ثقافة

هل هناك أصل للأخلاق ولفصلها كما يزعم نيتشه؟

By nasser

December 07, 2020

أصل الأخلاق وفصلها – فريدريك نيتشه (1-3)  بقلم أمير زكي 

“نحن معشر الباحثين عن المعرفة، لا نعرف أنفسنا، إننا نجهل أنفسنا. وثمة سبب وجيه لذلك. فنحن لم نبحث عن ذواتنا – فكيف لنا إذن أن نكتشف أنفسنا بأنفسنا ذات يوم؟”

هكذا يبدأ نيتشه كتابه (جينالوجيا الأخلاق) والذى ترجمه اللبنانى حسن قبيسى بعنوان ذكى وهو (أصل الأخلاق وفصلها)، الجينالوجيا كمصطلح تعنى (علم الأنساب)،

ويستخدم نيتشه المصطلح هنا ليتحدث عن نسب الآخلاق، الأخلاق هى قضية نيتشه الأساسية والتى ناقشها فى كتبه الأخرى إما بشكل أقرب للشاعرية كـ”هكذا تكلم زارادشت” أو بأشكال فيها حكم قصيرة متقطعة كـ”إنسانى إنسانى للغاية” و”ما وراء الخير والشر”.

الكتاب يعتبر متأخر نسبيا بالنسبة لأعمال نيتشه، كتبه عام 1887، وقبل ثلاث سنوات فقط من توقفه عن الكتابة.

وهو أيضا كتاب فريد من نوعه بالنسبة لنيتشه، لأنه يحمل تحليلا مرتبا ومنطقيا بالنسبة لكتبه الأخرى، ولموضوع الأخلاق بشكل خاص. ولكنه مع ذلك لا يخلو من شاعرية.

الكتاب يتكون من 3 مقالات طويلة نسبيا وهى: “الخير والشر، الطيب والخبيث”، “الذنب والضمير المتعب وما شاكلهما”، و”ماذا تعنى المثل الزهدية”.

من أول جملة فى الكتاب سنكتشف أننا أمام فيسلوف، أو قل مفكر مختلف، هو يضع ذاته موضع البحث مع الموضوع الذى يناقشه، وهذه مشكلته تقريبا مع كل الفلاسفة المحدثين الكبار الذين سبقوه “هيجل، كانط، شوبنهاور”، من حيث أنه كان يجد تورطا ذاتيا فى موضوعاتهم يؤثر على تحيزاتهم الفلسفية وإن كانوا هم يحاولون إنكاره.

هو يتحدث هنا مبدئيا عن ضرورة أن نعرف ذواتنا ونحن نناقش مشكلة فلسفية أساسية مثل “الأخلاق”. فى المقدمة يحاول أن يشرح قصته مع قضية الأخلاق، واهتمامه بالبحث عن أصل الخير والشر، يقول إنه فى البداية وكشخص مؤسس لاهوتيا قرر أن الشر مصدره الله، قبل ما يفرق بين اللاهوت والأخلاق.

ويقرر أن مصدر الشر لا بد وأن يكون هنا فى العالم، وما دام هنا فى العالم فهو مسألة تتحرك، تتطور بالشكل الداروينى، هذا سيمحو عن الأخلاق ثباتها وقدسيتها، وبالتالى بدأت أسئلته الأخلاقية يجاب عليها بالشكل الذى سنراه فى هذا الكتاب.

يشرح نيتشه أيضا كيف أن بحثه عن أصول الأخلاق وأصول مفاهيم أخلاقية كالشفقة وإنكار الذات والتفانى، تلك المفاهيم التى احتفى بها شوبنهاور يؤدى إلى إثبات أنها عقبة فى وجه البشرية وهي التى تؤدى بها وبنا إلى العدم الذى هو سمة العصر والذى يصفه نيتشه بالعارض المزعج.

