دين

البحث عن سبينوزا: تعرف بايجاز على أحد كبار الفلاسفة

By nasser

February 17, 2018

نبدأ بما قاله بعض الفلاسفة والعلماء عن سبينوزا:

”سبينوزا نقطة حاسمة في الفلسفة الحديثة، الرهان هو: سبينوزا أو ليس هناك فلسفة… فالفكر يجب أن يصعد إلى مستوى الإسبينوزية قبل أن يصعد إلى ما هو أعلى منها، أتريدون أن تكونوا فلاسفة؟ إبدأو بأن تكونوا سبينوزيين“ —هيجل

”أنا مندهش، مبتهج، أنا لا أعرف سبينوزا جيدا، لكن أحس بنفسي منجذبا إليه ليس فقط لأن له نفس إتجاهي… هذا المفكر، غير العادي، والذي كان وحيدا بشدة، قريب لي بشدة“ — نيتشه

”لا أعرف غير سبينوزا الذي عقل بشكل جيد، لكن لا أحد يستطيع قراءته“ — فولتير

”أعترف بكل سرور باعتمادي على تعليمات سبينوزا، رغم أنني لم أتكلف عناء الإشارة إليه باسمه“ — فرويد

”كم أحب هذا الرجل الشريف، وحتى الكلمات تعجز عن ذلك، إنه لم يخش البقاء وحيدا مع هالته المشعة“ — أينشتاين

ولد باروخ سبينوزا يوم 23 نونبر سنة 1632 في حي أمستردام اليهودي من عائلة غنية إسبانية أو برتغالية الأصل، اسمه بالبرتغالية هو ”Benito De Espinoza“، أما باللغة اللاتينية ”Bendictus de Spinoza“، دلالة اسمه هي المبارك، أو الذي يرعاه الإله.

تلقى تعليمه الأول في المدارس اليهودية، قرأ فيها التلمود والتوراة، مما مكنه من إتقان اللغة العبرية وكذا الدراية بالثقافة العبرية ككل، بدأ العمل بالتجارة في محل أبيه رفقة أخيه غابرييل ابتداء من سن الثالثة عشر، سيتوفى والده ميشال سنة 1654 وسيستمر في التحصيل إلى حدود 1656، هنا ستطرأ له طفرة سيتغير بها مجرى السير الذي تود عائلته له، أي السير وتوجه التجارة والتلمود، بحيث سيبدأ بتعميق معرفته حول الفلسفة والتلمود الوسطوي، خاصة منها ألواح موسى وأفكار ابن عزرا، وكذا الفلسفة اليهودية لابن ميمون، وسيبدأ حينها بالانفصال عن الكنيس اليهودي والطائفة اليهودية ببطء، إلى أن يحرر ورقة يصلي فيها الدين اليهودي نقدا مريرا، معلنا فيه الانفصال النهائي عن المعبد اليهودي وجاليته.

في 26 من يوليوز سنة 1656، أصدر مجلس اليهود الأعلى بأمستردام تصريحاً بنفي سبينوزا، وفي 27 يوليو من نفس السنة، أصدر الكنيس اليهودي أمر الحرمان الكنسي والطرد من المجتمع اليهودي، المسمى بـ”חרם“ أو ”herem“ [وهو أشد أشكال الإقصاء من المجتمع اليهودي. يعتبر من صرح باسمه كافرا ومن أولياء الشيطان، لا يقترب منهم ولا تذكر أسماءهم إلا باللعن]، قال الكنيس فيه:

”اللعنة عليه، اللعنة عليه في الصباح والمساء، اللعنة عليه في دخوله وخروجه، اللعنة عليه إلى الأبد، فليمسح أسمه من هذا العالم، وليجعل الإله منه معزولا عن اليهود، ولينزل عليه كل اللعنات… وأنتم الذين تعلمون الإله وتعرفونه، اعلموا أنه يحرم عليكم أي علاقة به، لا كتابية ولا كلامية، لا يقدم له أحد خدمة ولا يقترب منه أحد أكثر من أربعة أمتار، لا يجالسه ولا يكون معه تحت نفس السقيفة، ولا أحد يقرأ كتاباته…“

في الفترة التي أصدر القرار بعزله عن اليهود، كان سبينوزا قد دأب على زيارة مدرسة الفيلسوف فرانسيس فان إيدن المعروف بأفينوس، ففيها تعلم اللاتينية، ودرس التاريخ وفلسفة العصور القديمة، ودرس فيها أيضا فكر فرانسيس بيكون، توماس هوب، غروتيوس، وكذا مؤسس السياسة الواقعية الأول ميكيافيلي، بالإضافة إلى الانهماك في فهم فلسفة ديكارت وقراءتها، وستكون هذه أرضية قاعدية لظهور سبينوزا كفيلسوف.

