي غير حرة . لذلك وحسب الخبرة المصرية اليوم فإن غير المحجبة في شوارع قاهرة القرن الحادي و العشرين هي الأكثر تعرضاً للأذى من مسلمي الوطن الملتزمين بالتدين.
و قد إخترعوا الحجاب تأسيساً على حديث النبي ” خالفوهم ما استطعتم ” فإذا تميزوا هم بإطلاق الشعور نخالفهم بالحجاب ، و إذا إلتزموا هم بالتقدم تميزنا نحن بالتخلف ، و إذا تميزوا هم بالعلم تميزنا نحن بالجهل ، و إذا تميزوا بالقوة تميزنا بالضعف ، وإذا تميزوا باللطف والوداعة تميزنا بالصرامة والجهامة ، و إذا تميزوا بالجمال تميزنا بالقبح ، وللة فى خلقة شئون .


كان الحجاب شأناً خاصاً بنساء النبي و هو غير الخمار الذي بغطي الثديين ، و تحجيب المرأة بالمعنى و الصورة التي نراها متفشية اليوم، هو احد أساليب عزلها عن الرجال ، في مجتمع أصبح فيه مستحيلاً الفصل بين الرجال و الناس و رغم ذلك فإن بعضهم يصر على تفعيل هذا الفصل ، و يجدون من يستمع لهذا القرار المشيخى و ينفذه ، كالحال في قاعات الدراسة الجامعية و كثير من وظائف القطاعين العام و الخاص .
نستمع هنا إلي مرجعية الإخوان المسلمين و كل التيارات الإسلامية حتى الإرهابية منها ، الدكتور يوسف قرضاوي ، و ما قال بهذا الشأن .. يقول قرضاوي : ” فكانت النساء يحضرن دروس العلم مع الرجال عند النبي ، و يسألن عن أمور دينهن ، مما قد يستحي منه الكثيرات اليوم ، حتى أثنت عائشة على نساء الأنصار ، أنهن لم يمنعهن الحياء من ان يتفقهن في الدين ، فطالما سألن عن الجنابة و الاحتلام و الاغتسال و الحيض و الاستحاضة و نحوها ، و لم يشبع ذلك نهمهن لمزاحمة الرجال / مكتبة وهبة / القاهرة / 2001 ص 370 ” .
إن قرضاوي لا يجد باساً في الإختلاط بين الذكر و الأنثى ، لكن فقط مع الشيخ ، الذي هو وارث الفُتيا ، و الحال محل الرسول لتفقيه المسلمين في شئون دينهم ، لذلك يشجع قرضاوي المسلمات علي سؤال المشايخ دون حياء في الجنابة و الاحتلام و الاغتسال و الحيض و الاستحاضة ، لكنه يمنع الاختلاط البرئ بين أبناء الجامعة الواحدة و الصف الواحد و تحدثهم في جدول مندليف أو نسبية آينشتين وليس فى الاحتلام والاستحاضة ، دون أن يعمم ذلك المنع على الاختلاط الذي كان حادثاً زمن النبي ، و الذي كان حالة عامة و ليس حالة خاصة تسأل فيها نساؤنا المشايخ عن الاستمناء و الاستحلام ، عن شئون الفرج و النكاح فقط .
لم يكن إختلاطاً فقط بل اختلاط لمتبرجات مع رجال غرباء ، كانت سبيعة بنت حارث الأسلمية زوجة لسعد بن خوله العامري ، و كان ممن شهد موقعة بدر و غفر الله له ولأصحابه من أهل بدر ما تقدم من ذنبهم و ما تاخر ، و توفى عنها زوجها في حجة الوداع ، فما أن طهرت من نفاسها حتى بادرت بالتبرج و التجمل و التزين و خرجت تمشي بين الرجال طلباً للزواج ، فتقدم لها أبو السنابل بن يعك ، و كهل ، وشاب ، فاختارت الشاب / رواه البخاري و مسلم .
و كانت النساء محل تطلع من الرجال لمعرفة جمالهن وكان جمال نساء القبيلة محل تفاخر بين قبائل العرب ، ” من رواية عن يحي بن عبد الله بن الحارث قال : لما دخل رسول الله ( ص ) مكة يوم الفتح ، قال سعد بن عبادة : ما رأينا من نساء قريش ما يذكر عنهن من جمال ؟! فقال النبي ( ص ) : هل رأيت بنات أبي أمية بن المغيرة ؟ هل رأيت تربة ؟ هل رأيت هندا ؟ إنك رأيتهن و قد أُصبن بآبائهن ” . أى أنك رأيتهن و هن غير متجملات و لا متبرجات حيث كن في حال حداد على آبائهن الذين قتلهم جيش النبي . لذلك لم ترهن في وضع يبرزمواطن جمال بنات قريش . مع الملاحظة أن هندا إحدى اللأئي ضرب بهن النبي المثل لجمال القرشيات ، هي هند بنت أمية زوج النبي نفسه و المعروفة بأم سلمة .
كان التبرج لإظهار الجمال ليس هو المفهوم من تبرج الجاهلية الأولى المنصوح بعدم لجؤ المرأة المؤمنة إليه ، كان التبرج المسموح ، كن يضعن الحمرة بسحق الأحجار الحمراء و عملها كمسحوق يشبه بودرة تجميل اليوم ، و قد جملت أم السيدة عائشة بنتها بهذه الحمرة ليلة دخل بها الرسول .
المسألة كانت تغطية الثديين ليس إلا ، لكن أن تلبس المرأة اللافت للنظر و المبرز للجمال فلم يكن شيئاً محرماً ، لأن هذه هي طبيعة المرأة التي فطرها الله عليها ، و لن تر لخلقة الله تبديلاً . كانت الأقراط الكبيرة و الطويلة المطعمة من إكسسوارات التجميل اللافتة للنظرمن زينة الصحابيات ، و هو ما يأتينا ذكره في خبر أم هانئ بنت عم النبي التي تبرجت بمثل هذا القرط و قامت تسير بين الرجال مستعرضة جمالها ، فتحركت غيرة عمر فقال لها : ” إن محمدا لا يغني عنك شيئا ” . فغضب النبي ليس لتبرج أم هانئ مطلقاً ، و لا حتى أشار حتى إليه ، كل ما أغضبه أن يقول عمر أن شفاعة محمد لا تلحق أهل بيته . ” رواه الطبراني ” .
مرة أخرى نؤكد أنه لم يكن زمن النبي شيئ اسمه الحجاب كما هو مقرر اليوم ، و لم يكن هناك فصل بين الرجال و النساء ، و حديث ما اجتمع رجل و أمرأة إلا و كان الشيطان ثالثهما لا يلتقي بالمرة مع واقع المجتمع في الزمن النبوي ، مما يشير إلي تهافته ، و إنه من الموضوعات بعد ذلك بزمان طويل ، أما واقع زمان الدعوة يحكيه لنا الجاحظ فيقول : ” فلم يزل الرجال يتحدثون إلي النساء في الجاهلية و الإسلام ، حتى ضرب الحجاب علي نساء النبي خاصة ، ثم كانت الشرائف ( أى الشريفات بمعنى طبقى ) من النساء يقعدن للرجال للحديث ، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية و لا حراماً في الإسلام ” .
