ثقافة

تحقيق ما للإلحاد من مقولة: رفْضُ الدين دليلٌ على عدم وجود الخالق؟

By nasser

June 01, 2018

تقديم وتعقيب على محاضرة ”الإلحاد نظرة وشهادة“

للمفكّر التونسي ”محمد المزوغي“

معهد رابطة آل صليبا جبيل في 12/12/2014

تقديم

هدم من أجل البناء

قبل أن أعرفه فيلسوفاً، ومفكّراً رائداً وفي طليعة المفكّرين العرب الحاليين عرفته أستاذاً وقارئاً وصديقاً ودوداً، وأكبرت فيه صدقه ووفاءه. وذكّرتني طيبته ومكارم أخلاقه بقاعدة فلسفية تقول: الأخلاق لا تبنى على الدين. وإنما الدين يبنى على الأخلاق. وعندما قرأته أعجبت بجذريته: صريح حتى الفضيحة، لا يوارب، ولا يساير، ملحد على رأس السطح، يدكّ عروش المتستّرين بالدين والمتاجرين به. وكم ذكّرني بقولة جبران:«أنا متطرّف لأن مَن يعتدل بإظهار الحق يبيّن نصف الحق، ويبقي نصفه الآخر مخفياً وراء خوفه من ظنون الباس وتقوّلاتهم».

محمد المزوغي، لا يهادن الدين ولا رجاله، ولا يهاب عنفاً ولا إرهاباً، وهو من أوائل مَن فضحوا الأصوليات وتنبّئوا بما ستوصلنا إليه، وها نحن نعيش اليوم نذراً من المخاطر التي حدّثنا عنها المزوغي، واعتبره بعضهم يومها مغالياً في توقّعاته.

كتبت له البارحة كلمة تتوسط الجدّ والمزاح، فقلت: محمد الأول حطّم أصنام مكّة، ومحمد الثاني حطّم أصنام الثقافة الإسلامية المعاصرة. أسماء كبيرة وشهيرة:محمد أركون، هشام جعيط وغيرهما أنزلها عن عروش تتربّع عليها منذ زمن طويل نزع أقنعتها وفضح زيف الكثير من طروحاتها، وأظهر فيها وجه الأصوليّ المتجلبب بجلباب العلماني والمفكّر العصري.

يدكّ الأسوار، لا يهاب في صرخة الحق لومة لائم. يهدم، فيذكّرني بِـ شيڤا في الثالوث الهندوسي براهما الخالق ڤشنو الحافظ، وشيڤا المدمر. فلا بدّ من هدم وجرأة على الهدم لإعادة الإعمار. يهدم ليشقع مدماكاً فوق مدماك، ولبنة إثر لبنة، فيبني عمارته الفلسفية. وكل كتاب من كتبه:كانط والأنوار، تحقيق ما للإلحاد من مقولة،… حجر زاوية في عمارة فلسفية لا أخالها إلاّ ستكون شامخة في يوم قريب. فهو صاحب مشروع فلسفي نهضوي يتبلور أكثر فأكثر مع كل كتاب يصدر.

البارحة سمعته في مؤتمر فلسفي يقول: الأديان تتنافر وتدحض بعضها بعض.

الأديان فن تسميم الشعوب بالغيبيات ويدعو إلى التخلّص من الدين تماماً كما حطّم حيوات ملايين البشر.

هذه المأساة ستقوى وتتجدّد والقضاء عليها لا يتمّ إلا بفسخ فكرة الإله التي ولّدها الرعب مقترناً بالجهل. ولم يتسنَّ له متّسع من الوقت ليعرض فكره ويشرح فلسفته، وهذا ما حفزني لدعوته إلى هذا المركز لأتيح أولاً له ما لم يتح بالأمس، ولأتيح ثانياً الفرصة للكثيرين ممّن قرأوا له أو سمعوا عنه أن يعرفوه وجهاً لوجه ويسمعوه مباشرة.

وقفة معاناة أمام الدين

لا أطمح في تعقيبي المختصر هذا على مداخلة صديقي د. محمد المزوغي أن أردّ أو أعلّق أو أفنّد كل ما قاله. جاء في سياق كلامه أنه صنف مؤلّفاً من نحو 450 ص لعرض الإلحاد وإثباته والدفاع عنه([1])، وهو بالتالي غير قادر على تلخيص كل ذلك في نصف ساعة من الزمن. إنها حالي تحديداً، فهل أستطيع في ربع ساعة قصيرة أن أتناول وقفته المؤثرة أمام الدين والإله ورفض الأول وإنكار وجود الثاني والتعليق على هذا الموقف الفلسفي والتعقيب عليه من كل جوانبه أو تفنيده؟! بالطبع لا. لذا أكتفي ببضعة خطرات وانطباعات.