عرضت عليه الجماعة اليهودية 1000 فلورين في السنة ليحجب عن شكوكه، وحين رفض تعرض لمحاولة اغتيال – من طرف أحد المتطرفين اليهود – باءت بالفشل، يقول جيل دولوز:

”ويحكى أن الفيلسوف قد أحتفظ بردائه وعليه المزق التي خلفتها السكين، ليتذكر بشكل أفضل بأن الفكر ليس دائما شيئا محبوبا عند الناس“.

 

ثم انتقل إلى لاهاي، هذا الانتقال المكاني، والانفصال الفكري ألزمه بأن ينفصل عن مصدر رزقه وكذا طريقة عائلته التي هي التجارة، فالتجأ إلى تعلم طريقة أخرى لكسب قوته، فتعلم صقل العدسات البصرية، حتى يضمن لنفسه البقاء والحد الأدنى من شروط الحياة، ليكون عمله هذا مكسبا مؤهلا لتعلم مسلك البصريات وعلم الضوء وقوانين انتشاره، بالإضافة إلى أنه كان يمارس الرسم أيضا.

سبينوزا الفيلسوف: (ميتافيزيقي وأخلاقي ومفكر سياسي وديني) لا شك أن نفي سبينوزا ولنقل إصدار حكم بنفيه عن المعبد اليهودي والطائفة اليهودية يدل على كونه صار يشكل خطرا من ناحية، ومن ناحية أخرى صارت تبرز فيه بوادر الاختلاف وبذور الفكر الفلسفي المتسم بالوقوف على كل ما لامعقول في الأنساق الفكرية للإنسان.

مؤلفاته: مولفات سبينوزا

– الرسالة القصيرة «Tractatus de Deo et Homine Ejusque Felicitate» سنة 1660 في هذه الرسالة يركز سبينوزا على فكرة الإله باعتباره أصلاً/علة للكل، مع العلم أن الطبيعة والعالم نتجا عنه ضرورة، إنه مطابق للطبيعة ولقوانين الطبيعة، الوجود تجلي من تجليات أحواله والإنسان يحتويه هذا الأمر كذلك.

للإنسان طبيعة معينة، وهي طبيعة الإنفعالات، هذه الأخيرة تقود الأفراد إلى التعاسة والحزن إذا ما تحكمت في الإنسان كما دأب على ذلك، لكنها في نفس الوقت قد تكن من بلورة المعرفة خاصة المعرفة الحدسية إن هي عقلت، وعرفت عللها وكيفية عملها، هذا النوع من المعرفة هو الممكن الإنسان من بلوغ السعادة.

– رسالة في إصلاح العقل «Tractatus de Intellectus Emendatione» سنة 1661-1677 هذا الكتاب يعتبر عرضا بهيجا للمنهج السبينوزي في تحليل وتصور الأشياء، فهو معنون بعنوان آخر فرعي: في الطريقة التي تؤدي إلى المعرفة الحقيقية بالأشياء، يتحدث فيه عن الخير الذي يسعى إليه الإنسان، والخير الأسمى والذي هو الخير الحقيقي، عن قواعد للحياة تنم على نسقية عقلانية صارمة، فلا بحث عن مال إلا لضرورة ولا متع إلا للحفظ الصحة، أشكال الإدراك التي تمكن العقل من فهم الأشياء، مع التأكيد على أن أفضل نمط للإدراك هو الإدراك الذي يكون مبنيا على معرفة طبيعتنا وطبيعة الأشياء الحقيقية، بالإضافة إلى معرفة ممكنات واستحالات هاته الأشياء، بمعنى محاولة فهم الأشياء فهما مطابقا.

– رسالة في اللاهوت والسياسة «Tractatus Theologico-Politicus» سنة 1670 يعتبر هذا الكتاب لحظة فيصل في فكر سبينوزا، لأنه كان في الفترة التي عكف عن كتابة الإيتيقا، وانغمس ليخلق هذا المشروع، نظرا للظروف التي أحاطت بالدولة الهولندية التي عاشت أزمة عقائدية وتضاربا بين الطوائف والأديان، فعزم فيه سبينوزا على معالجة مجموعة من القضايا التي تهم هذا الشأن السوسيوديني، والدين-سياسي، وكذلك الفكر-دين، هذا الكتاب الذي اعتبر الكتاب الأشد كفرا في التاريخ [المصدر: هاشم (صالح)، مدخل إلى التنوير الأوروبي، دار الطليعة، بيروت، 2005، ص185.] لاحتوائه على مجموعة من الأنساق اللاإعتيادية وكذا غير المقبولة في الوسط اللاهوتي/الديني، بحيث أخضع فيه سبينوزا التوراة إلى منهج صارم جداً في دحض الأحداث أو تأكيدها، وبالتالي توصل إلى إنكار مجموعة من الأحداث والتصورات التي تعتبر ركيزة للاهوت اليهودي والمسيحي على السواء إن لم نقل الإبراهيمي عموما.

