دين

استعراض كتاب “نبوة محمد، التاريخ و الصناعة: مدخل لقراءة نقدية

By nasser

September 26, 2017

“لا تهمني المناصب، و لا الأموال، و لا يخيفني الوعيد، و التهديد، و يريدونني أن أصمت، لكنني لن أصمت إلا بعد أن أموت.” إدوارد سعيد لعلي و البعض من أصدقائي، قد سمعنا باسم الدكتور/ محمد أحمد محمود لأول مرة، في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كنا وقتها طلاباً بالمرحلة الثانوية. لقد قرأنا له مقالاً رصيناً، كتب بلغة إنكليزية رفيعة، في كتاب الصف الثاني الثانوي، في منهج اللغة الإنكليزية، السابق الذي يسمى “نايل كورس”، و الذي وضعه مدرس اللغة الإنجليزية السابق بمعهد التربية ببخت الرضا، البريطاني الجنسية، مارتن بيتس. و من ضمن المعلومات التي وضعت للتعريف بكاتب المقال، من أنه يعمل أستاذاً للغة الإنجليزية بجامعة الخرطوم، و أنه كتب هذا المقال عام 1980م، حيث كان وقتها يعد لدرجة الدكتوراة في الأدب الإنجليزي، بجامعة أوكسفورد. لقد كنا نقرأ المقال باستمرار، و نردد بعض كلماته التي صعبت على إدراكنا، و في نفس الوقت كنا ننظر لاسم محمد محمود، الذي يعمل أستاذاً بجامعة الخرطوم، و يدرس بجامعة أوكسفورد، و الذي لا نعرف شخصيته، بشئ من الإعجاب، و الإنبهار في آن واحد. فقد كان جيلنا وقتها ينظر لجامعة الخرطوم بشئ من الإعجاب، و الرهبة، و يطلق عليها عبارة “جميلة و مستحيلة”، حيث كانت حلماً تتقطع دونه أنفاس الأذكياء من الطلاب، خاصة لأبناء الأقاليم، أو المناطق الطرفية، أو ما يصطلح عليه اليوم “بالمناطق المهمشة”. لقد كانت هذه نظرة جيلنا لجامعة الخرطوم، فما بالك بجامعة أوكسفورد العريقة التي كان يضرب بها المثل، و تعتبر مقياس لعبقرية من يدرس بها. و عندما حضرنا إلى جامعة الخرطوم، كلية الآداب، في نهاية الثمانينيات، وجدنا الدكتور/ محمد محمود قد غادرها إلى خارج السودان، بعد وقوع إنقلاب الإسلامويين في العام 1989م، و بدء ملاحقتهم لخصومهم المحتملين. و لكنا وجدنا ذكراه، و سمعته الأكاديمية المتميزة، التي خلفها وراءه وسط طلابه، الذين كانوا يتحدثون عنه بمقدار كبير من الإعجاب، و التقدير. كما ترك وراءه أخبار “اليقظة”، اسم نشرته الخاصة التي كان يصدرها بشكل غير دوري، و كان يخصصها لنقد العقل السلفي المحافظ. و خلال تلك الفترة، أذكر أنني قرأت له بعض المقالات في مجلة “المحتوى” التي كان يصدرها بعض الليبراليين بجامعة الخرطوم. و فيما بعد كنت أقرأ بعض مساهماته، في نشرات، و مؤتمرات جمعية الدراسات السودانية بالولايات المتحدة الأمريكية. و فيما بعد علمت أنه قد ترك مجال تخصصه الأكاديمي، مجال الأدب الإنجليزي، و اتجه لمجال “علم الأديان المقارن”، ربما بسبب إستفحال الظاهرة الدينية، و شغلها لحيز واسع في العالم العربي، و الإسلامي.

و قبل إسبوعين من الآن، وصلني عبر البريد كتاب الدكتور/ محمد محمود: “نبوة محمد، التاريخ و الصناعة: مدخل لقراءة نقدية. و قد رأيت قبل التوغل في استعراض الكتاب، و مناقشة بعض الأفكار الأساسية التي تعرض لها، أن أدلف قليلاً إلى الوراء، لكي أتلمس بعض مظاهر السجال الفكري في تاريخ الأديان بصفة عامة، و تاريخ الإسلام بصفة خاصة. ثم بعدها أعود للتعليق على “هراء”- و الهراء لغة كما عرفه ابن منظور، صاحب لسان العرب بأنه: “هو الكلام الكثير الفاسد غير المنظم”، و عرفه المتنبئ بأنه: “الكلام بلا معاني”- الإسلامجي/ خالد موسى دفع الله، ابن “الهامش النسبي” بتعبير الدكتور/ أبكر آدم إسماعيل، و الذي “تصدقت” عليه الأوليجاركية النيلية المهيمنة، لحظة تقسيم غنائمها، بوظيفة نائب سفير بسفارة النظام بألمانيا. و مثل شيخه، و عراب نظامه السابق، الشيخ/ حسن الترابي الذي ثار عليه تلاميذه، و أدخلوه في جحر ضب، حاول هذا الإسلامجي، في مقالاته مدفوعة الأجر، أن يخفي مقاصده في أضابير “الرطانة الثقافية”، و اللغة الأدبية الرنانة، و الطنانة التي تقول كل شئ، و لا تقول شئ، و تخفي كل شئ، و لا تخفي شئ مثل الذي يحاول أن يستتر بأصبعه من الناس لكي يتغوط. لذلك، و بالرغم من الضجيج، و الغبار الكثيف، و محاولة التمسح “بالتثاقف”، و “الأكاديمولوجيا”، فإن مقالاته قد أبانت عن مقاصدها، و طفحت بمقدار كبير من “شبهة الإرهاب الديني”، و الإرهاب الفكري، كما تطفح مياه الصرف الصحي في شوارع الخرطوم. و سوف أعود لاحقاً لذلك بتفصيل أكثر . أقول إن السجال الفكري، حول القضايا الدينية، قديم قدم الظاهرة الدينية نفسها، سواء بين المؤمنين بالأديان نفسها، أو بين المؤمنين بالأديان من جهة، و الخارجين عليها من جهة أخرى. فالأديان كلها، حملت أفكاراً حاولت أن تناهض بها أفكار، و مفاهيم متجذرة في المجتمعات التي حاولت تغييرها.و هي بذلك محاولة لتغيير البنية الفكرية، و الثقافية لتلك المجتمعات. لذلك كان من الطبيعي أن ينشا سجال فكري بين القديم المستقر، و الجديد الوافد. و الأفكار عموماً، لا تتطور إلا من خلال هذا السجال، فهناك قانون في الفكر يسمى “الجدل”، يقوم على أساس التاثير، و التأثر، و ينتج ما يسمى بالمثاقفة، أو “الديالكتيك” بالتصور الهيجلي الذي يقوم على أساس: دعوى-نقيض-مركب، و بهذه الطريقة يحصل التطور للأفكار.

