فلسفة

نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس التي لم يعد فيها العقل جوهرا بل فاعلية

By nasser

March 27, 2018

 

يورغن هابرماس.. فيلسوف النقد والتواصل

الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس واحد من أهم منظري مدرسة فرانكفورت النقدية[*] وأكثرهم شهرة وأغزرهم إنتاجا، فقد بلغ مجموع مؤلفاته قرابة خمسين كتابا تدور حول مواضيع شتى في الفلسفة السياسية والعلوم الاجتماعية، وترجع أهمية دور هابرماس إلى ارتباط مشروعه الفلسفي الوثيق بالواقع، فقد كانت اهتماماته الفلسفية كما مواقفه المبدئية مرتبطة بمصير ألمانيا وملتزمة بهموم المجتمع والدولة الألمانية بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى وصفه وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر بأنه “فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة”، وذلك منذ أكثر من خمسين عاماً [2].

تدور نصوص هابرماس حول إشكال مركزي، إشكال الحداثة وعلاقة الذات بالآخر، وقد تبلور هذا الإشكال عند هابرماس إبان حقبة الحكم النازي في ألمانيا الذي تأسس على مبدأ تفوق الذات الألمانية والعرق الآري، مرتكبا -والحديث هنا عن الحكم النازي- فظاعات بحق الأجناس والأعراق الأخرى المختلفة عنه، وقد تحدث هابرماس عن هذا قائلاً “أنتسب إلى جيل المثقفين الألمان الذين كبروا خلال المرحلة النازية، ونضجوا ثقافيا عند نهاية الحرب العالمية الثانية، وعاشوا في إطار جمهورية ألمانيا الفدرالية، وأصبحوا أساتذة لما بدأ طلبة فترة الستينيات يتمرّدون ويثورون”[3].

إن هدف فلسفة هابرماس هو التأسيس لأخلاق تواصلية تقوم على أساس الاعتراف بالآخر والتحاور معه دون ادعاء أي من الطرفين بامتلاك الحقيقة داخل فضاء عمومي مشترك، وقد اتسم مشروعه بنقد النتائج المدمرة التي أفضت إليها صيرورة العقلانية المستمرة لكل أشكال الحياة المعيشة من جهة، ومن جهة أخرى يؤكد تمسكه بالمشروع التنويري ووعوده التحررية مناهضاً بذلك الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت نفسها الذين أبدوا يأسا من المشروع الحداثي.[4] محطات من حياة هابرماس

ولد يورغن هابرماس عام 1929 في غومرسباخ، وهي مدينة صغيرة تقع قرب مدينة كولون الواقعة غرب ألمانيا، وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية 1939، لم يكن هابرماس قد تجاوز سن العاشرة، وفي عام 1944، أي قبيل انتهاء الحرب العالمية بعام واحد، جُند في معسكرات “شباب هتلر” التي كانت منتشرة في عموم ألمانيا، وبعدها بفترة وجيزة أرسل للقتال في الجبهة الغربية[5].

تركت هذه الأحداث أثرا كبيرا في تكوين هابرماس الفكري واهتماماته السياسية والاجتماعية، وهو ما أقر به في أحد لقاءاته قائلاً “لقد أثّرت فيّ أحداث الحرب الثانية بشكل خفي”[6]. بدأ اهتمام هابرماس بالقضايا العامة بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ سرعان ما عرف الفظائع النازية من البث الإذاعي لمحاكمات نورمبرغ التي طالت قادة الحزب النازي، فشرع بالاطلاع على أسس ومكونات الحداثة الغربية وتاريخها، وقد كان في تلك الفترة معجبا بشخصية الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر الذي ذاع صيته في أوروبا كلها عقب الحرب العالمية الثانية، وذلك لتمسكه بالحرية واستماتته في الدفاع عنها[7].

بعد انتهائه من الدراسات العليا عام 1955، عمل هابرماس صحفيا لمدة عام واحد، وفي تلك الفترة اقترح عليه أحد أصدقائه في الصحيفة أن يلتقي أحد أهم رموز مدرسة فرانكفورت النقدية، وهو الفيلسوف تيودور أدورنو في فرانكفورت، وكان أدورنو قد قرأ نصاً لهابرماس بعنوان “جدلية العقلنة” بدا فيه متأثراً بأدورنو نفسه خاصة في كتابه الذي أنجزه مع هوركايمر “جدلية العقل”، لذ لم يتردد أدورنو بأن يعرض على هابرماس أن يعينه أستاذا مساعداً له، وهو ما حدث عام 1956. وفي حديثه عن عمله بجوار أدورنو، قال هابرماس “إن أدورنو هو العبقرية التي لم يسبق لي التعرّف على مثيل لها”[8].

ورث هابرماس عن مدرسة فرانكفورت النقدية تقاليدها في نقد الحداثة التي كشفت عن الجوانب المدمرة للعقلانية وآليات السيطرة والضبط التي قدمتها المعرفة التقنية للسلطة، إلا أن هابرماس نحا منحى مختلفا عن أسلافه في مدرسة فرانكفورت، بما في ذلك أستاذه أدورنو نفسه، حيث لم يقف عند آفات العقلانية الأداتية[**] كما فعلت مدرسة فرانكفورت، بل تجاوزها ليؤسس لعقلانية تواصلية تستند على مبادئ قيمية وأخلاقية تتلافى علات العقلانية الأداتية.

في عام 1971، تسلم هابرماس منصب مدير مركز ماكس بلانك وعمل فيه حتى عام 1983، بعد ذلك عاد إلى عمله في فرانكفورت مديرا لمعهد البحث الاجتماعي واستمر فيه حتى تقديمه استقالته عام 1993، متفرغا بعدها للكتابة والنشر على نطاق واسع، ومن أبرز مؤلفاته “الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي” (1983) و”العقلانية والدين” (1998) و”جدل العلمانية” (2007).[10]

في مسيرته الفكرية، نال هابرماس العديد من الجوائز التقديرية لمساهماته الفكرية، منها “جائزة أمير إسبانيا للعلوم الاجتماعية”، و”جائزة ثيودر أدورنو” في عام 1980، و”جائزة السلام” من جمعية الناشرين الألمان، إلا أن أهم الجوائز هي جائزة جون دبليو كلوج في واشنطن التي نالها في عام 2015،  وتُعد هذه الجائزة أرفع تكريم يناله فيلسوف على أعماله مدى حياته حيث تبلغ قيمتها 1,5 مليون دولار أمريكي[11].

أهم الملامح الفكرية في مشروع هابرماس

واحدة من أبرز سمات المشروع الفلسفي لهابرماس أنه ربط مشروعه الفلسفي بمصير ألمانيا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فعُرف بانخراطه الدائم في المناقشات العمومية التي شهدتها ألمانيا وأوروبا بعد الحرب الثانية، وقد ورث هابرماس ذلك الهم والقلق الألماني الذي ولدته النازية، لذلك ألـح كثيرا في نظرية “الفاعلية التواصلية” على أنسنة عمليات العقلنة من خلال إضفاء أبعاد قيمية تواصلية مع الآخر [12].

ينطلق مشروع هابرماس من اعتبار أن “الحداثة مشروع لم يكتمل”، وهو بذلك لا يعلن القطيعة معها كما يفعل فلاسفة ما بعد الحداثة[***]، ذلك أن مسعاه النقدي يتمثل في تقويم الحداثة والعقلانية من خلال تأسيس معايير أخلاقية تقوم بضبط عمليات العقلنة وتحركاتها، وتتأسس  هذه المعايير على اعتبارات التواصل والاعتراف بالآخر.

ومن أجل صياغة مفهومه للفاعلية التواصلية وللمجال العمومي الحديث، اضطر هابرماس إلى إعادة النظر في مسألة الحقيقة، إذ لم تعد الحقيقة معطى جوهريا سابقا على الوجود الانساني، إنما هي نتاج لعملية تبادل البراهين والحجج، وهي بذلك تتويج لاتفاق ذي طبيعة اجتماعية، وهذا ما يسميه هابرماس بـ”النظرية الإجماعية للحقيقة”، حيث تغدو الحقيقة نتاجا للتداول العمومي والنقاش العام، والإجماع الذي ينتج عن هذا التداول[14]، ومن هنا يدعو هابرماس إلى التواضع في الإعلان عن الموقف، لأن ذلك من شروط الحوار، والاعتراف بإمكان الوقوع في الخطأ مبدأ من مبادئ النقاش العمومي، فلا شيء معفي من السؤال والنقد والمناقشة، وكل الموضوعات إنما تكتسب شرعيتها من خلال المناقشات العمومية التي تتيح الوصول إلى الحقيقة الإجماعية[15].