إن كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة هو كتاب حافل بمجموعة من المناهج والتي سنتطرق إليها في حينها، هاته الأخيرة تتبع التفسير، وتبيين بأن لا مضرة للدولة في التفكير وحرية التعبير والضمير، وأن القانون الإلهي يتجلى في النظام الديمقراطي، وأن الصور التي رسخت في الأذهان حول المفاهيم الدينية كالوحي والنبوة والمعجزة صور مغلوطة، لأنها لا تمكن الذهن إلا من إدراك ماهو وهم، لا ما هو حقيقة في الحقيقة.

هذه الرسالة جاءت نتاج كون الوحي/الرسالة/تعاليم الأنبياء ..الخ تنقلب على ذاتها إلى ضدها، فسبينوزا يدرس كيف تقلب المفاهيم عموما، كيف تصير الروح مادة، والإيمان إلى تعصب، والحقيقة إلى بطلان، والدين إلى وثنية، والطقوس إلى انعزالية… وكل هذه العلاقات التضادية كيف ينقلب عكسها إلى عكسها أيضا. هذا الكتاب أيضا طرح أسئلة الجمهور ولا عقلانيته، وكذلك حبه للعبودية، بالإضافة إلى استشكال الدين كمعطى منتج للسلبيات رغم اعتباره أساسا لكل ما هو إيجابي.

سنة 1670 ستصدر رسالة في اللاهوت والسياسة بدون توقيع وفي طبعة ألمانية مزورة، لكن لن تفتأ هوية الكاتب تعرف، ليُتعرضَ له باللعن والسب من طرف كل من الكاثوليكيين واللوثريين والكالفينيين، بل وحتى الديكارتيين، لتصير كلمة السبينوزي والسبينوزية نوعاً من الشتيمة والإهانة والسباب.

– مبادئ الفلسفة الديكارتية «Renati Descartes Principia Philosophiae» – خواطر ميتافيزيقية «Cogitata Metaphysica» سنة 1633 هما الوحيدان اللذان نشرا باسم سبينوزا وبشكل صريح وفي حياته، فكتاب مبادئ الفلسفة الديكارتية هو تعليل لم قام ديكارت بالشك في كل شيء، بغاية إيجاد أسس تمكن من فهم أسباب الخطأ وتدفع بالعقل إلى أبعد الحدود لبلوغ الحقيقة الواضحة. من بناء الشك الكوني (الشك في كل شيء والتخلص من كل أحكام مسبقة) حتى بلوغ الحقيقة. بشكل عام الكتاب يشرح فلسفة ديكارت المتعلقة؛ بالتعريفات، والصفات والأحوال والجوهر، والمعرفة والإله والحركة… إن هذا الكتاب يتبع فيه سبينوزا منهج البرهان الهندسي؛ أي الانطلاق من مقدمات/تعريفات، لبناء قضايا والبرهان عليها… وهذا الكتاب غير مكتمل.

كتاب خواطر ميتافيزيقية عبارة عن ملحق أو تذييل لكتاب مبادئ الفلسفة الديكارتية، يهتم هذا الكتاب بالتطرق للصعوبات المتواجدة في الميتافيزيقا، وبالضبط قضية الكائن وأحواله، الإله وصفاته، والروح الإنسانية. إن هذا الكتاب يحيل عنوانه على فحواه فهو يتحدث عن العقل والزمن والخير والإله وأزليته وإرادته وقدرته… إنه عبارة عن تحليل وتفسير أو لندقق العبارة هو برهان من نوع آخر على مجموعة إشكالات فلسفية/ميتافيزيقية/لاهوتية بطريقة رياضية وعقلانية وهندسية… كتاب شديد الدقة برهانا وعبارة.

