ثقافة

ملخص كتاب كريستوف لكسمبورغ: قراءة آرامية سريانية للقرآن ومقابلة معه حول الكتاب

By nasser

November 06, 2021

لم يسبق لمثل هذا العمل أي قراءة آرامية سريانية للقرآن، أن صَدَرَ في تاريخ تفسير القرآن كلِّه؛ إذ لا يمكن أن نجد أعمالاً كهذه إلا في سياق الدراسات العلمية النقدية لنصوص الكتاب المقدس. لكن لوكسنبرغ، عبر منهجية هذا العمل على لغة القرآن واستنتاجاته، حرَّر الباحثين من الموروث الإشكالي للمفسِّرين الإسلاميين. وسواء كان مصيبًا أم غير مصيب في كلِّ ما أورد من تفاصيل، إلا أنه، عبر كتاب واحد، وضع التفسير الاختصاصي للقرآن أمام ذلك “المنعطف الحرج” الذي اتَّخذه مفسِّرو الكتاب المقدس قبل ما يزيد عن قرن.

Firas Yaghi

Firas Yaghi Writer & political analyst – Blogger at Amin Network Media تاريخ النشر ‏11 نوفمبر، 2016

لقد بيَّن هذا العمل لمفسِّري القرآن قاطبة سلطانَ المنهج العلمي للفقه اللغوي وقيمته في تقديم نصٍّ أوضح للقرآن؛ الأمر الذي سيجبر الباحثين المرموقين، من الآن فصاعدًا، على التشكيك، من منظور فقهي لغوي، في افتراض التعويل على التراث النقلي الإسلامي في معظمه، وكأنه معصوم عن الخطأ البشري الذي يتخلل نقل أية وثيقة مدوَّنة. فإذا جاز لنا أن نعتبر دراسات الكتاب المقدس مؤشرًا فإن هذا العمل قد حدَّد نوعًا ما مستقبل الدراسات القرآنية.**

فلوكسنبرغ يدرك جيدًا أن العديد من أسانيد عمل فقهي لغوي متماسك مازال ناقصًا؛ وقد وعد بتقديمها في دراسته النهائية.

وفي حين لم تعد الرَّها كيانًا سياسيًّا صارت لغتُها، وعاء المسيحية والثقافة، منتشرة عبر آسيا لتصل حتى أقاصي مالابار وشرق الصين. وهكذا ظلت السريانية، حتى بزوغ القرآن، هي وسيط التواصل الأوسع ونشر الثقافة عند الآراميين والعرب، والفرس بدرجة أقل. وهي التي أبدعت النتاج الأدبي الأغنى في الشرق الأدنى، بدءًا من القرن الرابع (أفرهاط وأفرام) حتى تم استبدال العربية بها في القرنين السابع والثامن. ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن الأدب السرياني–الآرامي، بما هو الرحم الثقافية التي وجدت فيها هذه الثقافة، يكاد يكون مسيحيًّا حصرًا. ويُظهِر جزء من دراسة لوكسنبرغ أن التأثير السرياني على أولئك الذين أوجدوا العربية المكتوبة كان ينتقل عبر وسط مسيحي وأن تأثير هذا الوسط كان حاسمًا.

فلا يستند أيُّ جزء من هذه المنهج على القبول الأعمى للافتراضات الدينية والموروثة، أيًّا كان نوعها، وخاصة منها ما يمت إلى المفسِّرين العرب. فحتى الآن لم يكن المفسِّرون الغربيون النقديون المرموقون “نقديين” بما يكفي في هذا الصدد. ويبرهن لوكسنبرغ، مباشرة أو بشكل غير مباشر من خلال استنتاجاته، أن هذه الثقة لم تكن في محلِّها.

من هنا ليس لأية حجة تسعى إلى البرهان على عدم صحة فرضيات لوكسنبرغ أن تفترض أن المفسِّرين العرب فهموا قواعد ومفردات عربية القرآن فهمًا سليمًا. وهذه من أهم إسهامات هذه الدراسة.