لقد عرفت كل الأديان، سماوية أو أرضية، ظاهرة الجدل هذه. فقد تعرضت اليهودية، و المسيحية لسجال عنيف بين مفاهيمها الدينية، و منجزات العقل الإنساني. و ظهر مفكرون كبار حاولوا التوفيق بين الثيولوجيا، و مفاهيم الفلسفة الإغريقية، و العقلانية الاوربية الحديثة، مثل موسى بن ميمون في حالة الديانة اليهودية، و القديس توما الأكويني، في حالة الديانة المسيحية. و قد سقطت في مسيرة هذا الجدل هامات كثيرة مثل جيوردانوا برونو الذي أحرقت الكنيسة جثمانه، و ذرت رماده في البحر جراء قوله بأن الأرض كروية. و عالم الفلك جاليليو الذي قال بكروية و دوران الأرض حول نفسها، ألا أنه اضطر للتراجع عن ذلك تحت ضغوط الكنيسة حال تقديمه للمحاكمة، لكنه مع هذا همس لنفسه قائلاً: ” مع هذا، فإنها تدور”. و واجه آخرون تهم التكفير و الطرد، و “حق الحرمان من الكنيسة. أما في حالة الإسلام التاريخي، كما يطلق عليه الدكتور/ محمد شحرور، فقد ظهر السجال الفكري منذ إعلان النبي لدعوته. و قد تبلور هذا السجال حينها بشكل أساسي، حول حقيقة نبوته، فقبلها البعض و عارضها البعض الآخر. و قد صاحب هذا السجال حركة الإسلام منذ ظهورها و حتى اللحظة الراهنة. و قد مثلت واقعة ما يسمى “بالفتنة الكبرى” تطوراً مهماً في مراحل هذا الصراع، و شهدت لأول مرة ظهور التجليات الأولى للفرق الإسلامية في تاريخ الإسلام، مثل الشيعة، و الخوارج، و ما يسمى بأهل السنة، و غيرها. و مع توسع الفتوحات الخارجية، و اتساع رقعة الدولة الإسلامية، و انفتاحها على الحضارات الإخرى، كالحضارة الفارسية، و الهندية، و اليونانية، و الرومانية، احتدم هذا الصراع الفكري، و تعددت الفرق الإسلامية، و التي عدد منها الشهرستاني في سفره القيم “الملل و النحل”، حوالي 72 فرقة. و بغروب شمس الدولة الأموية، و ظهور الدولة العباسية، و توفر عوامل الترف، و البذخ، احتدم الجدل الديني، و الفقهي داخل الدولة الإسلامية، خاصة بعد ظهور طبقة “الموالي”، و تضخم نفوذهم داخل دواوين الدولة بعد إنتصار المأمون على أخيه الأمين، في الصراع المشهور الذي نشب بينهما آنذاك. و بانتصار المأمون ذو الأم الفارسية، على أخيه الأمين ذو الأم العربية، أصبحت الغلبة لهؤلاء الموالي. و قد انحدر أغلب هؤلاء الموالي من خلفيات حضارية، و ثقافية مختلفة، كالفرس، و الروم. و لذلك كان من الطبيعي أن يحملوا خلفياتهم الثقافية تلك معهم، و يخصبوا بها ثقافة الدولة الوليدة. ( هنا يمكن الرجوع إلى سلسلة الكاتب المصري أحمد أمين: فجر الإسلام-ضحى الإسلام-ظهر الإسلام). و يعتبر الخليفة المأمون، هو الملك الشمس في دولة بني العباس. و يذكر في الأسطورة الشعبية، أن المأمون جاءه حلم بالليل، و رأى فيه رجل أبيض البشرة، فسأله من أنت؟ فقال له أنا أرسطو. لذلك عندما استيقظ من النوم في الصباح، شرع على التو في ترجمة التراث اليوناني. فأسس مكتبة “دار الحكمة” في قلب بغداد، و التي حوت الآلاف من الكتب و المخطوطات، في مختلف ضروب المعرفة الإنسانية، و أحضر المترجمين، و شجع عملية الترجمة من التراث اليوناني إلى اللغة العربية. و كحافز لذلك، كان كل من يترجم كتاباً، من الفلسفة اليونانية، إلى اللغة العربية، كان يعطيه وزن ذلك الكتاب ذهباً. لذلك ظهر في هذا العصر، مترجمون كبار، و كان أغلبهم من العرب السريان. و كانوا يقومون بالترجمة بطريقة مزدوجة، حيث يترجمون أولاً من اللغة اليونانية، إلى اللغة السريانية، ثم يترجمون ذلك مرة أخرى إلى اللغة العربية. لذلك ظهر مترجمون كبار من هؤلاء العرب السريان في ذلك العصر، مثل ثابت بن قرة، و إسحاق بن حنين، و حنين بن إسحاق، و شهر الأخير بطريقته المميزة للدرجة التي أطلق فيها بعض المؤرخين على ذلك العصر، “عصر حنين”. و كان من الطبيعي، و بمنطق و قوانين الدياليكتيك، أن يؤدي دخول الفلسفة اليونانية إلى احتدام الجدل، و السجال الفكري داخل نطاق الدولة الإسلامية. فظهر ما أطلق عليهم “الفلاسفة المسلمين”، مثل الفارابي، و الذي لقب “بالمعلم الثاني”، باعتبار أن أرسطو هو المعلم الأول للبشرية، و ابن سينا، و الكندي في المشرق العربي، بينما ظهر ابن طفيل، و ابن باجة، و ابن رشد في المغرب العربي. و قد كان جل جهد هؤلاء الفلاسفة، يهدف بشكل أساسي إلى التوفيق بين مفاهيم العقيدة الإسلامية، و مفاهيم الفلسفة اليونانية. لذلك قاموا بعملية ترجمة، و شروحات كثيرة لتقريب مفاهيم الفلسفة اليونانية لأذهان الناس آنذاك. فابن رشد مثلاً، و الذي يعتبر من أكبر شراح أرسطو، و كان يطلق عليه لقب “الشارح الأعظم”، و كمحاولة لعملية التوفيق بين الدين و الفلسفة، كان يرى أن الحقيقة أصلاً واحدة، إما تتخذ شكل تعبير ديني موجه للعوام، و إما تتخذ شكل تعبير فلسفي موجه للخواص، فهو يرى أن الحقيقة واحدة مهما اختلفت زاوية النظر إلى الأشياء.

