العراق

احمد سعداوي: تخلصنا من صدام لكن الصدامية باقية..

By nasser

February 17, 2021

خلال هرجة ردود الأفعال على اللقاء التلفزيوني لإبنة صدّام، كنت أقرأ في كتاب “رأس المال، سيرة” لفرانسيس وين. مأخوذاً بالقدرة التحليلية للمؤلف وبلاغته العالية في الوصف، بما يضيء جوانب متعدّدة من رحلة الفليسوف العظيم كارل ماركس مع كتابه الأثير “رأس المال”. . هناك أشياء كثيرة علقت في ذهني من الكتاب، ربما تساعدني على قراءة “رأس المال” نفسه فيما بعد. ولكن، من أعمق الملاحظات هي تلك التي تتعلّق بطبيعة قراءة ماركس نفسه. وكيف أنه رغم شهرته المتصاعدة، مع انتصارات الثورات الشيوعية في أوربا والعالم، إلا أنه لم يكن قد قرئ بشكل جيّد بعد.

لقد قرأ لينين وماو تسي تونغ وآخرين ما يريدونه من رأس المال، ولم يصلوا أو لم يرغبوا بالوصول الى حالة من الاستيعاب الشامل لرؤية وفلسفة ماركس، حسب رأي فرانسيس وين.

كانوا يصورون ماركس وكأنه صوت الشيطان!

كما أن الجبهة المضادة، الرأسمالية، تعاملت مع ماركس على أنه صوت للشيطان. وهكذا، كانت هناك قراءة متحيّزة من الجانبين، اختزلت ماركس وروّجت لصورٍ استهلاكية عنه، حجبت القيمة الحقيقية للجهد الفلسفي لهذا الفيلسوف. . القراءة الفعلية جاءت فيما بعد. حينما لم يعد ماركس صورة ايقونية لتيارات سياسية أو معسكر دول اقتسمت العالم مع الرأسمالية، ومن قبل فلاسفة واقتصاديين [وليس من السياسيين].

ومن ذلك ما قاله الاقتصادي اليميني جود وانيسكي في العام 1994 : (لا ينبغي أن نسارع الى تهنئة أنفسنا على هزيمة ماركس، الى جانب الماركسية.

صحيح أن مجتمعنا العالمي أكثر سلاسة بكثير مما كان عليه في أيامه، لكن سيرورة التجديد ليست مضمونة.

وقوى الرجعة التي حدّدها على نحو صائب ينبغي أن يتغلّب عليها كلّ جيلٍ لاحق، وهذه هي المهمة الضخمة التي تواجه جيلنا الآن). .

معضلتنا مع صدام وأبنائه

من هذا المقتبس أحبّ أن أرجع الى معضلتنا اليوم، مع صدّام وأبنائه، وخلفائه الذين يحكموننا هم وأبناؤهم. إن معضلتنا هي أننا لا نفهم بشكل دقيق وشامل ما جرى في الماضي [ما جرى لنا ولآبائنا وأهلنا] ولذلك لا نملك رؤية واضحة عن لحظتنا الحاضرة، أو عن المستقبل.

لا تقدّم لنا الأهواء والعواطف والغرائز الجماعية أي مساعدة في الفهم، إنها تجعلنا سجناء الماضي لا أكثر. لا يكفي أن نقول أن صدّام شرير فحسب، وإنما أن نفهم هذا الشرّ ومن أين أتى، وما هي الظروف العامة المحيطة بهذا الشرّ لكي يكون بهذه البشاعة والرعب.

نحتاج الى القراءة والتأمل، وهي أشياء لا يقدمها مجرد التصفّح على مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما الكتب والأفلام الوثائقية. .

من ماركس والماركسية إلى ابنة صدام

لقد تخلّصنا من صدّام، ولكن “الصدّامية” ما زالت راسخة بجذورها في المجتمع العراقي، والصدّامية هنا لم يخترعها صدّام، وإنما ورثها من البيئة الاجتماعية (ذات الطابع الريفي/البدوي) ومن البيئة السياسية العراقية ما بعد سقوط الملكية، ثم أضاف إليها من “مواهبه” الشخصية لتغدو انموذجاً مهيمناً ترّبت عليه أجيال من قيادات وأفراد سلطته القمعية، وما هو أهم وأكثر تعقيداً؛ تربّى عليه المجتمع، و معارضوه السياسيون.

قدّمت إبنة صدّام في الجزء الثالث من مقابلتها مع “العربية” المبرّر لسلسلة المقابلات هذه؛ ألا وهو إصدار كتاب. المقابلات إذن هي للترويج لكتاب سيصدر لها تتحدّث فيه عن عائلتها. ولكن، مثلما أخبرت مقدّم البرنامج بضرس قاطع بأنها لن تكشف له عن أيّة أسرار، فمن المتوقع أنها لن تذكر شيئاً جديداً غريباً في كتابها المنتظر.

هل هناك شيء غريب ومثير يمكن أن تقوله الإبنة الكبرى لصدّام؟ نعم، هناك كوارث يمكن أن تكشف عنها، ولكنها التزاماً منها بالصورة المروّج لها في الاعلام العربي عن صدّام، فهي ستبقى خادمة لهذه الصورة، وتقمع موقفها الفردي كانسانة تجاه هذه الدراما الكبرى التي كانت فيها بجوار صدام وتحت سطوته.

لا توجد أي قيمة معلوماتية في المقابلات، وكانت مجرد ترويج لكتابها القادم، كما قلنا، والذي سيخلوا غالباً من إضافة مهمّة على قصّة صدام والعراق، وقصّتنا مع هذه العائلة الدموية. إنها تستمر في بثّ شيء يشبه ما كانت تقوم به وسائل اعلام النظام السابق، لا أكثر. ترويج صورة بلاغية مزيّفة، وحجب الحقيقة وخنقها بشكل كامل. . من دون تفكيك “الصدّامية” بالأدوات المعرفية، فإنها ستبقى حيّة معنا، وهي حيّة نراها في الشارع، وفي أعمال الجماعات المسلّحة، وفي الحجّة العقائدية والسياسية الجاهزة التي تسترخص دماء الناس، وفي النظر الى حالة الدولة على أنها في حرب كبرى مفتوحة، وأننا كلّنا مشاريع استشهاد وتضحية.

ستستمر الصدّامية معنا، ما دام القادة والسياسيون يخبروننا أن “المبادئ” أهم من الدماء، والمفارقة السوداء أنها دائماً “مبادئهم” التي تخدم مصالحهم، وهي دائماً دماؤنا نحن. . ستنسون المقابلة مع إبنة صدّام، ولكني لن أنسى قراءتي لهذا الكتاب الرائع،

رأس المال/سيرة/ فرانسيس وين انصحكم بقراءته، هناك نسخة منه على الانترنت. .