و عن خوات بن جبير قال : ” خرجت مع النبي في غزوة فخرجت من خبائي فإذا بنسوة حولي ، فلبست حله ثم انتهيت فجعلت أتحدث معهن ، فجاء النبي ( ص) فقال : يا جبير ما يجلسك هنا ؟ قلت : يا رسول الله بعيري قد شرد ، فكان رسول الله ( ص) يمازحه كلما التقاه : ما فعل بعيرك يا خوات ؟!” .
و مثل أم هانئ من بين الشرائف ( اى الشريفات أى من عليه المجتمع ) كانت الصحابية عائشة بنت طلحة ، التى دافعت عن حقوقها ، ورفضت أن يفرض عليها أحد أمراً لم يفرضه القرآن ، و من ذلك رفضها أى لون من الحجب و التحجب ، و كانت شئونها الجنسية تحكي وتذاع علي الملأ في نوادر و طرائف يسمر عليها المسلمون في سهرهم المتواد و المتراحم ، دون أن تشعربنت طلحة بأى تحرج بل كانت تفخر به . فقد كان لديها يوماً صحابية تزورها ، و إذ بزوج عائشة يدخل متعجلاً فتنهض إليه عائشة و تدخل معه داخلا، وتسمع الضيفة أصوات المتعة الجنسية لعائشة بنت طلحة ، حتى خرجت إليها ترفض عرقاً ، فسألتها الضيفة مستنكرة : أو تفعل الحرة ذلك ؟ فردت عليها : ” إن الخيل العتاق تشرب بالصفير ” ، فشبهت نفسها بالخيول الأصيلة التى تصدر مثل هذه الأصوات صفيراً في مثل هذا الموقف ، كانت عائشة تعلن فخرها بمتعتها ، دونما أن ينزعج أحد من الصحابة . و من حكايات بنت طلحة المشهورة أنها مرة كانت تحت زوجها في السرير فنخرت نخرة تفرقت منها مائة من أبل الصدقة هلعاً و لم تجتمع منذها حتي اليوم . و عندما أراد زوجها أبو مصعب عتابها علي تبرجها الشديد قالت له : ” أن الله سبحانه و تعالى وسمني بمسيم الجمال فأحببت أن يراه الناس ، فيعرفوا فضلي عليهم ، فما كنت لأستره / الأغاني ج 9 38 ” .
أن زمن النبي ليس بالصورة التي يفهمها المسلمون البسطاء مأخوذة من فيلم ظهور الإسلام و فجر الإسلام و الشيماء ، و يدعمها مشايخنا في وعظهم و فتاواهم ، و هم من أشرف على وضع اللمسات النهائية لصورة المجتمع الإسلامي الأول في تلك الأفلام . لم يكن مجتمع زمن الدعوة كما يقدمونه للمسلمين جيلاً من الملائكة ، بل كان مجتمعاً طبيعياً يعيش فية الصحابة كما يعيش البشر ، و يعرف ان للمرأة أن تتجمل فقد خلقت بذلك غريزياً ، و لم يكن امراً ممجوجاً ولا محرماً . كذلك لم يمنع او يحرم لقاء الرجال بالنساء ، بل هو لم يحرم الغزل بينهما لأنه الرسالة الأولى للتواصل الإنساني بينهما ، يروي البخاري عن عبد الله بن عباس أن أخية الفضل كان رديف رسول الله ( ص) فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل بن العباس ينظر إليها و تنظر إليه ، فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر . و لنلاحظ أن هذا الغزل بين صحابي و صحابية كان في حضرة سيد الخلق الذي أينما كان حاضراً كانت السماء حاضرة ، و في أقدس الأماكن و أقدس الأزمان ، في حجة الوداع .
ولم ينزعج رسول الله ( ص) ، ولم ينهرهما ، بل كان فقط يصرف وجه ابن عمه الفضل بأنامله الشريفة ليناً و لطفاً و تقديراً منه لفطرة الله التى خلقنا عليها ، ولم يصرف وجة الخثعمية عن التملى من الفضل . وإما لم تكن هذه الخثعمية لا مخمرة ولا منقبة ولا محجبة حتى بدت مفاتنها للشاب ، أو كانت مخمرة و محجبة و مع ذلك فإن الخمار لم يستطع أن يمنع نداء الطبيعة و لم يردع الفضل عن الغزل في حضور رسول السماء و الزمن القدسي كله .
و لم يمنع الحجاب ( إن كان قد حدث و هو غير صحيح ) المرأة من التطلع و المغازلة ، فإن لها عيون ترى وآذان تسمع ، و في زمن الخليفة عمر اشتهر نصر بن الحجاج السلمي بجماله الأخاذ حتى فتن نساء المدينة ، و أصبح مثل كازانوفا تطلبه النساء و يقلن فيه الشعر الماجن ، الذي نختصره هنا في معناه لشدة مجونه ، فهذه صحابية تدعو ربها أن يصلها بنصر بن الحجاج ليطفئ نارها وشوقها ولوعتها ، و أخرى تنادي : من لي بإبن الحجاج ولو ليلة واحدة ، و هو ما أضطر الخليفة عمر رأفة بالأزواج من الصحابة إلي إبعاد نصر إلي بلاد الشام .
يقولون اليوم أن اختراعهم المسمى الحجاب هو عفة وطهارة، و حتى تعرف المسلمة فلا تؤذى ، أى يحميها من التحرش أو ربما الاغتصاب ، هذا رغم أن كل الميزات التي ميزت بها حرائر الزمن النبوي أنفسهن بإدناء الجلاليب و تخمير الثدي إضافة لعادة تخمير الرأس ، فإن ذلك لم يمنع تعرضهن ليس فقط للإيذاء ، بل للإغتصاب . عن أسباط بن نصر عن سماك بن وائل عن أبيه ، زعم أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح و هي تعمد إلى المسجد ، فإستغاثت برجل مر عليها و فر صاحبها ( أى الذى وفع عليها ) فأدركوا الذي استغاثت به . و هو يقول لها : أنا الذي أغثتك ….إلخ / أورده البهيقي في السنن الصغرى . و في خلافة عمر ” حدثنا الحسين بن عبد الملك بن مسيرة عن النزال بن سيده قال : بينما نحن بمنى مع عمر رضي الله عنه إذ امرأة ضخمة على حمار تبكي كاد الناس يقتلونها من الزحمة عليها و هم يقولون لها : زنيت .. زنيت ، فلما انتهوا إلي عمرقال ما شأنك ؟ فقالت كنت امرأة ثقيلة الرأس و كان الله يرزقني من صلاة الليل ، فصليت ثم نمت ، و الله ما أيقظني إلا رجل قد ركبني ثم نظرت إليه معقباً ما أدري من هو من خلق الله .( كتاب الخراج أبو يوسف 165 المطبعة السلفية / مصر ) .
بل و كان في الزمن النبوي من الصحابيات من هى متزوجة لكنها عاشقة رجال ” عن عكرمة عن بن عباس قال : جاء رجل إلى النبي ( ص) فقال : أن امرأتي لا تمنع يد لامس ، قال : غربها ، قال : أخاف أن تتبعها نفسي ( أى أنه يحبها بشدة ) ، فقال له النبي ( ص) : فاستمتع بها ” .
