فلسفة

سبينوزا و الفتوحات الأولى للتحليل النفسي

By nasser

April 21, 2021

عبد العزيز سليمانيضمن محاولته لعقلنة الوجود كله، وانطلاقا من مبدأ الضرورة و الحتمية التي تسيطر على كل مفاصل الوجود، فإن سبينوزا يصل أخيرا إلى فهم متطرف لم يسبقه إليه أحد من قبل. فالعالم كله عبارة عن شبكة هائلة من العلاقات السببية الصارمة، تتنتظم كلها تحت سيطرة قوانين وعلل كلية ثابتة.

إنه عالم لا يمكن أن يوجد فيه أي مجال للإعتباطية أو الصدفة، وكل ماهو قائم الآن ليس سوى نتاج علاقات معقدة ومتواصلة وموغلة في القدم أوصلت الأمور بكل تنوعها إلى ما هي عليه الآن، وستبقى بنفس الوتيرة والنظام إلى الأبد.

فالطبيعة (الوجود) هنا تغدو موازية لمفهوم الإله، وتصبح قوانينها وعلاقاتها هي نفسها ارادة و خطط الله الكلية، و عليه فإننا نقف هاهنا أمام وجود واحد يحمل اسمين مختلفين فقط، ولذلك فإن إله سبينوزا المشهور في تاريخ الفلسفة، والذي صرح اينشتاين نفسه بإيمانه بهذا الإله، لايستطيع خرق هذه القوانين الأبدية بمعجزاته، لأن قوانينه الطبيعية هي نفسها ارادته الأبدية في الأصل وخطته الثابتة للوجود .

https://www.youtube.com/watch?v=yeLsXZITLWkرغم نفوري من الفلسفات الحتمية مثل هذه غالب الأمر، وأنا الذي أؤمن بالحرية المطلقة للفرد بطريقة متطرفة هي الأخرى، إلا أنني قد فهمت على الأقل السبب الحقيقي وراء تلك الحالة من الشعور بالراحة النفسية و الهدوء العقلي التي تحدث عنها (غوته) حين قرأ كتاب سبينوزا.

وربما أكثر جزء أصبح يهمني دون غيره ضمن كتاب (الأخلاق) لسبينوزا، هو الباب الرابع (في عبودية الانسان) والباب الخامس ( في حرية الانسان)، و الذي يجب على كل عالم نفس أو مهتم بالدراسات السيكولوجية أن يقرأه، حيث نجح سبينوزا إلى حد كبير في تجاوز ثنائية النفس والجسد المشهورة، ومهّد بطريقة عبقرية للنظريات النفسية المعاصرة.

فها هنا قد أصبحت النفس ولأول مرة في علاقة ديالكتيكية مع الجسد، بعد أن كانت منفصلة عنه منذ ديكارت، وبذلك فإنه لايمكن أن نفهم طرق تفكيرنا وأحوالنا النفسية و آلامنا ورغباتنا إلا عبر فهمنا لأجسادنا والقوانين المحركة لعالمنا الحسي والمادي من ورائها . بسبب هذه العبقرية والشجاعة المعرفية نال سبينوزا كل ذلك الثناء، فهو “أمير الفلاسفة” في نظر دولوز، و أما هيغل فقد صرح بوضوح أن الفلسفة إما أن تكون سبينوزية أو لاتكون.

يراهن سبينوزا على أن كل ماتعانيه النفس من ألام و رغبات غير مفهومة هو ناتج عن جهلها بجسدها، وحدود تفاعلاته وماضي خبراته الحسية، وبمجرد أن تدرك النفس العلل الحقيقية والأسباب الطبيعية التي أنتجت عواطفها ومشاعرها، المختلفة أحيانا حول نفس الشيئ، فإن كل تلك المشاعر السلبية ستزول من تلقاء نفسها.