وهذا مهم جدًا لأنه أساس العربية المكتوبة – لغة حضارة وسيطية رفيعة – ولأنه، عند المسلمين، منبع كلِّ تعبير ولاهوت وتشريع ديني، ويُعتَبَر وحي الله إلى محمد. وهو في نظر غير المسلمين نتاج أدبي هام يستحق الدراسة، سواء من منظور تاريخيٍّ أو فقهي لغوي.

لم يكن في حوزة الطبري أيُّ قاموس يستطيع مراجعته، فكان مضطرًّا إلى الاتكال على الأثر الشفوي وعلى مفسِّرين أقرب إلى معاصرة محمد ممَّن حافظت مؤلفاتُهم المفقودة جزئيًّا على كلامه. فكان اللسان، ذلك القاموس الأوسع للغة العربية،[2] والترجمات والتفاسير الغربية لبِلْ[3] وبلاشير[4] وباريت،[5] والقاموسان السريانيان لباين سميث[6] وبروكلمان،[7] ومعجم مَنَّا الكلداني–العربي،[8] هي الأعمال المرجعية الأولية الأخرى.

وكان الفحص عن هذه المقاطع مبرَّرًا، خاصةً حين لم تكن تفاسير المفسِّرين العرب (التي اتَّبعها المفسِّرون الغربيون إلى حدٍّ كبير) مطابِقة لسياق الكلام على الإطلاق. فعلى سبيل المثال، لم يكن لدى الطبري أية أدوات معجمية، كما أنه لم يستشهد إلا فيما ندر بأبيات من الشعر العربي الجاهلي تأييدًا لتفسيره عبارة معينة. في مثل هذه الحالات يكون هامش الخطأ واسعًا لأن التحقق من سياق تلك القصائد الجاهلية مرارًا ما يكون صعبًا للغاية. ومع ذلك، كان المفسِّرون الغربيون، في كثير من الأحيان، يقبلون تلك التفاسير دون أيِّ نقاش.

وأهم ما يميِّز هذا العمل هو أن محرِّريه حاولوا تثبيت التنقيط الذي يفرِّق بين القراءات المختلفة لحرف واحد. وقد نقَّح لوكسنبرغ هذه النقط في حالات عديدة، لكنه فعل هذا باتِّباعه منهجًا واضحًا ومفصَّلاً: فعندما كان مخيَّرًا بوضوح بين قراءتين مختلفتين رجَّح القراءة الأصعب؛ وفقط عندما كان تعبير معيَّن غير واضح بشكل جليٍّ، وعندما يعدم المفسِّرون العرب تفسيرًا معقولاً لذلك، كان لوكسنبرغ يستكشف حلاً يتطلَّب تغيير واحدة أو أكثر من النقط في الطبعة القاهرية.

*** *** ***

ترجمة: أكرم أنطاكي وديمتري أفيرينوس

* كريستوف لوكسنبرغ، قراءة سورية-آرامية للقرآن: مساهمة في تحليل اللغة القرآنية، برلين، ألمانيا: الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 2000.

** نلفت هنا نظر القراء إلى أن فريق معابر لا يملك التأهيل العلمي الكافي لإطلاق حكم ذي وزن على كتاب د. لوكسنبرغ. لكننا، مع ذلك، ارتأينا نشر هذه الدراسة القيمة عنه نظرًا لأهمية المنهج المعمول به الذي لا يتناقض، في التحليل النهائي، مع مناهج التفسير المعمول بها في مدارس الفقه الإسلامي، على اختلاف مشاربها (باستثناء التفاسير الصوفية التي تعتمد الخبرة الداخلية مرجعية أخيرة)، كونها تعتمد قواعد نحو اللغة العربية وصرفها أساسًا للتفسير. (المحرِّر)

Des heiligen Ephraem des Syrers Hymnen de Paradiso und contra Julianum, in Corpus Scriptorum Christianorum Orientalium (CSCO), Scriptores Syri, t. 78, vols. 174 [Syriac], t. 79, vol. 175 [German translation] (Louvain, 1957).