الكائن الترنسندنتالي

وأسارع بداية إلى القول أنني لست بتاتاً في وارد أن أضع نفسي في موقع المدافع عن الدين، ولا عن الإيمان بوجود الله، فلا الجدل في هذه الأمور يستهويني لا سيما وأنني لا أقرّ بجدواه، ولا السجال من طبيعتي.

وأتوقف أولاً عند موقف المزوغي الإلحادي وطبيعته ودوافعه، ويلفتني بداية تعريفه للإلحاد، إذ يقول:«الإلحاد هو رفض الإيمان أو القول بوجود كائن متعالٍ Transcendental مهما كان هذا الكائنNégation de l’escistence d’un être transcendentale.

وإذ أوافقه تماماً عى هذا التعريف، ألحظ أن فيه يكمن الفرق كل الفرق بين أنظمة ثلاث:

– الدين، الفلسفة والتصوّف.

الدين والفلسفة كالنار والماء

يقول المزوغي إن الدين والفلسفة مثل النار والماء أي أنهما من طبيعتين مختلفتين متنافرتين فلا يمكن أن يلتقيا، وذلك خلافاً لما قاله هيغل وفلاسفة آخرون إذ اعتبروا أن لا فرق بين الفلسفة والدين فطموحهما واحد:المطلق l’Absolue.

ولا أخفي أنني أميل شخصياً إلى موافقة المزوغي في تمييزه بل تفريقه الواضح الجليّ بين الفلسفة والدين، فحتى لو سلّمنا جدلاً أن الهدف والطموح واحد: المطلق فالأداة والنهج مختلفان الفلسفة أداتها العقل ونهجها التفكّر. أما الدين فأداته والاعتقاد ونهجه التسليم بالوحي أو الكتب المقدّسة… الخ.

هل الفلسفة ملحدة بطبيعتها؟

أما قول المزوغي إن الفلسفة بطبيعتها ملحدة، فألمس فيه بعضاً من مغالاة. ويذكّرني بمبدأ فلسفي يقول:العقل الصحيح هو الذي لا يتعصّب للعقل. ولا يمكن أن نبرّئ المزوغي من تعصّب واضح للعقل، بل وللعقل الإلحادي المنكر للإله وجوداً وتجلّياً. وقد عرفت الفلسفة عبر تاريخها فلاسفة كباراً مؤمنين أمثال الأكويني وأوغسطينوس وابن سينا وغيرهم، فكيف نقول إنها بطبيعتها ملحدة. وبالمقابل فالقول المناقض أي أن الفلسفة بطبيعتها تقرّ بوجود الله لا يقلّ خطلاً عن نقيضه. ويلوح لي أن الفلسفة والعقل أداتها الأولى كما أسلفنا عاجزة عن أن تحسم القول في هذه الإشكالية الكبرى التي قضّت مضجع الإنسان مذ وعى ذاته ومصيره:الكائن الأسمى وتأكيد وجوده أو نفيه، وكثير من التأملات الفلسفية منذ بداية ظهور الفلسفة تدور حول هذه النقطة بالذات:الله وجوداً أم نفياً.

العقل يعجز عن الإثبات أو النفي، وهذا ما عبّرتُ عنه سابقاً بالقول:«براهين الفلسفة واحد يضرب الآخر ويعطّله، أعطني برهاناً على وجود الله، أعطك بالمقابل عشرة على عدم وجوده، والعكس صحيح»([2]).

وكم استغربت في مسيرتي الفكرية أن البرهان على وجود الله، يمكن أن يستخدم هو نفسه لدحض هذا الوجود.

ولكنني، ورغم كل ذلك، لا أنفي بالمطلق قول المزوغي ”أن الفلسفة ملحدة بطبيعتها“ فهي تقود دوماً إلى الإلحاد، فهذا الأخير مرحلة أساسية من مراحلها، فمن تفلسف أو أراد أن يتفلسف لا بدّ له من أن يمرّ بالإلحاد وإن لم يقف عنده وقوفاً نهائياً، ذلك كان اختباري الشخصي والذي عبّرت عنه بالقول:«الفلسفة، وكم أحببتها في صباي، رمتني في أحضان الإلحاد والتيار العبثي Absurde ضياع عبّرت عنه في ما أسميته رحلة من الإيمان… إلى الشك»([3]).