وإذا لم تكن مرجعية لسلطة سوى سلطة العقلنة والبرهنة يتعين على الجميع المشاركة في الحوار وفي خلق المعاني والرموز، “فالمشروعية لا تتأتى إلا من خلال التفاهم والإجماع المتحرر من أي ضغط أو مساومة أو سيطرة، على اعتبار أن الإجماع الناتج من التفاهم البرهاني لا يستمد صدقيته إلا داخل مجال عمومي حر يستجيب لمقاييس الفاعلية التواصلية”[16].

يتعلق الأمر إذن بضرورة تقويم الحداثة من خلال خلق صيغ تواصل مع الآخر تستهدف إتاحة المجال العام لتداول ومناقشة حرة تصل بالمجتمع إلى بناء إجماع حر بلا إكراهات أو ضغوط، بمعنى أن المشروعية السياسية تفترض أخلاقاً ومعايير، وأن الحداثة السياسية يمكن إصلاحها إذا استجابت لمعايير التواصل التي اقترحها هابرماس[17].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش: * مدرسة فرانكفورت النقدية حركة فلسفية نشأت بمدينة فرانكفورت سنة 1923. بدأت الحركة في معهد الأبحاث الاجتماعية بالمدينة. وجمعت فلاسفة مثل ماكس هوركهايمر، ووالتر بنيامين، وثيودر أدورنو، وعُرف عنها نقدها للحداثة وتقنيات السلطة والهيمنة.

** العقلانية الأداتية هي العقلانية التي تهتم بالوسائل والإجراءات بلا تساؤل عن شرعية هذه الوسائل وغاياتها الأخلاقية، وما إذا كانت مفيدة للإنسان أم مدمرة له.

*** ما بعد الحداثة قصد بها النظريات والتيارات الفلسفية والأدبية التي قامت بنقد أسس الحضارة الغربية القائمة على مقولات العقلانية والوعي والذات.

 

نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس : قراءة في المنطلقات والأبعاد

نوفمبر 2013   بقلم نورالدين علوش

يعتبر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس من رواد الفلسفة وعلم الاجتماع على مستوى العالم،كما أنه يمثل الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية.

تتنوع كتاباته بين الفلسفة والسوسيولوجيا والايتيقا، بالإضافة إلى مئات الأبحاث والمقالات المنشورة في كبريات المجلات والجرائد الدولية. من بين الكتب والدراسات المعروفة عالميا، نجد على سبيل المثال لا الحصر : “ملامح فلسفية وسياسية، الخطاب الفلسفي للحداثة، أخلاقيات المناقشة، الحق والديمقراطية، الاندماج الجمهوري، الأخلاق والتواصل ونظرية الفعل التواصلي”.

ويعد كتاب نظرية الفعل التواصلي أهم كتاب في مشروعه الفلسفي؛ فهو كتاب يتوج مجهودات هابرماس في فترة الستينيات والسبعينيات، ويجمع مرجعيات فلسفية وسوسيولوجية وعلمية ولغوية مختلفة.

إذن، ما هي المنطلقات السوسيولوجية والفلسفية والعلمية لنظرية الفعل التواصلي؟ وما هي أبعادها السياسية والاجتماعية والأخلاقية؟

·لايمكن استيعاب مشروع هابرماس الفلسفي دون الرجوع إلى منطلقاته السوسيولوجية والفلسفية والعلمية.

ـ المنطلقات السوسيولوجية

أولا : ماكس فيبر

خصص هابرماس لماكس فيبر أكثر من مائة صفحة في كتابه “نظرية الفعل التواصلي”، حيث اهتم هابرماس أساسا بسوسيولوجيا فيبر،انطلاقا من طرح وتحليل مسألة وصيرورة عقلانية/عقلنة للعلم الحديث والمعاصر. فهذه العملية التاريخية والمعقدة والممتدة التي بدأت وتعمقت في الغرب، وامتدت إلى دول العالم، تحمل في طياتها عناصر الضعف والسلب وعناصر القوة والإيجاب : فهي من جهة وضعت الإنسان في مقام القدرة والسيطرة والكشف ( نزع السحرعن العالم)، ومن جهة أخرى حولت الفرد إلى أسير وأداة عقله نفسه. ومن هنا جاءت نزعة التشاؤم والسلبية إزاء مسيرة الحضارة الغربية، كما تتراءى في سوسيولوجيا فيبر مقابل تعمقها في فلسفات معاصرة، مثل نيتشه وفوكو وهيدغر وليوطار..

ولتجاوز هذه النزعة العدمية والتشاؤمية، يعيد هابرماس قراءة وتأويل سوسيلوجيا فيبر: ونقطة انطلاقه هي إبرازه لخاصية المعنى والقصد للفعل الإنساني كما يؤكدها فيبر، فليس كل فعل إنساني هو نشاط جدير بالاهتمام السوسيولوجي باستثناء ما له معنى مرتبطا بقصد الفاعل صريحا أو ضمنا. وبالرغم من وقوع هذا التحديد الفيبري للفعل الاجتماعي مقترنا بالمعنى والقصد في دائرة فلسفة الوعي، يلاحظ هابرماس تضاربا لدى فيبر فيما يخص مضمون هذا الفعل في حد ذاته: فمن جهة هو مرتبط أصلا وحصرا بفاعل معزول وبعينه، ومن جهة أخرى هو علاقة لا يمكن أن تغيب بالكامل حضور الآخر. في الحالة الأولى يحسب الفاعل أنانيا من أجل نجاحه الشخصي المحض ( فعل أداتي)، وفي الحالة الثانية يحضر الآخر ضمن حساب استراتيجي لبلوغ القصد المخطط له ( فعل استراتجي). والنتيجة واحدة، هي: البحث عن النجاح والسعي لتحقيقه. في المقابل يطرح هابرماس نوعا آخر من الفعل الاجتماعي أسماه الفعل التواصلي الذي لا يبحث عن مجرد النجاح الشخصي فقط، بل تحقيق التفاهم عن طريق الحوار.

ثانيا : هربرت ميد

تأثر هابرماس بالكثير من علماء الاجتماع الأمريكيين، ومن بينهم السوسيولوجي هربرت ميدالذي أخذ عنه فكرة دور الآخر في تشكل الأنا. إذ يعتبر ميد أن الذات تنشأ وتتطور مجتمعيا من خلال عملية التفاعل الاجتماعي؛ إذ يبدأ الفرد بالتعرف على ذاته من خلال آراء الآخرين فيه، ومنذ السنوات المبكرة من حياته وتحديدا من خلال عملية اللعب التي يقوم بها، محاولا تقمص العديد من الأدوار المختلفة؛ فمسألة القيام بدور ما لا يتطلب معرفة الدور فقط، بل ما يتوقعه الآخرون من هذا الدور أيضا. (1)

فالفرد “الذي يريد أن يقيم علاقة عملية مع ذاته يؤكد من تلقاء نفسه أنه ليس فقط كائنا مستقلا، وإنما متفرد، وأنه قادر على اتخاذ الموقف الذي يمكنه من تحقيق التوافق التذاوتي، أضف إلى ذلك إمكانية تحقيق مثل هذا التأكيد الأخلاقي للذات يكون مضمونا من خلال علاقة الاعتراف المتبادل الذي تلتقي فيه الأنا مع الآخر في أفق القيم والغايات.(2)

ثالثا: تالكوت بارسونز

استفاد هابرماس من السوسيولوجي بارسونز في معالجته لإخفاقات منهجيات التأويل، وذلك في تشخيصه للطريقة التي تفرض بها خارجيات المجتمع البنيوية كالاقتصاد والسياسية. وكيف أنها تقتحم العوالم الخاصة بالفاعلين الاجتماعيين، وذلك باستعمار العالم المعيش. ولاشك بأن هذا هو المهم بالنسبة لهابرماس، إذ إنه يجب نقل الاهتمام من حيز الافتراضات المنهجية التي يجب أن تستخدم في دراسة العالم الاجتماعي إلى حيز الاهتمام بكيفية عمل العالم الاجتماعي نفسه.(3)

وتجلى ذلك عند هابرماس في فهمه لعلاقات العالم الاجتماعي على أنها متكونة من نظام وعالم حياة، ويجب أن “ينظر إلى النظام على أنه ينبع جوهريا من عالم الحياة؛ بمعنى أن المجتمع هو نتاج للتفاعل الإنساني بين الذوات والعالم الخارجي على السواء”.(4)

ـ المنطلقات الفلسفية

أولا: ماركس

يعتبر ماركس من المرجعيات الفلسفية المهمة في فكر هابرماس بصفة خاصة، ولدى مدرسة فرانكفورت بصفة عامة .