والمقطع الذي يشير إليه لوكسنبرغ موجود في النشيد السابع، الآية 17. وفي الواقع يستطيع المرء إيجاد النص في CSCO, vol. 174, p. 29. كما يوجد العديد من المقاطع المماثلة حيث الثمار تتشابه مع ثمار الجنة. راجع بهذا الصدد:

Sebastian Brock, tr. and commentary, St. Ephrem: the Syrian, Hymns on Paradise (Crestwood, N.Y.: St. Vladimir’s Seminary Press, 1998).

http://www.zeit.de/2003/21/Koran

http://www.verlag-hans-schiler.de/

http://www.freitag.de/2005/15/05151501.php

http://www.al-moughtarib.com/HTML%20DATA/…/hans%20chiler.htm

القراءة السريانية – آلارامية للقرآن الكريم (دراسة نقدية لآراء كريستوف لكسنبرغ)

تأليف : أمير حسين فراستي  إشراف :  الدكتور محمود كريمي مقدمة المركز

قال الله -تعالى- في كتاب العزيز: ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[1]. تكشف هذه الآية عن أنّ الله -تعالى- هو الذي اختار اللغة العربيّة لتكون لغةً لكتابه الخاتم لرسالاته؛ لما لذلك من دخالةً في ضبط أسرار آياته وإيصال حقائقه ومعارفه من دون تحريف أو اضطراب أو التباس أو تشويه…؛ فقضى الله -تعالى- تنزيل حقائق كتابه الكريم ومعارفه العالية والسامية بقالب اللفظ العربيّ؛ لتقريبها إلى الأذهان والأفهام، ولتكون قابلةً للتعقّل والتأمّل، بأسلوب فاق حدود القدرة البشريّة في الفصاحة والبلاغة والبيان والتعبير… فالقرآن الكريم معجز كلّه باختلاف اللحاظات والجهات، وأبعاد إعجازه أعلى من أن تحصيها العقول، أو أن تدرك كنهها الأفهام. ومن أبعاد إعجاز القرآن فصاحته وبلاغته وبيانه، حيث تحدّى بها العرب الذين بلغوا مبلغاً لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدّمة عليهم أو المتأخّرة عنهم، ووطئوا موطئاً لم تطأه أقدام غيرهم في هذا المضمار، فتحدّاهم به، ثمّ تدرّج معهم في التحدّي إلى حدّ أن يأتوا بحديث من مثل القرآن الكريم! وبعد أن طال بهم الأمد، لم يجيبوه إلا بالعجز!

وقد جذبت لغة القرآن الكريم المستشرقين في فترة مبكِّرة من دراستهم للقرآن الكريم، فأبدى بعضهم الانبهار بها، وادّعى الأكثر تأثّرها بلغات الحضارات المحيطة بشبه الجزيرة العربيّة، وبالأدبيّات اللغويّة للكتب السماويّة السابقة على القرآن، وكذلك بأدبيّات أشعار الجاهليّة، وقد عاود المستشرقون المعاصرون تظهير هذه الادّعاءات بأساليب وأدوات عصريّة؛ فظهرت نظريّات معاصرة في مجال دراسة لغة القرآن الكريم تنطلق من البحث اللغويّ في فقه اللغة التاريخيّ وفقه اللغة المقارن بين اللغة العربيّة (لغة القرآن) وغيرها من اللغات السامية السائدة في الشرق (بلاد الشام والرافدين وشبه الجزيرة العربيّة) قبل نزول القرآن، ومن هذه النظريّات ما طرحه كريستوف لكسنبرغ من أنّ القرآن يحتوي على الكثير من المفردات الغامضة وغير القابلة للتفسير، حتّى أنّ العلماء المسلمين وجدوا صعوبةً بالغةً في توجيه بعض الفقرات لناحية إعراب معناها!!! مدّعيًا أنّ القرآن كُتِبَ بمزيج من العربيّة والسريانيّة (اللغة السوريّة الآراميّة القديمة المنطوقة والمكتوبة والسائدة في كلّ منطقة

