فلسفة التنوير

فلسفة

ما هي الحداثة وما هو التنوير؟ “ملف”

By nasser

April 22, 2018

ما هي الحداثة؟ د إبراهيم الحيدري / منشور في إيلاف يحتل مفهوم الحداثة ” Modernity” في الفكر المعاصر مكانا بارزا، فهو يشير بوجه عام الى سيرورة الاشياء بعد ان كان يشير الى جوهرها، ويفرض صورة جديدة للانسان والعقل والهوية، تتناقض جذريا مع ما كان سائدا في القرون الوسطى. وبالرغم من اهمية هذا المفهوم وشيوعه في الفكر المعاصر، الا انه اكثر التباسا وتعقيدا لما ينطوي عليه من غموض وارتبارطه بحقول معرفية عديدة واستخدامه في مجالات مختلفة وتوازي معناه مع مسيرة الحضارة الغربية الحديثة، التي افرزت اشكاليات رافقت الحداثة وما بعدها، وكذلك تعدد ابعاده ومدلولاته وشموليته لمستويات من الوجود الانساني، العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والادبية والفنية والفلسفية والتداخل فيما بينها. والحداثة هي نقيض القديم والتقليدي. فهي ليست مذهبا سياسيا او تربويا او نظاما ثقافيا واجتماعيا فحسب، بل هي حركة نهوض وتطوير وابداع هدفها تغيير انماط التفكير والعمل والسلوك، وهي حركة تنويرية عقلانية مستمرة هدفها تبديل النظرة الجامدة الى الاشياء والكون والحياة الى نظرة اكثر تفاؤلا وحيوية. واذا كانت الحداثة بنية فكرية جامعة لعدد كبير من المعاني والسمات والمباديء الحضارية المشتركة التي تشمل الوجود الانساني، فان التحديث “Modernization” له مدلول تاريخي لا يشير الى السمات الحضارية المشتركة، وانما الى دينامية التحولات البنيوية ومستوياتها. فابتداء من القرن السادس عشر حدثت في اوربا تحولات بنيوية وحركات اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية اجتاحت اوربا، رافقها استكشافات جغرافية وفتوحات استعمارية، وفي ذات الوقت، ثورة علمية تقنية رافقت الثورة الصناعية، التي فجرت في نهاية القرن التاسع عشر الثورة الفرنسية والثورة القومية- البرجوازية في اوربا. ان هذه التحولات البنيوية التي تداخلت بعضها مع البعض الآخر، في حركة جدلية كانت تصب في مجرى واحد هو مسار الحداثة. منهجيا، ليس من السهل اخضاع الحداثة الى القياس، لانها لا تكشف عن نفسها في موضوعات محددة وملموسة ويمكن قياسها واخضاعها للتجربة، وعلى المرء ان يستقرئ أسس الحداثة ومقوماتها بوصفها عمليات تراكمية وتحولات بنيوية مادية ومعنوية. وبايجاز شديد يمكننا فهم الحداثة باعتبارها المعطى الدوري والتحول المتسلسل في بنيات الانتاج والمعرفة والثقافة والاستطاعة التقنية والتي تمثلت بثلاث تحولات كبرى هيأت لقيامها وهي: أولا – تقوم على سلوك ذي نزعة انتاجية واسعة تتخطى الحدود التقليدية لمنظومة العمل والانتاج القديمة. وبهذا فهي مرادفة للرأسمالية، كنظام اقتصادي وبيروقراطي رشيد للمشروع الاقتصادي الحر الذي يقوم على تقسيم العمل الاجتماعي والتخصص. وثانيا – تقوم على تقدم علمي- تقني مستمر ظهر في العلم التجريبي والطباعة والتعليم والاعلام والاتصال وغيرها. وثالثا- نهضة فكرية واجتماعية – سياسية في دوائر المجتمع والفرد، ادت الى الاعتراف بقدرات الانسان الذهنية وحددت حقوقه وواجباته.

وباختصار، فالحداثة تعني مجمل التفاعلات التراكمية التي يدعم بعضها البعض، وان هذه التغيرات الحاسمة ذات الوتائر السريعة انتجت طفرة حقيقية في التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، تطورت بموجبها قوى العلم والتقنية والانتاج تطورا واسعا بحيث احدثت قطيعة بين الانسان وماضيه وجعلت منه سيد الطبيعة ومالكها عن طريق ضبط علمي -عقلاني لافعاله. ولكن منذ مطلع القرن الماضي بوجه خاص تحولت العلاقة بين العلم والتقنية لتصبح التقنية “العلم المطبق ” كما اصبحت الالة، بل وسيطرتها هي السمة الابرز في الغرب، بمعنى الاهمية المتعاظمة التي تمثلها التقنية في العالم بحيث لم يعد هناك انسان وطبيعة وانما هناك أنا والعالم، فيما هذه ” الأنا ” متضمنة في بيئة انسانية- تقنية، وهو ما جعل الانسان مركزا للكون ومصدرا للقيم. وبهذه النقلة النوعية الشمولية شكلت الحداثة قطيعة مع التراث ومع الماضي، ولكن لا لنبذه وانما لاحتوائه وادماجه في مخاضها المتجدد دوما.

مفهوم الحداثة

كان هيغل أول فيلسوف وضع مفهوما واضحا للحداثة واستخدمه في سياقات تاريخية للدلالة على حقبة زمنية معينة، حيث ذكر بان الحداثة بدأت مع عصر التنوير، بفعل اولئك الذين اظهروا وعيا وبصيرة، باعتبار ان هذا العصر “حد فاصل” و “مرحلة نهائية من التاريخ”، في هذا العالم الذي هو عالمنا وحاضرا يفهم على انه قيمومة الزمن الحاضر، انطلاقا من أفق “الازمنة الجديدة” التي تشكل تجددا مستمرا. كما وضع هيغل مدلولا للعلاقة الداخلية القائمة بين الحداثة والعقلانية، وهو مدلول امتد بذاته حتى وصل الى ماكس فيبر. وقد استخدم هيغل مفهوم الحداثة ضمن اطر وسياقات تاريخية للدلالة على “الازمنة الحديثة” وهو بهذا مفهوم زمني يعبر عن القناعة بالمستقبل الذي سبق وبدأ، والزمن المعاش المرهون بالمستقبل، والمنفتح على الجديد الآتي. منذ ذلك التاريخ ابتدأ تصوير التاريخ كعملية تفاعل منسقة وخلاقة للمشاكل ومن هذه اللحظة اصبح الزمن معاشا في مواجهة القضايا التي تطرح نفسها كسلطة نادرة، وبقول آخر “كزمن يلاحقنا”. واذا جاز لنا ان نحدد تاريخا موجزا وسريعا لمفهوم الحداثة، فيمكننا القول بان المفهوم يعود الى بداية القرن التاسع عشر فقد ذكر هيغل بان الازمنة الحديثة تخص ثلاثة قرون تمت فيها تحولات هامة وهي:- 1- اكتشاف العالم الجديد 2- عصر النهضة 3- عصر التنوير هذه التحولات الكبرى، التي بدأت منذ القرن السادس عشر، شكلت عتبة تاريخية هامة وانتقالا من القرون الوسطى الى الازمنة الحديثة، وهي دالة على حقبة جديدة تشير الى ولادة عصر ومستقبل جديد. منذ هذه الحقبة ابتدأ تصور التاريخ كتفاعلية متسقة خلاقة، واصبح الزمن معاشا في مواجهة القضايا التي تطرح نفسها، او كزمن يلاحقنا. ان ” روح العصر” Zeitgeist هو احد المفاهيم الجديدة التي ابتدعها هيغل، التي تسم الحاضر كلحظة عابرة تستهلك نفسها في وعي التاريخ، وفي انتظار مستقبل مختلف. يقول هيغل، “ان زمننا هو زمن ولادة وزمن انتقال الى حقبة جديدة. وان العالم الجديد ينفتح على المستقبل ويولد حقبة تاريخية جديدة تستمر في كل لحظة من لحظات الحاضر الذي يولد شيئا جديدا”. وان الوعي التاريخي بالحداثة يتضمن تحديدا للحدود بين الزمن القائم والزمن الجديد، وتصبح الحقبة المعاصرة بداية للزمن الجديد الذي يبدأ مع عصر التنوير، ومع الثورة الفرنسية، باعتباره حدا فاصلا يكون قطيعة بين الازمنة الحديثة والماضي. كما شكلت القطيعة انفصاما وتوقفا وازاحة له من جهة، وثورة معرفية كونت تحولا مفاجئا وحادا في نظام المفاهيم والاشياء والعلاقات الاجتماعية من جهة اخرى. وبهذا فالحداثة ليست قطيعة مع الماضي فحسب بل هي الغاء له وتوليد حركة طليعية متقدمة. وبطلوع القرن الثامن عشر صاحب الحداثة مفاهيم جديدة ذات دلالات ما زالت تحتفظ بجدتها واهميتها حتى اليوم كالحرية والعقلانية والنقد والتقدم الاجتماعي وغيرها.