لكنه تجاوزه لاحقا، وخاصة في كتابه ما بعد ماركس، حيث كان العمل الاجتماعي في نظر ماركس ليس هو ما يمنح الإنسان إنسانيته فحسب، ولكنه هو أيضا ما يخلق شروط إعادة إنتاج الواقع عبر إدراكه المعرفي ( نظرية المعرفة)، والتأثير عليه ( نظرية الممارسة). وهذا ما يمكن نعته بالشروط الترانسدتالية لموضوعات المعرفة والتجربة المؤطرة والمندرجة في سياق بناء تاريخي للإنسان والمجتمع. وعليه تحضر اللحظة الكانطية هنا بالشكل الذي لا يمكن تجاوز محدودية الذات الترنسدتالية إلا بانحلالها، ليس ضمن تركيبة كلية تتماهى فيها الذات مع الموضوع ( هيغل)، ولكن ضمن شروط العمل الإنساني المنتج للعالم المادي؛ انطلاقا من أن شروط هذا العالم المادي نفسها هي ما يحدد شروط العالم الإنساني نفسه.

وهنا يتدخل هابرماس، وهو يعيد بناء المادية التارخية سوسيولوجيا للتمييز بين العمل والتفاعل : فليست فقط القيم المادية ( الاقتصادية ) هي ما ينتجه الناس ويتبادلونه ( مجال العمل الاجتماعي )، ولكن هناك أيضا قيم معيارية رمزية تخضع لنفس فعلي الإنتاج والتبادل، هو مجال التفاعل (5)، وأخذ المجالين معا هو ما يشكل لب إعادة التأسيس الهابرماسي للمادية التاريخية في صيغتها الكلاسيكية.

ثانيا: هيغل

استطاع هابرماس الاستفادة من فلسفة هيغل خاصة محاضراته في جامعة ايينا، حيث وجد هابرماس ضالته في التحديد الهيغلي للذات التي يعتبرها “كمن يجد تعريف نفسه في الآخر”(6)، وهي بذلك اكتساب للمعنى في منطق تأملي ومتناظر. إن هذه العلاقةمن الآخر إلى الذات ومن الذات إلى الآخر ( الاعتراف المتبادل) ليست تمثلا للما بين ذاتية؛ لكن طريقة للتنشئة الاجتماعية. فهذا الاعتراف ما بين الذوات، يجد تحققه في جدلية السيد والعبد في ظاهريات الروح عند هيغل.

فالإنسان يتعرف على ذاته بالآخر، ومن خارج ذاته، لأنه لا يستقبل إحساسه بكونه مكتملا إلا بكونه يستقبل ذات الآخرين كذلك. إن الهوية تتم بالعودة إلى الموضوع انطلاقا من الذات، والاعتراف بالموضوع / الذات مرادف للاعتراف بنفسه في الموضوع أو إنكاره، ومن هنا أهمية الحوار كتفاعل يركز عليه هابرماس. (7)

ثالثا: هوسرل

وظف هابرماس فكرة العالم المعيش في نظريته التي استقاها من هوسرل رائد الفنومنلوجيا، حيث يميز هوسرل بين نوعين من الحقائق، وبين نوعين من العوالم. فهناك حقائق العالم المعيش، وهناك أيضا حقائق العالم الموضوعي: فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وخبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة. أما حقائق العلوم الموضوعية، فهي كونية غير ثقافية ولا تتعلق بمحيط ثقافي معين، ومسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان؛ بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود، مثلما في حياة الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي؛ فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان، ويتعلق بالإنسان وببيئته الثقافية والجمعية. (8)

رابعا: كانط

استفاد هابرماس كثيرا من كانط، سواء على المستوى الأخلاقي أو السياسي على المستوى الأخلاقي وظف هابرماس مفهوم الكلية الأخلاقية لتأسيس أخلاقيات المناقشة بديلا عن أخلاقيات الواجب وأخلاقيات المنفعة.لكن ذلك لم يمنعه من انتقاد كانط بتأسيسه للأخلاق على الذات وحدها، ليطرح التذاوت بديلا لفلسفة الوعي القائمة على الذات. أما على المستوى السياسي، فقد وظف هابرماس مفهوم الفضاء العمومي ( كانط) في كتاباته ( التحول البنيوي للفضاء العمومي )، ولطرح نظرية الديمقراطية التشاورية. بالإضافة إلى تأثره الواضح بمشروع كانط حول السلام الدائم، ودعوته إلى مواطنة كوسومبوليتية.

خامسا: فلسفة اللغة مع أوستين وسيرل وفيتنغشتين

أثناء بحث هابرماس عن أدوات علمية قد تساعده في عملية إعادة البناء، ستقوده الصدفة هذه المرة إلى إحدى الواحات الخضراء في صحراء الفلسفة التحليلية – الكلام هنا لهابرماس- يتعلق الأمر بالفلسفة التحليلية الأنغلوسكسونية، وبالتحديد فلسفة اللغة العادية الما بعد فيتنغشتينية، مع كل من أوستين وسيرل وستروسمان.

والحال هذه، فإن هابرماس سيعتبر نظرية أفعال الكلام في صيغتها أوستينية وسيرلية ابتكارا رائعا، ذلك أنها تركيب بين اللغة من جهة والفعل من جهة ثانية(9). وعليه، فإن هابرماس سيستعير التمييز المهم الذي وضعه أوستين بين أفعال الكلام التقريرية والإنجازية، كما سيعمل على إعادة صياغته.

وبعد قيامه بتعديلات من داخل نظرية أفعال الكلام، سينتقل هابرماس إلى إعادة بناء النظريات السوسيولوجية التي سجلها، ولنقف الآن عند النظريات الليبرالية والنفعية للعقلانية والفعل الاجتماعي.

توجه فعل / وضعية فعل موجه نحو نجاح موجه نحو تفاهم غير اجتماعي فعل أداتي اجتماعي فعل استراتيجي فعل تواصلي إن الفعل الأداتي يتوجه نحو تحقيق النجاح من خلال السيطرة التقنية على العالم الموضوعي، لهذا فإنه لا يعتبر فعلا اجتماعيا، لكونه لا يتم عبر وسيط اللغة، وبالمقابل يعد الفعل الاستراتيجي هو الآخر فعلا أداتيا، على اعتبار أنه يسعى إلى تحقيق النجاح، مع فارق أنه يتم عن طريق اللغة. وبما أن الفعل الاستراتيجي فعل يتم عبر وسيط اللغة، فإن نموذج العقلانية والفعل الاجتماعي اللذين تقدمهما النظريات الليبرالية المنفعية تبقى نماذج أحادية الجانب واختزالية. ورغم أن هابرماس يقر بأن الفعل الاستراتيجي فعل اجتماعي، إلا أنه فعل يميزه عن الفعل التواصلي، لكون الأول يرتبط بتحقيق النتائج والمصالح، بينما الثاني يسعى إلى تحقق التفاهم.

ـ المنطلقات العلمية:

بياجيه وكولبرغ

شكلت الأبحات العلمية لبياجيه وكولبرغ مرجعية علمية مهمة لهابرماس، لإعادة بناء الفلسفة الماركسية قصد فهم طبيعة الصراعات والتفاعلات الاجتماعية داخل المجتمع؛ فهذه الأبحاث توضح مراحل تطور الوعي الأخلاقي التي توافق مراحل أهلية التفاعل. ففي المراحل العرفية القبلية، حيث ترك الأفعال والذوات، باعتبارها تنتمي إلى المستوى الوحيد للواقع، لا تقدر عندما يحدث نزاع إلا بنتائج الفعل. ففي المرحلة العرفية يمكن أخذ الدوافع بعين الاعتبار بمعزل عن النتائج المباشرة للفعل. فما هو محدد هو الامتثال لدور اجتماعي معين ونظام من المعايير القائمة. في المرحلة الما بعد عرفية تفتقد أنظمة المعايير صلاحيتها شبه الطبيعية، وتحتاج هذه المعايير إلى أن تبرز حسب التصورات ذات النزعة الكونية. (10)

الأبعاد:

لنظرية الفعل التوصلي لهابرماس أبعاد وامتدادات داخل الحقل الاجتماعي والسياسي والأخلاقي.

-البعد الاجتماعي: لتجاوز الفعل الأداتي، أبدع هابرماس مفهوم الفعل التواصلي لمحاولة تنمية البعد الموضوعي والإنساني للعقل. إنه فاعلية يتجاوز العقل المتمركز حول الذات والعقل الشمولي المنغلق، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع. فالعقل لم يعد جوهرا سواء أكان الجوهر ذاتا أو موضوعا، بل فاعلية ؛ فالفعل التواصلي صاغه هابرماس لمحاولة بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عمومي ينتزع فيه الفرد جانبا من ذاتيته ويدمجها في مجهود جماعي قائم على التواصل والتفاهم، وهذا التفاهم لا يمكن تحقيقه إلا من خلال اتفاق مؤسس على أساس عقلاني.

كما جاء الفعل التواصلي لتجاوز العلاقات الاجتماعية القائمة على الإكراه والهيمنة ( الفعل الاستراتيجي) لبلورة علاقات اجتماعية سليمة، قائمة على الحوار والنقاش في أفق تحقيق إجماع .