الشرق الأوسط إلى بداية القرن السابع الميلاديّ)؛ ولهذا أثره البالغ في تفسير القرآن!!! وقد لاقت نظريّة لكسنبرغ رواجاً وإعجابًا من قِبَل بعض الأكاديميّين، في حين وجد آخرون في تطبيقاته التفسيريّة انحيازًا وانتقائيّة للتفسير الذي يخدم طرحه! فأثار كتابه الذي ضمّنه نظريّته في لغة القرآن جدلًا عالميًّا في فقه اللغة التاريخيّ وفقه اللغة المقارن للغة العربيّة مع اللغات الساميّة السائدة قبل نزول القرآن في الشرق الأوسط، وقد لَقِي هذا الكتاب تغطية كبيرة في وسائل الإعلام الرئيسة وبشكل غير معتاد لكتاب في فقه اللغة التاريخيّ والمقارن (الفيلولوجيا)، وأُقيمت عن نظريّته مؤتمرات عالميّة عدّة؛ منها: ما أقامه الألماني فيسنشافتسكولغ (معهد الدراسات المتقدّمة) في برلين في سنة ٢٠٠٤م، ومؤتمر آخر أقيم سنة ٢٠٠٥م في جامعة نوتردام بعنوان (نحو قراءة جديدة للقرآن)؛ بحيث جمع عددًا من الذين أبدوا قبولًا بأسلوب لكسنبرغ، وآخرين قدّموا مقاربات نقديّة لنظريّته.

وأمام هذا الواقع، ومن منطلق الحرص على القرآن الكريم ولغته العربيّة التي ارتضاها الوحي لتكون مدخلًا لفهم صحيح وسليم للقرآن، كان من الضروري بذل الجهود العلميّة والبحثيّة لمناقشة هذه النظريّة ونقدها.

وهذا الكتاب الذي بين أيدينا من الجهود العلميّة المبذولة من قبل المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، ضمن مشروع القرآن في الدراسات الغربيّة؛ وهو جهد عملي بحثيّ مميّز أنجزه الباحث الإيرانيّ أميرحسين فراستي بإشراف الدكتور محمود كريمي الأستاذ المشارك في كليّة الإلهيات والدراسات الإسلامية في جامعة الإمام الصادق(عليه السلام) في العاصمة الإيرانية طهران، تناول فيه بالدراسة والتحليل والنقد كتاب «القراءة السريانيَّة-الآراميَّة للقرآن» للمستشرق الألمانيّ كريستوف لكسنبرغ الذي بذل فيه مساعيه ـ كما يدَّعي كاتبه ـ في تقديم رؤيةٍ حديثةٍ في لغة القرآن الكريم وطريقة فهمها. ويتمحور الكتاب حول إثبات أنَّ لغة القرآن الكريم ليست عربيَّةً محضة، بل فيه مفردات من اللغة السريانيَّة تسبَّبت في صعوبة فهمه لدى المسلمين، إلى جانب الأخطاء التي ارتكبها الكتّاب، والتي أدَّت إلى عدم التماسك والاتِّساق في نصوصه الشريفة.

ورأيه هذا ناجمٌ عن الاعتقاد بأصلٍ سريانيّ للقرآن، وهو رأيٌ لا يخلو من التعسُّف والتسرُّع، وفيه تغاضٍ عن حقائق جمَّة؛ فإنَّ بيانات علم الآثار وتصريحات علماء الساميَّات تعارضُ التاريخ الذي صنعه لكسنبرغ لمكَّة وأهلها، وكذلك التراث الروائيّ الإسلاميّ والشعر والأدب الجاهليّ زاخر بالشواهد المتعدِّدة التي ترفض دعاويه بشأن مفردات القرآن. هذا، مضافًا إلى استخدامه الخاطئ للمنهج الفيلولوجيّ الذي وظَّفه بشكلٍ منحاز في إثبات نظريَّته، فضلًا عن السياق القرآنيّ الذي لا يتناسب مع ما ادّعاه.

نرجو أن يقدِّم هذا الكتاب فائدة علميّة وبحثيّة مرجوّة للباحثين في نقد النظريّات الاستشراقيّة المعاصرة في لغة القرآن الكريم، ولا سيّما نقد نظريّة كريستوف لكسنبرغ في هذا المجال.

والحمد لله رب العالمين

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

—————————

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف 

لقد شهد الاستشراق في سبعينيَّات القرن العشرين تحوُّلًا جذريًّا في مجال دراسات القرآن الكريم، على أثر انقسام المستشرقين إلى مدرستين ذواتَي اتِّجاهين مختلفين؛ سُمِّيَت المدرسة الأولى بـ«التقليديَّة»[1]، والثانية بـ«التنقيحيَّة»[2].