– الإيتيقا «Ethica» سنة 1677 لم ينشر كتاب سبينوزا الإيتيقا حفاظا على سلامته الشخصية إلا بعد وفاته يوم 21 فبراير سنة 1677، بسبب تمكن مرض السل منه، هذا الداء الذي يرجح أن سببه هو اشتغاله في العدسات والتعرض لغبارها. نشر الكتاب بدعم من مجهول، بعد أن بقيت مخطوطة الكتاب بحوزة صديقه لويس مايير، ويعتبر كتاب الإيتيقا، من أهم الكتب التي جادت بها الفترة الحديثة، فهو كتاب تناسق وانسجام وهدنة مع الطبيعة ككل، إنه دعوة إلى ترك التصور التقليدي الديني والسعي نحو أفق العقلنة – والصلح مع الموجود والوجود.

فهو يتناول مواضيع متميزة؛ الميتافيزيقا، علم النفس ثم الأخلاق ونمط السلوك، متبعا في ذلك نمطا هندسيا دقيقا، يقول برتراند راسل :

”اﻟﻜﺘﺎب ﻛﻠﻪ ﻣﻌﺮوض ﻋﻠﻰ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻫﻨﺪﺳﺔ إقليدس، إذ يبدأ بتعريفات ومجموعة من المسلمات، ومنها يستمد المجموعة الكاملة للقضايا اللازمة عنها، مع كل ما تقتضيه من براهين ونتائج و تفسيرات، وهذه الطريقة في التفلسف لم تعد شائعة أو مرغوبة، ولا بد أن يظهر مذهب سبينوزا تدريبا بحق في نظر أولئك الذين لا يعجبهم شيء سوى أنباء الصحافة، ولكن هذا المذهب لا يبدو في تركيبه، على هذا القدر من الغرابة، بل إنه يظل في ذاته، عملا من أروع أعمال التفكير المنضبط والدقيق“. [المصدر: راسل (برتراند)، حكمة الغرب 2، ترجمة فؤاد زكريا، عالم المعرفة، الكويت 1983، ص62]

كتاب الإيتيقا كان محطة تدارس حمالة لإشكالات و حاملة لتجديدات مفاهيمية وكذلك فتحاً لأفق فكري جديد، فلا ينفك سبينوزا يشير له في جل مؤلفاته الأخرى، كأنه ناموس أو قاعدة أو فقه سبينوزي يبني عليه كل أنساقه، بل إن فيه من كل بستان زهرة؛ يتحدث فيه عن نظرية المعرفة، الانفعالات، الأخلاق، أسس غير مباشرة للسياسة، الفرح والحزن، إشكالية الموت والإله، الفكر، الوعي… كأننا أمام جامع لأحكام العيش والفكر الفلسفي ككل.

عدل سبينوزا عن نشر الإتيقا في البداية، وتظهر لنا أسباب ذلك في رده على أولدينبورغ بحيث قال:

”لقد وصلتني رسالتك بينما كنت على أهبة السفر إلى أمستردام كي أدفع الكتاب الذي حدثك عنه للطبع، ولما كنت منشغلا بذلك إذ ذاع نبأ صدور كتاب لي عن الله، حيث أسعى إلى إنكار وجوده، وصدق بهذا النبأ عدد كبير جدا من الأشخاص، وبعض اللاهوتيين (لعلهم أول من روج هذه الإشاعة) قد اغتنموا الفرصة لرفع شكوى ضدي أمام الأمير والقضاء، وإن بعض الديكارتيين الأغبياء الذين عرفوا بتأييدهم لي لم يجدوا بداً، كي يتبرؤوا من كل شبهة، من الإعراب في كل مقام عن كرههم الشديد لأفكاري ومؤلفاتي. ولما بلغني من أشخاص جديرين بالثقة، فأخبروني في نفس الوقت بما يدسه لي اللاهوتيون من مكائد، قررت أن أرجئ نشر ما أعددته، عسى تتضح الأمور، إلا أنها على ما يبدو، تزداد تأزما كل يوم، ولست أدري حقا ما سأفعله“.

ويعتبر هذا الكتاب من الكتب الثقيلة الوزن التي رشحت في العصر الحديث وهو نفسه أخطر مؤلف له [تتجلى خطورة الكتاب في كونه نقدا لبعض المفاهيم اللاهوتية، ويظهر ذلك في كونه سببا من الأسباب التي أدت إلى نعت سبينوزا بالإلحاد والنزعة اللاأخلاقية حينها، رغم أنه كان ذا أخلاق عالية، بحيث يقول في الرسالة 30 التي أرسلها إلى أولدينبورغ : ”إن الرأي لا ينظر لي إلا كفاسق شرير، فلا ينفكون يتهمونني بالإلحاد، الذي أنا ملتزم بمحاربته ما أمكن“. ويقول في الرسالة 43: ”الملحدون اعتادوا على البحث الدائم عن كل ما هو شرف وثروة، هاته الأشياء التي ما انفككت أحتقرها، وكل من يعرفني يعلم ذلك جيدا“.] وفي نفس الوقت الكتاب الجامع لكل نسقه، لذلك يعتبر ركنا أساسيا من نسقه.