-البعد الأخلاقي: فبعد أفول الأخلاق الدينية والتقليدية في الغرب، جاءت أخلاقيات النقاش لتطرح البديل؛ فإخضاع الآراء والقناعات والاختيارات للنقاش شرط لتحقيق الموضوعية والنزاهة والاتفاق، وبذلك يصبح في الآن شرطا لاجتناب العنف اللفظي والمادي والحروب والاستبداد.

ليست أخلاقيات النقاش مذهبا ولا نسقا من القيم والمعايير، بل هي كما يقول ابل إجرائية تراسندنتالية تجمع شروط مناقشة أطروحات ومبادئ عملية في المجال الأخلاقي والسياسي بحثا عن امتحان مشروعيتها ومعقوليتها وصلاحيتها.

وتجدر الإشارة إلى أن لأخلاقيات المناقشة أربعة افتراضات أساسية :

أولا: ضرورة توفرها على المعقولية التي يتم إنجازها بفعل جملة مركبة تركيبا صحيحا، تحترم قواعد اللغة المستعملة.

ثانيا: يتعلق الأمر بحقيقة مضمون القول التي تضمن وظيفيا وصف حالة واقعة مجردة وغير مستوحاة من الخيال.

ثالثا: يتعلق الأمر بمصداقية التلفظ، باعتبارها وظيفة لإقامة علاقة مستقيمة ما بين الأشخاص، ويتكفل هذا الادعاء بموضوع تطابق الفعل اللغوي مع مقتضيات مخطط معياري سابق معترف به من طرف المجتمع.

رابعا: يتعلق الأمر بصدقية ما يقال بالقدر الذي يسمح به للمتحدث بالتعبير عن نوايا محددة، وبطريقة صادقة بعيدة عن الكذب والتضليل.

تنحدر هذه المبادئ الأربعة من “الحالة المثالية للكلام”، وللشروط الصافية لخطاب يتوخى احترام معايير الصدق الصارمة، أو ما يطلق عليه جماعة التواصل غير المحدودة عند هابرماس، وهي صورة المجتمع الذي يتواصل فيه أعضاؤه بطريقة سليمة. ويمكن إجمالا اعتبارها شروطا لا يستقيم من دونها تواصل عقلاني بين المتحدثين.(11)

-البعد السياسي : لتجاوز أزمات العالم المعاصر ونواقص الديمقراطية التمثيلية، يسعى هابرماس إلى ” تأسيس ديمقراطية على أسس جماعية مثالية للتواصل، خالية من أية هيمنة أو سيطرة، ما عدا أفضل حجة. كما أنه يطرح مفهوم التشاور الذي يعتبره جوهريا في ديمقراطيته التشاورية، لأنه في التشاور يعطي للآخرين الحق في الكلام والنقد ورفع ادعاءات الصلاحية وتقديم اقتراحات جديدة بخصوص القضايا المطروحة للنقاش في الفضاء العمومي، وفي ظل هذه الصيرورة الخطابية المؤسسة على النقاش، يتشكل الرأي العام والإرادة السياسية للمواطنين في المجتمع الديمقراطي، لأن الهدف الأسمى للديمقراطية التشاورية ليس الدفاع عن المصالح الشخصية لأعضاء الجماعة؛ وإنما هو الدفاع عن المصالح العامة. هذه الأخيرة كل واحد مطالب بالدفاع عنها، انطلاقا من وجهة نظره الخاصة، وذلك لإقناع المواطنين برأيه بالاعتماد على وسيلة المناقشة الحجاجية.(12)

خاتمة :

بالرغم من كل الانتقادات الموجهة إلى نظرية هابرماس، فلا يزال يتربع على عرش كبار الفلاسفة في العالم المعاصر.

ونحن في العالم العربي، لا يسعنا سوى الانفتاح على مشروع هابرماس نظرا لغنى وتنوع إنتاجه من جهة، ومن جهة أخرى مواكبته للأسئلة المعقدة للإنسان المعاصر. فما أحوجنا اليوم إلى الانكباب على إنتاجات هابرماس! خاصة في تنظيره للتواصل والفضاء العمومي والحداثة والمواطنة لتبيئتها وتعميقها في المجتمعات العربية.

والآن بعد تباشير الربيع العربي:هل نحن قادرون على بناء مجتمع ديمقراطي حداثي قائم على أخلاقيات الحوار والمناقشة، لا على العنف والصراع ؟ وهل نحن قادرون على إدارة اختلافاتنا الإيديولوجية والإثنية واللغوية ؟

تلكم بعض الأسئلة التي لن تجيبنا عليها سوى الأيام القادمة؛ فهل نكون في مستوى تطلعات شعوبنا ودماء شهدائنا؟.

الهوامش:

1- كمال عويسي، دراسة في النظريات التربوية المعاصرة، معهد العلوم الإنسانية المركز الجامعي بغرداية الجزائر ص 2008-2009 ص 5

2- كمال بومنير، النظرية النقدية من هوركهايمر إلى هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف 2010 ص 152

3- علي عبود المحمداوي، الإشكالية السياسية للحداثة، منشورات الاختلاف ودار الأمان الطبعة الأولى 201 ص 56

4- م س ص 56

5- حسن المصدق، هابرمس ومدرسة فرانكفورت، المركزالثقافي العربي الطبعة الاولى 2005 ص 109

6- م س ص 134

7- م س ص 135

8- م س ص 139

9- حمزة الخليفي، عرض حول ماكس فيبر، ماستر فلسفة التواصل بتطوان موسم 1011-1012ص 15

10- محمد الأشهب، مذهب التواصل في الفلسفة النقدية لهابرماس، أطروحة دكتوراه جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس موسم 2006- 2007 تحت إشراف الدكتور لحكيم بناني ص 316

11-حسن المصدق م س ص 146

12- محمد الأشهب، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، دفاتر سياسية مطبعة النجاحالمغرب 2006 ص 195-196

 

نورالدين علوش باحث ومترجم مغربي، له مقالات ومؤلفات منها: الفضاء العمومي في الفلسفة السياسية المعاصرة نموذج هابرماس.” المدرسة الألمانية النقدية: نماذج مختارة”. وشارك في كتب جماعية من قبيل:” نقد أطياف التمركز الغربي”. عضو اتحاد كتاب الانترنت المغاربة

 

الفضاء العمومي المعارض: نقد أطروحة هابرماس

هابرماس بعيون أوسكار نيغت:

شغلت أطروحة هابرماس حول الفضاء العمومي البرجوازي العديد من منظِّري النظريَّة النقديَّة المعاصرين له من الجيلين الثاني والثالث، وحظيت باهتمام بالغ بالنظر إلى قيمتها الفلسفيَّة والسياسيَّة معاً. سنحاول أن نقف هنا على نقد هام صاغه مساعده العلمي الأول أوسكار نيغت Oskar Negt (الذي شغل منصب معيد في الفريق العلمي لهابرماس) بمعيَّة زميله ألكسندر كلوج Alexandre Kluge [1] في العديد من كتبهما المشتركة التي تعود إلى العقد السابع من القرن الماضي. وقد اتخذ هذا النقد شكل نظرية جديدة بديلة تُدعى “الفضاء العمومي المعارض”، أو “الفضاء العمومي البروليتاري”.

ولد الفيلسوف الألماني أوسكار نيغت Oskar Negt في فاتح غشت 1934 بكونيغسبورغ Königsberg في كالينينغراد Kaliningrad. شغل مدير معهد فرانكفورت بجامعة هانوفر لمدة 30 سنة (ما بين سنة 1972 و2003)، وصار أحد الوجوه البارزة في مدرسة فرانكفورت تلميذاً لأدورنو في الوفاء لبرنامج المدرسة من خلال اهتمامه بدور الإضراب الجماهيري، العرقلة، الوضع العالمي للحركة النقابية، البلشفية، الماركسية، الحزب والجماهير، نقد الماركسية الكلاسيكية، التحليل السوسيولوجي للطفل، السلطة، العنف، الأجر…، وهو أحد أبرز السوسيولوجيين والفلاسفة السياسيين الأوروبيين، كتب العديد من الكتب منذ 1959 منها:

– “سوسيولوجية المثقف السياسي: كتابات أساسية حول ماركس، ماكس فيبر، كانط، أوغيست كونت”.

– أطروحته حول الأبعاد الثلاثة المؤسسة للعولمة.

له العديد من الكتب المشتركة مع رفيقه ألكسندر كلوج منها:

– التاريخ والموضوعية الثائرة (1981) بلورا فيه معاً نظريَّة أو فهماً بديلاً لنظريَّة الفِعل التواصلي.

– الفضاء العمومي والخبرة (1973) قدَّما فيه نظريَّة الفضاء العمومي البروليتاري.

– لا ديمقراطية بدون اشتراكية، ولا اشتراكية بدون ديمقراطية 1978.

– “ماي 68: المثقفون السياسيون في مواجهة السلطة”، (1969).

– الشغل والكرامة الإنسانية، (2001).