المشكلة في مثل هذه الشهادات التي نقدمها هنا لنعلم هل كان هناك حجاب ؟ و هل منع الحجاب نداء الطبيعة ؟ زمن وجود النبي بنفسه بين المسلمين و في حضرة أبواب السماء المفتوحة و في أقدس الأماكن ؟
المشكلة ان مسلم اليوم لا تقبل نفسه و روحه و ربما عقله بمثل هذه الشهادات لأن وعاظنا صوروا له الزمن النبوي كما لو كان زمناً ملائكياً روحياً لا مجال فيه للخطأ ، كي يلقوا فيه بكل جديدهم اليوم و يستمدوا منه ما يدعم مخترعاتهم اليوم كالحجاب ليلبس قدسية ذلك الزمان ، لأنهم لا يتلقون وحياً لكنهم يريدون لكلامهم القدسية و هم يستمدونه من زمن الدعوة ، لذلك جرى تقديس ذلك الزمن ليعطي فتاوي مشايخنا و قولهم قدسية الوحي ولا يعرجوا أبداً لمثل هذه الأحداث بل و يخفونها عن المسلمين عمداً و قصداً و رغبة منهم عن سبق إصرار و ترصد ، كي يصنعوا المسلم الذي يريدون : الممتثل المطيع الذي لا يعرف سوى قول آمين .
و ربما يأتي مسلم اليوم و هو يقرأ هذه الشهادات ليلقي بنفوره على كاتب هذه الدراسة هنا و ليس على من دون الحدث و لا على من صنع الحدث و لا على المجتمع الذي حدث فيه الحدث ، لأن مشايخنا يصوغون له إسلاماً غير ما كان في زمن النبوة الشريفة ، حتى يلتقي مع ما يريدون الوصول إليه ، و هو الإمساك بدماغ المجتمع كله و إجباره علي الطاعة و التسليم بفروض لم تكن موجودة كالحجاب ، و هو ما يعني أنهم جعلوا المسلمين أكثر طاعة لهم من الطاعة لدينهم و لزمنه القدسي ، حتى فرضوا على أنفسهم بأوامر مشايخ اخر الزمان ما لم يفرضه الزمن القدسي .
و بإيعاز مستمر من فقهاء زماننا ، تصور المسلمون أن ما يسمى بالحجاب فريضة إسلامية من الفرائض العظمى ، حتى أنهم يخرجون في المظاهرات الصاخبة للاحتجاج على أى حديث معلن لا يقول بأن الحجاب فريضة ، كما لو أن هؤلاء المتظاهرين جميعا قد درسوا الأمر و عاينوه في مصادره الإسلامية المعاينة النافية للجهالة ، واقتنعوا بأن الحجاب فرض ، فقاموا يرجمون من قال بغير ذلك . المسلم لا يعلم من شئون دينه ما يجعله يفرز الأحاديث الضعاف من الصحاح المسندات من الأحاد ، و يسلم فوراً بالحديث المنسوب لنبينا أنه قال لأسماء بنت أبي بكر : إذا بلغت المرأة المحيض لا يظهر منها إلا هذا و هذا ، و أشار إلى كفيه و وجهه . بينما لا تجد في القرآن ولا في تاريخ الراشدين الذين عملوا بسنة رسول الله و بالقرآن و شريعته ، ولا في واقعهم العلمي ، ما يشير إلى هذا المعنى الفاصل القاطع ، و لم يكن معروفاً لديهم ولا معمولاً به عند السلف ، بل ستجد ما هو عكس هذا الفرض الوهمي الذي يقصد إقصاء المرأة و ترصدها .
بل و يبالغ المسلمون اليوم في عزل المرأة عن المجتمع ، فقاموا يخترعون إضافة إلى اختراع ( الحجاب ) اختراعاً آخر يزري بمخترعه هو(النقاب).
الذي يغطي كل الوجه ولا يترك سوى العينين ، أو ثقباً واحداً لعين واحدة ، و هو النقاب الذي كانت ترتديه المعلمة المسلمة الفرنسية وصاحبة القضية المشهورة التي رفعتها كي تدخل علي تلاميذها الصغار بنقاب له عين واحدة ، مما قد يرعب هؤلاء الأطفال. ثم هناك نقاب لا يسمح حتى بثقوب ولا للعين الواحدة، وهو ما أوجز الشيخ الدكتورأحمد صبحي منصور بشأنه ، فاعتبره نوعاً من الاستعلاء علي المسلمين ، و أنه إعلان تميز ، بل هو استعلاء على شرع الله و مزايدة علي الله نفسه ، و ان النقاب إذ يعطي المرأة فرصة التطلع إلي الآخرين و فرزهم واقتحامهم بعيونها ، فإنها بنقابها تمنع عنهم ذات الحق .
و هو ذات الحق الذي تم إعطاؤه للمصليات في المسجد خلف الرجال ، لهذا رفض الشيخ يوسف قرضاوي إمامة المرأة للصلاة بقوله معللاً : ” لأن الرجل المصلي قد يسرح فكره .. ما أجمل قوامها .. ما أجمل جسدها .. فالإسلام دين واقعي ينظر للإنسان كإنسان تحركه غرائزه ، لذلك منع الإسلام أن تؤم المرأة الرجال ، فهى ستسجد امام الرجل بجسمها / حلقة الأهلية السياسية للمرأة / الجزيرة ” .
و يستطرد الشيخ شارحاً ” في مسجد النبي كان النساء خلف الرجال و لم يكن بينهم أى حاجز ، ( اليوم يقيمون الحواجز في المساجد مزايدة علي النبي ) .. و كان معروفاً أن العرب يلبسون إزاراً و رداء و كثير منهم لا يلبس السراويل ، و لذلك قال النبي للنساء : لا تعجلن برفع رؤوسكن / نفس الحلقة ” .
و الإزارأوالرداء هوقطعة قماش تلف علي الوسط الأسفل للرجل ، و كانوا لا يلبسون السراويل ، و هو ما يعني بروز الأعضاء التناسلية للخلف عند السجود مما يسمح للنساء بالتطلع إليها ، لذلك أمرهن النبي ألا يعجلن برفع رؤوسهن ، و ينتظرن الرجال حتى يقومون من السجدة فيقمن بعدهم . ” قال الواقدي عن ثعلبة بن أبي مالك قال : تزوج رسول الله ( ص ) امرأة من بني عامر ، فكان إذا خرج اطلعت علي أهل المسجد ، فأخبرته زوجاته بذلك ، فقال : إنكن تبغين عليها ، فقلن : نريكها و هى تتطلع ، فلما رآها فارقها ، قال الكلبي : كانت عند رسول الله العالية بنت ظبيان بن عمر بن عوف بن كلاب ، فمكثت عنده ما شاء الله ثم فارقها بسبب التطلع ” .
المقصود أنه أياً كان الوضع ، حجاباً أم خماراً أم نقاباً ، أو أن يكون أمام أو خلف في الصلاة التي هي وقت القداسة ، أو في المسجد الذي هو قدس أقداس الإسلام ، أو في حضور النبي بشخصه و كرامته ، و مع كل الحرص علي عدم التطلع فقد حدث التطلع و من زوجة سيد المرسلين نفسه ، و لم يعاقبها بشئ عظيم ، فقط فارقها ، لأنه يعلم أنه مع كل الحرص فإن نداء الطبيعة عند البعض أكثر استصراخاً ، و أنه شأن غريزي لا يمكن اقتلاعه .