مبدأ الذاتية

ويشكل مبدأ الذاتية، القاعدة الاساسية للحداثة في المجال الفلسفي الذي يعني أولوية الذات وانتصارها، حيث اصبح الانسان الحديث يرى صورته في مرآة يتمثل العالم من خلالها، واخذ يدرك نفسه كذات مستقلة ومتميزة عن الطبيعة، وهو ما دفع الانسان الى السيطرة على الطبيعة واخضاعها لمشيئته. كما اصبح الانسان يستمد يقينه من ذاته، وليس من عقيدة او سلطة، غير سلطة ذاته. وليس كما كان عليه الامر في القرون الوسطى. وبحسب هيغل، فان الحداثة شكلت ارتدادا الى الذات وكونت بنية علاقة مع الذات دعاها هيغل بـ “الذاتية” او “الآنية”، أي حرية الذات، التي هي بشكل عام مبدأ العالم (الازمنة الحديثة) وشرحها بـ “الحرية” حيث قال:”ان مكون اهمية وعظمة عصرنا هو الاعتراف بالحرية “، ووصفها “بالروح، وحقيقة كونها بذاتها”.

وكان ديكارت اول من أسس فكرة الحداثة الفلسفية بعد ان وضع مبدأ الذاتية (الكوجيتو): “أنا افكر اذن أنا موجود” كاساس للحقيقة وكقيمة مطلقة- وخط فاصل بين عالم الآلهة القديم وعالم الانسان الحديث- وجعله مركز الكون. اما لا بتننز (1646- 1716) فهو أول من اسس الحداثة الفلسفية على مبدأ العقلانية، حيث قال “ان لكل شيء سبب معقول” وبهذه المقولة تفتحت ابواب العالم الحديث التي ساعدت الانسان على معرفة اسرار الكون والحياة والموجودات وكونت بديلا علميا وعقلانيا لسلطة الميتافيزيقيا القديمة. ومذاك اصبح العلم هو الموجه الذي يقود الفلسفة الحديثة وظهور مفهوم “الكلية” الذي يعني النظرة الشمولية العامة للاشياء. كما ان العلم المموضع الذي اخذ يفك سحر الطبيعة، حرر في ذات الوقت، الذات العارفة، واصبحت الحرية الذاتية للفرد التي قامت على هذه التصورات، تؤكد على حق الفرد في التمييز بين الافعال المتوقعة منه، فاخذ يلاحق الغايات ولكن بشرط انسجامها مع راحة الآخرين. وبذلك اكتسبت الارادة الذاتية استقلالا طبقا للقوانين العامة. وهكذا تجسدت الحداثة والعقيدة والدولة والعلم والفن والاخلاق في مبدأ الذاتية.

عصر التنوير والحداثة

والواقع فان عصر التنوير هو مفتاح الحداثة وبابها الى العالم، على رغم ان اصول الحداثة تعود الى الفكر والفلسفة الاغريقية والديانة المسيحية والفلسفة الاسلامية العقلانية. وكما قلنا سابقا، فان كانت كان اول من صاغ مفهوما للتنوير عندما قال “ان التنوير هو خروج الانسان عن قصوره الذي اقترفه بحق نفسه وعجزه عن استخدام عقله الا بتوجيه من انسان آخر”.ونتيجة لافكار التنوير ومبادئه تطورت الفلسفة العقلانية النقدية وفكرة التقدم الاجتماعي وحقوق الانسان. غير ان الصرح المعرفي القويم للحداثة، الذي ظهر في عصر التنوير و ظل ثابتا اوشبه ثابت اكثر من قرنين، لم ينأ عن النقد والتجريح، بل اكثر من ذلك، اخذ البعض بتقويض مشروع الحداثة وصرحه الفلسفي القويم الذي قام على العقلانية والتقدم الاجتماعي والنقد. فمنذ بداية القرن العشرين لم تعد الحداثة تصمد امام نقد الفاعلين الاجتماعيين من رواد ما بعد الحداثة حيث يقول آلان تورين: “عندما وقفت الحداثة امام المقدس، اثارت في ذات الوقت، ما يناقضه ومن داخل المؤسسة الدينية نفسها”، بمعنى آخر، فانها بالنقد اكسبت المقدس مناعة مضادة للتيارات التي حاولت تهميشه حين قامت بتنصيب عدد من الاوهام: العقلانية وغائية التاريخ والتقدم والآيديولوجيا، التي انتجت ما يدعى “بالحكايات التفسيرية الكبرى” لعصر التنوير. لقد رافقت هذه التحولات المهمة سمات فكرية وفلسفية كبرى في مقدمتها اهمية العقل والعقلانية، حيث غدا العقل الحسابي والنقدي معيار كل معرفة وكذلك مرجعها الحاسم، كما اصبح العقل عقلا أداتيا، وبذلك استقلت البنيات المعرفية عن الاهداف التي رسمت لها وقامت من اجلها واصبحت لها قوة فاعلة ودور حاسم في اصدار القرارات. وبهذا اصبحت شكلا جديدا من السلطة اطلق عليها هابرماس “السلطة التقنية” التي هي في الوقت ذاته وسيلة من وسائل الضبط والاحباط لما يرافقها من ايديولوجية تكنوقراطية تكون الاساس الذي يقوم عليه ترشيد السلوك.