– اشتغل نيغت متعاوناً علمياً في فريق هابرماس، وقد ترك هذا الأخير بصمات جليَّة في حياة نيغت الذي قال في شهادته عن أستاذه بمناسبة ذكرى ميلاده الثمانين[2]: “سألت نفسي مراراً عن مميزات تفكير وأسلوب حياة هذا الرجل الذي لم يؤثر شخص مثل تأثيره في الحياة الثقافية لألمانيا ما بعد الحرب العالميَّة الثانية ومنذ أواسط الستينيات، والذي أسَّس لما يمكن تسميته بثقافة الجدال السيَّاسيَّة-العلميَّة، وتجاوز تأثيره السَّاحة الألمانيَّة بكثير.

– تعبّر أحياناً تجارب حياتيَّة صغيرة عن أمور جوهريَّة. وهذا ما ظلَّ، فعلاً، عالِقاً بذاكرتي منذ عملي معيداً لدى هابرماس في جامعتي هايدلبرغ وفرانكفورت. ومن ذلك طريقة اختيار البروفيسور هابرماس للعاملين معه، (هابرماس كان عمره إحدى وثلاثين سنة عندما حصل على درجة بروفيسور، كان ذلك عام 1961)، وهي طريقة غير معهودة داخل الجامعات الألمانيَّة. فقد شعرتُ أنَّه يختار العاملين معه بالنَّظر إلى قدرتهم على الدفاع عن مواقفهم بصبر وأناة. إنَّه يختبر من يملك نفَساً طويلاً في عمليَّة الاستدلال، معتمداً على قواعده ومناهج بحثه الخاصة. وقد اختارني لأنَّه رأى، على ما يبدو، بأنِّي أمثل موقفاً مترسخاً حتى في الحقل الحزبي فيما يتعلق بالأرثوذوكسيَّة الماركسيَّة. لم يكن إذن انتمائي إلى موقفه ما يبحث عنه، أو طاعة الطالب واجتهاده ولكن الجدل مع أصحاب الآراء الأخرى. ولم ألتقِ يوماً في حياتي بشخص يعطي ذاك الثقل الكبير لتبادل الحُجج في عمليَّة البحث عن الحقيقة مثل هابرماس. لكنَّ الأمر يتعلق بحوار يختلف عن الحوار الأفلاطوني. ففي الحوار الأفلاطوني يملك سقراط دائِماً الكلمة الأخيرة، وسيرورة الاستدلال تمضي غالباً في حركة سطحيَّة من الأسئلة والأجوبة، التي تكون دائماً قد حسمت من قبل. لكنَّ الحوار يختلف بشكل مطلق مع هابرماس، الذي كان يحتفظ دائماً بالتناقضات إلى الجولة المقبلة”[3].

ـ حدود الفضاء العمومي البرجوازي

يتعلق الأمر في هذا المقال بمفهوم الفضاء العمومي المُعارِض: أو الفضاء العمومي البروليتاري، كما نحته ووضعه المدير السَّابِق لمعهد الأبحاث الاجتماعية ما بين 1972 ـ 2003 (مدرسة فرانكفورت): أوسكار نيغت Oskar Negt بمعيَّة رفيقه ألكسندر كلوج Alexandre Kluge. ويُراد منه نقد نظرية هابرماس حول الفضاء العمومي البرجوازي، من منطلق أنَّ البرجوازيَّة لم تكن وحدها من ساهم بشكل كبير وأساسي في نشأة الفضاء العمومي خاصة في واقع أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل إنَّ هناك طبقة اجتماعيَّة أخرى، أي الطبقة العاملة، بدونها لا يمكن أن توجد البرجوازيَّة، إلى جانب فئات اجتماعيَّة أخرى من قبيل الطُلاب، الشَّباب الأجير، النِّساء، الأُجراء…، حاول نيغت أن يلفت انتباه أستاذه هابرماس إلى مجموع الدِيناميَّات الاجتماعيَّة والسيّاسيَّة التي تركت بصمات حقيقيَّة في تاريخ أوروبا، مُركّزاً على الفضاء العمومي الألماني خلال ثورة 1918، وعلى الفضاء العمومي الفرنسي حيث لعبت حركة ماي 1968 الدور الأبرز في ظهور فضاء سياسي عمومي مهَّد لديمقراطيَّة فرنسيَّة جديدة مغايرة تماماً لديمقراطيًّة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فإلى أيِّ حدٍّ تسمح دراسة هابرماس بفهم ميكانيزمات وآليَّات تشكل وتحرك الفضاء العمومي الأوروبي؟ هل صحيح أنَّ البرجوازية وحدها لعبت الدور الأبرز في ظهور الفضاء العمومي، أم أنَّ هناك طبقات وفئات اجتماعية أخرى ساهمت بدورها ولعبت أدواراً في نشأة الفضاء العمومي؟ وما حدود نظرية هابرماس؟

يرتكز نيغت في نقده على مفهومين محوريَّين؛ مفهوم خصخصة الفضاء العمومي الذي وضعه الأمريكي ريتشارد سينيت Richard Sennett[4]، ومفهوم الفضاء العمومي الأفلاطوني (أو أفلاطونيَّة الفضاء العمومي)[5] كما وضعه البلغاري لشك كولافكسكيleszek kolakowski [6]؛ ليفسِّر دور الممارسة (البراكسيس) والخبرة في تشكل الفضاء العمومي، لأنَّ الأزمة التي تعيشها الرأسماليَّة اليوم تدفعنا إلى التساؤل حول مستقبلها بالنظر إلى نتائج الأزمة الاجتماعيَّة التي مَسَّت مختلف المجالات: المؤسسات، العائلة، الفضاء العمومي، الشُّغل…، حيث يدعو إلى ضرورة فتح نقاش واسع وجدّي حول البدائل الممكنة لمواجهة النخب الجديدة التي ضحَّت بكل شيء باسم أزمة النفقات وتخوصص كلّ شيء لأجل انعتاق الشركات والمقاولات ومصالح اللُّوبيات.

لا يلغي الفضاء العمومي البروليتاري الانتماء الطبقي في سبيل نظرية قائمة على منطق الثنائيات، وإنَّما يقصد به الفضاء المعارض حيث تتشكل الآراء والمواقف السياسية لسلطة مضادة للسلطة السائدة أو المهيمنة، وقد مكنته تجربته السياسية والنقابية والتصاقه بالطبقات الشعبية من إبراز أهمية الخبرة والممارسة في تشكل الفضاء العمومي كفضاء معارض.

طوَّر نيغت نظريَّاً بمعيَّة رفيقه ألكسندر كلوغ A. Kluge انتقادات هامَّة حول ليبراليَّة هابرماس السياسيَّة من خلال عودته إلى مصادر الفكر النَّقدي حول الفضاء العمومي المُعارض. وتغذَّت أفكاره من الممارسة العمليَّة المتعددة والدَّالة؛ فهو مؤسس لجنة التكوين النَّقابي العُمالي في نقابة التعدين ومؤسس المدرسة البديلة بهانوفر التي تمنح اليوم شهادة وطنيَّة معادِلة للشهادة المعتمدة رسميَّاً، وأطلق العديد من التحقيقات والبحوث الميدانيَّة حول الثقافة الشعبيَّة والتربيَّة والفعل الجماعي وتغير التقاليد السياسيَّة.

نحت أوسكار نيغت وألكسندر كلوج مفهوم الفضاء العمومي البروليتاري[7] في أوائل السبعينيَّات من القرن الماضي. وهو مفهوم يروم تجاوز مفهوم هابرماس وتصوره للفضاء العمومي البرجوازي ونموذجه المثالي. من خلال بيان الخلفيَّات الليبراليَّة لهذا النموذج بالاعتماد على نظريَّة “العموميَّة” كما نظَّرَ لها كانط وبعض السوسيولوجيين والفلاسفة. فكانط يعني بالعمومي le public كلَّ الجمهور الذي لا ينتمي بالضرورة إلى البرجوازية ولا صلة له بها من الناحيَّة الاجتماعيَّة (الانتماء الاجتماعي والطبقي)، فهو يتحدث عن كلّ الناس ليس بحسب انتمائهم الطبقي أو الاجتماعي وإنَّما عموم الناس، وهذا ما التقطه نيغت معتبراً أنَّ الفضاء العمومي البرجوازي ساهمت فيه فئات اجتماعيَّة واسعة تضُم النَّساء والشباب والأجراء والطلاب، بحيث يفترض كانط في تصوره السيَّاسي أنَّ المواطنة تستدعي وجود حياة اجتماعيَّة برجوازيَّة، تضمن الاستقلاليَّة الماديَّة والتشكل الثقافي الضروري لحريَّة ممارسة السياسة. وهذا المبدأ هو أساس تشكل الفضاء العمومي المدني البرجوازي. غير أنَّ حريَّة التعبير (وخاصة الكتابة) كأسمى دفاع عن حقوق الإنسان في نظر كانط تصبح عند نيغت وكلوج خيراً عموميَّاً[8]، لأنَّ الخطاب عامَّة هو خطاب غير عنيف، نجد أرقى تجليَّاتِه في ميدان أثينا وروما، حيث تشكل المحاجَّة أساس التواصل والاقناع، إنَّه خيرٌ مقاوم للتسلُّط، وعبره يتمُّ تعضيد حقوق المشاركة للمواطنين، هذا الفضاء السياسي ولد في المدينة – الدولة الأوروبيَّة (المدن – الدول الأوروبيَّة)، ومنه تُتخَذ المشروعيَّة السياسيَّة، ففي الأصول الثقافيَّة الأوروبيَّة نجد فكرة الفضاء العمومي في الخِطاب الحر وحريَّة التعبير قبل شرعنة النظام الاجتماعي.