وما يميِّز المدرسة الثانية، والتي من روادها «وانسبرو»[3] و«كرون»[4] و«لولينغ»[5] و«كوك»[6]، هو أنَّها -خلافًا للأولى التي تقصر أبحاثها على المصادر الإسلاميَّة ـ تحلِّل التراث الإسلاميّ موظِّفةً منهجَ نقد المصادر[7]، مضافًا  إلى الاعتماد على مصادر غير عربيَّة، مثل: نتائج علم الآثار، وعلم الكتابات القديمة، وعلم المسكوكات[8]. ويعمد هذا الاتِّجاه إلى إثارة الشكّ في صحَّة التاريخ الإسلاميّ، ويعتمد -بصورة صريحة أو ضمنيَّة- على فرضيَّات «جولدتسيهر[9]»[10]، الذي كان يرى أنَّ الحديث [النبويّ] هو حصيلة التطوُّر الدينيّ والتاريخيّ والاجتماعيّ للإسلام في القرنين الأوَّلَيْن للهجرة، وعلى هذا الأساس فلا قيمة له في معرفة التاريخ الذي يدَّعيه، أيْ العصر النبويّ، بل للزمن الذي وُضع فيه، أيْ العصرَيْن الأمويّ والعبَّاسيّ[11]. ويفضي هذا الاتِّجاه إلى القول بأنَّ القرآن ليس نتاجًا بشريًّا وحسب، بل اكتمل في فترة القرنين الأوَّلَيْن للهجرة[12]، ومن هذا المنطلق يكترث بإعادة بناء نصِّ القرآن.

لكن ما لبث أصحاب هذا الاتِّجاه أن تلقوا ردود فعلٍ قاسيةٍ وانتقاداتٍ لاذعةٍ من قبَل أغلبيَّة المستشرقين الذين رفضوا نظريَّاتهم؛ ما أدَّى إلى صمتهم لمدَّة سنوات[13].

ولعلَّ عودة هذا الاتِّجاه إلى الحياة من جديد مرهونةٌ بمؤسَّسة ألمانيَّة عنونت نفسها بـ«الإنارة» (Inârah)، تنويهًا بعصر التنوير الأوروبيّ الذي يمتاز برفض الطبيعة الإلهيَّة للكتاب المقدَّس، واستبدال القصص والخرافات والوحي بالعقلانيَّة، وهي تحاول تطبيق الاتِّجاه نفسه على الإسلام والقرآن[14]. ومن أبرز الباحثين فيها: «كارل هاينتس أوليك»[15] -مؤسِّسها ورئيس التحرير لعدد من منشوراتها- وكذلك «كريستوف لكسنبرغ»، مؤلِّف كتاب «القراءة السريانيَّة-الآراميَّة للقرآن: مساهمة في فكِّ شفرة لغة القرآن»[16]، وهما كسائر المتعاونين مع تلك المؤسَّسة تتمحور مؤلَّفاتهم -نتيجةً لاعتقادهم بأنَّ الإسلام كان في البداية نوعًا من المسيحيَّة، وما زال كذلك حتَّى نهاية القرن الأوَّل للهجرة[17]- حول إثبات أصل مسيحيّ للإسلام.

تركِّز هذه الدراسة على كتاب لكسنبرغ المشار إليه آنفًا، والذي أثار ضجَّة بين المستشرقين والمسلمين لدى انتشاره للمرَّة الأولى باللغة الألمانيَّة عام ٢٠٠٠م. ثم نُقل إلى اللغة الإنكليزيَّة عام ٢٠٠٧م، مع إضافات من المؤلِّف نفسه، وهي النسخة التي اعتمدنا عليها هنا.