و استمر السجال الفكري بين الفلاسفة، و الثيولوجيين، في الدولة الإسلامية لقرون، حتى ظهر الإمام أبي حامد الغزالي، في القرن الخامس الهجري، و قام بهجومه الشهير ضد الفلسفة، و الفلاسفة، و قام بتكفيرهم بشكل جماعي في ثلاثة قضايا أساسية يعتقد أنها تتصادم مع معطيات العقيدة الإسلامية، و هي: قولهم أن العالم قديم و ليس حادث، و قولهم أن الله يعلم الكليات و لا يعلم الجزئيات، ثم إنكارهم للبعث الجسماني. و قد شكل تكفير الغزالي، و الذي كان يعتبر آنذاك من كبار المفكرين في القرن الخامس الهجري، عامل قمع، و إرهاب فكري للفلاسفة، و لذوي التوجهات الفلسفية، و العقلانية بشكل عام، فخمدت جذوتها، و انطفأ لهيبها، و انصرف الناس عن التفلسف، و التفكير العقلاني، و ساد بعدها التصوف، و الدروشة، و كان ذلك عاملاً مهماً في ذبول، و اضمحلال “الحضارة الإسلامية”. و لم تنفع بارقة ابن خلدون، بحسب تقدير الدكتور/ حسن حنفي، فيما بعد من انتشال المسلمين من وهدتهم حتى القرون الحديثة. و سقطت في مجرى هذا السجال الطويل، رؤوس كثيرة في تاريخ الاسلام. فأعدم المتصوف الحلاج صاحب نظرية “الحلول”، و ذري رماد عظامه في نهر دجلة، و لم تشفع له خدمته الطويلة للاسلام، بما فيها نشره للإسلام في شبه الجزيرة الهندية. كما قتل شهاب الدين السهروردي صاحب نظرية “الإشراق”، و الذي عرف فيما بعد بالسهروردي المقتول. و ذبح الجعد بن درهم في صباح أحد أعياد الأضحى. بينما واجه آخرون تهم التكفير. فابن جرير الطبري، و الذي يعتبر “إمام المفسرين” للقرآن، قد تم تكفيره من قبل الحنابلة، بحجة أنه لم يذكر اسم إمامهم أحمد بن حنبل عندما تحدث في أحد كتبه عن إختلاف العلماء، و حالوا بين الناس، و تشييعه عندما توفي، حتى دفن ليلاً في داره بواسطة أربعة أفراد فقط. و كفر كذلك ابن رشد، و عندما توفي رفض بن تاشفين أن يدفن في المغرب، لذلك وضع جثمانه على جنب، و في الجانب الآخر وضعت كتبه لكي تعادل جثمانه، و أرجعوه لكي يدفن بالأندلس التي جاء منها. و بدخول عصر التنوير الأوربي في القرن الثامن عشر، و من بعده عصر النهضة في القرن التاسع عشر، أفاق المسلمون فجأة على بؤس واقعهم، و تخلفهم عن ركب الحضارة، و هالهم البون الشاسع بينهم و الغرب، فاندفعوا يلتمسون أسباب ذلك. فظهر فقهاء عصر النهضة، و رواد حركة الإصلاح الديني، كالشيخ محمد عبده، و رشيد رضا صاحب جريدة “المنار، و جمال الدين الأفغاني صاحب جريدة “العروة الوثقى”، و بدأوا يحثون المسلمين بالأخذ بأسباب العلم الحديث حتى يلحقوا بركب حضارة العصر. و بعد إلغاء مؤسسة الخلافة الإسلامية، على يد كمال أتاتورك، في تركيا عام 1924م، ظهر شيخ الأزهر على عبد الرازق، و أصدر كتيبه “الإسلام و أصول الحكم” عام 1925م، و ذكر أن نظام الخلافة، لا يمثل المسلمين، و الإسلام الصحيح، بل كانت تمثل نظام الحكم العربي، و بالتالي المسلمين غير مقيدين، أو ملزمين باتباعه. فأثار كلامه ذاك دوائر الجمود و التخلف، و اتهموه في دينه، و طردوه من الأزهر. و تواصل نقد الدين في القرن العشرين، و الحادي و العشرين، و يمكن أن نقسم نقاد الدين إلى تيارين: التيار الأول يعزي تخلف المسلمين، و تراجعهم إلى تمسكهم بقيم الدين البالية، و طالبوا بتبني قيم الحضارة الأوربية باعتبارها حضارة إنسانية ساهمت فيها كل الأمم بدرجات متفاوتة، و هؤلاء على العموم حاولوا نقد الظاهرة الدينية من خارجها. و يدخل في رأس هؤلاء الدكتور/ طه حسين، كما أوضح في كتابه مستقبل الثقافة في مصر. هذا إلى جانب صادق جلال العظم، و حسين مروة، و فرج فودة، و محمد أركون، و الكاتب السوري المثير للجدل/ نبيل فياض، و مهدي عامل، و فؤاد زكريا، و لويس عوض، و أغلب ذوي التوجهات العلمانية الذين يرون ضرورة الفصل بين الدين و الدولة. و التيار الثاني من نقاد الدين، هو الذي اتجه إلى محاورة النص الدين نفسه بغرض تطويره لكي يواكب قيم العصر. و يدخل في هؤلاء الأستاذ/ محمود محمد طه، و جمال البنا، و الدكتور/ محمد شحرور، و نصر حامد أبي زيد الذي يرى ضرورة تجريد النص القرآني من صفة القداسة التي أضفاها عليها القدماء، و النظر إليه كنص لغوي، و بالتالي يمكن فهمه من خلال الحاضنة الثقافية له، و التي هي في هذه الحالة، الثقافة العربية. و كذلك المصري خليل عبد الكريم الذي ركز في دراساته على فترة الجاهلية، و حاول مقارنة قيم العرب قبل الإسلام، و التحول أو التطوير الذي أحدثه الإسلام لهذه القيم، كما في كتابه “الجذور التأريخية للشريعة الإسلامية”. و هذا التيار واجه حملة من الدوائر السلفية، أكثر من تلك التي واجها التيار الأول، و ذلك بسبب منافستهم للدوائر السلفية على “الرأسمال الديني”، و السيطرة على أذهان العوام. و نواصل في الحلقة القادمة استعراض الكتاب، و مناقشة القضايا الأساسية التي أثارها، ثم يعقبه تعليق على مقالات الإسلامجي/ خالد موسى دفع الله.

اقرأ أيضا نظرات في كتاب نقدي خطير يحاول إثبات أن النبوة ظاهرة إنسانية أحْدَثَت إلهها وصنعته