بشكل عام لو كانت هناك إشكالية أساسية فى هذا الكتاب، فهى وضع الأخلاق التى نعتبرها شيئا بديهيا، على مستويات الدين والمجتمع وغيرها، موضع البحث، ولنر أين سيؤدى بنا هذا البحث. المسألة ليست درامية لأخجل من الاستباق، لكن نيتشه وهذا معروف ينتهى ببحثه إلى الكفر بالأخلاق بمعناها الثابت والشائع لدينا وسنكتشف أسبابه لذلك.

أصل الخير والشر

من بداية المقال الأول الذى يبحث أصل الخير والشر ينتقد نيتشه من يطلق عليهم علماء النفس الإنجليز، وهم ببساطة أصحاب الاتجاه النفعى، هم كانوا يرون أن الفعل الطيب اعتبر كذلك من قبل هؤلاء الذين يتلقونه، يعنى من تلقوا النفع من الأفعال الطيبة سموها كذلك ثم تم نسيان أصل المديح المباشر، لتصبح هذه الأفعال طيبة فى ذاتها.

ولكن هذه الفكرة مرفوضة عند نيتشه، فالفعل الطيب من سماه هكذا هم من يفعلونه، وسنرى أن الفاعل دائما هو من يسمى عند نيتشه، هؤلاء هم من قاموا بالأفعال وقرروا أن هذه أفعال طيبة، على حد تعبيره “أفعال من الدرجة الأولى” فى مقابل الأفعال المنحطة والمبتذلة والسوقية. هذا سيكون مبررا لنيتشه نفسه ليقول إن من يصنع اللغة هم أصحاب السلطة.

فى النهاية فأصحاب السلطة وأصحاب الرفعة والمتفوقون من الناس هم من صاغوا تسمية طيب ونسبوها لأفعالهم السامية، التى سيحاول نيتشه فيما بعد إثبات أنها ليست متصلة بالأفعال غير الأنانية (الأخلاقية بالمعنى الشائع). كانت حجة نيتشه ضد النفعيين أن النسيان الذى يتحدثون عنه غير مقبول، فما دام هناك منفعة فالأحرى أن نتذكرها دوما لا أن ننساها.

نيتشه يقول إن ما جعله يفكر فى أصل الأخلاق، أو أصل الطيب والشرير من هذا المنطلق هو التحليل اللغوى، ونذكركم أن نيتشه كانت دراسته لغوية أصلا.

إن أصل كلمة طيب فى مختلف اللغات كانت مرتبطة بالتميز والنبل. هذا ينطبق أيضا على اللغة العربية، نحن نقول مثلا: “فلان من أصل طيب”، ونحن نذكر مثلا من لسان العرب: “الطيب من كل شىء أفضله”.

في مقابل الخبيث – والكلام الآن لنيتشه – الذى هو العامى والرعاعى والمبتذل. أخذ نيتشه يناقش هذا من منطلق المصطلحات الألمانية فى الكتاب. كلمة (سىء) فى الألمانية كانت تعنى قديما “بسيط”، أو “عامى”.

ولكن الطبقات العليا كانت تضم أيضا طائفة الكهنة، وبينما النبلاء يتصفون بأنهم “أرستقراطية مقاتلة” يعشقون القتال والنشاط والحركة وتكون تصرفاتهم تلقائية، يميل الكهنة للكسل وتجنب القتال. ليحدث صراع بين النبلاء والكهنة حول من هو صاحب المرتبة الأعلى.

نيتشه ليس بعيدا عن ربط أفكار بعينها عن الأجناس، فإذا كان الجنس الآرى هو الجنس الأعلى؛ الجنس الفاتح والمقاتل، فالأعراق الداكنة سوداء الشعر هى التى تؤدى – وهو لم يؤكد – إلى النكوص نحو أفكار الاشتراكية وغيرها من الأفكار البدائية.

وهو أحال فكرة قلب القيم بشكل عام إلى اليهود “الجنس الكهنوتى”.

اليهود وقلب القيم

يصف نيتشه اليهود بالشعب الكهنوتى. ولينتصر فى صراعه مع أعدائه، وهو لا يستطيع مواجهتهم بطريقة مباشرة، قام بعملية انتقام روحى، مضمونه هو قلب القيم.