إن سبينوزا يمهد لفلسفة تأملية وتحليلية صارمة تحلل كل عاطفة وشعور وفكرة، عن طريق الرجوع إلى الوراء، لتفهم كل تلك السلسلة من العلل الخفية التي صنعت تلك المشاعر والرغبات والعواطف والأفكار في البداية، وتنتهي إلى تأسيس نظرة باردة إلى العالم و أحداثه، بل إنها تؤسس لنظرة آلية و عقلانية غير مسبوقة للعالم وللانسان، بدليل أن سبينوزا كان يكرر دائما عبارته المشهورة : ” لاتسخَر ولا تتحسّر ولا تكره، ولكن إفهم “.لا يمكن أبدا تجاهل أن هذه الطريقة في النظر للعالم و بالأخص تلك الأسس في التحليل هي نفسها طريقة عمل التحليل النفسي عند “سيغموند فرويد” .

حيث ينطلق هذا التحليل من مسلمة مفادها أن كل تلك الحوادث والصدمات والمواقف التي نشهدها طوال حياتنا ( وبالخصوص في طفولتنا) لا تختفي في ساعتها إلا لتعود من جديد وتُدخل الاضطراب والخلل في مشاعرنا ورؤيتنا للعالم بعد ذلك، وأن رغباتنا المكبوتة بوصفها “حاجات بيولوجية للجسد”، لن تعدم وسيلة لمعاودة الكرة دائما للاشباع والتخفيف من حدتها ضمن صور عديدة و رموز و اشارات هائلة تغزو أحلامنا و أفكارنا بعد ذلك.

ولذلك فإن أهم الطرق لمعالجة كل هذه الفوضى النفسية من عُصابات وهستيريا، و شتى أنواع القلق والاكتئاب، هو بالعمل على النبش والحفر في العمق لتحديد المصدر الأول لكل هذه الأعراض السيكولوجية والجسدية الآنية، فهي اذا عملية رجوع بالمريض إلى الوراء في الزمن، وحثه على تذكر كل تلك الأحداث من جديد، ورصد كل ردود أفعاله ومشاعره حينها.

يزعم التحليل النفسي أنه بمجرد معرفة السبب الرئيسي وراء كل تلك الفوضى النفسية ( في الغالب هو سبب بيولوجي)، فإن كل تلك المشاكل والرضوض النفسية ستشفى وستزول تلقائيا، وحينها يتحرر الشخص من عقده القديمة، وهنا نجد نفس الحكمة السبينوزية تتكرر مجددا، وهي الفهم أولا، أي فهم الأسباب الحقيقية لمشاعرنا و عواطفنا السلبية.

لكن ما أوجه الاختلاف بين سبينوزا وفويرباخ؟

أن قصب السبق في أهمية الطبيعة بالنسبة لنشوء الاديان يعود لأسبينوزا بالتأكيد, وربما لمن قبله فلاسفة عديدين آخرين سابقين على سبينوزا لا يهمنا أمرهم في هذا المجال, لكن أوجه الاختلاف بين فيورباخ وسبينوزا كبيرة, فقد عمد سبينوزا في منطلقاته الفلسفية المستمدة من أيمانه الديني المطلق أن الطبيعة مخلوق ألهي بأرادة لا أنسانية ولا طبيعية في ثوابت قوانينها العامة, وهذا ما لا يعتمده فيورباخ في فلسفته وأعتباره  الطبيعة معطى وجودي أنطولوجي وجد هكذا ولا دخل للرب في خلقه وتصنيعه , بل يذهب فيورباخ أبعد من هذا في أعتباره الطبيعة سابقة على وجود الخالق, وبالطبيعة ومنها عرف الانسان أهمية الدين له في حياته, الذي هو من أبتداع مخيّلة الانسان في تصنيعه الاله من صفات الطبيعة قبل أدراكه صفات الخالق غير المحدودة خياليا فيما ورد منها في الكتب الدينية السماوية على لسان الانبياء والرسل.