د. محمد أحمد محمود و نقد الظاهرة الدينية 2-4 05-27-2013 08:43 PM

أولاً: أرجو أن اعتذر للعديد من القراء، و الأصدقاء الذين راسلوني على البريد طالبين الكتاب، و أيضاً للذين طالبوني بتحويله إلى صيغة “البي دي إيف”، حتي يتمكنوا من الاطلاع عليه، إذ ليس في مقدوري القيام بذلك. كما أعتذر عن تأخر هذه الحلقة نسبياً عن المقدمة الأولى لهذه الحلقات، و ذلك بسبب المرض من ناحية، و بسبب الانشغال الأكاديمي، و المعيشي من ناحية أخرى. و رأيت أن أخصص هذه الحلقة لاستعراض الكتاب بشكل مقتضب، و فصوله، و الموضوعات التي تناولها، و ذلك لكي أعطي القارئ الذي لم يتمكن من قراءة الكتاب، تصور عام عنه. و في الحلقة التالية، أتعرض لمناقشة الكتاب، و تحليله، من وجهة نظري كقارئ، و مهتم، و متابع، و مراقب للظاهرة الدينية و تحليل خطابها في العالم العربي، و الإسلامي. و أوضح القديم و الجديد في هذا الكتاب، و ما هي “الزحزحات” التي أحدثها في مجال القضايا التي تناولها. ثم أعقب في حلقة أخيرة، على مقالات “الإسلاماني”/ خالد موسى دفع الله حول موضوع الكتاب. “نبوة محمد: التاريخ و الصناعة، مدخل لقراءة نقدية، للدكتور/ محمد محمود، و الذي عمل في السابق أستاذاً بكلية الآداب، جامعة الخرطوم، و معهد الدراسات الشرقية بجامعة أكسفورد، ثم رئيساً لقسم الأديان المقارنة بجامعة تفتز بالولايات المتحدة، و هو غني عن التعريف، كتاب متوسط الحجم، يبلغ عدد صفحاته، حوالي 450 صفحة، من الحجم المتوسط، صدر عن مركز الدراسات النقدية للأديان بلندن، لمؤسسه، و مديره مؤلف الكتاب، و هو مسجل بالمكتبة البريطانية. و الكتاب كما يذكر مؤلفه في مقدمته، يتكون من خمس وحدات موضوعية كبيرة هي: البيئة، و الصعود، و المعارضة، و الرسالة، و الصناعة. و تغطى هذه الموضوعات الكبيرة، في ثلاثة عشر فصل. كما يحتوي الكتاب على مقدمة، و خاتمة. يتناول الفصل الأول، بيئة الشرق الأدنى بصفة عامة، باعتبارها الحاضنة الأساسية للأديان الثلاثة الكبرى: اليهودية، و المسيحية، و الإسلام. و يوضح كيف تخلقت فيها البذور الأولى لفكرة النبوة، بصفة عامة، سواء من خلال الحفريات الأثرية التي اكتشفت هناك، أو من خلال المرويات الدينية. و كيف من رواسب هذا الوعي الديني المبكر في هذه البيئة، نبتت هذه الأديان الثلاثة. و يتناول هذا الفصل بشكل عميق، كيف تلاقحت، و تثاقفت هذه الأديان الثلاثة، مع بعضها البعض في تشكيل تصوراتها لفكرة النبوة. و حفل بتفاصيل كثيرة، عن خصائص النبوة فيها، و وظيفتها، و تصورها لإلهها، و أنبيائها. و هو دراسة تقع في حقل ما كان أركون يطلق عليه، “دراسة التاريخ المقارن للأديان”. و يركز الفصل الثاني بشكل مسهب، على البيئة التي تشكلت فيها النبوة في الإسلام، و ماهية، و كيفية استفادتها من الميراث اليهودي، و المسيحي في تشكيل رؤاها الدينية. و هذا إضافة لتأثير حركة “الحنيفية”، من جهة، و تأثير حركة “الوثنية العربية”، من جهة أخرى على فكرة النبوة، فالأفكار لا تنبثق بشكل أسطوري من العدم المطلق. و في الواقع الذي يقرأ كتاب “الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية”، لخليل عبد الكريم، يدرك بوضوح تشابه الكثير من القيم العربية في الجاهلية، مع القيم الإسلامية، حيث استوعب الإسلام الكثير منها في ميراثه، و قمع البعض اللآخر منها. أما الفصول التالية، من الفصل الثالث إلى الفصل السادس، فتعالج موضوع ظهور، و صعود النبي، بدءً من لحظة نزول الوحي عليه في غار حراء بواسطة جبريل، إلى وفاته. و هذه الفصول في عمومها، تنحو منحى السرد التاريخي الذي يستقي مادته بشكل أساسي من الإرشيف الإسلامي، مثل تفسير الطبري، و سيرة بن هشام، و صحيح البخاري، و غيرها. و يركز الفصل الثالث منها بصفة خاصة، على اللحظة التأسيسية للنبوة، و عناصر تكوينها، و كيفية نزول الوحي، و عنصر الخيال في هذه الناحية. بينما يتناول الفصل الرابع فترة حياة النبي في مكة، و ملامحها الأساسية، و المعارضة التي واجهها النبي حينها. و يتناول الفصل الخامس تباعاً، فترة النبي في المدينة بعد الهجرة إليها، و تشكل المجتمع الجديد، و بدء تكوين دولة المدينة، و الحروبات التي خاضها النبي مع مشركي مكة، مثل غزوة بدر الكبرى، و غزوة أحد، و غزوة الخندق، و غيرها. و يركز الفصل السادس من موضوع صعود النبوة، على صعود، و انتصار دولة المدينة، بعد أن تمكن النبي من التغلب، و القضاء على أغلب معارضيه، مثل يهود بني قريظة، و يهود خيبر، و صلح الحديبية مع مشركي مكة، و معركة حنين، و تبوك، و فتح مكة، ثم وفاة النبي. و تغطي الفصول الثلاثة التالية، من السابع إلى التاسع، موضوع المعارضة التي واجهها النبي في مكة. فيتحدث الفصل السابع بشكل خاص عن ماهية الدين الجديد، و تصوره لفكرة النبوة، و فكرة الألوهية، و المعارضة التي واجهها النبي كما تمثلت في حركة الحنيفية، و حركة الوثنية العربية في مكة. و قد حاولت الوثنية العربية بدروها أن تقدم تصورها لإلهها في مواجهة التصور الذي قدمه النبي للإله. كما تضمن هذا الفصل أيضاً، الحديث عن الهجوم الشخصي من قبل هذه الوثنية العربية على النبي كما انعكس ذلك في القرآن الكريم. و يتناول الكتاب بصورة مطولة نسبياً، المعارضة الدينية كما مثلتها الجماعة اليهودية، و المسيحية في مكة في الفصل الثامن. و يوضح وجه الاختلاف بينها و المعارضة الوثنية، و أوجه التأثير المتبادل، و الشئ الذي أخذه الإسلام كدين جديد، من اليهودية و المسيحية كأديان قديمة، و مستقرة، و ذات ميراث تاريخي طويل و قوي. و يوضح هنا أوجه الاختلاف بين النبوة في الإسلام، و النبوة