عرفنا أن كلمات مثل طيب ونبيل وقوى تعنى أشخاص بعينهم. اليهود قرروا أن المساكين والفقراء والعجزة هم الطيبون، أما الأقوياء والنبلاء فعلا فهم الطغاة والجشعين وبالتالى هم المنبوذون والهالكون، ليتبلور الدين بمعناه القريب منا.

حدث توهم أن هذا حب للإنسانية، ولكن نيتشه يرى أن هذا الحب يستهدف نفس المكاسب، النصر والفتح ولكن بطريقة أخرى.

مهم أن نعرف أن نيتشه عندما يتحدث عن اليهودية فهو بشكل ما يتحدث عن التقليد اليهودى المسيحى بصفة عامة، حيث المسيحية فى نظره التى تتبلور فى شىء يحتقره: “إله معلق على خشبة” هى امتداد لليهودية، وهذه غالبا حجة لصالحه عندما يتهم بمعاداة السامية، فإذا كانت معاداة السامية واليهودية منطلقة غالبا – ووفقا للتاريخ – من أفكار مسيحية فهذا غير متحقق عند نيتشه.

ورغم ما يبدو من احتقار نيتشه لهذه القيم الكهنوتية إلا أنه يرى أن الوجود الكهنوتى هو الذى وفر للإنسان عمقه وخبثه وهذا هو ما يجعل الإنسان متفوقا على سائر الحيوانات.

حركة مفهوم الحقد، جدل السيد والعبد

العبيد يحقدون على الأسياد الذين يحصلون على كل شيء بقوتهم، هذا الحقد يصل لمرحلة توليد قيم مختلفة، فهم ينتقمون من الأسياد، ولكن هذا الانتقام لا يكون عنيفا أو واقعيا بقدر ما يكون متخيلا.

الأخلاق الأرستقراطية تولد من تأكيد الذات، وهذا مفهوم عزيز على نيتشه، ولكن فى المقابل فأخلاق العبيد تولد عن طريق رفض كل ما هو مختلف عنها؛ إنها تحتاج لعالم مواجه لها، تحتاج إلى أن تكون رد فعل.

النبيل هو شخص يتمتع بالصدق والصراحة والنشاط الفعال، لا يفكر فى سعادته لأنه يمارسها فعليا، فى حين أن العبد الحقود ليس صريحا ولا مخلصاـ يميل للطرق الخفية، والسعادة عنده مظاهرها هى الخمول والراحة والامتناع عن العمل. النبلاء نشيطون بالقدر الذى ينسون فيه الإساءات التى توجه إليهم. لا يحتفظون بها ليولد لديهم حقدا دفينا.

نيتشه يرى أن أخلاق العبيد هذه هى السبب فيما يولد نفورنا الحالى من الإنسان، وكونه بالنسبة لنا “علة شقاء وألم” وهذا النفور سببه هو فقده لكل ما يوحى بالخشية، واعتبار أن هذا الإنسان هو الغاية ونهاية التاريخ.

يحاول نيتشه أن يبرر ما نتعاهد الآن على أنه شرور، فيقول إن الحملان ترتعب من الطيور الجارحة، ولكن هذا ليس مبررا للحقد على الطيور الجارحة لأنها تروع الحملان. “إن مطالبة القوة بأن لا تتجلى بما هى قوة… أمر لا معنى له”، فهذه هى طبيعة الطيور الجارحة، بالتالى لا يفصل نيتشه بين القوة والإرادة التى تقوم بها، ويرى أن هذا الفصل خاطئ.

مهمة قلب القيم التى يقوم بها العبيد تؤدى لتوليد معانى مختلفة لمفاهيم الطيب عند الأسياد، فالعبيد يجعلون من العجز طيبة، ويجعلون من الانصياع طاعة، والجبن صبرا، هم يزعمون أن الله اصطفاهم وكلما اختبرهم أكثر يكونون أقرب إليه. أما كل ما سيواسيهم بشكل عام فهو يوم الحساب.