في بلاد المسلمين ، و في الأسواق و في الحروب بل و في الحكم كانت المرأة حاضرة إلى جوار الرجل في حوار خلاق مستمر ، و عندما أقعدها الفقهاء في البيت مع بدء عصورنا المظلمة وتخلينا عن أنوارنا بل و قبرنا لها مع من قبرنا من معتزلة و جهمية و مرجئة و متصوفة و متشيعة … إلخ . كان الواقع ينطق بموقف القرآن الذي كان حاسماً قاطعاً بصمته في مناطق كثيرة تركها ولم يتدخل فيها ، لنضع نحن لأنفسنا ما يناسبنا من قواعد و نظم وقوانين ، فسطا عليها الفقهاء و صادروا مناطقنا التى تركها اللة لنا حرة مباحة ، ليطلقوا من خلالها علي المؤمنين فتاواهم وفروض مزعومة علي المسلمين و المسلمات لم تكن في أصل المراد الإلهي القرآني و لا بالإشارة و لا التلميح . و كم سطا مشايخنا علي مساحاتنا الحرة التي تركها لنا رب السماء ليحاصروها بحديث مخترع هنا و سنة تنسخ القرآن هناك ، فيرتكبون و هم يفعلون عظائم الكبائر في حق ديننا و دنيانا ، و يستمر المسلمون يسمعون لهم و يتبعونهم إلى حتفهم بظلفهم ، بدلاً من أن يحاكمونهم بعدالة صادقة شفافة عما إرتكبوه في حقنا حتى بقينا هنا في قاع الأمم المتخلفة ، بينما أهل الطاغوت هناك ، حيث الصحة و السعادة و المرح و الإنتاج و الإنجاز و الإبداع و النظافة و الفن و الجمال و الإبتكار و الإكتشاف ، مما يدفع إلي التساؤل عن حقيقة علاقتنا بالرب و هل نحن بالفعل خير أمةً أخرجت للناس ؟ و هل يرعى الرب أمته التى أختارها ؟ الواقع يقول العكس ، إنه يرعى شعوباً أخرى لا تدين بالإسلام و لا تعرفه ، و كشف لهم عن كنوز علمه دون المسلمين ، فلابد أن يكون السؤال هو : لماذا ؟ .. لماذا ….هو السؤال الذي يجب أن يطرحه المسلم على نفسه و ليس على ربه !!
و قد أعفانا الشيخ قرضاوي من مهمة مدى وجوب بقية الزي العربي للمرأة اليوم ، و شرح الشيخ أن المؤمنات كن يذهبن إلى التبرز في الصحراء لأنهم لم يعرفوا الكنف / دورات المياه . و كان يتبع النساء الشباب الذي لا يجد نساء لعله يصيب من إحداهن وطره ، لذلك تم نصح المسلمات بإطالة الجلباب حتى إذا ذهبت تتبرز تفرشه حولها دون الحاجة إلى رفعه فلا يظهر منها شئ حتى تقضي حاجتها ، و بعضهن كن يتسرولن ، لذلك كان النبي ( ص ) يقول : ” اللهم اغفر للمتسرولات من أمتي / الشيخ خليل عبد الكريم /الشدو 399 / 400 ” .
و أفاد الشيخ قرضاوي في تفسيره أن تلك ملابس كانت تناسب زمانها لا زماننا حيث لم يعد عندنا جواري ، و أصبحت الكنف داخل البيوت ، فانتفى شرط إدناء الجلاليب للتميز بين الحرة والأمة ، كذلك أكد على الظرفية البيئية للخمار و هى غير موجودة اليوم . إذن عندنما تغيرت الظروف فإن مجتمع العر ب تغير متحركاً و أنشأ فضائله التى تلائم مطالبه فتغير من جاهلية أولى بدائية وحشية إلى قمة الفضائل في الجاهلية الثانية ، لكن لتفرض ظروف الواقع متطلباتها فتتم العودة من الزمن الإسلامي إلى فضائل الجاهلية الأولى ، و رغم ذلك يعجز المسلمون المعاصرون عن إنتاج فضائل جديدة تناسبهم للتعامل مع عصرهم و تنهض بمجتماعتهم كما فعل هؤلاء الأسلاف على ثلاث مراحل سريعة التتابع
مفضلين الإستمرار تحت مظلة فضائل القرن السابع الميلادي و ما قبله في الجاهلية الأولى ، فتضيع منهم البوصلة فيتجهوا بعكس اتجاه التاريخ ، و يرددون فضائل قديمة انتهي مفعولها و زمن العمل بها ، فتأخذهم معها إلى مرحلة أدنى مما حققه الإنسان اليوم ، و بدلا من أن ينشئوا فضائل تناسبهم يستوردون فضائلهم من زمن الجاهلية الأولى و من القرن السابع الميلادي . فيفجرون ويقتلون و يذبحون و يهزوا العالم بغزوتي واشنطن و نيويورك المباركتين . كان الغزو زمن الدعوة رغم عودته لقيم عصر أسبق ، قيمة و فضيلة ضرورية لتوحيد العرب ليشكلوا قوة قوية ضاربة ، كي يخرجوا من جزيرتهم ليملأوا الفراغ العالمي الناشئ عن تهاوي قوة الفرس و الروم
بعد حربهم السبعينية ، و ليستعمروا البلاد المحيطة بجزيرتهم بالقوة المسلحة ، حتى أنشأوا إمبراطورية عظمى . لكن أن يتمسك مسلموا اليوم بفضيلة الجهاد فهو الأمر غير المفهوم مع معادلة القوة و الضعف حيث نحن فيها الطرف الأضعف . حتى أن استعادة مفهوم الجهاد اليوم هو أبلغ تعبير عن هذا الضعف ، إذ أصبح إرهاباً ، و الإرهاب عبر التاريخ هو سلاح الطرف الضعيف دوماً .
لأننا نتصور القوة كما تصورها بدو الجزيرة زمن الفتوحات ، هى قوة القهر و الغلبة لأخذ ما بيد الغير و فرض سيادتنا عليه ، بينما القوة في زماننا تلازمها مجموعة محبوكة من العناصر الإقتصادية و السياسية و المجتمعية ترفع هذه القوة لتعبر عنها ، لذلك فالتصور بأنه بالإرهاب سنحتل العالم كما حدث زمن الفتوح ، لهو تصور شديد البدائية و السذاجة و السطحية .

Advertisements

المسلمون يتمسكون بفضائل انقضى زمنها و لم تعد ذات معنى حتى أنها أصبحت تضر و لا تنفع ، و يلّبس عليهم مشايخهم تلك الفضائل كما في القول بفرض جديد هو الحجاب ، الذى اخترعوه اختراعاً بعد المزج بين نصين قرآنين ، واحد يتكلم عن تخمير الصدرويخص كل المسلمات ، و آخر يتكلم فقط عن زوجات النبي وحدهن فيخصهن بساتر يحجبهن إذا تحدثوا مع الصحابة لأنهن لسن كغيرهن من النساء . و يصرون علي اختراعهم و هذا و يعلونه كفضيلة تصل إلى درجة الفرض .