ماكس فيبر والحداثة

ويرجع ماكس فيبر، عالم الاجتماع الاقتصادي الالماني المعروف، هذه التحولات التي قامت على طريق العقلنة الى خاصية من خصوصيات الغرب، وذلك بسبب وجود رابط داخلي، وليس عرضيا، يكُون هذه الصيرورة العقلانية التي طورت العقل التجريبي الحديث والفنون والتمايز حول المشروع الرأسمالي الحر والجهاز البيوقراطي للدولة، فهما يتداخلان ويتشابكان معا في وجهة نظر وظيفية، كما يفسر هذه التحولات بكونها انواعا من الانشطة العقلية (اقتصادية وادارية)، التي تتجه نحو غايات محددة، بعد ان تلاشت اشكال الحياة التقليدية لما قبل الحداثة، والانتقال من النموذج الصناعي البسيط الى النموذج الرأسمالي المعقد. وذلك بسبب السلوك ذي النزعة الانتاجية الذي عمل على تسارع نمو الرأسمالية، واظهر، كما يقول فيبر، “البحث عن النجوع” الذي حرضته على النجاح الفردي، وتراكم الثروة التي يجب ان تكون واجبا ينذر الانسان نفسه لخدمتها عن طريق الزهد والتقشف والادخار والشعور بالمسؤلية لمضاعفتها بواسطة العمل الدؤوب. لقد كون هذا الاسلوب العقلاني الرشيد في الحياة، ذهنية اقتصادية وجدت مبدأها الاخلاقي في روح الرأسمالية. لقد حظيت اراء ماكس فيبر حول نمو العقلانية والبيروقراطية في الرأسمالية باهتمام كبير واثارت مزيدا من المناقشة والجدل، بعد ان تحقق ما تنبأ به من توسيع رهيب وملحوظ في العقلانية والبيروقراطية مما لا يمكن تجاهله او نكرانه. فهي اصبحت من الملامح الاساسية التي تطبع المجتمعات الصناعية المتقدمة، وبخاصة الرأسمالية. وهذه انما تثير من جديد تساؤلات عدة حول القضايا التي طرحها ماكس فيبر في بداية القرن الماضي وتتمثل في التطور الهائل في حجم وكثافة وتعقد الاجهزة البيروقراطية وتعقد الطرق والاساليب التكنولوجية وتعاظم قدرة التنظيمات العقلانية الضخمة التي اصبحت اليوم تتحكم في الدول والشعوب وتسيطر عليها من 6خلال الاشكال المعقدة لفنون الانتاج والتسويق ووسائل الدعاية والاعلان والاتصال المختلفة، وتحولها الى مجتمعات استهلاكية تنتج بضائع اكثر من الحاجة. وبهذا تنتج الاجهزة التكنولوجية والفئات المسيطرة عليها تفوقا غير اعتيادي على الناس بحيث يصبح الفرد مقابل هذه القوة الاقتصادية ملغيا تماما. وبالغائها الفرد تُصعد هذه القوة عنف المجتمع ضد الطبيعة بقوة اكبر، ويختفي الفرد من الجهاز التكنولوجي الذي يخدمه. المصادر:

1- Habermas, Jurgen, Der Philosophische Diskurs der Moderne, Frankfurt, 1991, 2- Habermas,Jurgen, Tecknick und Wissenschaft als Ideologie, Suhrkamp, Frankfurt, 1969. Horkheimer Und Aderno, Dialektik der Aufklaerung,Frankfurt,196 -3 4- ابراهيم الحيدري ازمة الحضارة الغربية- أزمة حداثة وما بعد الحداثة، في كتاب” الحضارة الانسانية بين التصور الديني والنظريات الوضعية”، الجزء الأول، لندن 1994 5- ابراهيم الحيدري، جدلية الحوار حول اطروحة ماكس فيبر”الاخلاق البرتستانتية وروح الرأسمالية”، مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد الثامن عشر، الكويت 1990 6- محمد الشيخ ويوسف الطائري، مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة، ( اعداد وتعريب)، بيروت 1996 7- آلان تورين، نقد الحداثة، (ترجمة)، بيروت 1997

عصر التنوير والحداثة 1-2 د إبراهيم الحيدري “كن شجاعا وأستخدم عقلك بنفسك” (كانت)

اخذ الفلاسفة منذ عصر النهضة الأوربية يستعيدون افكار واراء الفلاسفة الاغريق، وبخاصة افلاطون وارسطو، ويطورونها ويضعون اللبنات الاولى للفكر الفلسفي الحديث، الذي عمق الصراع بين الدولة القومية الناشئة وبين هيمنة الكنيسة، وساعد على تطوير مذاهب فكرية وفلسفية واجتماعية واقتصادية جديدة مهدت الطريق لتطور العلوم الطبيعية والانسانية. وقد احدثت اراء رينيه ديكارت (1596-1650) اول ثورة في الفلسفة الحديثة في تطويره المنهج العلمي الجديد وتصديه للكون بوصفه آلة محكومة بقوانين الطبيعة الميكانيكية، والتي ابعدته تماما عن الاسطورية والرمزية والغائية، و كانت غايتها ان تبحث عن الكمال في النظام الرياضي للطبيعة، حيث عزل ديكارت العلم الفيزيائي عن العلل الغائية وارجعها الى الاسباب الكامنة وراء الاحداث الفيزيائية. كما اعتبر ديكارت بان الطبيعة هي نظام منسق من القوانين القابلة لسيطرة الانسان. وقد نتج عن اراء ديكارت الفلسفية تياران هامان هما، التيار العقلي، كما ظهر عند سبينوزا ولابتنز، والتيار التجريبي كما ظهرعند جون لوك وباركلي وهيوم. وقد شكل التيار العقلي منذ ذلك الوقت اتجاها تفاؤليا، كان نقطة البداية للاتجاه النقدي، اما الاتجاه التجريبي فقد اتجه نقده الى العقل نفسه. وكان لوك قد اعلن بان جميع معارفنا انما تاتي عن طريق الحواس، كما نقض هيوم العقل مثلما نقض الدين واتجه الى العلم. وقد انتجت اراء ديكارت الفلسفية تطور رؤية ذاتية للعالم و اصبح الانسان يرى صورته في مراة صافية يتمثل من خلالها العالم واخذ يدرك نفسه كذات مستقلة تميز نفسها عن الطبيعة، بل وتسيطر عليها وتستغلها. كم اخذ يستمد يقينه من ذاته وليس من سلطة اخرى غيرها. وقد اعتبر ديكارت مؤسس الحداثة الفلسفية بوضعه مبدء الذاتية “الكوجيتو” الذي يقول “انا افكر اذا انا موجود”!. وبهذا جعل ديكارت الانسان مركز الكون واساس الحقيقة واليقين(1). واذا كان ديكارت مؤسس الحداثة الفلسفية, فان لايبتنز(1646-1716) هو اول مؤسس للحداثة الفلسفية على مبدء العقلانية، اذ ان “لكل شىء سبب معقول” وهو ما حول الانسان من متأمل للكون الى غاز له وباحث ومنقب عن ” اسباب معقولة ” فتحت امامه ابواب العلم الحديث ومنحته سلطة استعاض عنها عن الغاز الميتافيزيقيا القديمة.(2) و كانت الحداثة الفلسفية قد مهدت الطريق لظهور كانت على المسرح الفكري وتطويره للفلسفة النقدية، حيث اصبح النقد عنده سيرورة معرفية وفعالية فكرية، ثم تحول الى منهج نقدي يرتبط بالنشاط المتميز للعقل ويقوم على الجدل العقلي. كما اصبح النقد محورا للفكر الفلسفي والاجتماعي خضعت له جميع ظواهر الحياة من دون استثناء، الدين والمجتمع والقوانين, وبخاصة بعد صدور كتابه نقد العقل الخالص عام 1781. وقد امتدت رياح التنوير الى الادب والفن والمسرح واللغة وفي جميع انحاء أوربا، حيث صدرت اعمال ادبية وفنية ومسرحيات نقدية وترجمت امهات الكتب الاغريقية، كما صدرت مجلات ادبية وعلمية وفلسفية. وقد ظهر في فرنسا كتاب ومفكرين عظام امثال فولتير وروسو وديدرو وفي انكلترا امثال هيوم وجونسون وبروان وفي ايطاليا فيكو وميكافيلي وغيره. اما في المانيا فقد ظهر هيردر وغوته وشلر وليسنغ. وكانت لكتابات ليسنغ ومسرحياته الكوميدية والتراجيدية على سبيل المثال دورا هاما في تطور المسرح النقدي في المانيا، وبخاصة مسرحية “ناتان الحكيم” 1779، التي دعت الى الحوار والتسامح بين الاديان والتحذير من الاحكام المسبقة وعدم التسليم الاعمى للعقائد. وبهذه الاقكار التنويرية عبر ليسنغ بصدق عن ما طرحه عصر التنوير حول العلاقة بين الدين والانسان. وقد انتج عصر التنوير تيارات فكرية ومذاهب سياسية ونظريات اجتماعية و فلسفية نقدية وحركات اجتماعية جذرية شملت جميع اوربا، وكان في مقدمتها فلسفة التاريخ وفلسفة القانون ونظريات العقد الاجتماعي والاشتراكيات الطوباوية وغيرها التي طبعت تاريخ الفكر الحديث في اوربا.