الفكرة عند نيتشه أن هؤلاء الضعفاء يريدون أن يكونوا أقوياء بدورهم، وبالتالى فهم يتصورون أنهم سيصلون لمُلك ما فى يوم من الأيام.

يسخر نيتشه ويقول إن دانتى كان عليه أن يكتب على باب جحيمه “أنا أيضا أوجدتنى الكراهية الأبدية” بدلا من “أنا أيضا أوجدتنى المحبة الأبدية”، ويستشهد بأقوال لآباء مسيحيين يتشفون برؤية الكافرين فى االجحيم، كما يقول توما الإكوينى: “حتى يزداد الأبرار المؤمنون غبطة فى نعيمهم، ويشكروا الله كثيرا على هذا النعيم، فهو يمكنهم من التطلع إلى آلام الكافرين”.

روما ضد ياهودا وياهودا ضد روما

الصراع بين الخير والشر بالمفاهيم النيتشوية يمكن أن تتلخص رمزيته فى الآتى “روما ضد ياهودا وياهودا ضد روما”، فروما هى الممثل لذروة المجد والقوة وهى الرمز لقيم السادة فى مواجهة ياهودا. ولكنه يرى أن الصراع بين روما وياهودا انتهى بانتصار اليهود، فالناس الآن ينحنون أمام أربعة يهود “المسيح”، “بطرس الصياد”، “بولس صانع الخيم”، و”مريم”.

وانتصار ياهودا كان يتجدد سواء بحركة الإصلاح البروتستانتية أو بالثورة الفرنسية، فى حين تظهر استثناءات فى المقابل لسادة متفردين كظهور نابليون فى فرنسا.

أصل الأخلاق وفصلها – فريدريك نيتشه (2-3)

من بداية المقال الثاني (“الذنب”، “الضمير المتعب”، وما شاكلهما”)، يتحدث نيتشه عن وجهة نظره عن النسيان الذي هو – بالنسبة له – قوة فاعلة. النسيان الذي يتيح لنا تجاوز “جلبة العالم السفلي من الأعضاء التي تعمل في خدمتنا”. “فلا سعادة البتة ولا صفاء ولا أمل ولا إباء ولا استمتاع باللحظة الآنية بدون وجود ملكة النسيان”. فالذي لا ينسى “لا يمكنه تصفية أى قضية”.

ولكن الإنسان ذو الصحة القوية والذى ينسى كتجل لصحته خلق لنفسه ملكة جديدة وهى ملكة التذكر، وكان مبرر تلك الملكة بالنسبة له هو حفظ العهود التى يقطعها على نفسه. هذه الذكرى التى تجعل الإرادة صلبة حتى تحقيق الفعل.

هذا الشخص الذى يعد والقادر على تحقيق الوعد (يقول نيتشه في كتاب “هكذا تكلم زرادشت”: “أحب هذا الذى يلقى الكلمات الذهبية أمام أفعاله، ويفعل دوما أكثر مما يعد”.) يجد فى امتلاكه لإرادته الواسعة تلك معياره القيمى، يحتقر ويجل من خلالها، وبالطبع هو يحترم أكثر القادرين على الوعد مثله.

هؤلاء الذين يعدون يقدرهم نيتشه لأنهم قادرين ولديهم القوة على الوفاء بالوعد رغم كل الظروف، وعلى حساب “القدر نفسه”. هذه القدرة والقوة على الوفاء بالوعد تصبح بالنسبة للفرد- السيد غريزة سيطرة، وهذه تكون “الضمير” بالنسبة له.

وفكرة العقاب ترتبط بضرورة التذكير، وأيضا بفكر “الدَيْن”، فالذى يدين للآخر بشىء يحاول تذكير نفسه بأنه قد يلقى أذى دموى لو لم يحققه.

والعقاب أيضا يرتبط أيضا بإحدى متع الإنسان البدائية وهى رؤية الآخر يتألم. العقاب وهو أصل الذنب يتعلق بالشخص المدين الذى لا يستطيع الوفاء بدينه، فيخرج من لعبة العلاقات السامية بين الرفاق، يُحرم من الانتماء للجماعة، ويحرم نفسه من منافعها.