هذا علما أن الخمار نفسه كان فيه شئ من المغالاة ، لأن الثديين في جزيرة العرب لم يكونا محل اشتهاء ، بقدر ما كانا شيئاً وظيفياً مهمته الإرضاع ، بدليل حديث السيدة عائشة الذي تمسكت به حول رضاع الكبير عشراً ، و كانت تطلب من قريباتها إرضاع من أراد استفتائها في شأن دينه من الرجال . لكننا نسلم بالخمار كتوجيه سماوي لا يمكن الاعتراض عليه .
و لتتميز المسلمة عن غير المسلمة نسمع أن الحجاب هو مقابل العري و التهتك في بلاد الغرب لتمييز المسلمة عن غير المسلمة ، لذلك تم الربط بين عدم التحجب إن أرادته مسلمة وبين العرى و التهتك ، لذلك كان شعار ( الحجاب عفة و طهارة ). لكن ما يرد هذا المعنى و يبطله بالمرة هو أن العري الكامل و التام زمن الصحابة الراشدين لم يكن يستدعي أية عقوبة ، وهو ما توضحه حادثة المغيرة بن شعبة مع أم جميل ، و التى شهدها أربعة عدول من الصحابة شهادة واضحة ، وأن كلاهما كان عرياناً كما ولدته أمه ، وقد شهد ثلاثة منهم أمام الخليفة عمر أنهم رأوا الفعل كاملاً بفخذي أم جميل مرفوعين كأذني حمار وأن المغيرة كان يستبطنها ( أى بطنه فوق بطنها ) ، و أن خصيتيه كانتا تتأرجحان جيئة و ذهاباً بين فخذي أم جميل ، بما لازم ذلك من شهق و زفر ، و رفع و خفض ، بل أنهم رأوه يدخل عضوه فيها و يخرجه كما الميل في المكلحة . لكن الشهادة لم تكتمل لأن الشاهد الرابع زياد بن أبيه أقر بكل تلك التفاصيل لكنه لم يتمكن من رؤية عملية الإدخال و الإخراج كالميل في المكحلة ، فحكم الخليفة عمر ببطلان الدعوى و أقام حد القذف على الشهود الثلاثة ، بينما لم يتم استدعاء أم جميل بالمرة كطرف في الجريمة ، و لم تتم عقوبة المغيرة و لا أم جميل بسبب عريهما ووجودهما على سرير واحد فى خلوة بيت مغلق عليهما مع شهق و زفر و رفع و خفض و ساقين كأذني حمار و خصيتين تتأرجحان لكن دون دخول الميل إلي المكحلة . و لا نفهم هنا سر انزعاج مشايخنا من ملابس نساء الغرب حتى دمغوهن بالعري و الفساد و التهتك دون أن يتيقنوا من دخول الميل فى المكحلة هناك ، أليس دمغهم بالعري هو ضرب من قذف المحصنات يستحق الحد الذي أقامه عمر على الشهود الثلاثة بالجلد ؟ .
يصر سادتنا الكهنة على اختراعهم العجيب ( الحجاب ) و يصرون على فضيلة تحجيب المرأة دون أن يطلبوا معها بقية فضائل العرب الرواسخ ، فهم لم يطلبوا حتى الآن فضيلة إعادة هتك العرض للمسيبات ، ولا فضيلة نكاح الإماء بعد شرائهن من من الأسواق ، بل و لا حتى طلبوا إقامة أسواق البيع الحلال للرقيق أبيضاً أ و سودانياً ( زنجياً ) بحسبانهم البنية التحتية لإقا مة تلك الفضائل في المجتمع .ولا حتى احتجوا على إلغاء العقوبات البدني كالجلد والقطع والرجم ، و هو ما يعني أنهم ينتقون من دينهم ( لو كان الحجاب ديناً و هو غير ذلك ) ، فيختارون ما يريدون من هذا الدين دون فضائل أخرى !! و كأنهم يدينون فضيلة هتك العرض أو كأنهم يستحون منها أو كأنهم قد اختاروا اختيار عالمنا المعاصر فتركوا الرق و السبي و هتك العرض والعفوبات البدنية لزمانهم و ذوق زمانهم و ظروف زمانهم . و إلا فعليهم مواجهة تهمة تحمل كل مسوغاتها القانونية التشريعية هى مخالفة بمعلوم من الدين بالضرورة ، أما إن ارادوا الانتقاء و الإختيار و الفرز من هذا التراث ، فعليهم إسقاط ما يسمونه عقوبة مخالفة معلوم من الدين بالضرورة ، و إعطاء حق الإنتقاء لغيرهم أيضاً .
إن حد الزنا قد وضعت له شروطه الصعبة التي وضعت له خصيصاً دون بقية الحدود ، و هو وجود أربعة شهود عدول يرونه كالميل في المكحلة ، بحسب تفاسير الكبار من لوامع الفقه ، لأنه أشد الحدود و أكثرها قسوة و فظاظة ، كما لو كان يريد أن يجعل إثبات واقعة الزنا أمراً مستحيلاً .
و قد أفزعت هذه الشروط صحابة النبي و خاصة الغيورين منهم ، لذين إن وجدوا رجالاً يعتلون نسائهم و ذهبوا يبحثون عن شهود عدول ، يكون الجاني و الجانية قد قضيا وطرهما و استمتعا بالحرام ثم يفلتا من العقوبة . فإذا رماهما الزوج بالزنى دون تلك البينة المستحيلة أقيم عليه حد عقابي هو حد قذف المحصنات . و قد أرقت تلك المشكلة كبار الصحابة ، يقول سعد بن عبادة الأنصاري : “والله يا رسول الله إني أعلم أنها (الآية ) حق و أنها من عند الله ، لكني تعجبت لو وجدت لكاعاً ( زوجتة ) قد تفخذها رجل .. لم يكن لي أن أهيجه و لا أحركه حتى آتى بأربعة شهداء ، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته ، فما لبثوا يسيراً حتى جاء هلال بن أمية من أرضه عشياً فوجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه و سمع بإذنه فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله فقال : إني جئت أصلي عشياً فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعيني و سمعت بأذني ، فكره رسول ما جاء به و اشتد عليه ( أسباب النزول للواحدي ص212 و 213 و أورده بن عبد البرفي الأستيعاب مجلد 4 ص 1042 ) .
أنصاري آخر هو عويمر بن أبيض العجلاني دخل بيته فوجد رجلاً ممطياً زوجته ، و بقية الخبرين أن الزنى قد تأكد ليس بأربعة شهود حسب كتاب الله ، و لكن الزانيتين انجبتا ولدين كل منهما هو الأشبه بالمتهم بالزنى . ولم يكن ذلك دليلاً فهو ليس بأحد القرائن و الشروط الواردة لإقامة حد الزني . هو ما يعني أنه رغم أنهم صحابة و صويحبات رسول الله و أنهم عاشوا الزمن القدسي و في أطهر البقع علي الأرض ، و رغم أن الشريعة قائمة و مطبقة بتمامها و كمالها تطبيقاً ليس له شبيه قبله و لا بعده ، و مع ذلك و رغم كل ذلك ، فإن هذا لم يمنع من الفعل الذي يخشاه مشايخ أيامنا و يطلبون له الحجاب كما لو كان الحجاب أكرم من وجود سيد المرسلين بنفسه أو كما لو أن الحجاب سيمنع ما لم يتمكن نبي الأمة من منعه زمن تطبيق الشريعة.