– رسالة في السياسية «Tractatus Politicus» سنة 1677 هذا الكتاب محاولة لإيجاد الطريقة الأفضل لسياسة المجتمع، يتحدث سبينوزا فيها عن الأنظمة الممكنة؛ الملكية، الأرستقراطية، الديمقراطية، الأولى والثانية باعتبارهما بؤرة شر ممكن وهو الطغيان والاستبداد، مع التأكيد على أن السلم والحرية للأفراد لا تشكل شرا أو أذى للأفراد، بل هي ترسيخ للقانون الطبيعي، وتقعيد لقواعد القانون الإلهي الأزلي. بعبارة أخرى الديمقراطية هي تجلي القانون الإله/الطبيعة في السياسة ومجال الاجتماع بين أفراد البشر.

بناء هذا الكتاب لا يخرج عن البناء الذي اعتمدته أغلب الكتب الفلسفية السياسية في الفترة الحديثة (هوبز، روسو، مونتيسكيو…)، فقت ابتدأ سبينوزا بالحالة الطبيعية التي هي حالة انفعالات وهي نفسها علة الاجتماع لتحقيق الخير المشترك الذي هو حفظ الذات وتوفير شروط العيش، وبالتالي فالحالة المدنية امتداد للحالة الطبيعية، ولا يمكن أن تكون صالحة إلا إذا احترمت ما هو طبيعي لدى الأفراد، خاصة تفاوتاتهم، قدراتهم، طبيعتهم، ضروراتهم.

يؤكد سبينوزا في هذا الكتاب على معطيات الحرية، والتفكير، الاعتقاد، وممارسة التفلسف بل والتأكيد عليها لأنها تجلب كل خير ممكن للدولة وتحافظ عليها وتساهم في تطويرها.

عموماً… عاش هذا الفيلسوف بشكل فلسفي خاص، فهو يمزج بين الزهد وحب الحياة، فمن ترك الغنى إلى العيش على صناعة اليد، ورغم ذلك فقد شكل لحظة فيصل في تاريخ الفكر – الفلسفي على الخصوص – ذلك لأنه دشن تصوراً قديماً بشكل جديد وهو تصور الوحدوية Panthéisme وقام بخلق أرضية أولية لمجموعة من العلوم على رأسها علم النفس و الأنثروبولوجيا. ليكون بذلك رجلا ضمن زمرة الذين سبقوا زمانهم، فما ينفكوا يعودون دوما… إنه من رجالات المستقبل.

الفرح، الحزن، البحث عن سبينوزا الفرح، الحزن، والدماغ الحساس البحث عن سبينوزا تأليف :انطونيو دمازيو

ؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور الشهير انطونيو دمازيو استاذ علم الاعصاب في المركز الطبي لجامعة «ايوا» بالولايات المتحدة الاميركية وقد نال سابقا عدة جوائز على ابحاثه واكتشافاته في مجال علم الاعصاب الدماغية وهو عضو المعهد الطبي التابع للاكاديمية القومية للعلوم، كما انه عضو الاكاديمية للفنون والعلوم وكتب البروفيسور دمازيو مشهورة وتدرس في مختلف جامعات العالم.

وفي هذا الكتاب الجديد يتحدث المؤلف عن واحد من كبار الفلاسفة في التاريخ: سبينوزا ثم يقيم مقارنة بين آراء هذا الفيلسوف عن الفرح والحزن والغم والحسد وبقية المشاعر الانفعالية وبين اكتشافاته هو بالذات بصفته عالما،

ومختصا بعلم الاعصاب الدماغية، وكم كانت دهشته كبيرة عندما اكتشف ان افكار الفيلسوف الكبير الذي عاش في القرن السابع عشر تتوافق في معظم الاحيان مع اكتشافات آخر النظريات الطبية والعلمية عن اصل الانفعالات البشرية!

يقول المؤلف بما معناه: ان الفرح، والحزن، والحسد، والغيرة، والخوف، كلها احاسيس نشعر بها يوميا ونعيشها، ولكننا نجهل عموما مصدرها العميق واسبابها اما سبينوزا فلا يجهل ذلك سبينوزا كان اول من بحث عنها بشكل منتظم وشكل عنها نظرية جادة وصلبة.