وقديماً قال علماء الإسلام وفقهاؤه:«مَن تمنطق شهراً، تزندق دهراً».

وبكلمة توجز وتكثف أقول:إن أنت أقلّه لم تلامس الإلحاد في مسارك الفكري، بقيت غريباً عن الفلسفة.

الكائن التجاوزي واختبار التجاوز

وأعود إلى تحديد المزوغي للإلحاد ونفي الكائن  الترنسندنتاليTranscendental. فإذا كان بمقدور المرء أن يختبر بنفسه التعالى أو التجاوز Transcendance.

فما القول في الاختبار هذا؟ إنه طريق آخر يتخطّى العقل والاعتقاد في آن. ولا يتبع سوى التجربة الصوفية أو الاستبطان الداخلي أو الاستبصار.. قد يستخفّ مَن يقدّس العقل ومَن يتبع الإيمان كلاهما بهذا الطريق، ولكن الموقفين الرافضين ليس من شأنهما أن يلغيا هذا الخيار ولا ازدرائه أو التقليل من أهميته. فلسنا في وضعية الاحتمال الثالث مقصى Tiers Exclu. فالعقل، لا سيما في عملياته الذهنية Mind يبقى محدوداً، وفرويد نفسه يقول: العقل البشري ضعيف وعاجز بالمقارنة مع الرغبات والغرائر البشرية، أما اليوغا فتقول العقل (الفكر Mind) محدود جدّاً مقارنة بألـFeeling الشعور والحدس.

اللاّإيمان موافق لطبيعة الإنسان

وما يستوقفني في إلحاد المزوغي أنه ليس مجرّد معرفة اتّباعية اكتسابية، بل معرفة تفكّرية تأمّلية وتصل أحياناً إلى مستوى المعرفة الاختبارية.

ويعبّر عن ذلك قوله: خيار اللاّإيمان خيار موافق لطبيعة الإنسان، وأفهم من قوله هذا أنه خيار موافق لطبيعته هو ومنسجم معها.

فما يجذبني في شخصية هذا الصديق أنه منسجم مع إلحاده صادق فيه وغير متصنّع. بل أكاد أقول لا يمكنني أن أتصوّره إلاّ ملحداً، فلو كان مؤمناً بأي دين لفقد العفوية والطبع والسليقة، وهي بمجملها أساس سحره وكاريسمه. المزوغي منسجم مع إلحاده يتفاعل معه تفاعلاً اختبارياً عميقاً، وكون إلحاده فعل أكثر مما هو ردّة فعل يجعل منه جزءاً أساسياً لا يتجزأ من شخصيته أي طبيعته، ويجعله متصالحاً مع ذاته لا في غربة أو اغتراب عنها، ويعبّر عن ذلك قوله:الإلحاد يُشعر الإنسان بالسعادة وقوله الآخر، تربح راحتك وسعادتك متى أيقنت أن لا إله ولا أعرف لمَ أميل بإصرار إلى الأخذ بأقواله هذه على وجه التخصيص (انطباقها عليه هو) وليس التعميم.

الاختبار الصوفي خيار ثالث!!

وهذا الجانب الاختباري أو بالحري إغفاله أراه الثغرة بل الفجوة الأساسية في منظومة المزوغي الفكرية والفلسفية. فهو أمام ثنوية الفلسفة والدين لا يتردّد في اختيار الفلسفة، ولكنه يسقط الخيار الثالث من أي حساب: أي التصوّف Mystique أو اليوغا، وأداته الاختبار.

يستوحي المزوغي عنوان كتابه ”تحقيق ما للإلحاد من مقولة“ بل يأخذه مباشرة عن البيروني في تحقيق ما للهند من مقولة فليته أخذ عن هذا الأخير شيئاً عن الهند. ففكر الشرق الأقصى وفلسفته غائبان عن منظومته الفلسفية، أو مغيّبان تماماً. ويكاد عرضه ينحصر في ثقافتين على خطورتهما وأهميتهما:الغرب بمختلف جذوره وتيّاراته والإسلام. ونكاد لا نجد شيئاً عن الشرق الأقصى على الرغم من أن لهذا الأخير موقف آخر، ورؤيا أخرى مميزة ومختلفة تماماً.

ولكن الاختبار الصوفي ليس ميزة الشرق الأقصى وحده، وإن كان هذا الأخير أكثر تركيزاً من سائر الثقافات عليه. لا بل إن مفهوم الهند والشرق الأقصى عموماً للدين يختلف اختلافاً بيّناً عن مفهوم الديانات الإبراهيمية والغرب له ففي الهند والهندوسية:ما يهمّ ليس ما يعتقده الإنسان ويؤمن به، بل ما يختبره.