بل أن مدينة رسول الله كانت تعاني من مشكلة جنسية مستفحلة زمن النبي ، عندما كان ينتهز الرجال القاعدون بالمدينة فرصة خروج الأزواج في جيش النبي للغزو ، ليعتلوا نساءهم في حالة مستحرة منتشرة ، مما كان يهدد الجيش الغازي بتقاعس الرجال عن الخروج ، و البقاء حماية لملكياتهم من فروج النساء ، و لم يجد النبي حلاً للمشكلتين يمكن أن يرضي الناس ، فوضع للمشكلة الأولي حلاً هو الملاعنة ، أى أن من يرى زوجته مركوبة لرجل فعليهماأن يتلاعنا ، وسيصيب اللةالجانى من بعد ذلك بلعنتة ، و كان التلاعن يتم في حضرة النبي كأفضل شاهد عدل ( أخرجه البخاري و مسلم في الصحيحين و مالك في الموطأ ) . أما حل المشكلة الثانية التي عرفها التاريخ الإسلامي بمشكلة ( المغيبات ) أى من غاب عنها زوجها ، فقد لعن الرسول بنفسه من يفعلها و دعى عليه دعاء حارقاً مع التهديد بأن من سيقع بيده من ( نبيب التيس) ، و هى الصفة التي أطلقها علي من يزني بالمغيبات ، فإنه سينكل به نيابة عن الزوج المثلوم في شرفه . فهل ما يقوله لنا مشايخنا عن الحجاب ، سيحجب عن بلادنا و بنات المسلمين فعل الطبيعة و نداء الغريزة ، بما لم يحدث ولا حتى زمن النبي ذاته و بمعرفته و بحضوره و بحضور السماء و الوحي و الصحابة و أمهات المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهيراً ؟!
و إذا كان التزين ( التبرج ) أو العري عندهم مصيبة أخلاقية تستحق العقوبة ،فماذا عن كل تلك الأحداث الجسام زمن الدعوة ؟ و إذا كان العري محرماً فهل كان يجرؤ الخليفة عمربن الخطاب على كشف ملابس أم كلثوم بنت الإمام على ابن عم االنبي و بنت فاطمة بنت النبي و شقيقة الحسن و الحسين ليرى مدى حسن ساقيها عندما أراد خطبتها ؟ و لشدة ما اعجبته أمهرها أربعين ألف درهم ( المغني لابن قدامه مج 8 ص 63 ) في الوقت الذي كان الخليفة نفسه يشجب ظاهرة المغالاة في المهور ، و لم يكن عمر قد تزوجها بعد عندما وضع يده على ساقيها إنما هو كان بعد يخطبها ، فلا عقد قد تم عقدة، و لا شاهدان ، ولا إشهار ، فقد أرسلها الإمام علي إليه ليراها الخليفة عن كثب و هو يخطبهما ( رواه أيضاً بن عساكر عن عمر و كذلك الطبراني ) ، فهل يجوز أن نطرح السؤال الذي طرحه الشيخ خليل عبد الكريم رحمة الله ونور لة قبرة في هذا الموضوع : ” هل يجوز للخاطب اليوم حسب الشرع الذي حمله محمد إلي الناس أن يكشف ساقي مخطوبته و يعاينهما ؟ و هل يمكن لأى خاطب أن يقتدي بعمر في ذلك باعتباره من النجوم الذين إذا اقتدى بهم المسلم اهتدى ؟ / كتابه مجتمع يثرب ص 60 : 64 ” .
لم يبق من مسألة الحجاب سوى كونه تمييزاً للمسلمين عن غيرهم ، و حتى هذه الحجة الواهنة أعفانا من مناقشتها مرجعيتهم الشيخ قرضاوي بقوله : ” إن الإسلام يريد للمسلم أن يكون متميزاً في مظهره .. إنما المخالفة في المظهر ، ليست من أساسيات الدين / الجزيرة / حلقة الظاهريون الجدد ” .
و إعمالاً لذلك فإن الدافع النفسي لتنفيذ الأمر بالمخالفة في المظهر ، هو مخالفة عن الدول المتقدمة لإبراز وجودنا بغض النظر عن تقدمنا من تخلفنا ، و الإصرار على هذا الشئ المسمى بالحجاب هو فقط للإعلان بالتميز ، هو أداة إعلان تؤكد للعالم وجود المسلمين في الدنيا ، في عالم لا يرى وجوداً لغير المنتجين المنجزين المكتشفين المخترعين ، لذلك نعلم أنه لا يرانا لأننا لا في العير ولا في النفير ، لذلك نقحم على عيونه رؤية حجابنا و تميزنا بمظهرنا باللحي و الجلابيب القصار ، نريده أن يرانا بتميز مظهري ليس من أساس الدين كما قال شيخهم . و رغم ذلك ذهب شيخهم هذا إلي حد رفع دعوى ضد حكومة فرنسا لمنعها الحجاب في مدارسها . المهم أننا لا نعلم أننا لا نوجد إلا بالقدر الذي يسمح به المتفوق لنا فيه بالوجود و بالظهور فهم من يمتلكون أدوات و آليات و أجهزة الظهور و الوجود .
إذن لم يكن هناك حجاب بالمعنى المفهوم اليوم ، و كان ضرب الخمار على الجيب و إطالة الثوب لدواعي أمنية فرضتها ظروف هذا المجتمع حيث لا شرطة و لا قانون ، و عندما تتجول اليوم داخل جامعة القاهرة ، أو داخل المترو اليوم ستجد أكثر الإعلانات وضوحاً و تكراراً و هو أن الحجاب عفة و طهارة ، و هو إعلان بغض النظر عن عمدة لإهانة غير المحجبات و إتهامهن بعدم العفة و الطهارة ، فإنه إعلان يؤذي الإسلام نفسه في أمهات المؤمنين ، لأنهن وحدهن من ضرب عليهن الحجاب دون نساء العالمين وهن بنص الآيات لسن كغيرهن من النساء، فهل كان ضرب الحجاب عليهن لأنهن كن غير عفيفات و لا طاهرات و هن سيدات الدنيا و الآخرة ؟ إنهم وهم بسبيل حجب العقل في بلادنا لا يتورعون عن التمادي بعد اختراع ما يسمى بالحجاب ، إلى إهانة أمهات المؤمنين بشعارهم الإعلاني الذي هو بكل المقاييس خطيئة حقيقية من العيار الثقيل . و لا حل معها سوى الاعتراف أن الحجاب لم يقصد به حماية الأخلاق و لا طلب الفضيلة ، فلا يعقل أن تكون نساء النبي أمهات المؤمنين غير فاضلات حتى يجبرهن النص القرآني على التزام الفضيلة بالحجاب ، و هن الفاضلات القانتات العابدات المؤمنات أمهات كل المسلمين بما في الأمومة من كل معانى الطهارة و السمو . فإذا انتهينا إلى أن الحجاب كما هو معلن عنه اليوم لم يكن شيئاً معلوماً في ديننا و لا في تاريخ الدعوة و الراشدين ، و إذا كان المطلوب من المرأة تخمير صدرها فالسوستة و الأزار تقوم مقام ذلك اليوم ، و لم يكن المطلوب تخمير الرأس بحسبانها عادة قديمة لم يقل فيها الإسلام رأيه ، و كما أن الزمن قد جعل المسلم يتخلى عن العمامة و كانت العمائم هى تيجان العرب ، كعادة لم تعد مطلوبة ، فهو ذاته ما ينطبق على تخمير الشعر و الرأس بالنسبة للمرأة كعادة انتهى زمنها و بيئتها ، ناهيك عن كون الحجاب و اللحية لا يغيران القلب و لا يطهران الروح ، فإذا كان الدين غايتهم فليحدثونا عما يطرق الروح و يلمس القلب و يطهر النفس و يأخذ بيد المسلمين نحو الحضارة بدلاً مما يرزحون تحته من تخلف مقيت .