انقلابية عصر التنوير يعتبر عصر التنوير عصر انتصار الفكر الاجتماعي والفلسفي التنويري الحر, الذي مهد الطريق لقيام الثورة الفرنسية والاعلان عن لائحة حقوق الانسان وترسيخ قيم الطبقة الوسطى فكرا وسلوكا وسياسة. يعني التنوير انبعاث الروح النقدية التحررية التي تخطت تشاؤمية العصور الوسطى وانتجت ابداعات ادبية وفنية وعلمية وثقافية اتسمت بالشجاعة الكافية لاستخدام العقل لمناهضة التفكير الغيبي والاسطوري وتحريره من الاوهام والخرافات وفتحه افاقا جديدة في البحث والدراسة والمعرفة واكتشاف المجهول. وقد تميز عصر التنوير، الذي تطور خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، بتدفق تيارات فلسفية عارمة وافكار اجتماعية نقدية وحركات سياسية انقلابية انبثقت عن التحولات البنيوية التي صاحبت الثورة الصناعية في اوربا والتبدلات التي رافقتها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وبخاصة في فرنسا وانكلترا والمانيا, كما ساد مناخ فكري سيطرت فيه الفلسفات الحسية والعقلية وافرزت صراعات فكرية بين الاتجاهات الفلسفية المادية واللاهوتية والعقلية، الى جانب التيار الانساني والليبرالي وما رافق ذلك من جدل حول مفهوم الطبيعة البشرية. وكان الهدف الرئيسي الذي سعى عصر التنوير الى تحقيقه هو تكوين “فلسفة جماهيرية ” تكون بديلا لفلسفة الطبقة الارستقراطية المحافظة وتهيئة الاذهان لتغيير الانظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية, التي باتت لا تتلائم مع روح العصر، وكان محورها الاساسي هو فكرة التقدم الانساني الذي ينبثق عن قدرة العقل البشري على السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح الانسان والمجتمع البشري. وكان من نتائج عصر التنوير احترام العقل ومناهضة التفكير الميتافيزيقي, انطلاقا من ان العقل البشري هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة. ومن اهم الحركات التي ساعدت على تبلور الفكر الاجتماعي والفلسفي الحديث في القرنين السابع عشر والثامن عشر الحركة الانسانية التي تمثلت بافكار الانسكلوبيديين في العلوم والمعارف، والحركة السياسية التي تمثلت بمبادىء الثورة الفرنسية ولائحة حقوق الانسان. انطلقت الحركة الانسانية من نقض الفكر الميتافيزيقي الذي ساد في العصر الوسيط ونادى بالعودة الى الطبيعة الانسانية، التي تنبع اصلا من الظروف الاجتماعية التي تحيط بها, تلك الحركة التي عبرت عن موقف فكري واضح المعالم يؤكد على ان منبع الافكار هو الواقع الاجتماعي بذاته. وكان من ابرز ممثلي هذه الحركة جان جاك روسو وفولتير وهلفسيوس وغيرهم من الانسكلوبيديين. اما الحركة الثانية فكونت مشروعا سياسيا هدفه تأسيس دولة تنزل السلطة, بما فيها سلطة الافكار، الى المجال الشعبي، وتمثلت بالثورة الفرنسية واعلان مبادئ حقوق الانسان. والى جانب الثورة الفرنسية ذات الطابع السياسي تفجرت الثورة الفلسفية في المانيا على يد كانت, التي كانت تدشينا لفكر نقدي جديد مثل قطيعة مع ما سبقه من فلسفات. وكان فولتير(1694-1778) اصدر عام 1732 “رسائل من لندن بواسطة الانكليز” اتخذ فيها موقفا معاكسا لشكل الحكم الانكليزي انذاك كما انتقد فيها الحكم الملكي المطلق. وقد احرق الكتاب في حينه، غير ان صدوره فيما بعد شكل بداية لحركة فلسفية اصبح لها معنى تاريخيا عالميا، بالرغم من انها لم تفهم بصورة جيدة في انكلترا انذاك للظروف التي كانت انكلترا تمر بها. كما انتقد فولتير التعصب الديني ونادى بفكرة التسامح, مثلما انتقد الكنيسة ودعا الى التمرد على سلطتها وطالب بتخلي الدولة عن وظيفتها في رعاية الكنيسة بدلا من رعاية افراد المجتمع. وقد اعتبر العقيدة قضية شخصية ترتبط بالانسان وان كل شخص مسؤول امام خالقه وعليه ان لا يفرض تصوره الخاص للعقيدة على الاخرين.(3) وقام جارلس مونتسكيو(1689-1755) برسم ملامح الحكومة الصالحة على اساس مبدأ فصل السلطات، اي الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهو المبدأ الذي يستطيع تحقيق الحرية السياسية للافراد. وقد اعتبر القانون هو العقل البشري ذاته، الذي اخذ يحكم الشعوب والاقوام. كما اشرف دنيس ديدرو(1713-1784) على وضع موسوعة فلسفية شاملة للمعارف الانسانية تساعد على تربية “حس نقدي” لدى الافراد وتنويرهم عن طريق محاربة الجهل والخرافة وتعريفهم بمنجزات العقل في جميع المجالات العلمية والادبية والفنية والاقتصادية. أما جان جاك روسو(1712-1778) فقد دعا الى تحقيق الحرية السياسية وضمان الحقوق الطبيعية للافراد, التي تتوقف على مدى تمتع الشعب بحق السيادة. وقد اعتبر الحرية هي جوهر الانسان وعلى المؤسسات السياسية ان تلتزم بضمان الحرية، وان افضل نموذج للدولة هو الذي يضع فيه الشعب القوانين وتكتفي الحكومة بتنفيذها وحمايتها. وان التربية الليبرالية ضرورية لانها كفيلة لجعل المواطنين يستوعبون قيم الحرية والديمقراطية والمصلحة العامة.(4) لقد شكلت هذه الافكار التنويرية بذور الوعي الاجتماعي والسياسي, التي اثمرت في نهاية القرن الثامن عشر مبادىء، الثورة الفرنسية وتوجت بالاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1789.

المصادر: 1- Horkheimer, Kritische Theorie, Bd.I ,FFm 1968 s, 303ff, Adorno, Vorlessung, zur Soziologie, 1958,s, 208f. 2- محمد الشيخ وياسر الطائري, مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة (اعداد وتعريف) دار الطليعة 1996 ص13 3- Voltair, F. M. in : Philosophische woerterbuch. s.630.

4- Rousseau, J.J. in : Philosophische Woerterbuch, s.516.

ما هو التنوير؟ د إبراهيم الحيدري 2-2 الحلقة الأولى

سمي العصر الذي نمت فيه الحركة الفكرية والاجتماعية و الفلسفية التنويرية في فرنسا بـ ” عصر الايضاح”Eclaireissement. اما في المانيا فقد سمي عصر “التنوير” Aufklaerung، الذي تعود اليه جميع الحركات الاجتماعية و الفلسفية والسياسية المعاصرة بصورة مباشرة. وكانت اكثر تلك الحركات هي ردود فعل غير مباشرة لها، التي اعتبرت نفسها “تنويرية” ايضا. وبعد ست سنوات على وفاة كانت في الثاني عشر من شباط 1804، اعتبر مفهوم التنوير، الذي هو في الاصل انكليزي، مفهوما سطحيا مرتبطا بالانتلجنسيا، كما ظهرت لاول مرة كلمة Enlihtenment كترجمة انكليزية لكلمتي Eclairissement,و Aufklaerung، التي حافظت على معناها العام السابق حتى الان.(1) وجاء اول تعريف لمفهوم ” التنوير” في كتاب ” الوصية” للأب ميسلي وذلك في عام 1725، حيث ذكر “بان نور العقل الطبيعي هو وحده الكفيل بان يقود الناس الى الحكمة والكمال العقلي”. وبعد نصف قرن تقريبا اجاب اثنان من الفلاسفة في مجلة برلين عام 1784 عن سؤال عن ماهية التنوير. فكتب موسى مندلسون يقول:

” ان كلا من المعرفة والثقافة والتنوير تعديل للحياة الاجتماعية… ويندرج تحت المعرفة كل من الثقافة والتنوير. وتهتم الثقافة بالجانب العلمي… بينما يهتم التنوير أكثر بالجانب النظري. أي يهتم بالمعرفة العقلانية والموضوعية وقدرة الذات على التفكير في الاشياء الموجودة في الحياة الانسانية تبعا لأهميتها وتأثيرها في تحقيق حياة الانسان..”