يلجأ نيغت إلى دراسة الفضاء العمومي في تجليَّاتِه التاريخيَّة، أي كما تجسَّد لدى اليونان والرومان، اقتناعاً منه بأنَّ “الأشكال التاريخيَّة للفضاء العمومي تتغير”[9]، لذلك لا يمكن الحديث عن شكلٍ واحدٍ للفضاء العمومي، بل عن أشكال مختلفة تحمل معها في كلِّ حِقبة تاريخية بوادر جديدة تعبِّر عن تنمية ديمقراطيَّة لطبيعة تلك الحقبة، وعلى هذا الأساس اعتبر نيغت دراسته بحثاً فينومينولوجيَّاً، انكبَّت دراسته أول الأمر على الأشكال العموميَّة الأولى لبلورة مفهوم الفضاء العمومي البروليتاري الذي يحمل معه شكلاً جديداً للمجتمع[10]. غير أنَّ نقاش التلميذ مع أستاذه لم يكن نقاشاً عقيماً، لأنَّ العلاقة بينهما أبعد من علاقة الأستاذيَّة، لذا استطاع نيغت أن يبرز مزايا نظريَّة هابرماس حول الفضاء العمومي رغم اختلافه البَيِّن معه في الجوهر، حيث يقول: “لم يقدِّم هابرماس البتَّة حلولاً عمليَّة سهلة. لكن الجدير بالملاحظة أنَّ الأسئلة في تطور عمله الكبير ما برحت تزداد نموَّاً. أول كتاب نسقي له التحول البنيوي للمجال العام (1962)، يشير إلى التحول الاجتماعي لدولة القانون اللِّيبراليَّة. تسييس المجال العام وتشريع أنظمة أمان الدولة الاجتماعيَّة ساهما في أنسَنة منطق السُّوق ورأس المال والحد من نتائِجه الوخيمة. وسيحتفظ هابرماس بمصطلح “الرأسماليَّة المتأخرة” حتى نهاية السبعينات كسمة بنيويَّة للنظام الاجتماعي بأكمله.

ليس بمقدور أحد اليوم، في ظل سيرورة تاريخيَّة جديدة، تقديم تحليل مقنع وبرامج عمليَّة لأنظمتنا الاجتماعيَّة المتقدمة تقنياً وصناعياً. لكنَّ يورغن هابرماس ينتمي إلى ثلة صغيرة من المثقفين السياسيين الذين بفضل تفكيرهم المنفتح على المجال العمومي، وإن لم يتفق المرء مع مواقفهم التي قد ترافقها ثغرات وأشكال تهميش وتناقضات، فإنَّهم يشجعون على التفكير الشَّخصي ويخلقون حوافز للاستمرار فيه.

إنَّ هابرماس ينهج بذلك طريق كبار مفكري الأنوار في القرن الثامن عشر. فالتنوير، كما قال كانط، خروج الإنسان من قصوره الذي تسبَّب فيه بنفسه. وهو ما يتلاءم بشكل جيِّد مع إنجاز يورغن هابرماس. وليس ذلك فقط، ولكن أيضاً دعوة كانط الشهيرة: تجرَّأ على استعمال عقلك دون وصاية الآخرين، تجرأ على استعماله داخل المجتمع.[11]وفي تقديم هابرماس للطبعة الجديدة لكتابه سنة 1992 اعترف هو أيضاً بأنَّ طبعته الجديدة تحمل في طياتها آثار ومعالم النقد الموضوعي الذي وجَّهه نيغت وآخرون بسبب الحجاج الذي قدَّمه، مُصرِّحاً بأنَّه في هذه الطبعة أقرَّ بصِّحة أطروحة وجود قوى أخرى غير برجوازيَّة في تشكُلِ الفضاء العمومي البرجوازي من قبيل (حركة وثيقة الشَّعب people’s charter) الحركة الوثيقيَّة[12] mouvement chartiste البريطانيَّة، واليعقوبيَّة الفرنسيَّة والبريطانيَّة[13]، ويحيل كذلك على مصادر أخرى اعتمد عليها من قبيل: كتاب طومبسون E. Thompson “تشكُّل الطبقة العاملة البريطانيَّة” (1963)، الذي مهَّد لهابرماس اتباع منهجيَّة أخرى لفهم الفضاء العمومي، هذا إلى جانب أبحاث عدة حول الحركة اليعقوبيَّة (الفرنسيَّة والبريطانيَّة) التي أحال إليها في مقدّمة الطبعة الجديدة، [14] ناهيك عن الأبحاث حول ممارسة الاشتراكيين الأوائل واليسار الفرنسي الشعبوي في بداية القرن التاسع عشر الذي أدرجه ضمن منظور آخر في تحليل التعبئات/ التحركات السياسيَّة للطبقات القرويَّة والطبقات العماليَّة الحضريَّة، حيث يقول: “في إطار يتعارض تماماً وبشكل مباشر مع مفهوم الفضاء العمومي كما وضعته”[15].

ـ نحو نظريَّة بديلة

في تقديمه لترجمة كتاب نيغت “الفضاء العمومي المعارض” إلى اللغة الفرنسية يؤكد ألكسندر نومان A. Neumann أنَّ هذا الكتاب “يُشكِّل نظريَّة بديلة لنظريَّة الفضاء العمومي الهابرماسيَّة”[16]. وممَّا يعزّز أطروحة نيغت هو دون شك الثورة الألمانيَّة و”مجالسها العُماليّة” التي جمعت في الواقع جُلَّ الحركات الاجتماعيَّة سنة 1918″.[17] فكيف إذن يمكن تهميش دور البروليتاريا في تشكُّل الفضاء العمومي الألماني؟ والأمر نفسه ينطبق على حركة ماي 1968 التي رسَّخت كمكتسب: الانتداب، الانتخاب، التمثيل في صفوف الطبقة العاملة ومختلف الفئات الاجتماعيَّة التي دعمتها، لذا لا يمكن تهميش أدوار الفاعلين الاجتماعيّين في تشكل الفضاء العمومي البروليتاري كفضاء معارض من قبيل: الأجراء، الطلاب، النساء، الشباب الأجير.

يرى نيغت أنَّ الفضاء العمومي الذي تحدث عنه هابرماس يحجب “منطقة ظل” سوسيولوجيَّة بين الفضاء الخاص، المقاولة، والميادين المراقبة من طرف الدولة. فالمصلحة العامة التي تحدث عنها هابرماس تظلُّ مجردة، لأنَّها تحجب دور تجارب المواطنين المباشرة في ديناميَّة الفضاء العمومي، ولا تستجيب لمطالب من تمثلهم أو تدَّعِي أنَّها تمثلهم. ويشدّد في تقديمه للطبعة الفرنسيَّة (2007) على مجموع التغيرات التي يشهدها العالم اليوم، والتي حفَّزتهُ لإطلاق النقاش حول القضايا التي تؤرق العالم، لأنَّ “الفضاء العمومي ليس سِلعة”[18]، ويمكن إجمال تلك التغيرات في مفهوم الأزمة، لأنَّ الأزمة المعاصرة ليست أزمة اقتصاديَّة فحسب، بل تشمل مختلف مجالات الشَّأن العمومي، إنَّها أزمة اجتماعيَّة شاملة وليست أزمة اقتصاد فقط، حيث يقول: “الأزمة، كما أفهمها، تشمل إعادة تنظيم شامل لمنظومتنا القيميَّة: شكل قيادتنا للحياة، أملنا في العيش، فقدان العلاقات القديمة وبناء روابط جديدة…، أتحدث عن أزمة تآكل ثقافي érosion culturel”.[19] وهي الأزمة التي تؤدّي لا محالة إلى “حالة فقدان المعنى بشكل مهول” بسبب الوسط الاجتماعي، لأنَّها تشمل كلَّ مجالات حياتنا الاجتماعيَّة: القيم، المؤسسات، المجتمع، العائلة، الفضاء العام، الشّغل، التصور السياسي. لذلك يقول نيغت: “بدأنا (أنا وكلوج) البحث في مفهوم الفضاء العمومي منذ العقد السابع من القرن العشرين، منطلقين من فكرة أنَّ الفضاء العمومي البرجوازي لا يمكن أن يجيب إلا بشكل إيجابي عن الفضاء العمومي المعارض/ المقاوم في نهاية العقد السادس من القرن الماضي المدعوم بالإضرابات وبأشكال مختلفة من المقاومة (…)، فكتابنا الفضاء العمومي والخبرة بلور الفضاء العمومي البروليتاري. والذي لا يخصُّ التجربة العماليَّة (الأجراء) فقط، وإنًّما كلّ التمرُّدات الإنسانيَّة الأساسيَّة، بحثاً عن نموذج تجربة خاصَّة. هذا الفهم للفضاء العمومي يدمج ميدان الإنتاج والمجال الخاص دمجاً، بفضله تتحرك القدرات السياسيَّة”[20]. وفي محاولته لتجسيد أطروحة أدورنو الذي سعى إلى إقامة الصلة بين المفهوم والخبرة النظريَّة والممارسة (ليس فقط الصلة بين الخبرة الملموسة (الأمبريقيَّة) للسوسيولوجيا والتأمل الفلسفي: المفهمة الفلسفيَّة، وإنَّما بين الخبرة الحسيَّة للعالم والنقد المفهوم للواقع)، يطرح نيغت سؤالين هامَّين[21]:

ـ ما الذي يمكن أن يفعله الأجراء؟

ـ ما المصالح التي تحكم الطبقات المهيمنة تجاه الفضاء العمومي؟

ويذهب إلى اعتبار أنَّ كلَّ أشكال الفضاء العمومي محكومة بالجواب عن هذين السؤالين، لأنَّ الفضاء العمومي يشمل أولاً العديد من المؤسسات والأنشطة: القوة العموميَّة، الصحافة[22]، الرأي العام، الجمهور، العلاقات العامة، الشوارع[23]، وثانياً: يمثل “حقل تجارب المجتمع، ويشمل كلَّ ما يبدو هامَّاً لأعضائه (رواده) كيفما كانت واقعيَّةً أو مفترضَة”[24]، وهذا التميّيز (الذي وضعه نيغت) هام جداً، لأنَّ التعريف الأول يعتبر أنَّ الفضاء العمومي هو شأن مجموعة من المهنيِّين: المسؤولين العموميِّين، المحرِّرِين الصحفيِّين، أُطر المُنظمات الجماهيريَّة، وفي التعريف الثاني فهو فضاء يهمُّ الجميع. وبما أنَّ المستوى الثاني كذلك فإنَّه فضاء يسمح بالتعبير الحقيقي عن الحاجيَّات الاقتصاديَّة الأساسيَّة: “وفي الحالتين معاً، فالفضاء العمومي يتحدَّد بحسِّ مظهره الوهمي Aspect illusoire ولكنَّه لا يختزل في هذا الوهم”[25]. وبهذا يمتلك الفضاء العمومي قيمته الاستعماليَّة حينما تنتظم داخله التجربة (الخبرة) الاجتماعيَّة، شريطة التمييز بين الخبرة والتنظيم الاجتماعيين، لأنَّها مفاهيم صارت تقنية. فالتنظيم الاجتماعي هو شكل متقدّم ومتطوّر ومحكوم بغايات غير غايات الجماعات والمجموعات التي تنتظم داخلها، كما نجد ذلك في الحركات الاجتماعيَّة وفي منظمات النِّضال الجماهيري، أمَّا الخبرة فهي ديناميَّة تلك الحركات والمنظمات في الميدان، حيث يشارك جمهور غير منظم في تلك الممارسة، لهذا يقول: “يتمثل رهاني الأول في بيان الأشكال البدِيلة والجماعيَّة التي ستَمنَح تجارب عموميَّة للحاجات الإنسانيَّة”[26]، “لا يجب أن يرتبط فهمنا هذا أنا وكلوج بفضاء عمومي للأجراء، وإنَّما بفضاء يستقبل التجربة المباشرة والمحسوسة”، ويعزّز نقاشاً حول المنفعة العامَّة (الخير المشترك).

لقد بدأت المشكلة، هنا، مع الأزمة الاجتماعيَّة المتفاقمة التي شملت وقلبت جذريَّاً وعمليَّاً كلَّ القيم وكلَّ المؤسسات. يتعلق الأمر إذن بإطلاق نقاش حول البدائل بفضل المِخيال السوسيولوجي والإبداع السياسي، أي أنَّ الرهان ـ كما أشرنا ـ هو رهان سوسيولوجي وسياسي في الآن ذاته. يقول “نيغت وكلوج”: فقد تنامت في مجتمعنا نخب من مدراء ومُسيِّري الشَّركات، أرباب العمل (الباطرونا)، ممثلي اللُّوبيات (قوى الضغط)، وأنواع شتى من الدُّمى (الكراكز) السياسيَّة في الحكم…، والتي لا تتوافق مصالحها مع مصالح الشعب، بل مع مصالح الشركات. وهذه السُّلط الجديدة هي سُلط تفعل فيها النُّخب الجديدة التي ستقضي على مفهوم الاقتصاد كما نعرفه. ويقدمون مثالاً صارخاً تمثل في مسلسل الخصخصة حيث تقدم الدول بإيعاز من هذه النخبة على خصخصة مواردها لسد نفقات الميزانيَّات الاجتماعيَّة، وهو ما سيشكِل عبئاً إضافياً على الأجيال القادمة، لأنَّ وجود خصخصة في ميزانيَّات القطاعات الاجتماعيَّة لن تسدَّهُ أبداً مخططات تفويت وخصخصة الشركات العموميَّة، وإنَّما البحث عن موارد جديدة وخلق شركات استثمار عموميَّة جديدة في قطاعات واعدة وتنافسيَّة. ستُلحِقُ تلك التغيرات على المستوى الاقتصادي جراء الخطط الجديدة (مع النخب الجديدة) تغيُّرات جوهريَّة في الفضاء العمومي، فمنظّرو المقاولة سيضحُّون بكل شيء: يبيعون الخيرات العموميَّة والحياة نفسها. لأنَّ خصخصة المشاكل الاجتماعيَّة من منظور النُّخب الجديدة أهمُّ بكثير من البحث عن الحلول الجماعيَّة: “إنَّه خطأ فظيع وخطير جداً. فالخصخصة ليست شيئاً آخر غير نقل النفقات وتحويلها من الدولة إلى الفرد الذي سيتحمل تبِعاتِها: نفقات التربيَّة، الصِّحة، والتي ستثقل ثلاث مرات الأجيال الشابة أكثر من الدولة”.[27]

 

رشيد العلوي باحث مغربي، يعد رسالة دكتوراه في الفلسفة السياسية المعاصرة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، المغرب. له مساهمات عدة في الفكر الفلسفي المعاصر ونشر مقالات وبحوث في مجلات عدة، وأصدر مع ثلة من الباحثين كتابًا جماعيًا حول حنا إرندت عن الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، ساهم في موسوعة الفلسفة الأمريكية المعاصرة التي ستصدرها الرابطة قريبًا، وله مساهمات في حقل التربية وديداكتيك الفلسفة، فاعل جمعوي وحقوقي.

المراجع المعتمدة

باللغة العربيَّة:

– أوسكار نيغت: “هابرماس: المثقف السياسي، إلى هابرماس في عيد ميلاده الثمانين”، ترجمة: رشيد بوطيب، مجلة فكر وفن، عدد 92 السنة التاسعة والأربعون 2010

باللغة الأجنبيَّة:

– Habermas, l’espace public, Paris, Payot, 2006. P V.

– Oskar Negt: l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007.

– Oskar Negt: l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007.

[1] ألكسندر كلوج محامٍ، وكاتب سيناريو، حاصل على جائزة الأدب: جورج بوشنر Georg Büchner ومؤسس مهرجان الفيلم الوثائقي الالماني بأوبرهوزن Oberhausen.

[2] “إنَّ بلوغ يورغن هابرماس الثمانين يشكل فرصة جيدة لنهنئه فيها بشكل عمومي، ونعبر له فيها عن شكرنا واعترافنا بعمله الكبير الذي قدَّمه لثقافتنا السيَّاسيَّة”. أوسكار نيغت: “هابرماس: المثقف السياسي، إلى هابرماس في عيد ميلاده الثمانين”، ترجمة: رشيد بوطيب، مجلة فكر وفن، عدد 92 السنة التاسعة والأربعون 2010.

[3] أوسكار نيغت: “هابرماس: المثقف السياسي، إلى هابرماس في عيد ميلاده الثمانين”، ترجمة: رشيد بوطيب، مجلة فكر وفن، عدد 92 السنة التاسعة والأربعون 2010

[4] ريشارد سينيت Richard Sennett: عالم اجتماع ومؤرخ أمريكي وروائي وموسيقي في الآن ذاته، ولد في فاتح يناير 1943، ودرس في مدرسة لندن الاقتصادية، وفي جامعة نيويورك الأمريكية، دفعته حنة آرانت إلى دراسة السوسيولوجيا، يستلهم فكره من ميشيل فوكو، وهو مؤسس معهد نيويورك للإنسانيات، حصل هذه السنة (2016) على الجائزة الأوروبية بلوزان.