أي أن الانسان عرف الطبيعة ووجوده بها كجزء منها قبل بحثه عن أهمية الدين في حياته, وفي الوجود الانساني كجزء من الطبيعة عرف الانسان معنى الاله وأهمية التدّين في حياته… والأله الخالق لا يستمد صفاته من طبيعة هو خالقها وتحمل جزءا يسيرا جدا من صفاته وقدراته الاعجازية التي لا يمكن تصورها كما وردتنا في الكتب الدينية وفي أحاديث ودعاوى نشر التدّين على لسان الانبياء والرسل عبر العصور….لهذا يكون القول أن الطبيعة هي الله في مجمل صفاته وقدراته الاعجازية في خرقه نظام الطبيعة بيسر وسهولة على أيدي رسله وانبيائه, هو رأي قاصر عاجز عن فهم قدرات الخالق من جهة ,وتغاضيهم عن محدودية الطبيعة ككيان موجود من صنع خالق, لايمكنه أن يخلق الطبيعة ندّا مكافئا له لا في الصفات ولا في القدرات من جهة أخرى, كما لم يضع الله كل مفاتيح أسراره بيد عدد محدود من الانبياء والرسل لكي يجعل من الطبيعة أو الانبياء ألها آخر ينازعه الربوبية على الارض.

والطبيعة في فلسفة فيورباخ هي طبيعة غيرعاقلة ولا واعية ولا تدرك ذاتها ولا قوانين الوجود الفاعلة الطبيعية الثابتة العاملة فيها, فالطبيعة لا أرادة لها في قبول أو رفض شيء أو اشياء هي لا تدركها ولا تتعامل معها الا بحيادية سلبية غير مدركة لها هي محط رقابة الله حسب تدينّ سبينوزا وفائدة الانسان منها أدامة بقائه في الحياة بما تقدمه الطبيعة له من غذاء وأسباب البقاء الاخرى.

كما نجد الطبيعة في فلسفة سبينوزا هي في تماس مباشر وعلاقة وثيقة مع الرب أكثر من وشائج وعلاقات الانسان التدينية بالخالق, علما أن الفارق بين الانسان والطبيعة بما لا يمكن قياسه, أن الانسان يتمايزعن الطبيعة بعلاقته أنه يمتلك وعيا أدراكيا عقليا في علاقته التعبدية الدينية بالله كعبد , ولا تمتلك الطبيعة تلك الميزات  الجوهرية الهامة الكبيرة عند الانسان, التي تجعل منها أقرب الى الله من الانسان أمرا لا يمرره الانسان بالقبول والرضا بسهولة……

كما يذهب فيورباخ الى أن الانسان وحده هو الذي يجعل من الطبيعة والأله شيئا واحدا…ليس بالمعنى الذي ذهب له سبينوزا في وحدة الوجود الذي يؤكد فيه أهمية الفصل بين الله والطبيعة من حيث الصفات المحدودة التي أودعها الخالق في الطبيعة, وكذلك في القدرات الاعجازية التي يمتلكها الخالق في تجريده الطبيعة منها وعلى رأسها أن تكون رغبة الخالق في خلقه الطبيعة بلا عقل أدراكي لها تعي فيه ذاتها ومحيط الكائنات من حولها كي لا تنفصم عرى تبعية الطبيعة للخالق ووصايته عليها من غيروعي وأدراك من الطبيعة في سر وجودها وفي تمام قوانينها العامة الثابتة وحاجتها الى الله في ارساله الانبياء والرسل لتعديل مسارات الشذوذ في انتهاكات بعض الشعوب لقوانين الطبيعة المستمدة قدسيتها من خالقها وواضعها فيها.

ومن المهم ذكره أن جميع صفات الطبيعة لاتمثل جميع صفات الخالق لها, فصفات الطبيعة مدرك نهائي محدود في المكان والزمان في حين تكون صفات الله غير مدركة في لا متناهي وكوني غير محدود عابر لفهمنا قانوني الزمان والمكان اللذان يحكمان أدراكنا الفيزيائي والانطولوجي للطبيعة بهما كوسيلة أستدلالية وليست كمواضيع أدراك غير قابلة لادراك العقل لها….الزمان والمكان في الفلسفة هما وسيلتا أدراك ومعرفة عقلية وتعبير عن الموجودات, ولكنهما ليسا موضوعين للادراك العقلي في تعامل الانسان فلسفيا معهما وحتى علميا.