عند اليهود من جهة، كما تمثلت في ثلاثة أشياء أساسية هي: النبوة، و الكتاب، و الحكم، و بين النبوة عند المسيحيين من جهة أخرى. ثم يناقش العلاقة بين القران، و التوراة أو العهد القديم- أسفار موسى الخمسة: سفر التكوين، و الخروج، و العدد، و اللاويين، و التثنية. ثم أوجه التشابه بين النبي(ص)، و موسى، و عيسى. و يتناول الفصل التاسع ما يمكن أن نطلق عليه “المعارضة السلبية”، و التي مثلها المنافقون في المدينة بقيادة زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول، و الذي استند على دعم الخزرج، و بعض العناصر من قبيلة الأوس، و يهود بني قينقاع. و يغوص هذا الفصل بشكل عميق في ظاهرة النفاق في ذلك العصر. و يعالج الكتاب الموضوع الرابع، موضوع رسالة النبوة نفسها، في الفصلين العاشر، و الحادي عشر. و يركز الفصل العاشر بشكل خاص على ما يطلق عليه تقليدياً، موضوع العبادات و المعاملات. و حصر أهم ملامح الرسالة الأساسية، في ثمانية عناصر رئيسية، و هي: عنصر العبادات الذي شمل الحديث عن الصلاة، و الزكاة، و الصيام، و الحج. و عنصر القانون الذي شمل الحدود، مثل القصاص، و حد الزنا، و القذف، و السرقة، و الحرابة، و الخمر، و حد الردة. ثم عنصر التنظيم الاجتماعي، كما عبرت عنه مؤسستا الأسرة، و الرق. و في العنصر الرابع، تحدث عن موضوع الأخلاق كمقابل مسلكي للقيم الدينية. و عالج الفصل الحادي عشر بقية عناصر رسالة النبوة الأخرى، مثل عنصر الأسطورة، و القصة، كما تجلى ذلك في القصص القرآني. ثم تبعه الحديث عن عنصر العالم غير المنظور، أو ما يسمى بعالم الغيب، و الذي يشمل وجود الله نفسه، ثم عالم الملائكة، و الجن، و الشياطين. و في العنصرين الأخيرين لرسالة النبوة، السابع و الثامن، تحدث الكتاب عن عنصري الثواب، و العقاب كما مثلته الجنة، و النار، أو الجحيم، و النعيم. و يتحدث الفصلان، الثاني عشر، و الثالث عشر عن موضوع صناعة النبوة، و أهم العناصر التي استندت عليها. لذلك يتحدث الفصل الثاني عشر عن الدور الكبير الذي قام به علماء الإسلام لتشكيل الإسلام، و تثبيت ملامحه، و قسماته المميزة، و جهودهم في تحويل الإسلام من دين شفاهي، إلى دين كتابي، فالعلماء ورثة الأنبياء. هذا بالإضافة لمشروع آخر قام به العلماء، ملازم لمشروع تدوين، و نشر الإسلام، و هو مشروع صناعة النبي، شأنهم في ذلك شأن علماء اليهود، و المسيحيين في صناعة موسى، و عيسى. و لكي يواجه علماء الإسلام تحدي علماء اليهودية، و المسيحية التي كانت تنكر نبوة محمد، كان لا بد لهم من صياغة نظرية للنبوة في الإسلام. و استندت نظرية النبوة هذه على سبعة عناصر أساسية، ناقش الفصل الثاني عشر أربعة عناصر منها، بينما ناقش الفصل الثالث عشر العناصر الثلاثة الأخرى. و العنصر الأول في هذه النظرية، هو عنصر “البداية النبوية”، و يقصد به: “البداية الكمونية”، أو “البداية بالقوة”، كتعبير فلسفي، أو هو إرهاصات النبوة السابقة على ميلاد النبي(ص)، و وجوده التاريخي كما ورد في سورة البقرة، الآية 129. و العنصر الثاني للنبوة، هو “الجسد النبوي”، حيث قدمت المادة الإسلامية وصفاً تفصيلياً عن جسد النبي كرجل مكتمل الخَلْق، و الخلق. ثم تحدث عن ظاهرة التبرك بهذا الجسد عند المسلمين. و يتحدث العنصر الثالث عن “اللحظة النبوية”، و يقصد بها اللحظة التأسيسية، و هي لحظة نزول الوحي على النبي في غار حراء بواسطة الملك جبريل من الله. بينما تحدث العنصر الرابع عن “الكلمة النبوية”، و هي بحسب المصادر الإسلامية، تشمل ثلاثة أنواع من الكلام النبوي و هي: القرآن باعتباره كلام الله نزل على النبي بواسطة جبريل، و الأحاديث القدسية ككلام الله نزل على النبي دون وساطة جبريل، ثم الأحاديث النبوية، و هي الكلام الذي ينسب لشخص النبي(ص). و يعالج الفصل الثالث عشر بقية عناصر صناعة النبوة الثلاثة الأخرى، و هي: الفعل النبوي، و المناقب أو الصفات النبوية، ثم الخصوصية النبوية. و فيما يتعلق بالفعل النبوي، فإن علماء المسلمين لم يعتمدوا على أحاديث النبي فقط في صناعة و تدعيم نبوته، و إنما عمدوا أيضاً إلى أفعاله، لأنها تقدم الدليل العملي على صدق نبوته. و هنا تمت مناقشة ثلاثة مستويات للفعل النبوي، و هي: الأفعال ذات الطبيعة الإعجازية، و الأفعال ذات الطبيعة الطقسية، ثم أفعال الحياة اليومية للنبي. و في إطار تحليل عميق لفكرة المعجزة كأمر خارق لقوانين الطبيعة، و لأنها تعتبر عنصر هام من عناصر صناعة النبوة، باعتبار أنها تقدم الدليل العملي لصدق النبوة، و صحتها، فقد تمت مناقشة أربعة أنواع من المعجزات، و هي: المعجزة الكونية، و المعجزة الإنتفاعية، و المعجزة البرهانية، ثم المعجزة المتعدية. أما الأفعال ذات الطبيعة الطقسية، فهي الأفعال التي تتعلق بالشعائر، و العبادات مثل الصلاة، و الصوم، و الحج. و اقتصر الحديث هنا بشكل خاص على الصلاة، فيما يتعلق بالفعل الطقسي حتى لا يتشعب الحديث، و يطول. أما أفعال الحياة اليومية، فهي أفعال النبي في حياته اليومية، و هل هي أفعال تتعلق به كفرد بشري فقط، أم هي أفعال ترتبط بشكل مباشر بنبوته، و تدعمها. و العنصر السادس لصناعة النبوة، هو المناقب أو الصفات النبوية. لقد حرصت المصادر الإسلامية على رسم صورة خلقية نموذجية للنبي باعتباره قمة الهرم الأخلاقي، و المثل الأعلى الذي يقتدى به وفق تصور نظرية النبوة. فقد ذكرت السيدة عائشة عندما سئلت عنه، قالت: “كان خلقه القرآن”. و قد عضدت نصوص القرآن نفسه هذا التصور الأخلاقي لسلوك النبي. ثم يختم الكتاب بالحديث عن خصوصية النبي إزاء باقي الأنبياء كما جسدتها المصادر الإسلامية.