إن مشايخ اليوم يفرضون على المسلمات شيئاً مزوراً اسمه الحجاب و يضعونه ضمن فروض الدين و هى الزيادة في الدين التى يتم بها تعريف البدعة المكروهة . و حتى لو ذهبنا مذهب مشايخنا بالفرض الجدلي ، نجد أنهم يفرضون على مجتمعنا فضيله. ( إن كانت كذلك ) تم وضعها لزمن غير زماننا و لبشر يختلفون عنا و لمجتمع مباين بالمرة لمجتمعنا بالكلية ، و في ظروف غير ظروفنا ، و مكان لا علاقة لنا به في عاداته و تقاليده و نظمه من قريب أو بعيد ، إلا في كونه مكاناً توجد فيه مقدساتنا الجغرافية ليس أكثر .
إذن ، و إعمالاً لما سلف ، تصبح المهمة الأهم هى تحصين ديننا عن الانتهازية لكل من أراد مصلحة أو صراعاً سياسياً ، ليستخدم ديننا فى تحقيق مآربه التى عادة ما تكون بعيدة عن الدين و أغراضه و مراميه ، بل ربما تكون ضد مصالح بني الله في الأرض من مواطنين بسطاء و يتم تجييشهم ضد مصالحهم بل و ضد مقاصد دينهم بدينهم نفسه . عن طريق المحترفين و الوسطاء الأنتهازيين الذين لا يرعون لديننا حقه من احترام و توقير .
و من أوليات هذا التحصين لديننا من اللعب به ، إبعاده عن مزالق الصراع السياسي و آلياته التي لا تحترم أى فضائل ، إنما فقط تحترم المصالح التي هى محل الصراع الحقيقي ، و ضمن هذا التحصين يجب أن نعترف جميعاً أن الفضائل هى منتج الجماعة ، و أنها منتج بشري متطورة متغيرة بتطور الزمان و تغير المكان ، و أنها منتج بشري و ليست منتجاً إلهياً ، لأنها لو كانت ذات منشأ إلهي ، لمنحها الله لعباده كجزء من خلقتهم الغريزية ، و إما أن الله قد أهمل خليقته فخلقها منزعة الفضائل ليبلونا و يختبرنا ، و في هذه الحال لن يبقى معنى لتعبير القرآن ( و لقد كرمنا بني آدم ) ، كذلك لا يمكن تصور أن الله خلق بني آدم و نسى مسألة الفضائل و لم يتذكرها إلا عند إرساله آخر أنبيائه ، ( و ما كان ربك نسيا ) .
هذا بينما الفضيلة منتج إجتماعي ينشأ في المجتمع كنتيجة لقصور هيمنة السلطات على كامل سلوك الأفراد سراً و علانية ، خفاء و جهراً . فإن أمكنها السيطرة على السلوك غير المرغوب العلني و ردعه و عقابه بقوانين الجماعة ، فإن ما يتم فعله في الخفاء هو الأكثر وقوعاً و الأكثر ضرراً لسريته ، و مع ذلك لا يستتبع ذلك العقوبة المادية القانونية لعدم توفر الأدلة . لهذا قامت الجماعة تصنع لها رادع يتم تكوينه في الطفولة مع الأسرة ، حيث يبدأ الضمير في التكوين و التشكل وفق ما تراه الجماعة سلوكاً فاضلاً أو رذيلاًو يصبح الضمير المتشكل وفق رغبات الجماعة هو سلطة ردع داخلي معنوية تسير جنباً إلى جنب مع سلطة الردع السلطوي المادي .
و هذا الرادع المعنوي سيقوم من بعد بتمييز الفضائل وفرزها عن الرذائل حسبما عرفها المجتمع ووضع لها مواصفاتها ، و يصبح الضمير هو سلطة الجماعة الداخلية كضابط لسلوك الأفراد بما يوافق مطالب المجتمع ، ليصبح ( ملتزماً ) أدبياً و معنوياً بدستور خفي ينوب عن المجتمع يتم زرعه في الطفل منذ مولده لصالح المجموع .
و يترتب على هذا أن نفهم أن القواعد الأخلاقية التى تميز الفضيلة عن الرذيلة كانت سابقة للدين في الوجود ، لأنها نشات مع أول تشكيلات إجتماعية بشرية في أبسط صورها . و إذا كانت الشرطة هى من يقوم بمراقبة السلوك العلنى للأفراد ، فإن من سيقوم بمراقبة الضمير لضمان عدم انحرافه لابد أن يكون بدوره شيئاً خفياً كالضمير و من نوعه اللاحسي . و من ثم قامت الجماعات تنسب ما تواضعت عليه من أخلاقيات تحقق مصالحها ، إلى أربابها الخفية و التي أهم ما بها هو حماية المجتمع بحماية الفضيلة . فراعي الأخلاق يحب أن يكون من غير طينة المادة ، يجب ألا يكون ملموساً محسوساً ، يجب أن يكون بغير شبيه أو مثيل ، ليقوم الخيال البشري بمحاولة تصوره كقوة عظمى يمكنها معرفة ما بداخل الصدور و لا يمكن لأى صورة لهذه القوة أن تتطابق مع صورتها المتخيلة لدى فرد آخر ، لعدم وجود أى معطيات مادية تساعد على تكوين الصورة المتخيلة ، لهذا تكون هذه القوة الخفية هى المجهول ، و لذلك كان مذهب الفيلسوف عمانويل كانط أن وجود الله كفرض نسلم به كضرورة ، لأن الله هو الضامن للنظام الأخلاقي ، و هذا النظام الأخلاقي هو الدال عليه . هذا بينما بشرت السنوات الأخيرة في عمر الإنسانية بظهور فضائل إنسانية عامة لا تنشغل بثواب أو عقاب ، إنما هي فضائل نفعلها لذاتها و لجمالها و لخيريتها مع أى إنسان بغض النظر عن لونه أو دينه أو جنسه ، فضائل لا تريد مقابلاً سوى وجه الإنسان الكريم . كناتج ضروري لتواصل العالم حتي أصبح قرية واحدة فاحتاجت عقداً أخلاقياً جديداً يتناسب مع ما وصلت إليه مادياً و علمياً .