ومع ذلك يرى نيتشه أن أى شيء له جذور تاريخية لا يمكن تحديده بدقة، فالذى يتم تحديده هو بالضرورة خارج التاريخ، وربما نتساءل هل هناك حقا ما هو خارج التاريخ؟. بالتالي فهو لا يرى مفهوم مثل مفهوم العقاب يمكن الوصول لمغزى “تاريخى” وحيد له.

العقاب قد يكون وسيلة لمنع التمادي

فقد يكون العقاب وسيلة لمنع التمادي في إلحاق الضرر، أو للترهيب، أو لتصفية عنصر منحط، أو للاحتفال بهزيمة العدو، أو غير ذلك.

السرد للاستعمالات المتنوعة للعقاب هو نفى لوجود صفة جوهرية وأساسية له، غالبا ما تتلخص فى إنه يوقظ الشعور بالإثم عند المخطئ.

نيتشه يدلل على تهافت ذلك بكون المسجونين مثلا لا يشعرون بوخز ضمير حقيقى أثناء عقابهم، فالعقاب بالأحرى “يخمد الحيوية ويحجّر القلب”. ولكن نيتشه يصل إلى أن العقاب قد يروض الإنسان ولكنه لا يجعله إنسانا أفضل.

ولكن عامة يرى نيتشه أن الطابع المفزع والدموى للعقاب ليس مصدرا للمتشائمين ليتزايد “احتقارهم” للبشرية، لأن هذا الطابع كان مصدر بهجة بالنسبة للإنسان القديم.

تطور الإنسان نحو العقل والمجتمع جعله يفقد غرائزه الطبيعية التى اعتاد عليها، ليجد نفسه فى أرض جديدة لا يستطيع الإنسان فيها سوى الاعتماد على وعيه الذى هو أضعف عضو من أعضاء الإنسان فى رأى نيتشه، لينشأ هذا القلق الذى يتصف به عصره.

الوعى أو المجتمع الجديد الذى لا يستطيع الإنسان فيه تفريغ غرائزه، يجعله يفرغها بشكل تلقائى إلى الداخل، لتنشأ “النفس” وليتعمق العالم الداخلى عند الإنسان. وينشأ تحقير الذات غير القادرة على التفريغ وينشأ أيضا “الضمير المتعب”.

“الدَيْن” أيضا من الممكن أن يعتبر أساسا لـ “الديِن” من حيث أهمية أن توفى الأجيال الجديدة حق تضحيات الأجيال السابقة، فكانت تقام شعائر تبجيل هذه الأجيال. مع الوقت يتعمق تبجيل الجد الأول ربما إلى حد صياغته كإله.

الدَيْن تجاه الأجداد يصل لمرحلة من العمق تجعل المدين يشعر تماما بأنه غير قادر على الوفاء به، بالتالى يصل لمرحلة من الشعور بالذنب تؤدى إلى أنه لا يستطيع التكفير عنه. ويأتى علاج مؤقت مثل المسيحية التى يقوم فيها الإله “المسيح” بتسديد الدَيْن عن البشرية.

يقارن نيتشه بين النموذج السابق لصنع الآلهة وبين نموذج أنبل للآلهة وهم آلهة اليونان، وهم ظلال للبشر النبلاء، هؤلاء أيضا الذى يحال لهم الخطأ حين يخطئ الإنسان، فالآلهة يخطئون أيضا، وهم يبررون للإنسان أخطاؤه.

يرى نيتشه أن هذه التغيرات التى أدت إلى كراهية الإنسان لنفسه والإساءة لنفسه هى رد فعل لعدم قدرته على الإساءة للغير (الطبيعية).

ولكن مهمة التطلع إلى مثل أعلى للإنسان، كبديل للإنسان الذى يصف وضعه الحالى، لا يتركها نيتشه إلى هذا المقال بقدر ما يتركها لزرادشت الكافر، حين تجد في الجزئين الأخيرين من المقال نصائح لضرورة وجود ذهنيات الحرب والنصر، واستنشاق الهواء الطلق فى الأعالى وغيرها من الأوصاف التى كانت مطروحة فى كتاب “هكذا تكلم زرادشت”.