و نواصل في الحلقة القادمة مناقشة الكتاب، و ما هو الجديد الذي طرحه؟؟!!

. ———————— هذا عرض لكتاب أكاديمي جديد يؤكد في دراسة مقارنة أن النبوة نابعة من خيال خلاق للإنسان وأنها بالتالي صناعة إنسانية وليست صناعة إلهية، وأن الله لم يصنع الإنسان كما إنه لم يصنع النبوة والمرسلين أو الأنبياء بل الإنسان والأنبياء هم الذين صنعوا إلههم الواحد الأحد.

د. محمد محمود.. إنكار النبوة وحرية نقد الأديان فجرت قضية المواطنة السودانية التي حكم عليها بتطبيق حد الردة مؤخرا وفقا للمادة 126 من القانون الجنائي جدلا سياسيا وفقهيا وحقوقيا كثيفا.. وأثخن جلد البلاد جراء ذلك بتجريحات الاتهام وترصدا في ذمتها العدلية وأوكأ عليها حملات احتجاج عالمية وتوبيخات أممية. أعادت قضية أبرار الجدل إلى منصة الفقه والفكر أكثر من السياسة، إذ طالب مثقفون يساريون وملحدون وعلمانيون إلغاء حد الردة من القانون الجنائي لأنه يمثل حسب رأيهم عقبة كأداء أمام الحريات الكلية ويعود بالبلاد إلى عصور الظلام. وأن حد الردة يمثل سيفا مسلطا على رقبة التقدم والتحرر والعدالة. وانقسم معسكر الإسلاميين إلى تيارين، تيار اعتدالي وسطي يرجح فقهيا عدم استتابة المرتد ردة فكرية و لا يجوز حد الحرابة إلا على على المرتد المحارب أو من كشف عيبة للمسلمين. ويرى التيار السلفي أنه يجب إنفاذ حد الردة على كل مرتد جملة واحدة. من المثقفين السودانيين الذين نادوا بإلغاء حد الردة الدكتور محمد محمود مدير مركز نقد الأديان بلندن. وهو أكاديمي جعل الإلحاد وأنكار النبوة والخالق (تعالى الله عما يصفون) محورا لدراساته في مجال نقد الأديان. وقد أصدر كتابا أثار جدلا عن “نبوة محمد:التاريخ والصناعة”. أنكر فيه النبوة وأدعى أنها مصنوعة من خيال النبي صلى الله عليه وسلم.وقد دارت مناظرات قلمية ومحاورات فكرية بينه وبين عدد من المهتمين والمتابعين. وقد حظيت بأن أكون أول مجادل ضد منهجه لنزع روح القداسة عن النص القرآني. وقد أردت أن أجدد إرهاصات الجدل مرة أخرى عن كاتب صناعة النبوة. د. محمد أحمد محمود و نقد الظاهرة الدينية 2-4 05-27-2013 08:43 PM