ومساواة قدرات وصفات الطبيعة أنها تمّثل مجمل مواصفات الخالق تجعل الانسان يكتفي بعبادة الطبيعة في الارض الذي هو على تماس مباشر في معرفتها, ولن يكون بحاجة الى عبادة الله في السماء الذي يمتلك كل الصفات الاعجازية الالهية ماعدا أمكانية أن يظهرالله براهينه للانسان في تيسير فهمه وأدراكه له كما طالبه بذلك براتراند رسل في معرض دفاعه عن ألحاده,… وفي حال جرى تكافؤ وجود الطبيعة الارضية مع وجود الخالق المعبود في السماء ومقارنة أولوية وأحقية العبادة لأي منهما يكون الاختيار حتما للانسان في عبادته الطبيعة من حوله وليس عبادة الله في السماء.. وهذا ماتفعله معظم الديانات التي تنكر وجود الله مثل الديانة الشنتوية في اليابان, وعلى نطاق واسع نجده في البوذية والهندوسية والمانوية وغيرها من ديانات عديدة في عصرنا الراهن… المقدس في هذه الديانات هو الطبيعة أو جزء منها وكذلك قيم الخير والصلاح والمحبة والتسامح في الانسان, وهي أديان في معظمها تحّث الانسان على أيجاد تدينه الحقيقي في ذاته ونفسه وجسده وتفاعله الايجابي مع الطبيعة عن طريق الأخذ بالتسامي الروحاني نحو نزعات تصوفية دينية تستبعد الله عن عباداتها وطقوسها الدينية المستمدة من علاقة الانسان بالطبيعة وليس علاقته برب في السماء سيحاسبه على كل صغيرة وكبيرة أقترفها بحياته, كل هذا يجعل من الانسان موجودا متساميا يكون الدين فيه مكتفيا بنفسه وليس خارجيا عن ذاته يبحث عنه في الطبيعة أوفي ميتافيزيقا السماء…

كما أن فيورباخ لا يؤمن بوحدة الوجود كما هو فهم سبينوزا له, في أختلاف جوهري كنا أشرنا له هو أنكار فيورباخ  لموجد ألهي صانع للطبيعة , وفي تداخل  بعض صفاته في وجود كل موجود في الطبيعة بما يشير الى أن حقيقة الاشياء في مجملها بالطبيعة أنما تشير لخالق وضع بعض صفاته بها وتستمد الاشياء دوام وجودها منه في رعاية الله للطبيعة بقوانينها الثابتة العامة وموجوداتها التكوينية لها.

وما يدّعم نظرية فيورباخ ليس لأنها تقوم على فلسفة مادية لا تؤمن بقيادة الاديان للحياة في مجمل تكويناتها المنوعة العديدة, كما يؤمن سبينوزا بذلك في تسليم أيماني قطعي مطلق… بل أن نشوء الاديان حسب فيورباخ هي عندما نجد أن الصفات الالهية التي يخلعها الانسان على الخالق المستمدة من الطبيعة, كانت أستقراءا ذكّيا من الانسان الذي أعتمدها في تصنيعه الاديان ماقبل التوحيدية والوثنية القديمة… كما نجده في الديانة الزرادشتية والهندوسية والديانة البوذية, وكما نجده قديما عند السومريين والبابليين والفراعنة قبل التوحيد المؤقت على يد الفرعون آمون راع وأنتكاسة التوحيد من بعده, وأخيرا في تعدد الآلهة في الاساطير والميثالوجيا اليونانية القديمة.

فألآلهة اليونانية كانت عندما لا تعجزها الاساطير الميثولوجية أجتراح الخوارق والمعجزات, كانت تعمد مشاركة بعض العظام من البشر في تقاسم هذا الشرف الكبيرمعها في خلع خوارق الطبيعة عليهم وتحقيق المعجزات المشتركة فيما بينهم وتعاونهم مع الآلهة…. ومن هذه الارهاصات الميثالوجية الاولية جرى تداول أنتساب بعض الانبياء والرسل القيام بخوارق الطبيعة وتحقيق تلك المعجزات في تداخل قدرة الخالق مع رغبة وأرادة الصفوة المختارة من الانبياء والرسل في أصلاح مجتمعاتهم وشعوبهم. وهو ماينفيه سبينوزا تماما أن تكون للانبياء والرسل خوارق ومعجزات خارج نظام الطبيعة الألهي.