وبعد شهرين نشر كانت في مجلة برلين عدد ديسمبر عام 1784 مقاله الشهير: ما هو التنوير؟ جاء فيه:

” التنوير هو خروج الانسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو بسبب عجزه عن استخدام عقله الا بتوجيه من انسان آخر. ويرجع الذنب في هذا القصور الى الانسان نفسه عندما لا يكون السبب فيه هو عيب في العقل، وانما الافتقار الى العزم والشجاعة اللذان يحفزانه على استخدام عقله بغير توجيه من انسان آخر. هذا هو شعار التنوير “. كما اضاف: ” والكسل والجبن هما علة بقاء البعض من الناس عاجزين وقاصرين طوال حياتهم، رغم ان الطبيعة حررتهم منذ زمن طويل من كل سلطة ووصاية خارجية وغريبة عليهم، وفي ذات الوقت، فان الكسل والجبن هما سبب تطوع الآخرين في ان يفرضوا وصاياهم عليهم… ان مبدأ التنوير هو:! Sapere aude ” كن شجاعا واستخدم عقلك بنفسك!”(2)

نخلص من هذا النص التنويري بما يلي: اولا – ان الانسان مسؤول عن قصوره، اذا لم يكن سببه نقصا في عقله، وانما نقصا في شجاعته وجرأته على اتخاذ القرار بمفرده. ثانيا – ان هناك مصلحة في ابقاء الناس على قصورهم وعجزهم، وهم مسؤولون عن ذلك. ويرتبط تطوع الآخرين في فرض وصاياهم عليهم بمصلحة تحقيق السيطرة على القاصرين منهم، لان الأوصياء يجدون صعوبة في تحقيق سيطرتهم اذا لم يكن هناك افراد يعجزون عن استخدام عقولهم ويتركون للآخرين اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية نيابة عنهم. ثالثا – ان للانسان عقل يميزه عن باقي الكائنات الحية ويوجهه نحو المعرفة الصحيحة والعمل المفيد والقرار الصائب اذا استطاع استخدامه بشكل صحيح وبدون توجيه من انسان آخر. رابعا – ليس هناك شيء يتطلبه التنوير بقدر ما يتطلب الحرية، ويعني ذلك حرية الاستخدام العلني للعقل وفي كل الامور. خامسا – هناك شعوب كبيرة خرجت من مرحلة القصور العقلي واصبحت تفكر بشجاعة وبصورة مستقلة دون وصاية من الاخرين، وعلى هذه الشعوب ان تخوض معركة ضد نفسها وضد الاخرين، وهذا لا يتم الا بنشر الحرية، التي هي حق الانسان في الاستخدام العلني لعقله وفي جميع مجالات الحياة.

الملامح الرئيسية لعصر التنوير

يمكننا ايجاز اهم الملامح الفكرية والاجتماعية والفلسفية التي جسدها عصر التنوير في اوربا وهي كما يلي:- 1- النزعة العقلانية ان احدى اهم نتائج عصر التنوير هي تطور النزعة العقلانية التي كانت تجسيدا للتقدم والتحرر الفكري والاجتماعي وكذلك الاقتصادي والسياسي, الذي واكب التحولات البنيوية التي حدثت في اوربا والتي اعتبرت العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة (ديكارت وسبنيوزا) واكدت على احترام العقل بل وتقديسه ونبذ الفكر الميتافيزيقي والاسطوري وناضلت ضد الآيديولوجية الاقطاعية والكنسية وعملت بلا هوادة من اجل سيطرة العقل لقدراته على ادراك وفهم الضواهر الطبيعية والاجتماعية.

2- مفهوم التقدم قامت فلسفة التنوير على مفهوم “التقدم” الذي انبثق من الايمان بقدرة العقل البشري على التطور والتغير والتقدم نحو الاحسن والافضل للسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح الانسان والمجتمع، وقدرة الانسان على مواجهة التحديات التي تواجهه بفضل قابلياته ومقدراته الذهنية.

3- التفريق بين الدولة والمجتمع صورت فلسفة التنوير المجتمع بكونه اكثر من مجتمع سياسي, وبمعنى آخر, اكدت على الاستقلالية والتحرر وعدم الخضوع لسلطة الكنيسة وأية وصاية خارجية أخرى، وكذلك التفريق بين الدولة والمجتمع، وبذلك وجهت الانظار الى الاهتمام بالنظم والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية.

5- فلسفة المنفعة اتخذ عصر التنوير من مفهوم “المنفعة” خلقا اجتماعيا واصبح اساسا في التعامل الانساني وكفلسفة اجتماعية- قيمية فسرت الاخلاق بمفهومي “اللذة والالم ” واتخذت من سعادة الاكثرية اساسا لتقرير وتقييم السلوك الاجتماعي.

6- الطبيعة الانقلابية- الثورية انطوى عصر التنوير على طبيعة انقلابية- ثورية قامت على منهج جدلي نتيجة تحالف الطبقة البرجوازية الجديدة مع الارستقراطية العليا وبقايا الاقطاع من جهة، وظهور الحركات الجماهيرية والنقابات العمالية، كرد فعل لها من جهة اخرى، كان هدفها احلال مجتمع ديمقراطي اكثر حرية وعدالة.

7- القوانين الطبيعية والقوانين الاجتماعية اخذ فلاسفة التنوير يفسرون الظواهر الاجتماعية على ضوء القوانين الطبيعية وذلك بسبب انتشار المذهب الحسي، كمذهب للبحث في نظرية المعرفة والاهتمام بدراسة الحياة الاجتماعية. كما اتجهت العلوم الى استخدام “التجربة” التي اصبحت لها اهمية خاصة باعتبارها مصدر المعرفة، كما هو الحال عند جون لوك، وديفيد هيوم.

8 – اعادة الاهتمام بالفلسفة حاول فلاسفة التنوير اعادة الاهتمام بقيمة الفلسفة وذلك بجعل العقل المصدر الوحيد للمعرفة، وليس التراث القديم كشيئ مقدس ومفروض، ووضع جميع الاشياء على محك العقل للكشف عن المسببات المنطقية التي ادت اليها. وعلى هذا الاساس رفض فلاسفة التنوير التراث المسيحي التقليدي الذي ينتهك قوانين العلم والمنطق وكذلك اخلاقية الزهد والتقشف الصارمة في الحياة الدنيا، ودعوا الى اخلاق اكثر انسانية والالتزام بالتسامح والسلام بدل التعصب والعنف.