أولاً: أرجو أن اعتذر للعديد من القراء، و الأصدقاء الذين راسلوني على البريد طالبين الكتاب، و أيضاً للذين طالبوني بتحويله إلى صيغة “البي دي إيف”، حتي يتمكنوا من الاطلاع عليه، إذ ليس في مقدوري القيام بذلك. كما أعتذر عن تأخر هذه الحلقة نسبياً عن المقدمة الأولى لهذه الحلقات، و ذلك بسبب المرض من ناحية، و بسبب الانشغال الأكاديمي، و المعيشي من ناحية أخرى. و رأيت أن أخصص هذه الحلقة لاستعراض الكتاب بشكل مقتضب، و فصوله، و الموضوعات التي تناولها، و ذلك لكي أعطي القارئ الذي لم يتمكن من قراءة الكتاب، تصور عام عنه. و في الحلقة التالية، أتعرض لمناقشة الكتاب، و تحليله، من وجهة نظري كقارئ، و مهتم، و متابع، و مراقب للظاهرة الدينية و تحليل خطابها في العالم العربي، و الإسلامي. و أوضح القديم و الجديد في هذا الكتاب، و ما هي “الزحزحات” التي أحدثها في مجال القضايا التي تناولها. ثم أعقب في حلقة أخيرة، على مقالات “الإسلاماني”/ خالد موسى دفع الله حول موضوع الكتاب. “نبوة محمد: التاريخ و الصناعة، مدخل لقراءة نقدية، للدكتور/ محمد محمود، و الذي عمل في السابق أستاذاً بكلية الآداب، جامعة الخرطوم، و معهد الدراسات الشرقية بجامعة أكسفورد، ثم رئيساً لقسم الأديان المقارنة بجامعة تفتز بالولايات المتحدة، و هو غني عن التعريف، كتاب متوسط الحجم، يبلغ عدد صفحاته، حوالي 450 صفحة، من الحجم المتوسط، صدر عن مركز الدراسات النقدية للأديان بلندن، لمؤسسه، و مديره مؤلف الكتاب، و هو مسجل بالمكتبة البريطانية. و الكتاب كما يذكر مؤلفه في مقدمته، يتكون من خمس وحدات موضوعية كبيرة هي: البيئة، و الصعود، و المعارضة، و الرسالة، و الصناعة. و تغطى هذه الموضوعات الكبيرة، في ثلاثة عشر فصل. كما يحتوي الكتاب على مقدمة، و خاتمة. يتناول الفصل الأول، بيئة الشرق الأدنى بصفة عامة، باعتبارها الحاضنة الأساسية للأديان الثلاثة الكبرى: اليهودية، و المسيحية، و الإسلام. و يوضح كيف تخلقت فيها البذور الأولى لفكرة النبوة، بصفة عامة، سواء من خلال الحفريات الأثرية التي اكتشفت هناك، أو من خلال المرويات الدينية. و كيف من رواسب هذا الوعي الديني المبكر في هذه البيئة، نبتت هذه الأديان الثلاثة. و يتناول هذا الفصل بشكل عميق، كيف تلاقحت، و تثاقفت هذه الأديان الثلاثة، مع بعضها البعض في تشكيل تصوراتها لفكرة النبوة. و حفل بتفاصيل كثيرة، عن خصائص النبوة فيها، و وظيفتها، و تصورها لإلهها، و أنبيائها. و هو دراسة تقع في حقل ما كان أركون يطلق عليه، “دراسة التاريخ المقارن للأديان”. و يركز الفصل الثاني بشكل مسهب، على البيئة التي تشكلت فيها النبوة في الإسلام، و ماهية، و كيفية استفادتها من الميراث اليهودي، و المسيحي في تشكيل رؤاها الدينية. و هذا إضافة لتأثير حركة “الحنيفية”، من جهة، و تأثير حركة “الوثنية العربية”، من جهة أخرى على فكرة النبوة، فالأفكار لا تنبثق بشكل أسطوري من العدم المطلق. و في الواقع الذي يقرأ كتاب “الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية”، لخليل عبد الكريم، يدرك بوضوح تشابه الكثير من القيم العربية في الجاهلية، مع القيم الإسلامية، حيث استوعب الإسلام الكثير منها في ميراثه، و قمع البعض اللآخر منها. أما الفصول التالية، من الفصل الثالث إلى الفصل السادس، فتعالج موضوع ظهور، و صعود النبي، بدءً من لحظة نزول الوحي عليه في غار حراء بواسطة جبريل، إلى وفاته. و هذه الفصول في عمومها، تنحو منحى السرد التاريخي الذي يستقي مادته بشكل أساسي من الإرشيف الإسلامي، مثل تفسير الطبري، و سيرة بن هشام، و صحيح البخاري، و غيرها. و يركز الفصل الثالث منها بصفة خاصة، على اللحظة التأسيسية للنبوة، و عناصر تكوينها، و كيفية نزول الوحي، و عنصر الخيال في هذه الناحية. بينما يتناول الفصل الرابع فترة حياة النبي في مكة، و ملامحها الأساسية، و المعارضة التي واجهها النبي حينها. و يتناول الفصل الخامس تباعاً، فترة النبي في المدينة بعد الهجرة إليها، و تشكل المجتمع الجديد، و بدء تكوين دولة المدينة، و الحروبات التي خاضها النبي مع مشركي مكة، مثل غزوة بدر الكبرى، و غزوة أحد، و غزوة الخندق، و غيرها. و يركز الفصل السادس من موضوع صعود النبوة، على صعود، و انتصار دولة المدينة، بعد أن تمكن النبي من التغلب، و القضاء على أغلب معارضيه، مثل يهود بني قريظة، و يهود خيبر، و صلح الحديبية مع مشركي مكة، و معركة حنين، و تبوك، و فتح مكة، ثم وفاة النبي. و تغطي الفصول الثلاثة التالية، من السابع إلى التاسع، موضوع المعارضة التي واجهها النبي في مكة. فيتحدث الفصل السابع بشكل خاص عن ماهية الدين الجديد، و تصوره لفكرة النبوة، و فكرة الألوهية، و المعارضة التي واجهها النبي كما تمثلت في حركة الحنيفية، و حركة الوثنية العربية في مكة. و قد حاولت الوثنية العربية بدروها أن تقدم تصورها لإلهها في مواجهة التصور الذي قدمه النبي للإله. كما تضمن هذا الفصل أيضاً، الحديث عن الهجوم الشخصي من قبل هذه الوثنية العربية على النبي كما انعكس ذلك في القرآن الكريم. و يتناول الكتاب بصورة مطولة نسبياً، المعارضة الدينية كما مثلتها الجماعة اليهودية، و المسيحية في مكة في الفصل الثامن. و يوضح وجه الاختلاف بينها و المعارضة الوثنية، و أوجه التأثير المتبادل، و الشئ الذي أخذه الإسلام كدين جديد، من اليهودية و المسيحية كأديان قديمة، و مستقرة، و ذات ميراث تاريخي طويل و قوي. و يوضح هنا أوجه الاختلاف بين النبوة في الإسلام، و النبوة عند اليهود من جهة، كما تمثلت في ثلاثة أشياء أساسية هي: النبوة، و الكتاب، و الحكم، و بين النبوة عند المسيحيين من جهة أخرى. ثم يناقش العلاقة بين القران، و التوراة أو العهد القديم- أسفار موسى الخمسة: سفر التكوين، و الخروج، و العدد، و اللاويين، و التثنية. ثم أوجه التشابه بين النبي(ص)، و موسى، و عيسى. و يتناول الفصل التاسع ما يمكن أن نطلق عليه “المعارضة السلبية”، و التي مثلها المنافقون في المدينة بقيادة زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول، و الذي استند على دعم الخزرج، و بعض العناصر من قبيلة الأوس، و يهود بني قينقاع. و يغوص هذا الفصل بشكل عميق في ظاهرة النفاق في ذلك العصر. و يعالج الكتاب الموضوع الرابع، موضوع رسالة النبوة نفسها، في الفصلين العاشر، و الحادي عشر. و يركز الفصل العاشر بشكل خاص على ما يطلق عليه تقليدياً، موضوع العبادات و المعاملات. و حصر أهم ملامح الرسالة الأساسية، في ثمانية عناصر رئيسية، و هي: عنصر العبادات الذي شمل الحديث عن الصلاة، و الزكاة، و الصيام، و الحج. و عنصر القانون الذي شمل الحدود، مثل القصاص، و حد الزنا، و القذف، و السرقة، و الحرابة، و الخمر، و حد الردة. ثم عنصر التنظيم الاجتماعي، كما عبرت عنه مؤسستا الأسرة، و الرق. و في العنصر الرابع، تحدث عن موضوع الأخلاق كمقابل مسلكي للقيم الدينية. و عالج الفصل الحادي عشر بقية عناصر رسالة النبوة الأخرى، مثل عنصر الأسطورة، و القصة، كما تجلى ذلك في القصص القرآني. ثم تبعه الحديث عن عنصر العالم غير المنظور، أو ما يسمى بعالم الغيب، و الذي يشمل وجود الله نفسه، ثم عالم الملائكة، و الجن، و الشياطين. و في العنصرين الأخيرين لرسالة النبوة، السابع و الثامن، تحدث الكتاب عن عنصري الثواب، و العقاب كما مثلته الجنة، و النار، أو الجحيم، و النعيم. و يتحدث الفصلان، الثاني عشر، و الثالث عشر عن موضوع صناعة النبوة، و أهم العناصر التي استندت عليها. لذلك يتحدث الفصل الثاني عشر عن الدور الكبير الذي قام به علماء الإسلام لتشكيل الإسلام، و تثبيت ملامحه، و قسماته المميزة، و جهودهم في تحويل الإسلام من دين شفاهي، إلى دين كتابي، فالعلماء ورثة الأنبياء. هذا بالإضافة لمشروع آخر قام به العلماء، ملازم لمشروع تدوين، و نشر الإسلام، و هو مشروع صناعة النبي، شأنهم في ذلك شأن علماء اليهود، و المسيحيين في صناعة موسى، و عيسى. و لكي يواجه علماء الإسلام تحدي علماء اليهودية، و المسيحية التي كانت تنكر نبوة محمد، كان لا بد لهم من صياغة نظرية للنبوة في الإسلام. و استندت نظرية النبوة هذه على سبعة عناصر أساسية، ناقش الفصل الثاني عشر أربعة عناصر منها، بينما ناقش الفصل الثالث عشر العناصر الثلاثة الأخرى. و العنصر الأول في هذه النظرية، هو عنصر “البداية النبوية”، و يقصد به: “البداية الكمونية”، أو “البداية بالقوة”، كتعبير فلسفي، أو هو إرهاصات النبوة السابقة على ميلاد النبي(ص)، و وجوده التاريخي كما ورد في سورة البقرة، الآية 129. و العنصر الثاني للنبوة، هو “الجسد النبوي”، حيث قدمت المادة الإسلامية وصفاً تفصيلياً عن جسد النبي كرجل مكتمل الخَلْق، و الخلق. ثم تحدث عن ظاهرة التبرك بهذا الجسد عند المسلمين. و يتحدث العنصر الثالث عن “اللحظة النبوية”، و يقصد بها اللحظة التأسيسية، و هي لحظة نزول الوحي على النبي في غار حراء بواسطة الملك جبريل من الله. بينما تحدث العنصر الرابع عن “الكلمة النبوية”، و هي بحسب المصادر الإسلامية، تشمل ثلاثة أنواع من الكلام النبوي و هي: القرآن باعتباره كلام الله نزل على النبي بواسطة جبريل، و الأحاديث القدسية ككلام الله نزل على النبي دون وساطة جبريل، ثم الأحاديث النبوية، و هي الكلام الذي ينسب لشخص النبي(ص). و يعالج الفصل الثالث عشر بقية عناصر صناعة النبوة الثلاثة الأخرى، و هي: الفعل النبوي، و المناقب أو الصفات النبوية، ثم الخصوصية النبوية. و فيما يتعلق بالفعل النبوي، فإن علماء المسلمين لم يعتمدوا على أحاديث النبي فقط في صناعة و تدعيم نبوته، و إنما عمدوا أيضاً إلى أفعاله، لأنها تقدم الدليل العملي على صدق نبوته. و هنا تمت مناقشة ثلاثة مستويات للفعل النبوي، و هي: الأفعال ذات الطبيعة الإعجازية، و الأفعال ذات الطبيعة الطقسية، ثم أفعال الحياة اليومية للنبي. و في إطار تحليل عميق لفكرة المعجزة كأمر خارق لقوانين الطبيعة، و لأنها تعتبر عنصر هام من عناصر صناعة النبوة، باعتبار أنها تقدم الدليل العملي لصدق النبوة، و صحتها، فقد تمت مناقشة أربعة أنواع من المعجزات، و هي: المعجزة الكونية، و المعجزة الإنتفاعية، و المعجزة البرهانية، ثم المعجزة المتعدية. أما الأفعال ذات الطبيعة الطقسية، فهي الأفعال التي تتعلق بالشعائر، و العبادات مثل الصلاة، و الصوم، و الحج. و اقتصر الحديث هنا بشكل خاص على الصلاة، فيما يتعلق بالفعل الطقسي حتى لا يتشعب الحديث، و يطول. أما أفعال الحياة اليومية، فهي أفعال النبي في حياته اليومية، و هل هي أفعال تتعلق به كفرد بشري فقط، أم هي أفعال ترتبط بشكل مباشر بنبوته، و تدعمها. و العنصر السادس لصناعة النبوة، هو المناقب أو الصفات النبوية. لقد حرصت المصادر الإسلامية على رسم صورة خلقية نموذجية للنبي باعتباره قمة الهرم الأخلاقي، و المثل الأعلى الذي يقتدى به وفق تصور نظرية النبوة. فقد ذكرت السيدة عائشة عندما سئلت عنه، قالت: “كان خلقه القرآن”. و قد عضدت نصوص القرآن نفسه هذا التصور الأخلاقي لسلوك النبي. ثم يختم الكتاب بالحديث عن خصوصية النبي إزاء باقي الأنبياء كما جسدتها المصادر الإسلامية.