أصل الأخلاق وفصلها – فريدريك نيتشه (3-3)

يناقش نيتشه فى هذا المقال المعنون بـ”ماذا تعنى المثل الزهدية؟” المثال الزهدى في جميع أشكاله..

أولا يناقش معنى المثال الزهدى عند الفنان، ويقول ببساطة أنه لا يوجد معنى للمثال الزهدى عند الفنان، وفى موضع آخر يقول إن معانيه عنده متعددة إلى الحد الذى يصح أن نقول فيه أنه لا يوجد معنى عنده، وإحدى هذه المعانى المتعددة هى كون الفنان منفصل عن فنه، وكونه لا واقعيا، يمثل نيتشه لذلك بقوله إن هوميروس لو كان مثل أخيل لما كتب عن أخيل، وجوته لو كان فاوست لما كتب عن فاوست.

من جهة أخرى فالفنان على مر التاريخ كان على الدوام خادما لأخلاق ما لفلسفة أو ديانة، فهو دائما يكون بحاجة إلى سند، وبنفس الطريقة اعتمد فاجنر على مثال زهدى وهو المثال الذى طرحه شوبنهاور.

إذا انتقلنا للمثال الزهدى لدى الفلاسفة فنيتشه يرى أن الفلاسفة عبر الأزمنة والأمكنة، كانوا باستمرار على عداوة مع الشهوة، وشوبنهاور يمثل ذروة هذه العداوة. فالفيلسوف مثله مثل أى إنسان يسعى نحو الوضع الأمثل لاستعراض قوته، وهذا لن يتحقق للفيلسوف إلا بالتخلص من الانزعاج والمشاغل والواجبات والهموم القائمة فى العالم.

المثال الزهدى عند الكاهن

بعد الفنان يتحدث نيتشه عن الكاهن الزاهد، الكاهن الزاهد يكون زهده هو مقوّم حياته، فهو يستمد قوته من مقاومة أعداء هذا المثال (نلاحظ أن الاستمرار يتطلب مقاومة، مثل تطلب شوبنهاور لهيجل وغيره كمقاومين له لكى يستمر)، وبالنسبة للكاهن الزاهد تكون الحياة خطأ لا بد من التراجع عنه لصالح وجود آخر – يمكننا أن نقول إنه غير حقيقى – يحتفى به.

والكاهن الزاهد لا يريد فحسب السيطرة على شىء من أشياء الحياة بل يريد السيطرة على الحياة كلها، يبدو أن إرادة الزهد هذه تحتوى على تناقض فهى ترفض الحياة وتحاول السيطرة عليها فى نفس الوقت.

نيتشه يرى أن نوعية الكاهن الزاهد موجودة فى كل الأعراق وفى كل المراتب الاجتماعية. “إنها محاولة لاستخدام القوة من أجل إنضاب نبع القوة وأصلها”. فى حين تصير الأشياء المضادة للحياة كالمرض وإذلال الجسد وإماتة الرغبات هى الأمور الداعية للنشوة والمتعة بالنسبة له.

يأتى الوقت الذى ستتفلسف فيه هذه الطبيعة الزهدية، وهى بالتالى تضع الحقيقة فى مكان بعيد عن الحياة، الحياة التى تعتبرها خطأ، مثل الفلسفات الهندية الفيدية التى تعتبر العالم المادى كله أوهاما. وما قسمة كانط حاول عالم الظواهر وعالم الشىء فى ذاته إلا امتداد لهذه النظرة الزهدية.

ولكن امتدادا للتناقض المنطلقة منه الإرادة الزهدية، يشير نيتشه إلى أن هناك واقعا فسيولوجيا يفسر المثال الزهدى، وهو أن الحياة المتدهورة تحاول الحفاظ على نفسها، تحاول الحفاظ على الحياة.