جدل التنوير غير ان عصر التنوير، الذي دعى الى افكار التقدم والعقلانية واكد على أولوية الانسان وحريته واستقلاله وجعل سلوكه القاعدة المعيارية لممارساته الاجتماعية، لم يحقق ما وعد به تماما، بل ومهد الطريق، كما يقول هوركهايمر وأدورنو في كتابهما “جدلية التنوير” عام 1947، لتنامي انظمة شمولية لم تاتي عبثا، فسرعان ما اخذ المجتمع العالمي بالانقسام وتنحى الفكر النقدي عن وظيفته واهدافه التي دعى اليها، وهو ما كون شكلا من الارتداد على الذات، الذي تمثل بالتحول الى سيطرة الدولة الشمولية وسيادة الاقوى وليس الافضل، الذي قاد الى فكرة “التمركز الأوربي” ونمو الدكتاتوريات واستمرار الحروب وتصنيع الثقافة التي انطبعت في اخلاقية الانسان الاقتصادي ومعاييره النفعية بحيث اصبح المال والقوة هما مقياس النجاح والتقدم في الحياة.( 3) ومع ذلك، يجب التمييز بين المواقف الرافضة تماما لأفكار عصرالتنوير، كما جاءت عند رواد ما بعد الحداثة ومن بينهم ميشيل فوكو، وتلك التي تنتقده لتطويره، بأعتباره مشروع لم يكتمل، كما عند يورغن هابرماس. فالافكار التي جاء بها عصر التنوير اعطت للعقل والحرية والتجربة دورا أهم بالقياس الى التقاليد، وهو ما مكن الشعب من ان يتحرر والفرد من ان يحصل على استقلاليته والمجتمع من ان يتقدم بأطراد.” فالأنوار ما زالت معاصرة لنا وتشع بنورها علينا. ورغم بعض الغيوم التي تلبد سماءنا، فاننا تلاميذ هذا العصر العقلاني الفريد حتى عندما ننتقده”(4).

المصادر:

1-Poper, K, R, Immanuel Kant, Der Philosopfh der Aufklaerung. Suhrkump, Frunkfurt, 1992,s. 336- 337. 2-Kant, A. Beantwortung der Frage, Was ist, Aufklaerung, Kant Werke, Bd , 3, Berlin 1900, s. 35 ff. باربارا باومان وبريجيتا اوبرلة، عصور الادب الالماني،(ترجمة)، عالم المعرفة، رقم 278، الكويت 2002، ص.132 3-Horkheimer u. Adorno, Dialektik der Aufklaerung, Fischer Verlag,Frankfurt,1982, S.IX 4- Jurgen Habermas, Der Phhlosophische Diskurs der Moderne, Surkampf,Frankfurt,1991

..————————-

إجابة عن سؤال: ما هو التنوير ؟ – إمانويل كانط / ترجمة: عبد الله المشوح فلسفة 09/06/2015 0