والواقع ان نظريات سبينوزا عن الموضوع ترهص بأبحاث علم الاعصاب الدماغية الحديث وتمهد لها الطريق وتتجلى حداثة سبينوزا من حيث انه رفض الفصل بين الجسد والروح على عكس ديكارت فالروح والجسد متلازمان في رأيه وما يؤثر على الروح ينعكس على الجسد والعكس صحيح ايضا وبالتالي فالمرض النفسي يؤدي الى اعتلال جسدي، والمرض الجسدي ينعكس على النفس والروح.

من المعلوم ان سبينوزا كان قد ولد في عائلة يهودية بمدينة امستردام عام 1932 ولكنه انفصل عن طائفته والدين اليهودي بعد ان بلغ العشرين او اكثر قليلا واعتنق الفلسفة

وهذا ما دفع بالطائفة اليهودية الى فصله من صفوفها ولعنه، ومنع اي يهودي في الاقتراب منه باعتبار انه كافر زنديق خرج على دين الآباء والاجداد ولذلك هرب سبينوزا من امستردام وذهب الى الريف الهولندي لكي يعيش في مدن صغيرة وفي اوساط المسيحيين الليبراليين المستنيرين الذين احتضنوه ودعموه بعد ان توسموا فيه العبقرية.

ثم ذهب الى مدينة لاهاي وعاش هناك في عزلة ووحدة مكرسا جل وقته للمطالعة والكتابة ولكنه كان مقربا من بعض الشخصيات السياسية المهمة التي خصصت له راتبا لكي يكمل ابحاثه وكان تعرفه على الفلسفة الديكارتية من خلال بعض الاساتذة هو السبب في تخليه عن العقائد اليهودية التقليدية.

والواقع ان فلسفة ديكارت كانت جديدة وطازجة آنذاك وكانت تعتبر بمثابة الحدث الاعظم للفكر فديكارت بدا وكأنه ارسطو جديد بل انه قام بانقلاب على ارسطو القديم اي المعلم الاول وحل محله.

ولذلك فان سبينوزا شعر بصدمة كبيرة عندما تعرف على فلسفته ولهذا السبب قرر هو الآخر ايضا ان يصبح فيلسوفا والواقع ان سبينوزا لم ينشر الا القليل في حياته خوفا من الرقابة بل وربما خوفا من الاغتيال ايضا.

ومن المعلوم انه تعرض لمحاولة قتل على يد اصولي يهودي متعصب ولكن لحسن الحظ فان المعطف الذي كان يلبسه في ذلك اليوم كان سميكا جدا فلم تصبه ضربة الخنجر في العمق وانما خدشته فقط.

لم ينشر سبينوزا في حياته الا كتابين: الاول باسمه الحقيقي، والثاني بدون توقيع، وكان عنوان الاول هو التالي: مباديء فلسفة ديكارت.

واما الثاني فقد اتخذ العنوان التالي: مقالة في اللاهوت والسياسة وهو يشرح فيه نظريته المبتكرة جدا والسابقة لاوانها عن العلاقة بين الدين والسياسة.

ثم يشرح المؤلف نظرية سبينوزا عن المشاعر والانفعالات ويقول بما معناه: الانسان بحسب منظور سبينوزا هو جزء من كليّانية الوجود وبالتالي فهو خاضع لقوانين السببية والحتمية مثله في ذلك مثل جميع الكائنات الموجودة على سطح الارض.

وقبل ان يتحرر الانسان عن طريق المعرفة فانه يكون عادة جاهلا ومستعبدا لمشاعره ونزواته وعندئذ يطفو على سطح الانفعالات الهائجة التي تتقاذفه او تلعب به كما تشاء، واحيانا يسيطر الحزن او الغم على الانسان دون ان يستطيع منه فكاكا، ولو انه عرف سببه لتحرر منه وبالتالي فان اول هدف للمعرفة هو تحريرنا من الغم او الهم الذي يسيطر علينا.

ويقول سبينوزا ايضا: ان الحزن لا يمكن ان يسيطر علينا الا اذا ضعفت رغبتنا في الحياة او قلت ثم يحلل سبينوزا طبيعة الحقد الذي نسقطه على الآخرين او حتى على انفسنا احيانا فهناك كثيرون ممن يكرهون انفسهم.

ولكن الحقد او الكره لا يمكن ان يكون شيئا جيدا. لماذا؟ لاننا نحاول ان ندمر الشخص الذي نكرهه او نؤذيه على الاقل وبعدئذ تجييء مشاعر اخرى من تلك التي تسيطر على الانسان ثم اذا ما كرهنا انفسنا فاننا نميل الى التدمير الذاتي للذات: اي الى الانتحار.