يشدِّد لكسنبرغ في كتابه هذا على مسألة الكلمات الدخيلة في القرآن الكريم، ويدَّعي تعديل فهمها على أساس منهجه الخاصّ، وذلك بعد إنكاره أهمِّيَّة المصادر الإسلاميَّة في فهم القرآن على الإطلاق[18]. ويمتاز هذا الكتاب عن أمثاله في توظيف مؤلِّفه منهجًا فيلولوجيًّا في إثبات ما كان أسلافه -أمثال: «كارل فُلرز»[19] و«ألفونس مينغانا»[20]- بصدد إثباته[21].

وحريٌّ بالذكر أنَّ مسألة الكلمات الدخيلة في القرآن الكريم مسألةٌ قديمة قِدَمَ تاريخ القرآن، وقد اختلف فيها العلماء المسلمون بُعَيْد جمع القرآن. فبينما أنكر بعضهم[22] وجود الكلمات المعرَّبة في القرآن الكريم؛ تمسُّكًا بقوله -تعالى-: ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) [23]، أثبتها آخرون؛ مفسِّرين عبارة «بلسانٍ عربيٍّ» في قوله -تعالى- بـ«الواضح البيِّن» الذي جيء بوصف «مبين» لتوكيده[24]؛ ولهذا عكف فريقٌ منهم على تدوين معاجم وتأليف كتب تضمٌّ هذه الألفاظ الدخيلة في العربيَّة. ومن أقدم هذه الكتابات ما جُمع من أجوبةِ عبد الله بن عبَّاس على أسئلةٍ طرحها نافع الأزرق الخارجيّ، وما كتبه الجواليقي وسمَّاه «المعرب من الكلام الأعجميّ»، وتبعه كثيرون ممَّن لا تتَّسع هذه المقدّمة لذكر أسمائهم.

وليس المسلمون وحدهم من اهتمّ بهذه المسألة، بل كانت موضع اهتمام غيرهم -أيضًا-، حتَّى أقبل بعضهم على تأليف كتبٍ تحوي عددًا كبيرًا من هذه الألفاظ. ومن أشهر هذه الكتب ما ألَّفه القسِّيس المسيحيّ آرثر جفري، بعنوان: «الكلمات الدخيلة في القرآن»[25]، والذي ضمَّنه أكثر من ثلاثمئة مفردة قرآنيَّة، رادًّا أصلها إلى خارج بيئة الإسلام. هذا، وعلى الرغم من اهتمام المسلمين وغيرهم بهذه المسألة، ولكن ثمَّة بونًا شاسعًا في رؤيتهما إلى هذه الكلمات، يكمن في استنتاج المستشرقين من التقارض اللغويّ أصولًا غير إلهيَّة للقرآن، مفترِضِين التوراة والإنجيل مصدَرَيْن له[26]. 

واستمرَّ هذا الاتِّجاه الاستشراقيّ فترة طويلة من الزمن حتَّى أكل عليه الدهر وشرب في ثلاثينيَّات القرن العشرين[27]، إلى أنْ جاء المستشرق البلغاريّ «لولينغ» ليُحييَ بدعةً قد أُميتت، في كتابه: «القرآن الأصليّ»[28] بحثًا عن جذورٍ مسيحيَّة للقرآن. ثمَّ ظهر بعده «لكسنبرغ» مطوِّرًا عناصر فرضيَّات «لولينغ»، ومؤكِّدا على نظريَّات علم اللسانيَّات، في كتابه الصادر سنة ٢٠٠٠م[29]، والذي اختلفت الآراء -تأييدًا ومعارضةً- حول فكرته البديعة التي ادَّعاها فيه بشأن القرآن، والمتمثِّلة في أنَّ جزءًا كبيرًا منه هو باللغة السريانيَّة.

ومن أهمّ دعاوى هذا المستشرق، هو أنَّ بعض كلمات القرآن قُرئت أو فُهمت بنحو خاطئ؛ بسبب عدم تطوُّر الخطِّ العربيّ في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو عدم كتابة النقاط في رسم القرآن، وكذلك يعتبر الخطَّ السريانيّ أصلًا للخطِّ العربيّ، ولغةَ أهلِ مكَّة -أيْ مخاطبي القرآن- مزيجاً من العربيَّة والآراميَّة، قاصدًا السريانيَّة تحديدًا؛ وذلك للتواجد الحاشد للنصارى فيها. ومن هذا المنطلق بدأ بتعديل مفردات القرآن الكريم وتعابيره، وإيجاد الموافقة بينها وبين المعتقدات المسيحيَّة، مستدلًّا بأنَّها ليست بالعربيَّة، بل باللغة السريانيَّة.