“فرسخ في الأذهان أن كل ما هو فلسفي – علمي ركيك وماهو أدبي – فقهي بليغ، بل اعتبر الكثيرون أن الركاكة دليل قاطع على أن المضمون دخيل مستورد وأن البيان دليل الأصالة.” “كان أساتذتنا الفرنسيون الذين تدربوا هم على النقل من اليونانية واللاتينية إلى الفرنسية، يقولون لنا: في الترجمة لا بد من الاختيار، إما الوفاء للمعنى مع ركاكة الأسلوب، وإما البلاغة والبيان مع خيانة النص شيئاً ما.” عبدالله العروي – الايديولوجيا العربية المعاصرة التنوير هو إنعتاق المرء من حالة العجز الذاتي. العجز هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون توجيه الآخر. اذا لم يكن سبب هذه الحالة، من عدم النضج الذاتي، هو نقص في ملكة الفهم، فهو بالأحرى، نقص في الشجاعة والاقدام لإستخدامها دون إرشاد الاخر. لذلك، يكون شعار التنوير إذن: تحلّ بالشجاعة لإستخدام عقلك بنفسك. إن العجز والكسل، هما السبب، وراء إنقياد هذا الحجم الكبير من البشر، على الرغم من أن الطبيعة حررتهم دائماً من اي قيادة دخيلة، الا انهم يبقون، بسعادة، عاجزين طوال حياتهم. وللأسباب ذاتها، يكون من السهل جداً، للآخرين ان ينصّبوا انفسهم قادة ومرشدين. انه من المريح جداً، أن لا تكون ناضجاً! اذا كان لدي كتاب يفهم عني، مرشد روحي استبدل به ضميري، دكتور يضع لي خطة غذائية، وهكذا، لن اكون بحاجة لبذل اي مجهود. لست بحاجة إلى التفكير، ما دمت قادراً على الدفع؛ سيتكفل الاخرين، بالنهاية، بهذه المهمة المتعبة. الحرّاس الذين اخذوا، وبلطف، على عاتقهم مهمة التوجيه، سيحرصون على أن تكون النظرة، التي تنظر بها البشرية كلها، إلى خطوة التقدم نحو النضج، على انها ليست فقط صعبة، ولكن ايضاً، خطيرة. بعد أن سحروا حيواناتهم المدجنة، ومنعوا بحذر، الكائنات المنصاعة، من التجرؤ على اخذ خطوة واحدة، بعيداً عن حبال القيادة التي رُبطوا بها، عليهم الآن أن يظهروا لهم الأخطار التي تحدق بهم، إذا ما حاولوا المشي، بلا مساعدة. ليس هذا الخطر عظيماً بطبيعة الحال، إذ أنهم سيتعلمون المشي في النهاية، بعد بضع سقطات. لكنّ مثالاً من هذا القبيل يبدو مرهباً، وغالباً ما ينجح في اخافتهم، عن اخذ خطوات اخرى. مع ذلك، انه من الصعب على الفرد ان يشقّ طريقهُ لوحده من حالة عدم النضج هذه، التي اصبحت طبيعة ثانية له. اصبح معجباً بها، ونراه بالفعل عاجز عن استخدام فهمه الخاص في الوقت الحالي، لأنه لم يُسمح له ان يقدم على هذه التجربة من قبل. ان العقائد والدوغمائيات، هذه الأدوات الميكانيكية للإستخدام العقلاني (او اللاعقلاني ربما) لهباته الطبيعية، هي الاغلال والسلاسل لقصوره الدائم. وإذا ما استطاع أحد ان يرمي عنه هذه الاثقال، فإنه سيظل متردداً حول القفز، ولو فوق اتفه الصعوبات، لأنه لن يكون معتاداً على هذا النوع من التحرك الحرّ. مع ذلك ثمة قلّة، من خلال صقل عقولهم بأنفسهم، نجحوا في تحرير أنفسهم من حالة القصور، والإستمرار بشجاعة في طريقهم. إن الفرصة أكبر في أن ينور المجتمع نفسه، هذا الأمر حتمي، إذا ما ترك المجتمع المعني في حرية. سيكون هناك دائماً قلّة يفكرون بأنفسهم، حتى ضمن أولئك المعينين كأوصياء على عامة الناس. أمثال هؤلاء الأوصياء، ما ان يتخلصوا بأنفسهم من عبودية العجز، حتى يبدأو بنشر روح الاحترام العقلاني للقيمة الذاتية، وبواجب كل رجل على ان يفكر بنفسه. المدهش في هذا، هو انه اذا ما قُدّر للجمهور، الذي وضع تحت هذه العبودية من قبل الأوصياء، ان يتم تحريكه بالشكل المناسب من قبل الاوصياء العاجزين عن التنوّر، فإن هذا قد يؤدي بشكل عكسي الى اجبار الأوصياء أنفسهم، على البقاء تحت هذه العبودية. انه لمن المؤذي جداً خلق التعصبات، لأنها تنتقم لنفسها، في النهاية، من أولئك الذين شجعوها اولاً (او من ورثة من فعلوا ذلك). لذلك، لا يحقق الجمهور التنوّر إلا ببطئ. قد تضع الثورة نهاية للحكم الأوتوقراطي المطلق، او للاستبداد الجشع الباحث عن السلطة، لكنها لن تنجح ابداً في خلق إصلاح حقيقي في طرق التفكير. بالأحرى، تعصبات جديدة، مثل تلك التي استبدلت، ستخدم كسوط للتحكم في الغالبية العظمى، اللامفكرة. لتنوير من هذا النوع، كل ما هو مطلوب هو الحرية. والحرية المرجوة هنا، هي احمد الحريات، الاستفادة العامة من عقل الفرد في كل الأمور. لكنني اسمع الصراخ في كل الاتجاهات: لا تجادل! يقول الشرطي: لا تجادل، وانتظم! مسؤول الضرائب: لا تجادل، ادفع! الواعظ: لا تجادل، آمن! (فقط حاكم واحد في هذا العالم يقول: جادل كما تستطيع وفيما تشاء، لكن اطع!) كل هذا يعني تقييد للحريات في كل مكان. ولكن اي نوع من التقييد يمنع التنوير، وايها، بدلاً من ان يعيقه، يستطيع بالأحرى، ان يعززه؟ أنا أجيب: الإستخدام العام لعقل الإنسان يجب ان يكون متاح دائماً، وهو وحده القادر على تحقيق التنوير بين البشر؛ الإستخدام الخاص للعقل قد يكون، غالباً، مقيداً بشكل محدد، ولكن، بدون عائق لا مبرر له لتقدم التنوير. ولكن بالإستخدام العام لعقل الفرد، اقصد ذلك الاستخدام الذي قد يعتبره اي احد، ما يفعله المثقف عندما يخاطب كل الجماهير القارئة. ما أسميه الإستخدام الخاص للعقل، هو ما قد يستخدمة الفرد في المنصب المدني او المكتبي الذي اؤتمن عليه. الآن في بعض الشؤون التي تؤثر على مصالح عامة الشعب، نحن بحاجة الى آلية محددة، يكون بموجبها، واجباً على بعض اعضاء المجتمع العام، التصرف بطريقة آلية صرفة، ليكونوا بذلك، ومن خلال اتفاقية عامة مصطنعة، موظفين من قبل الدولة لمصالح عامة ( او على الاقل ليمنعوا من تعطيلها). انه بالطبع، لمن غير المسموح الجدال في مثل هذه الحالة؛ الطاعة واجبة. ولكن اذا ما كان هذا الفرد الذي يتصرف كجزء في هذه الآلة يعتبر نفسه ايضاً جزءًا من مجتمع عام متكامل او حتى مجتمع كوني، وبالتالي، رجلاً متعلماً قد يخاطب، من خلال كتاباته، المجتمع العام بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فإنه قد يجادل من دون ان يعيق المصالح التي وظّف من اجلها، لبعض الوقت، بطريقة آلية. لذلك سيكون من المؤذي جداً لو أن ظابطاً، يتلقى أمراً من من هم أعلى منه رتبة، أن يجادل بشكل مفتوح، وهو في وقت خدمته، حول مناسبة او فائدة الأمر المطروح. يجب عليه ببساطة أن يطيع. ولكن لا يمكن أيضاً منعه من الملاحظة، كرجل متعلم، للأخطاء الموجودة في الخدمة العسكرية، ولا من إظهارها لمجتمعه ليحكم عليها. المواطن لا يستطيع ان يرفض دفع الضرائب المفروضة عليه؛ إن الانتقاد الوقح لمثل هذه الضرائب، عندما يستدعى أحد لدفعها، قد يعاقب على انه إنتهاك قد يؤدي الى عصيان عام. مع ذلك، لا يكون هذا المواطن منتهكاً لواجباته المدنية اذا ما، وكإنسان متعلم، جهر بأفكاره أمام الجمهور حول مناسبة أو حتى ظلم هذه المقاييس المالية. وبنفس الطريقة، ان الواعظ مجبر على توجيه مريديه وجماعته بما يتناسب مع مذهب الكنيسة التي يخدمها، لأنه وظف لديها بهذا الشرط. ولكن كدارس، لديه الحرية الكاملة، وكذلك الواجب بأن ينقل الى الجمهور كل ما يتم اعتباره بعناية، والافكار ذات النوايا الصادقة حول الجوانب الخاطئة لهذه المذاهب، وأن يقدم المقترحات لتدبير افضل لهذه الشؤون الدينية والكنسية. لا شيء من هذا يستدعي انزعاج الضمير. لأن ما يدرسّة في سعية لإكمال واجباته كخادم نشط للكنيسة يقدم من قبله كشيئ ليس بمقدوره ان يدرسّة باختياره، ولكن كشيئ تم توظيفه ليشرحه وفق طرق محددة وبإسم أحد آخر. سوف يقول: كنيستنا تخبر كذا وكذا، وهذه هي الحجج التي تستخدمها. ثم يقوم بعد ذلك بإستخراج أكبر قدر ممكن من القيم العملية، ووفق تعاليم هو نفسه لا يتخذها بإيمان وخضوع تام، ويمكنه على الرغم من ذلك ان يقوم بشرحها، بما انه ليس من المستحيل، انها قد تحمل، الحقيقة بين طياتها. في كل الحالات، لا شيئ يتعارض مع الأساس الحقيقي للدين حاضر في مثل هذه المعتقدات. لأنه اذا ما اعتقد الواعظ أن بإمكانه ان يجد اي شيئاً فيها من هذا القبيل، لما استطاع ان يكمل واجباته الرسمية بضمير مرتاح، ولأضطر للإستقالة. لذلك إن إستخدام العقل الذي يقوم به من وظف للوعظ في ظل حضور جماعته هو استخدام خاص، بما ان الجماعة، مهما يكن حجمها، لا تكون اكثر من تجمع محلي. لإستعراض هذا، انه لا يستطيع ان يكون حراً كقسيس، بما انه يتصرف وفق أوامر مفروضة عليه من الخارج. وعلى العكس، كدارس، عندما يخاطب الجمهور الحقيقي (والعالم اجمع) من خلال كتاباته، بالإستخدام العام لعقله، يتمتع الواعظ بحرية لا محدودة لإستخدام منطقه الخاص وليتحدث بشخصه. ان الابقاء على الأوصياء الروحيين للناس، في حالة عدم نضج، لهي حماقة تؤدي إلى أن تبقى السخافات دائمة. ولكن إذا ما كان لمجتمع من الوعاظ، في مجلس كنسي على سبيل المثال او مجلس مبجل (كما يقول الهولنديون)، الرغبة في أن يلزم نفسه بالقسَم لمجموعة غير قابلة للتغيير من المعتقدات، ليؤمّن بذلك الوصاية الأبدية على كل الأعضاء، ومن خلالهم على الناس جميعاً؟ انا اجيب بأن هذا شبه مستحيل. إن تعاقداً من هذا النوع، يحمل رؤية تمنع التقدم في التنوير على البشرية كلها للأبد، هو بلا شك فاسد وملغي، حتى ولو صودق من قبل السلطات العليا، والتشريعات الإمبراطورية وحتى اكثر معاهدات السلام جلالاً. لا يستطيع جيل، ان يتخذ تحالفاً تحت القسَم، ليضع الجيل اللاحق في موقف يكون فيه من المستحيل عليه أن يمدد و يصحح معرفته، تحديداً في مثل هذه المسائل الهامة، او ان يحقق أيّة تقدم في سبيل التنوّر. هذه ستكون جريمة في حق الطبيعة الإنسانية، التي يرتبط مصيرها الأصلي تحديداً في هذا التقدم. لذلك من حق الأجيال القادمة ان تصرِف هذه الإتفاقيات وان تعتبرها غير مصرّحة ومجرّمة. لكي نختبر اذا ما كان اي مقياس قابل للإتفاق عليه كقانون للشعب، ما علينا الا ان نسأل اذا ما كان الشعب قادراً على فرض مثل هذا القانون على نفسه. هذا قد يكون ممكناً لفترة قصيرة كطريقة لتقديم قانون جديد، بإنتظار، اذا ما جاز التعبير، حلاً أفضل. هذا ايضاً قد يعني ان كل مواطن، وتحديداً الواعظ، يملك حرية التصرف كدارس، للتعليق العام، في كتاباته، على عدم صلاحية المؤسسات الحالية. في هذه الأثناء، سيبقى القانون الجديد قائماً، حتى تكون النظرة العامة لطبيعة هذا القانون، قد تطورت وأثبتت نفسها لدرجة يكون فيها، بالموافقة العامة (ان لم تكن الكاملة)، القانون، قابلاً للرفع إلى العرش. هذا سيسعى الى حماية الجماعة، التي، على سبيل المثال، وافقت على تغيير نظامها الديني، بما يتوافق مع أفكارها الخاصة، حول طبيعة البصيرة العليا، لكنها لا تحاول ان تمنع اولئك الذين ارادوا ان تبقى الأمور كما هيّ. لكنه من الغير المسموح إطلاقاً، الموافقة، ولو لحياة واحدة فقط، على دستور ديني دائم لا يحق لأحد مسائلته بشكل علني. لأن هذا قد يقوّض عملياً مرحلة من مراحل التطور التصاعدي للإنسان، بالتالي لن يكون مثمراً، بل وحتى ضاراً بالأجيال اللاحقة. يحق للمرء ولنفسه فقط، وفوق ذلك لفترة محدودة، ان يؤجل تنوير نفسه في مسائل تجب عليه معرفتها. لكن إنكار هذا النوع من التنوير كلياً، سواء لنفسه، او حتى أكثر من ذلك، للأجيال اللاحقة، يعني الإنتهاك والدعس على الحقوق المقدسة للبشرية. ان امراً لن يقبل الشعب فرضه على نفسه، ليس من الممكن ايضاً، ان يفرض عليه من قبل السلطان؛ لأن سلطته التشريعية تعتمد تحديداً على توحيده للرغبة الجماعية للشعب في مملكته. طالما يحرص على أن تكون كل الإصلاحات الحقيقية والمتصوّرة في توافق مع النظام المدني، بإستطاعته أن يترك رعاياه، ليفعلوا كل ما يجدونه ضرورياً من اجل خلاصهم، وهو ما لا شأن له به. ولكن من شأنه، ان يوقف اي أحد، يمنع الآخرين بالقوة من أن يفعلوا افضل ما بوسعهم ليحددوا وليروجوا لخلاصهم. إنه بالفعل ينقص من جلالته إذا ما تدخل في هذه الشؤون من خلال اخضاع هذه الكتابات، التي يحاول رعاياه من خلالها، ايضاح أفكارهم الدينية، للمراقبة الحكومية. هذا ينطبق إذا ما تصرف وفق آرائه الشخصية الرفيعة–التي في هذه الحالة تعرضه لعتاب: ليس سيزر فوق النحاة، ولكن اكثر من ذلك، إذا حط من سلطته الرفيعة، بدعم الاستبداد الروحي الممارس من قبل بعض الطغاة في حكومته ضد بقية الرعية. الآن إذا ما كان يسئل هل نحن في الوقت الحالي نعيش في عصر متنوّر، الإجابة هي: لا، لكننا نعيش في عصر تنوير. كما هي الأمور في الحاضر، لا زال أمامنا طريق طويل قبل أن يصبح الإنسان ككل في موقف (او أن يوضع ابداً في موقف) يستخدم فيه فهمه الخاص بثقة وبشكل جيد في المسائل الدينية، بدون وصاية خارجية. ولكن لدينا مؤشرات بارزة بأن الطريق الآن يتم اخلائه ليتم العمل بحرية في هذا الاتجاه، وان عوائق التنوير الكوني، لإنعتاق الإنسان من حالة القصور الذاتية، بدأت تقل تدريجياً. بهذه المناسبة إن عصرنا هو عصر التنوير، قرن فريدريك. ان أميراً لا يعتبره امراً دونه، أن يعترف، بأن من واجبه، في المسائل الدينية، عدم الزام شعبه بأي شيئ، ولكن أن يمنحهم الحرية الكاملة، ان اميراً كذلك، يرفض ان يقبل لقباً وقحاً، مثل متسامح، هو نفسه متنوّر. انه يستحق الثناء من قبل الحاضر الممتن، والأجيال القادمة، على انه الرجل الذي حرر البشرية من قصورها (هذا فيما يخص الدولة)، والذي ترك الناس أحراراً لإستخدام فهمهم الخاص في كل مسائل الضمير. تحت حكمه، يكون للشخصيات الكنسية، على الرغم من واجباتهم الرسمية، ان يقوموا بأريحية، كدارسين، بطرح أحكامهم وآرائهم ليحكم عليها العالم، حتى وإن كانت هذه تشذ هنا وهناك عن المذهب الارذوكسي. هذا ينطبق بشكل اكبر، على كل اولئك الذين ليسوا مقيدين بواجبات رسمية. هذه الروح من الحرية تنتشر ايضاً خارج البلاد، حتى عندما يجب عليها ان تصارع العوائق الخارجية، المفروضة، من قبل الدول التي تسيئ فهم وظيفتها. مثل هذه الدول تشهد الآن مثالاً ساطعاً، كيف للحرية ان توجد، دون أدنى تعرض للوفاق العام ووحدة عامة الشعب. سيقوم الرجال بأنفسهم، بالتدريج وبدون إكراه، بشق طريقهم من البربرية، طالما لا يتم تبني المقاييس الاصطناعية عمداً لإبقائهم فيها. لقد صورت مسائل الدين على أنها النقطة الرئيسية في التنوير، في إنعتاق المرء من عجزه الذاتي. هذا اولاً لأن حكامنا ليس لديهم اي اهتمام في لعب دور الأوصياء على رعاياهم فيما يتعلق بالفن والعلوم، وثانياً، لأن عدم النضج الديني هو أضر هذه التشكيلة واكثرها خزياً. ولكن الطريقة التي يتصرف بها عقل رجل الدولة الذي يفضل الحرية في الفن والعلوم يمتد الى ابعد من ذلك، إنه يدرك انه ما من خطر حتى على شرعيته، إذا ما سمح لرعيته أن تتمتع بحرية الإستخدام العام لفهمها الخاص وأن تضع أمام الملأ افكارها حول طرق افضل لسن القوانين، حتى إذا كان هذا يستتبع نقد صريح للتشريعات القائمة. أمامنا مثال رائع لمثل هذا، لم يسبق لحاكم ان تجاوز هذا الذي ندفع له امتناننا. ولكن فقط الحاكم المتنوّر بدوره، الذي لا يخشى الأشباح، ومع ذلك ايضاً، لديه تحت سيطرته جيشاً عظيماً ومنظبطاً ليضمن الأمن العام، يستطيع ان يقول ما لا تتجرأ الجمهورية على قوله: جادل كما تستطيع وفيما تشاء، لكن اطع! هذا يكشف لنا عن نمط غريب وغير متوقع في الشؤون البشرية (كتلك التي سنجدها دائماً اذا ما اعتبرناها في معناها العريض، ان كل شيء تقريباً متناقض). ان درجة اعلى من الحرية المدنية تبدو مفيدة لحرية الشعب الثقافية، ولكنها ايضاً تضع عليها حواجز لا تقهر. وعلى العكس، ان درجة اقل من الحرية المدنية تعطي الحرية الثقافية المساحة الكافية لتأخذ أوسع مداها. لذلك ما ان تتطور الجرثومة التي اوجدتها الطبيعة ليميل الانسان لندائه للتفكير الحر، داخل هذا الهيكل الصلب، حتى تبدأ بالتفاعل تدريجياً مع عقليات الشعب، والذين يصبحون، بالتالي، تدريجياً، قادرين على التصرف بحرية اخيراً، حتى انها تؤثر على مبادئ الحكومات، التي تجد انها، هي ايضاً، قادرة على الاستفادة، من معاملة الإنسان، الذي هو اكثر من آلة، بطريقة تتناسب مع كرامته.

كوينجسبرج/بروسيا 30 سبتمبر 1784: – إمانويل كانط