[5] أفلاطونية الفضاء العمومي التي تحدث عنها كولاكوفسكي Kolakowskiخلال الحرب الباردة لبيان حجم ومثالية الدعاية السياسية الستالينية، والذي انطلق من معطى بسيط جداً: كلُّ نشرة في التلفاز أو الراديو السوفياتي تدخل في هرمية معيارية مفصولة عن الأحداث الحقيقية التي تنقلها، وتأتي في الترتيب بعد بيانات الأمين العام للحزب الشيوعي التي تتصدر نشرات الأخبار. لذلك فكلُّ الأخبار الاخرى التي تهمُّ معيش الأفراد بما فيها تلك القضايا التي تهمُّ الحرب والسلم لا مكانة لها في هذه البنية الهرمية للفضاء العمومي الأفلاطوني. ففي عز كارثة تشيرنوبيل تجد في التلفاز معطيات ونشرات عن الطاقة النووية وحسابات علمية لا صلة لها بالنتائج الكارثية لتلك الطاقة على الناس. Ibid, p 218.

[6] لشك كولاكوفسكي Leszek Kolakowski بولوني الأصل (23 أكتوبر 1927 ـ 17 يوليوز 2009)، فيلسوف ومؤرخ أفكار، عُرف بنقده اللاذع للماركسية المذهبية كما عاصرها في الاتحاد السوفياتي، حيث أرسل إليها بعد الحرب العالمية الثانية باعتبارها أحد أطر الحزب الشيوعي البولوني، غير أنَّ حسه النقدي تنبأ مبكراً بالتوتاليتاريا الستالينية، وانصبَّ اهتمامه على مراجعة الماركسية، واتجهت كتاباته كاملة في هذا الاتجاه.

[7] اشتغلنا في هذا المبحث على أهمِّ نص مشترك بين أوسكار نيغت وألكسندر كلوج:

Oskar Negt, A, Kluge: l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007.

وهو كتاب يضمُّ نصوصاً عديدة كتبت في سياقات تاريخية مختلفة، لكنها ظلت وفية لخط نظري نقدي واضح، ويتعلق الأمر بـ:

– الفضاء العمومي المعارض مأخوذ من الفضاء العمومي والخبرة (1973).

– لا ديمقراطية بدون اشتراكية، ولا اشتراكية بدون ديمقراطية (1978).

– ألمانيا كفضاء عمومي للإنتاج مأخوذ من كتابهما التاريخ والموضوعية المتمردة.

– ركائز عنف الإعلام الجماهيري مأخوذ من كتاب هام لهما: “ماي 68: المثقفون السياسيون في مواجهة السلطة” (1969).

– الشغل والكرامة الإنسانية (2001).

[8] Oskar Negt, A, Kluge: l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007, p 221.

[9] ibid, 222.  [10] ibid, 222.

[11] أوسكار نيغت: “هابرماس: المثقف السياسي، إلى هابرماس في عيد ميلاده الثمانين”، ترجمة: رشيد بوطيب، مجلة فكر وفن، عدد 92 السنة التاسعة والأربعون 2010

[12] وتُسمى أيضاً حركة الشارتيين أو الوثيقية أو اللائحيَّة (نسبة إلى اللائحة أو وثيقة المطالب)، إلا أنَّنا نفضل اسم “حركة وثيقة الشعب” بالنظر إلى سياقها التاريخي، لأنَّ هذه الحركة قدمت وثيقة الشعب إلى البرلمان البريطاني سنة 1838، والتي تتضمن ستة مطالب رئيسة: حق الاقتراع لكل المواطنين (الرجال في 21 سنة) / انتخاب البرلمان كل سنة / انتخابات في مناظق متساوية / منح حصانة لأعضاء البرلمان ودفع أجور للنواب / جعل الانتخابات سريَّة / إلغاء ثبات حيازة الممتلكات لأعضاء البرلمان. وسيتم الاعلان عن جمعية “الشارتيين” أو أنصار وثيقة الشعب سنة 1840، ويعود تاريخها إلى انهيار الحركة النقابية العمالية، حيث قام وليم لوفيت (تلميذ روبرت أوين) بإعلان برنامج وثيقة الشعب سنة 1838 داخل جمعية عمال لندن التي تبنت المطالب الستة الرئيسة:

أ‌.     حق الاقتراع العام لكل المواطنين (الرجال 21 سنة).

ب‌.  انتخاب البرلمان سنوياً.

ت‌.  انتخابات في مناطق متساوية.

ث‌.  ضمان حصانة لأعضاء البرلمان ودفع رواتب للنواب.

ج‌.   جعل الانتخابات سريَّة.

ح‌.   إلغاء ثبات حيازة الممتلكات بالنسبة لأعضاء البرلمان.

غير أنَّه سرعان ما تمَّ القضاء على هذه الحركة بعد فشل الإضراب العام سنة 1942. ورغم ذلك تعتبر تجربة هذه الحركة هامَّة في التاريخ السياسي البريطاني.

[13] Habermas, l’espace public, Paris, Payot, 2006. P V.   [14] Ibid, P VI.       [15] Ibidem.

[16] Oskar Negt: l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007, p 16.

[17] Ibid, p 16.   [18] Ibid, p 216.    [19] Ibid, p 215.

[20] Oskar Negt: l’espace public oppositionnel, traduction par Alexander Neumann, Payot, Paris, 2007, p 222.

[21] ibid, p 55.

[22] لا يقلل نيغت وكلوج من قيمة الصحافة في تشكل الرأي العام العمومي، بل يحثان على أنَّ وسائل الإعلام الجماهيرية يمكنها أن تلعب أدواراً محورية اليوم في تشكيل الرأي السياسي المعارض (الفايسبوك والشبكات الاجتماعية)، وهم يتذكرون “كيف لعبت الصورة دورها الأساسي في إنهاء حرب فيتنام، فلها سلطة خاصة في الحرب الإعلاميَّة والسيَّاسيَّة”، فصورة الطفل البولوني الأعزل الذي رفع يديه إلى الأعلى متحديّاً القوات النازية الألمانيَّة، خير مثال على سلطة الصورة.

[23] ibid, p 56.  [24] ibid, p 56.  [25] ibidem.  [26] Ibid, 216.  [27] Ibid, 217.

الفضاء العمومي من هابرماس إلى نانسي فريزر

الملخص:

ترتكز هذه الدراسة على رؤية استقرائية نقدية لمفهوم العمومية والفضاء العمومي البورجوازي، كما فهمه “هابرماس” وكما انتقدته “نانسي فريزر”، من خلال رصد جملة من الإشكالات والمآزق التي تحومُ حول مفهوم الفضاء العمومي بوصفه إشكالية الدولة والمدنية، وإشكالية الحق والمجتمع المدني والديمقراطية…الخ. ومن البيّنِ أن نظريةَ “هابرماس” للعمومية إنما مردها إلى خلفية فلسفية هائلة تتمثلُ في “كانط” و”هيجل” و”ماركس”، بل إن الأمر يمتدُ إلى تأسيس رؤية اجتماعية مدعمة من مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية التي اختارتْ لنفسها مسار التحليل السوسيولوجي النقدي متعدد المشارب للواقع المتحوِّل والمتغير سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا. فانظر كيف أن “هابرماس” اندفع الى استثمارِ مفهوم الاستعمال العام للعقل كما ورد عند كانط في الجدل الرهيب بينه وبين كارل اتو آبل وهايدجر بُغيةَ رسم الفضاء العمومي بعدًا بورجوازيًا ليبراليًا على المستوى الأنطولوجي والسياسي والأيتقي والفكري، والدليل أن هذه الرؤية هي التي استطاعت أن تفسح المجال أمام حرية الأفراد والجماعات للإدلاء برأيها على أساس أن الفضاء العام يتيح فرصة بنائه بناءً نقديًا تشاركيًا تشاوريًا.

أما نانسي فريزر الفيلسوفة اليسارية فلم ترَ في أمر نظرية “هابرماس” في الفضاء العمومي إلاَّ امرًا مستشكلاً، إذ إنَّ الأنموذج البورجوازي الليبرالي والاشتراكي لم يعدا الخيار الأوحد في مدار السياسة والأخلاق والاقتصاد، هذا اولاً، وثانيًا أن التحولات الاجتماعية والتاريخية الحاصلة اليوم قد أسهمتْ بقوةٍ في حدوث تحول في رؤيا للعالم، فانظر كيف تصاعدت الحركات الاجتماعية الجديدة، النسوية منها والعرقية والطائفية، كل ذلك من شأنه أنْ يقوض رؤية “هابرماس” الفلسفية والنظرية والنقدية لمفهوم الفضاء العمومي الذي بقي سجين الإطار الوطني والقومي للفعل السياسي.