أمَّا كتابه «القراءة السريانيَّة ـ الآراميَّة للقرآن»، فهو يتألَّف من ثمانية عشر فصلًا، بدءًا من المقدِّمة (الفصل الأوَّل) ووصولًا إلى الخلاصة (الفصل الثامن عشر)، وبعد أن يعرِّف مصادرَ بحثه في الفصل الثاني ومنهجيّته في الفصل الثالث، يعبِّر عن رأيه في الفصل الرابع في أصل الخطّ العربيّ ومشاكله التي أدَّت إلى أخطاء جمَّة ـ حسب دعواه ـ في قراءة القرآن وفهمه، ثمّ يشير في الفصل الخامس -وهو قصيرٌ جدًّا ـ إلى النقل الشفاهيّ أو الكتبيّ للقرآن منذ العصر النبويّ حتَّى عصر الخلفاء، وبينما يدَّعي عجز التراث الإسلاميّ عن تحديد زمن التعديل النهائيّ لقراءة القرآن، ويقدّر ذلك بفترة تربو على ثلاثمئة عام، تجده يُلفت الأنظار في الفصل السادس إلى الروايات الدالَّة على اختلاف الصحابة في قراءة القرآن، وفي الوقت ذاته تأكيد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على صحَّة جميع القراءات؛ تمهيدًا للفصل السابع، الذي ينوِّه فيه إلى مسألة القراءات السبعة للقرآن، وهنالك يربط بين هذه الأحرف السبعة والمصوِّتات السبعة في الخطّ السطرنجيلي (السريانيّ الشرقيّ)، وليناقشَ بعض الأحرف والمصوِّتات العربيَّة مثل «ي/ﱝ/ئ/ا/ة»، ويضرب أمثلةً من تعديلاتٍ أجراها على قراءة القرآن وفهمه، مشدِّدًا على خلط القرآن بين قواعد الكتابة العربيَّة والسريانيَّة كثيرًا، وعلى صمت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في الإجابة على السؤال عن تأويل القرآن، وفي الفصل الثامن يشير إلى الصعاب التي واجهها مترجمو القرآن إلى اللغات الأوروبيَّة، وتصريحهم بغموض جملة من المفردات والتعابير القرآنيَّة؛ ليخوض بعدها ـ تدريجيًّا ـ في نقد عربيَّة لغة القرآن، مفسِّرًا إعجازه -في الفصل التاسع- باستحالة فهم تفاصيله على الإنسان، ومنطلقًا في الفصل العاشر من مفردة «القرآن» نفسها، مدَّعيًا أنَّها مأخوذة من كلمة «ܩܪܝܢܐ» السريانيَّة التي تعني «كتاب قراءة النصوص المقدَّسة» (Lectionary)، متَّخذًا من ذلك دليلًا على إثبات تأثُّر القرآن بها، بل اقتباسه من الكتاب المقدَّس -أي العهدين القديم والجديد- وليس مستقلًّا عنهما. هذا، ويُعالج في الفصل الحادي عشر بعض الآيات التي تدلّ على نزول القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبين، بينما يتشبَّث بأدلَّة -يسمِّيها بالفيلولوجيَّة- يسعى من خلالها إلى إثبات أنَّ لغة القرآن مختلفةٌ تمامًا عمَّا سُمِّي لاحقًا -أيْ بعد قرنين من الهجرة- بالعربيَّة الكلاسيكيَّة؛ إذ هي لغة الكتاب المقدَّس نفسها، ثمّ فُصِّلِت (يعني -كما يزعم لكسنبرغ تُرجمت) إلى العربيَّة. وبعد ذلك يتناول في الفصل الثاني عشر -بإسهابٍ- نماذج من المفردات والتعابير القرآنيَّة التي يزعم لها أصولًا سريانيَّة، وقد أدَّت قراءتها بوصفها ألفاظًا ذات أصول عربيَّة إلى عدم فهمها الصائب لدى المفسِّرين المسلمين، فيحاول تصحيح قراءتها، إلى جانب تقديم فهمٍ جديدٍ منها، مستدلًّا بتوظيف منهجه الفيلولوجيّ في لغة القرآن. كذلك يناقش في الفصل الثالث عشر اقتباس العربيَّة من النحو السريانيّ، ويشير إلى أمثلة في القرآن، ثمَّ يعالج في الفصل الرابع عشر آيتين من القرآن، يدَّعي قراءتهما الخاطئة في ما مضى من الزمان. ثمَّ يقدِّم في الفصل الخامس عشر دراسةً عن مدلول الحور العين، أثارت جدلًا واسعًا، حيث عبَّر فيها عن فهمه الغريب لهذا التعبير وهؤلاء الكائنات، معقِّبًا بالبحث عن الغِلمان (أو الولدان المخلَّدون)، مستنتجًا في الأخير أنَّ المفسِّرين المسلمين كانوا غافلين عن العناصر المسيحيَّة في الجنَّة التي يصوِّرها القرآن. ويختتم الكتاب بتفسيره الجديد لسورتَي الكوثر والعلق، فيبذل جهده في إيجاد الموافقة بين مضامينهما والمعتقدات المسيحيَّة التي اعتنقها السريان.