ونذكر من بينها الغيرة، او الحسد، او التهكم، او الاحتقار، او الغضب، او الانتقام وهي جميعها سيئة ولا جدوى منها في نظر الفيلسوف الكبير. ثم هناك مشاعر العار وهي من ابشع انواع المشاعر.

واما التوبة التي يلح على اهميتها المسيحيون في كتبهم الاخلاقية فلم تكن ذات خطوة لدى سبينوزا فهي ليست فضيلة في نظره لان ذلك الشخص الذي يتوب تعيس بشكل مزدوج او عاجز فطاقته الحيوية الخلاقة معرقلة مرتين لا مرة واحدة فهو من جهة ذو روح مستعبدة او مسترقة لان التوبة تعني الخضوع والعبودية بمعنى من المعاني ثم ان التوبة شيء رديء ككل المشاعر السلبية الحزينة، والحزن في رأي سبينوزا شيء سلبي باستمرار لانه يخفض من امكانياتنا على الحركة والحياة، والفعل، والابداع.

وفي نظر سبينوزا فان اي احتقار للحياة او زهد فيها يعني شيئا سلبيا وسيئا فالحياة ينبغي ان نحبها لا ان نكرهها وندير ظهرنا لها.

وبالتالي فان الانسان لا يمكن ان يتوصل الى الحرية الا عن طريق المعرفة فالمعرفة هي التي تحررنا من اوهامنا وتخيلاتنا ووساوسنا ويقصد بها سبينوزا معرفة اسباب آلامنا وحرننا وتعاستنا فاذا عرف السبب بطل العجب كما يقول المثل ويقصد بها ايضا معرفة الله والقيم العليا والقوانين التي تمسك الكون.

وبعد ان يتعرف الانسان على نفسه بشكل جيد يصبح قادرا على ان يعيش ويتصرف طبقا لمقتضيات الاستقامة والنزاهة والفضيلة. والفضيلة في نظره لا تعني الخوف والخضوع والعبودية، وانما تعني تحقيق الذات على هذه الارض بشكل ايجابي وبكل فرح وسعادة.

وفي نظر سبينوزا ان تكون فاضلاً فهذا يعني ان تكون قادراً على ان تتصرف بشكل جيد وان تعيش بشكل جيد، واذا كان الحزن دائماً شيئاً رديئاً في نظره فإن الفرح يشكل قيمة ايجابية وذلك لانه يعني زيادة قدرتنا على التحرك والتأثير على الاشياء.

لقد ارعب سبينوزا معاصريه بهذه التصورات المادية عن وحدة الوجود. ويقال بأن الفيلسوف الالماني الشهير لايبنتز عندما اطلع على كتابه «الاخلاق» صرخ قائلاً يا له من كتاب مرعب!

ثم يضيف المؤلف قائلاً ما معناه:

ان سبينوزا يمتلك نظرية متكاملة عن المشاعر التي تنتاب الانسان وهي مرتبطة بنظريته عن الحرية. فهو يقول بأننا نتعرض لاهدافنا العنيفة ومشاعرنا الهائجة التي تلعب بنا وتؤثر علينا سلباً لاننا لا نعرف اسبابها العميقة.

وبالتالي فإن المعرفة بأسبابها هي التي تحررنا منها فالناس عموماً يمتلكون معرفة خاطئة، أو غير مطابقة عن الاسباب التي تسبب لهم الحزن أو الغم او الحسد او الخوف، الخ.

وبالتالي فإذا ما ارتفعوا الى مستوى المعرفة الصحيحة او المطابقة بهذه الاسباب فإنهم يستطيعون عندئذ ان يتحرروا من هذه المخاوف والاوهام. هذا التركيز على دور المعرفة في التحرير شيء هائل ورائع.

فالمعرفة في نظر سبينوزا ليست تراكماً للمعلومات وانما هي وسيلة لتحرير الانسان من كل ما يضغط عليه ويسبب له الازعاجات والآلام.

واذا لم تكن المعرفة مفيدة في حل مشاكل الانسان فلا معنى لها. وهذا تصور حديث جداً عن المعرفة وسابق حتماً لعصر سبينوزا بكثير.

والواقع ان هذا الفيلسوف كان متقدما على عصره في جميع المجالات تقريباً. ولهذا السبب فلم يفهمه معاصروه وانما شكوا به ولعنوه وادانوه بتهمة الكفر والالحاد.

وكل مفكر سابق لزمانه يكون مكروهاً عادة ويقابل بالرفض ولكن هناك مسألة كان فيها سبينوزا من اهل زمانه وهي: قوله بأن المرأة عاجزة عن القيام بأي دور سياسي وان السياسة ينبغي ان تكون للرجال فقط.. وهذه النظرية الاحتقارية للمرأة وامكانياتها أو بالاحرى عدم امكانياتها كانت سائدة في العصور القديمة كما هو معروف.