Ce qui importe chez l’homme ce n’est pas ce qu’il croit mais ce qui’l expérimente([4]).

الحقيقة هي كل شيء، ولا شيء في آن

والصوفيون باختباراتهم المتشابهة يقرّبون بين الأديان بينما يباعد أهل اللاهوت والعقائد بينها.

ويميّز أهل التصوّف على اختلاف مدارسه بين الإيمان (الاعتقاد بالغيبيات وبما لايمكن برهانه) والعرفان أي الاختبار المباشر. الإيمان بالله أو اختباره عبر التخطّي Transcendance والوعي الصافي. ففي التخطّي اختبار مباشرة للمطلق ووقفة أصيلة إزاءه. وكثيراً ما يتماهى في هذا الاختبار اللاشيء وكل شيء، الفراغ واللامتناهي. تقول مَا أنندا مايي Ma Ananda Mayi (1896 – 1982) كبيرة حكماء الهند في ذلك «الحقيقة هي كل شيء، ولكنها لا شيء كذلك. فيمكنكم أن تسمّوها واحدة. اثنتين، أو متعدّدة، أو حتى لا متناهية، فكلّها أسماء صحيحة»([5]).

اللامتناهي واللاشيء واحد، الحضور الكلي والغياب الكلي مترادفان. اختبار المطلق أو اختبار العدم متساويان، وجهان لاختبار واحد، تقول أنندامايي في ذلك:«حتى الشعور بغياب الله هو تجلٍّ له كي نعي حضوره»([6]).

وكم عبّر الصوفية واليوغيون عن اختبار المطلق باختبار العدمShunia أو الفراغ Vacuité. فاللامتناهي Infinie يصغر أو يكثّف إلى نقطة Point أي ما لا حجم ولا كمّ له، والمطلق واللاشيء واحد.

تقول ما أنندا مايي معبّرة عن هذه الحقيقة «العليّ يمكن أن يكون كل شيء ولا شيء إطلاقاً»([7]).

وتخلص أنندا مايي في النهاية إلى التأكيد وبجرأة تامة أن القول بوجود الله وبعدم وجوده سيّان، فلا فرق عند السالك:«قل هو موجود أو غير موجود أو أنه ما بعد الوجود واللاوجود، أو حتى أنه أيضاً أبعد من كل ذلك»([8]).

ولن أطيل أكثر، حسبي القول أن الإلحاد متى جاز إلى مستوى الاختبار قرب من الاختبار الصوفي أو أقله أمكنه فهمه. ولا يغربنّ عن بالنا أن في أنظمة الفلسفة الهندية نظام ملحد تماماً هو السانخيا، وقد تناوله البيروني في التحقيق بالعرض والشرح، وليت المزوغي عاد إليه. وكذلك فبوذا ملحد والبوذية وإن اعتبرها أكثر الناس ديانة فهي ملحدة، ولا تؤمن بإله.

البشرية تربح أكثر مما تخسر بالتحرر من الدين

أصل إلى موقف المزوغي من الدين، فإنكاره الجازم لوجود الله يقوده حتماً إلى ثورة عارمة ومتأججة على الدين. فيدعو إلى «التخلّص من الدين تماماً كما حطّم حيوات ملايين البشر» وإلى:«تخليص الناس من الهلوسات الدينية». ويؤكد أن «الأديان فن تسميم الشعوب بالغيبيات» وهو هنا يذكّر بكارل ماركس القائل:«الدين أفيون الشعوب». ويكرّر أن «الأديان تتنافر وتدحض بعضها بعضاً» ما يذكّر بقول محمد بن زكريا الرازي أن تناقض الأديان دليل على تهافتها وبطلانها جميعاً.

ويخلص المزوغي إلى أن الظاهرة الدينية مجموعة من الخرافات للسيطرة على عقول الناس، وبالمقابل فالعقلانية تقودك إلى الإلحاد.

ولا أستغرب هذه الثورة، وقد جاءت نتيجة طبيعية عنده للإلحاد في حين تأتي عند آخرين شعلة وبداية نحو هذا الأخير.

وفرويد بنتيجة بحثه في الدين، ولا سيما في كتابه الطوطم والحرام أكّد أن البشرية تربح أكثر ممّا تخسر إذا ما تحرّرت من عبء الدين ودعا إلى استبدال الدين بالنشاط العقلي.