زمان عندما كنا نحن السادة ، كنا نفرض على غير المسلمين الغيار و المخالفة في الملبس كي نفرزهم عن المسلمين ، و عندما سقطت سيادتنا و لم يعد بيدنا قدرة إلباس العالم كله ملابس نميزه بها عن المسلمين ، فقد قررنا من جانبنا التميز بملبس خاص بنا استدعيناه من عمق الماضي لا هو حجاب كحجاب نساء النبي و لا هو خمار كخمار الصحابيات ، هو شئ اخترعناه بخلطة هجينة بين شأنين لا يلتقان ، نحن نريد المخالفة في المظهر لإثبات أننا موجودون و أ ننا متميزون ليس بقدرمساهمتنا في حضارة الإنسان و لكن بالحجاب . هذا ناهيك عن الجانب النفسي الذي يشعر بالفراغ و اليتم العالمي ، بحيث يشعرون عندما يرون زيهم المتشابه أنهم قوة و هم كثر و أنهم ليسوا وحدهم ، و كرمز لكل الفضائل العربية المتعلقة بالشرف و الطهارة السلوكية ، بغض النظر عن الواقع العملي لهذا الشرف و تلك الطهارة .


إن مشايخنا و دكاترة أزهرنا و جامعاتنا تركوا تفسير الطبري و النسفي و ابن كثير و الرازي و الزمخشري و غيرهم من أعمدة التاريخ الإسلامي بعد ظهور العلم الحديث ، و اضطروا إلى محاولة إعادة تفسير نصوص الدين بما يلائم المكتشفات الجديدة ، مما يعني أن القديم قد أثبت فشله اليوم ، فلماذا يصرون على قديم الخمار الذي كان مجرد زي له ظرفه البيئي ، و لا يبحثون عن جديد يتناسب مع وضع المرأة في عالم اليوم حتى يجعلوا من الإسلام ديناً عالمياً حقاً يقبله الجميع و يناسب الجميع .
سألوا الشاعر الحطينة و هو في نزع الموت في العقد الثاني للهجرة : ما تقول في مالك ؟ قال : للأنثى من ولدى مثل حظ الذكر . قالوا له : ليس هكذا قضى الله ، فقال : و لكني هكذا قضيت . أن حكومتنا بجلال قدرها و مجلس شعبها الموقر لم يستطيعوا أن يقولوا و لو مرة واحدة يتيمة في وجه سلطان المشايخ و الأخوان ” و لكني هكذا قضيت ” كما قال الحطيئة . و في شأن أهون بكثير من الميراث ، هو في شأن قطعة قماش مخترعة و لا أصل لها في دين المسلمين .
الإسماعيليون و الموحدون و القرامطة رفضوا تعدد الزوجات و جعلوا الزواج الأحادي هو الشرع الإسلامي السليم ، و نحن نضرب بموقف وزير الثقافة حائط الحريات ، و نفتي جميعاً بالحجاب كفرض ، فنكذب على الله و على أنفسنا و على المسلمين البسطاء الطيبين ، في تجارة سياسية منكرة كثيراً ما افترت على ديننا الجميل الواقعى الأكثر اعترافا بحاجة الأنسان ، الذى هو يسر وليس عسراً.
عندما تتحول فضائلنا و قيم ديننا إلى مظهر مادي يتمثل في لحية أو جلباب قصير أو حجاب أو خمار أو نقاب ، يكون المسلم قد تحول عن الإيمان الصادق إلى الإعلان المنافق ، الإعلان عن نفسه أو عن نفسها كأرقى من بقية المجتمع ، طالبة من المجتمع الإعتراف بطهارتها و نقاوتها و عفتها و شرفها بسبب هذه القطعة من القماش. و هو حسبما يرى علم النفس لون من الآليات الدفاعية عندما تكون الحقيقة الباطنة غير الإعلان ، فلا أحد يدفع عن نفسه جريمة طوال الوقت دون أن يسأله أحد عن جرمة ، فإن فعل فسيكون مرتكباً للجريمة أو مشتهياً لها لدرجة تحققها الداخلي .
عندما تتحول الفضيلة عن جانبها الداخلي المعنوي السري اللاحسي لتلبس الأزياء و موضات و إعلانات محال الأزياء المحجبة ، عندما تصبح الفضيلة مظهراً دون مخبر ، كما حدث في بلادنا مع عودة القادمين من بلاد بن عبد الوهاب . أصبح المعلن فضيلة محجبة و ملتحية و أصبح السر هو مساحة كل مباح ، و تمت إباحة الجرم مادام يحدث في الخفاء عملاُ بالأحاديث : ” إذا بليتم فاستتروا ” ، ” لا تجهروا بمعصية ” ” من ستر مؤمناً في الدنيا ستره الله يوم القيامة ” .
و لأن العمود الأساسي في المبدأ السني الحنبلي هو ” أنه لا يدخل ابن آدم الجنة بعمله ” إنما يدخلها بأداء الطقوس و الالتزام بالمظاهر التعبدية و برحمة ربك ، في حديث منسوب لنبي الإسلام ؟ ! أى بأداء المظهر بغض النظر عن عفن المخبر ، و الكل يعلم بما يحدث في السر ، و الكل يتجاهل أنه يعلم ، المهم أن تمارس لعبة الإخفاء فلا تقع في جرم مشهود ، فيذبحك الآخرون ممن أتقنوا فنون لعبة الخفاء .
و عندما يصبح الالتزام الأخلاقي في بلاد المسلمين وسيلة تجارة و كسب مادي بأن تشتري لسيارتك من ” قطع غيار الإسلام ” و تأكل في ” مطعم الرحمن” و تنتمي إلي ” حزب الله ” و تشرب ” مكة كولا ملتزما ” ، بإعلانات لا تستحي لا من الدين و لا حتى من رب الدين . و عندما يصبح الدين في السياسة أو في التجارة ، فإن الفضيلة تكون قد ماتت و تعفنت و يكون الضمير قد أصبح جيفة ، و يكون رب الدين نفسه كحامي للأخلاق و دال عليها ، قد سئم ما وصلت إليه أحوال عباده ، فتركهم حتى يلقوا مصير أمم سادت ثم بادت .
إن مشايخنا و إخواننا الأخوان و أذرعهم الضاربة و هم يمارسون السياسة و يضعون الكرسي الأعظم في الوطن كهدف إسترتيجي ، يلعبون بديننا ، و يضيفون إلى دين الله ما لم يكن فيه فيبتدعون بدعاً هى المكروهة بنص الحديث ، لأن البدعة المكروهة هى الإضافة إلى الدين و الزيادة فيه ، و يفرضونها فرضاً على المسلمين لإثبات أن المسلمين قد أصبحوا أكثر طاعة للمشايخ من طاعتهم لله ، إنهم كما طالبوا محاكمة المفكرين بتهمة إزدراء الأديان ، فإننا نطالب السادة الكبار في هذا الوطن بإعلان بقرار بتنفيذ فوري يلغي الحجاب ، و يحاكم من ابتدعه في ديننا بتهمة إزدراء الإسلام ، و إن أردنا حقاً صيانة ديننا و دنيانا فيجب عدم أخذ هذه الدعوة باستخفاف ، بل ربما أرجوأن تؤخذ مأخذ الجد ، و ساعتها يمكن لنا أن نأمل بأننا سوف نخرج من الثقب الأسود الذي التهمنا ، و أننا سوف نتمكن من اللحاق بآخر قافلة مغادرة نحو
النور .

Advertisements

شاهد أيضاً

الرئيس الفرنسي ماكرون

مقال: كان علينا أن نشكر ماكرون بدلا من أن نلعنه

قال الرئيس الفرنسي ما يمكن أن يقوله أي إنسان عاقل مهتم بما يحدث من حوله. …