مهما يكن من امر فإن هذا الكتاب الذي يقدمه البروفيسور انطونيو دمازيو مليء بالتحليلات الثاقبة، كما انه يعرف كيف يربط بين الماضي والحاضر بين عصر سبينوزا وعصرنا الحالي، وبين العلم الذي كان متوفراً في القرن السابع عشر عن الانسان والمادة الفيزيائية والجسد، والعلم المتوافر في اوائل القرن الواحد والعشرين.

ولكي نوضح ذلك اكثر يفضل ان نعطي فكرة عامة عن التركيبة الداخلية لهذا الكتاب، نلاحظ انه مؤلف من سبعة فصول مع هوامش كثيرة فالفصل الاول يتحدث عن مشاعر المؤلف تجاه سبينوزا بعد ان زار هولندا والاماكن التي عاش فيها الفيلسوف الكبير قبل ثلاثة قرون أو اكثر.

ثم يتحدث عن معنى الانفعالات في عصر سبينوزا ومعناها في عصرنا الحالي وعن اقامة سبينوزا في لاهاي بعد ان هرب من امستردام.

كما ويتحدث عن اقامة سبينوزا في مدن اخرى صغيرة حيث كان يسكن غرفاً مفروشة عند الناس وفي احياء هادئة لكي يتفرغ للتأمل الفلسفي والكتابة.

واما الفصل الثاني من الكتاب فيحمل العنوان التالي: بحث عن الشهوات والانفعالات التي نتعرض لها في الحياة. والفصل الثالث مكرس للانفعالات فقط.

وهو يطرح السؤال التالي: ما هي الانفعالات؟ ولماذا تصيبنا يا ترى؟ لماذا لا نستطيع ان نسيطر على مشاعر الحزن، أو الغضب، أو الحسد، أو الخوف، أو الكره التي تنتابنا احيانا؟

وفي الفصل الرابع يواصل المؤلف حديثه عن الانفعالات ويتحدث بشكل خاص عن الشعور بالفرح، والشعور بالحزن، كما ويتحدث عن الانفعالات والسلوك الاجتماعي.

واما الفصل الخامس فمكرس لدراسة العلاقات الكائنة بين الاشياء التالية: الجسد، الدماغ، العقل، وهنا يطرح مسألة العلاقة الجدلية الكائنة بين الجسد والعقل كما كان يتصورها سبينوزا،

وكما يتصورها علم الاعصاب الدماغية الحديث في آخر ما توصل اليه في اكتشافات وانجازات وعندئذ يكتشف اوجه التشابه والاختلاف بين تصور سبينوزا وتصورنا نحن وعندئذ ندرك مدى عبقرية سبينوزا وكيف استبق على آخر اكتشافات العلم الحديث.

ثم يتحدث المؤلف ايضاً عن زيارته لمدينة لاهاي عاصمة هولندا في شهر ديسمبر من عام 1999 ولا يعدم ان يعود الى الوراء لكي يرى حالة المدينة وكيف كانت في زمن سبينوزا حوالي عام 1670.

واما الفصل السادس فيتخذ العنوان التالي الشديد الدلالة: زيارة الى سبينوزا وهنا يتحدث المؤلف عن زيارته هو لمدينة هولندية صغيرة اقام فيها سبينوزا في وقته هي ريجنسبورغ، وقد زارها البروفيسور دمازيو عام 2000 وفي شهر يوليو تحديداً.

وبعدئذ يتحدث عن اوضاع مدينة لاهاي عام 1670 ثم مدينة امستردام عام 1632 اي في العام الذي ولد فيه سبينوزا، ويتحدث عن الجو العام السائد آنذاك وعن الافكار والاحداث.

كما ويتحدث عن كيفية اضطهاد المفكرين الاحرار من قبل الاصولية اليهودية أو المسيحية ثم يصل الى تلك القصة الشهيرة المتعلقة باضطهاد سبينوزا نفسه وكيفية فصله من الطائفة اليهودية واطلاق فتوى لاهوتية تلعنه وتمنع اي شخص من الاقتراب منه او مساعدته.

وفي الفصل الثامن والأخير يتحدث المؤلف عن كيفية موت سبينوزا في الخامسة والاربعين من عمره ، وما هو الارث الفكري الذي خلفه لنا.

الكتاب: البحث عن سبينوزا، الفرح، الحزن، الدماغ الحساس

الناشر: هارفست بوك ـ نيويورك 2004

الصفحات 356 صفحة من القطع المتوسط