و نواصل في الحلقة القادمة مناقشة الكتاب، و ما هو الجديد الذي طرحه؟؟!! بعدت الشقة بيني وبين الأرق الفكري أعواما سوالف، ولكن أعادني كتاب “نبوة محمد التاريخ والصناعة” والذي صدر حديثا للدكتور محمد محمود أستاذ الأديان المقارنة بالجامعات البريطانية إلى حظيرة الرهق الثقافي مجددا، وذلك لأنه اختط نهجا صادما في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بدعوى نزع القداسة عن الدين حتى يخضع لمناهج النظر العقلي والنقدي، ولكن ظل حراس العقيدة وممثلو النخب الإسلامية حسب زعم الكاتب يمانعون ويتصدون لمثل هذه الدعوات بالخنق والتكفير مما أدى إلى تعميق أزمة التخلف وتأخير شروط النهضة والإصلاح ، وقد أسهم ذلك في تعويق جهود الحرية الفكرية والأكاديمية في العالم الإسلامي، وذلك بعكس التجربة الغربية حيث انفتح الكسب الديني فيها بفشو حركة الاستنارة والعقلانية إلى مباضع الفكر النقدي بعيدا عن هالات القداسة وتمائم الحماية الإلهية. ويعتبر الدكتور محمد محمود أن كتابه هو امتداد لمشروع العقلانية التاريخي في العالم العربي والإسلامي، وأنه دون القبول بحرية الفكر النقدي للدين الإسلامي لا تستطيع هذه المجتمعات الخروج من وهدة التخلف والخمول والمساهمة في حركة الحضارة الإنسانية. اختط الكاتب نهجا علميا مرنا حيث لم يشحذ مادة الكتاب بحذلقات ونظريات أكاديمية معقدة ، بل أعتمد على مرويات التاريخ الإسلامي، من أمهات مصادرها، هذا إضافة إلى القرآن الكريم وكتاب صحيح البخاري، وأعتمد على حشد مكثف من الإقتباسات القرآنية و الأحاديث النبوية وكذلك اخبار و مرويات كتب السير والمغازي. والكتاب من حيث موضوع دراسته وبحثه لا يعتبر جديدا البتة، وهو أشبه ما يكون ببيع الخمر القديم في قنانٍ جديدة. إذ سلخ كثيرون جزءا كبيرا من أعمارهم يحاولون ترسيخ منهج نقد الأديان ونزع القداسة عن الدين من أجل الانتصار للمنهح العقلي ودراسات التاريخ الحديث ففشلوا ، حيث قوبلت هذه الاتجاهات بمقاومة علمية قوية تصدى لها نخبة من العلماء بدعوى أن هذا النهج هو هدم صريح للإسلام، ونشط من هؤلاء محمود محمد شاكر والعقاد وغيرهما. ولعل كتاب “أصول الحكم” للشيخ على عبد الرازق، وكتاب الدكتور طه حسين في “الشعر الجاهلي” من العلامات المبكرة في هذا المسار خاصة عندما أكد أن القرآن لا يعتبر حجة في رواية الحوادث التاريخية إذا تعارضت مع مناهج النقد التاريخي الحديثة، مدللا على ذلك بهجرة سيدنا إبراهيم وإسماعيل إلى مكة، واضطر بعد معركة صاخبة إلى الإعتذار وإعادة طباعة الكتاب تحت عنوان في “الأدب الجاهلي” بعد أن نسخ منه مواضع الجدل والخلاف. وترد في السياق ضمن منعطفات العصر الحديث مساهمات الدكتور محمد أركون، و د. سيد القمني وفرج فودة والراحلان الدكتور جمال البنا والدكتور نصر حامد أبوزيد الذين نادوا بنزع القداسة عن الدين واخضاعه لمناهج النظر العقلي. وتوسع د. أبوزيد الذي تم تكفيره والحكم بالتفريق بينه وبين زوجته عندما تقدم عام 1992 بطلب ترقية لدرجة الإستاذية بجامعة القاهرة مقدما اسهاماته الفكرية وهي كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الإيدلوجية الوسطية” و “نقد الخطاب الديني” وغيرهما، حيث زعم أن القرآن نص تاريخي ، وهو في هذا المجال يؤكد أنه لا يمكن الفصل بين القرآن أو النصوص الدينية وبين محمولاتها العروبية في سياقها الاجتماعي والثقافي . وزعمت اللجنة العلمية برئاسة د. عبدالصبور شاهين أن د. نصر حامد أبوزيد دعا أولا “إلى الثورة الفورية على القرآن والسنة، لأنها كما قال: نصوص دينية تكبل الإنسان وتلغي فعاليته وتهدد خبرته، ويدعو إلى التحرر من سلطة النصوص، بل من كل سلطة تعوق مسيرة التنمية في عالمنا.ثانياً: يقول على القرآن إنه منتج ثقافي تشكل على مدى 23 عاماً، وإنه ينتمي إلى ثقافة البشر، وأن القرآن هو الذي سمى نفسه، وهو بهذا ينتسب إلى الثقافة التي تشكل منها. ثالثاً: قرر أبوزيد بتفكيره الخاص أن الإسلام دين عربي، وأنه كدين ليس له مفهوم موضوعي محدد.رابعاً: هاجم في أبحاثه علم الغيب، فجعل العقل المؤمن بالغيب هو عقل غارق بالخرافة والأسطورة، مع أن الغيب أساس الإيمان”.. وقد هاجم دعاة العلمانية هذا التقرير الذي وسموه بأنه تكريس لما اسموه مشنقة الفكر الحر في العالم العربي. والسؤال الذي يثور في هذا الاستعراض: هل يعتبر كتاب” نبوة محمد التاريخ والصناعة”، امتدادا لهذه المدرسة التي يرى البعض أنها إحياءٌ لنهج ابن رشد أو المعتزلة في التأويل العقلي للنص الديني ليتماشي مع روح العصر، وفي المقابل يراها البعض بأنها مروق صريح من الإسلام؟ والإجابة في ظني “لا” مع توكيد النفي القطعي، لأن هؤلاء حاولوا تأويل النص الديني من داخل سياقه العقدي والمعرفي، أما د. محمد محمود فإنه ينكر قطعا لا ظنا في كتابه المذكور النبوة، والدين والإله ويردها إلى أنها صناعة بشرية محضة. ولعل أهم اختلاف بين هذا الكتاب وإسهام المحدثين من الداعين إلى التأويل العقلي هو أن د. محمد محمود لم يشتغل بالدراسات القرآنية بل جعل السيرة النبوية هي مادة دراسته متتبعا مراحل النبوة منذ الإرهاصات الأولى إلى موته وإنتقاله إلى الرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم. وخطورة هذا الكتاب الذي نحن بصدده أنه يصدر من رؤية لا دينية إلحادية لا تؤمن بالنبوة أو الكتاب أو الله، وهو بذلك يتجاوز كل هذا التراث المنشور المنادي بنزع القداسة عن الدين وإخضاعه لشروط النظر العقلي المجرد وتعداه بالدعوة إلى نسف نظرية النبوة الدينية لأنها صنعت الإله في خيالها المحض واعتقلت العقل وصنعت واقعا من التشوه والانقسام الأخلاقي، ويزعم أنه لا يمكن معالجة هذه التشوهات إلا بتحرير الناس من عبء هذه الصناعة وتشوهاتها. وهو بهذا الزعم ينتج لاهوتا تحرريا بديلا لحمته وسداه العقل وليس الله أو النبي. والدكتور محمد محمود في كتابه هذا لا يدعي إيمانا أو انتماءً دينيا يقاضى ويحاسب عليه كما كان حال الدكتور الراحل نصر حامد أبوزيد حين صدر الأمر القضائي بردته ، أي أن رؤيته لا تنطلق من داخل الفضاء الإسلامي كما فعل طه حسين من قبل، بل هو يصدر من رؤية نقدية لا مكان للدين فيها و يسعى في فكره النظري لقتل النبوة في ذاكرة الناس وتراثهم حتي يتخلصوا من عبئها وتشوهاتها حسب زعمه. ورغم جرأة الكاتب في ابتدار مثل هذه الدراسة للقارئ الإسلامي والعربي حسب زعمه لتحريره من خرافة النبوة، إلا أنه يفتقد المصداقية الفكرية حيث لا يرد جوهر أفكاره الأساسية في الكتاب إلى مصادرها الأصلية. ويفتقد في اسهامه النظري الذي نحن بصدد مراجعته وتفنيده حس الأصالة الفكرية ORGINALITY ويفشل في رد بضاعته إلى مصدرها الإستشراقي. وقد اعتمد الكاتب في ظني على تراث المستشرق البريطاني مونتقمري وات Montgomery Watt في كتابيه “محمد في مكة”Mohamed at Mecca الصادر عام 1957 وكتابه الثاني “محمد في المدينة” Mohamed at Medina الذي استكمل به مشروعه النظري في تحليل الوقائع التاريخية لحقبة الرسالة المحمدية واخضاعها لمناهج النقد التاريخي. وكتاب واط تم تأليفه للمؤرخين وقال إنه ألفه ليضع الأحداث الخاصة بالفترة النبوية وفق سياقها التاريخي. واستخدم واط مناهج النقد التاريخي في مقارنة الروايات، وكما قال الدكتور عماد الدين خليل أستاذ التاريخ الإسلامي المشهور أن مونتقمري واط والمستشرقين شككوا في كل شيء من أجل نزع الشرعية الدينية عن الإسلام، ولو وجدوا طريقة أخرى لشككوا في وجود محمد صلى الله عليه وسلم التاريخي ولقالوا اخترعه الخيال الشعبي. والكتاب يشير في بعض مواضعه إلى عوالق الاتهامات الماضية والشبهات الصادرة من المستشرقين التي رمت الرسول صلى الله عليه وسلم بكل منقصة لعامل الصدام التاريخي بين المسيحية والإسلام، وخير نموذج لهذه الاتهامات والتي استل الكاتب بعضها هي قول توماس كارليل Thomas Carlyle قبل مئات السنين في محاضرته المشهورة عن البطولة (إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو رجل محتال تمحل بالتعاليم الدينية التي يعلم كذبها من أجل تحقيق طموحاته الشخصية). وكما قال مونتقمري واط إن هذا الحكم للأسف صدقه وجرى على لسان العديد من دارسي التاريخ الإسلامي دون التحقق من صحته بأدلة ملموسة. الجدير بالذكر أن بعض السودانيين درس تحت اشراف مونتقمري واط بأدنبرة منهم البروفيسور عبد الرحيم علي الذي أعد رسالة الدكتوراة عن البنية الجمالية في الآية القرآنية ليؤكد أن بنية الآية القرآنية تتسق فيها البلاغة مع المعنى وليس مجرد حشو وسجع لفظي، وقد ترجم فصل من هذه الرسالة ونشرت قبل سنوات خلون بالخرطوم. ومن الشبهات والاتهامات التي أثارها هؤلاء وتجد لها أثرا في الكتاب هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخادع وحسي ويستدلون بحربه في الأشهر الحرم وزواجه من زينب بنت جحش.هذا رغم أن القرآن قد أنزل آيات في هذا الصدد أحلت له الزواج من زوجة أدعيائه بعد أن قضى منها زيد وطرا وطلقها. وقد كان مونتقمري واط أكثر إنصافا من الدكتور محمد محمود عندما قال: كيف نحكم على فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل بمعايير العقلانية السائدة في الغرب الآن أم بمقاييس عصره آنذاك؟. وقال إن مقاييس عصره لم تجرمه أو تنتقده إلا في القليل الذي لا يذكر. وتجد أصداء إدعاءات د. محمد محمود في اتهامات المستشرقين التاريخية في أنه صلى الله عليه وسلم مال إلى العنف والقهر واستخدام السيف بعد الهجرة للمدينة. ولعل الفكرة الجوهرية للكتاب كما سنوضح لاحقا هي أن نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي إلا خيال إبداعي، وبما أن النبوة صناعة فأنها أحدثت أو صنعت الإله حسب زعم الكاتب. ويبلغ التمحل من الكاتب ذروته عندما لا يرد هذا الزعم إلى أساسه في الثيولوجيا المسيحية. وهو كما ذكرنا لا يقول بأن مؤلفات المستشرق مونتقمري واط هي مصدر فكرته الأساسية أخذها منه دون أن يشير إلى ذلك، كما استمد منه حتى منهجه في سوق الاتهامات وتطبيق مناهج النظر التاريخي. وللاستدلال على ذلك يقول واط: Was Muhammad a prophet ? He was a man in whom creative imagination worked at deep levels and produced ideas relevant to the central questions of human existence إن رد نبوة الرسول صلى عليه إلى الخيال الخلاق creative imagination وحده كما ذكر مونتقمري واط، وسايره في زعمه د. محمد محمود دون أن يشير إلى ذلك – مما يقدح في مصداقيته الفكرية والأكاديمية- ، لا يقدم تفسيرا متكاملا لتعقيدات ظاهرة النبوة. وفي ذات السياق أخذ د. محمد محمود من كتاب Prophet Mohamed. A biography للكاتب الفرنسي برانبي روجرسون الذي ألف الكتاب بالفرنسية عام 1960 وتمت ترجمته للغة الإنجليزية عام 1971. ويعترف برانبي أنه أعتمد على كتابي واط عن محمد في مكة، ومحمد في المدينة. والتمس في مقدمة كتابه ألا يساء فهم مراده في هذه الدراسة التاريخية لأنها تحفل بنظرات وآراء نقدية متحفزة وغير سائدة في العالم الإسلامي. ويتفوق واط على محمد محمود وهو يحاول أن يبرز عظمة إنجاز النبوة المحمدية التي ردها لثلاثة عوامل وهي أولا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كرائٍ استطاع أن ينظم إطارا عاما من المبادئ والأفكار عمل من خلالها على نزع عمليات التوتر الاجتماعية والصراعات القبلية التي كانت سائدة ونجح في إيجاد مجتمع متضامن ومستقر. ثانيا: حكمته وقيادته كرجل دولة من الطراز الأول. ثالثا: مهاراته الإدارية الخارقة، وقدرته صلى الله عليه وسلم في اختيار معاونيه من الصحابة وتقسيم المسئوليات بينهم. خالد موسى دفع الله