أما فريدريك نيتشه فرأى أن الديانات دموية بطبيعتها، فلا مفرّ مع الأديان من الحروب. ولست أخالف صديقي المزوغي في أن الديانات تفرّق البشر وتزرع الشقاق بينهم لتحصد الحروب، ولكنني أودّ أن أتوقّف عند مفهوم يوغيّ للدين يقول: الدين أن تأخذ عن اختبار الآخر وتأخذ به. والتصوّف أن تختبر بنفسك. وقد دعا بوذا وقبله حكماء اليوغا إلى التدرّج من المعرفة الاكتسابية (الدين) إلى التفكّرية (قد تكون الفلسفة) فالاختبارية (التجربة الذاتية).

التصوّف يتجاوز الأديان

والدين بوجه ما استخدام للاختبار الصوفي ومحاولة لشرحه وتوظيفه. يقول المفكر والفرنسي لوي بوردي في ذلك:«لولا الحدوسات الصوفية التي ميّزت بعض الأشخاص المحظوظين، لما وجدت الأديان. ففي باطن كل ديانة نجد رسالة صوفية. وكل ديانة تفترض التصوّف. ومع ذلك يبقى أكثرنا تديّناً يجهل الحالات الصوفية»([9]).

وكأنني بِـ بوردي قد وضع الإصبع على الجرح فأهل الأديان ورجالاتها والمستفيدون منها، بعيدون كل البعد عن التجربة الصوفية التي كانت في أساس كل دين. وفي هذا الجانب تكمن أكثر أسباب التفريق والتباعد بين الناس ودور الأديان الحاسم في ذلك. ومتى أفرغ الدين من مضمون صوفي اختباري، وهذه حال أكثر الأديان في أيامنا بل كلّها، قصر على الطقوس والعقائد، وقد كانت هذه دوماً عامل تفريق وشرارة تفجير.

أفهم ثورة المزوغي قلت، وأتفهّمها، والأديان ستبقى حقل ألغام وقنابل موقوته، قابلة للانفجار في أية لحظة. وأوافقه رفضه القاطع لمقولة محمد أركون:«الدين هو الرأسمال الرمزي للشعوب». وتأكيده أن «العلمانية تحمي المجتمع من سطوة الدين وتحمي الدين».

مصيبتنا تقديس الأشياء

وأطرب حتى النشوة لقوله:«لا أقدّس الرجال، فتقديسهم يدمّر حياة الناس» ومصيبتنا الكبرى في الشرق هي تقديس الرجال والأشياء وجعلهم أصناماً، والمزوغي في هذا الجانب هو فعلاً محطّم أصنام.

وأذكر هنا قولاً للفيلسوف والحكيم الهندي كريشنا مورتي يتهكّم فيه على ظاهرة التقديس:«أخذت منذ سنوات بدافع التسلية صخرة صغيرة من حديقتي ووضعتها على رف ولعبت بها، حاملاً لها الزهور كل يوم. وبعد انقضاء شهر غدت جدّ مقدّسة»([10]).

الإلحاد يحلّ مشاكل ويولّد أخرى

ولا أرى مفرّاً من أن ألحظ أنه إذا كان الإلحاد إنكار وجود كائن متعالٍ يحلّ عقداً ومشاكل فكرية وفلسفية، فهو يعقّد أخرى. وأبرزها مسألة الروح والحياة بعد الموت. وكلاهما موضع نفي قاطع عند المزوغي. فالإنسان مذ وعى وجوده وخشي المصير وهو في بحث دؤوب عن حياة بعد هذه الحياة، وعن عالم ما وراء هذا العالم. والحضارات القديمة من فرعونية ورافدية وفينيقية وغيرها شاهد بيّن على ذلك. فأن يتأكد للمرء أنه آيل إلى العدم ليس إلاّ، وأنه لا يخلد سوى بعض المفكّرين والعلماء في أفكارهم واكتشافاتهم، فذاك مدعاة أكيدة للإحباط عند أكثر الناس. ولسنا نحلم في هذه العجالة أن نقدّم أجوبة عن هذه الإشكالية الكبرى، والتي طالما حيّرت الباحثين والمفكّرين ولا تزال.

وختاماً، فما يشدّك في كلام المزوغي وخطابه هذا الجانب الإنساني الودود والشفّاف، والذي يلتقي فهي بكلّ العاملين لخير البشرية. وفي الاجتماع البشري لا مناص من التعدّدية، فالمهمّ ليس الالتقاء على الأفكار والعقائد، بل احترام حق الآخر في الاختلاف.. وفي البحث.

والشاعر العربي يقول:

ما دمت محترماً حقّي فأنت أخي

آمنت بالله أم آمنت بالحجر