وإذا كان المرضى – مرضى الحياة – هم الذين يشكلون المثال الزهدى فهم بالتالى يمثلون أكبر خطر على الأصحاء والأقوياء، الذين لا تكون مصاعبهم مع من هم أقوى بل مع من هم أضعف، هؤلاء الذين يسممون الحياة. لأن هؤلاء أيضا هم من يشككونا فى الحياة. هم الذين يتساءلون “كيف يسعنى أن أتخلص من ذاتى؟”.

و”أنا متعب من هذه الذات”. هذا التسميم الذى ينتهى بأن يقول الأقوياء: “من العار على المرء أن يكون سعيدا فى وجود هذا البؤس كله”.

بنفس هذه الطريقة تنقلب القيم بالشكل الذى تحدثنا عنه فى المقال الأول.

يطلب نيتشه بالتالى فصل المرضى عن الأصحاء حتى لا يصير الأصحاء مرضى. وهذا ما يطلبه من الأقوياء، فإما الصحبة الجيدة أو العزلة. فلا بد – من وجهة نظره – المدافعة عن الإنسان ضد المرضين الرهيبين: “القرف العميق من الإنسان”، و”العطف العميق على الإنسان”.

الكاهن الزاهد.. راعى المرضى

وجود المرضى يتطلب وجود أطباء لهم، ولما كان هذا ليس دور الأصحاء، فمريض آخر يقوم بهذه المهمة، وهو الكاهن الزاهد، ولكن رغم كونه مريضا إلا أن عليه أن يكون رابط الجأش ومتمكنا من نفسه وذلك ليحوز ثقة المرضى ويكون موضع خشيتهم، وبالتالى يحاول أن يحميهم من الأصحاء.

وأن يقود ازدراءهم لهم. يرى نيتشه أن الكاهن يغيّر اتجاه الحقد، فنوعية البشر “المعذبين” يميلون إلى تحميل عذابهم إلى شخص بعينه؛ نساءهم، أبناءهم، أقربائهم، حتى يأتى الكاهن الزاهد ويقول له: “أنت نفسك السبب”.

ولكن فى حين ينظر الكاهن الزاهد لنفسه على أنه طبيب، لا ينظر له نيتشه على أنه كذلك، لأن الكاهن الزاهد يحاول فقط مكافحة الألم الذى يعانى منه المريض، ولا يبحث عن سبب المرض أو الحالة المرضية الحقيقية.

إن الكاهن الزاهد – وتجربة المسيحية كمثال – تقدم للإنسان التعزية من العذابات فحسب.

هذه التعزية أو هذه المحاولة للتخفيف من الألم قد تتم بتخدير الحياة بشكل كامل، أو بالممارسات العملية الآلية، أو بالانضمام لجماعة تقلل من ازدرائه لشخصه، لذلك نيتشه يرى أنه بينما يميل الأقوياء إلى الانفصال، يفضل الضعفاء الاتحاد.

أسلوب الزاهد فى رأى نيتشه لم يفسد النفس البشرية فحسب، بل أفسد الذوق أيضا، ودليل ذلك فى الأدب تفضيل العهد الجديد بالكتاب المقدس الذى يقدم أسمال النفس البشرية من وجهة نظره، على حساب العهد القديم الذى يضم أبطالا ورجالا عظاما.

لا يرى نيتشه أن الفلسفات المعاصرة له بالإضافة إلى العلم يمكنها أن تكون مواجهة بحق للمثال الزهدى، لأنها فى النهاية تبحث عن إيمان، وهو – كواحد من الباحثين عن المعرفة – يحترس من كل أنواع المؤمنين، فالعلم مثلا ينطلق من نفس أرضية المثال الزهدى من حيث كونه يبحث عن “الحقيقة”.

إن رفض الميتافيزيقا لصالح الاكتشافات العلمية أدى إلى أن يصغّر الإنسان من نفسه، وإلى أن يتجه إلى العدم، نفس وجهة المثال الزهدى القديم.

ولكن مع كل هذا الرفض لإرادة العدم، ينهى نيتشه كتابه بقوله إن تلك الإرادة أفضل من أن لا يكون للإنسان إرادة على الإطلاق.