أمَّا هذا الكتاب الذي بين أيديكم، فيتناول أهمّ دعاوى لكسنبرغ في مجال لغة القرآن والخطّ العربيّ، ويعالج دعاويه الواردة في الفصلين الرابع عشر والخامس عشر من كتابه أنموذجًا؛ محاولًا الإجابة على الأسئلة الآتية:

ما هي أهمّ دعاوى لكسنبرغ وأدلَّته في إثبات نظريَّته عن القرآن؟

هل تتلائم نتائج الكتاب مع التراث الإسلاميّ؟

هل هذه النتائج مدعومة بمنهج علم اللسانيَّات، وهل كان المؤلِّف مصيبًا في توظيف هذا المنهج أو لا؟

ويتألَّف الكتاب من فصلين رئيسين؛ هما:

– الفصل الأوَّل: تطرّق فيه الباحث إلى أركان نظريَّة لكسنبرغ، مع الاستفادة من معطيات علم الآثار ونتائجه وما قاله المستشرقون وعلماء الساميَّات عن تاريخ العرب قبل الإسلام؛ لتقويم مدى صحَّة ما ادَّعاه لكسنبرغ عن تاريخ مكَّة وأصل الخطّ العربيّ.

– الفصل الثاني: يدرس فيه الباحث أنموذجين من تعديلات لكسنبرغ على قراءة القرآن وفهمه، وسيأتي التوضيح لاختيارهما. وقد قُدِّمت في هذا الفصل أدلَّة من التراث الروائيّ الإسلاميّ، وكذلك من تفاسير العلماء المسلمين، إلى جانب أشعار العرب في الجاهليَّة، مضافًا إلى دراسة فيلولوجيَّة لبعض مفردات القرآن، فضلًا عن آراء المستشرقين في مزاعم لكسنبرغ والردّ عليها.

وفي الختام، أقدِّم جزيل الشكر والامتنان والتقدير والاحترام للمركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيَّة-فرع بيروت؛ لموافقتهم على نشر هذه الدراسة، ثمَّ خالص شكري لأستاذي الغالي الدكتور محمود كريمي الذي أشرف على هذه الدراسة، وأرشدني إلى النهج القويم في إنجازها، كما أشكر الأستاذ الدكتور نهاد حسن حجي الشمري، الذي زوَّدني بجملةٍ من الكتب النافعة عن أصل الخطِّ العربيّ وتاريخه. وأرجو من الله-سبحانه وتعالى- أن يتقبَّل هذه الدراسة المتواضعة، ويجعلها توعيةً للأمَّة الإسلاميَّة، وصيانةً لهم من تضليل المستشرقين وأعداء الدين.

أمير حسين فراستي

——————————

أصدرت هذه المؤسَّسة إلى الآن (سنة 2020م) تسعة مجلَّدات بعنوان: «​​​Inârah – Schriften zur frühen Islamgeschichte und zum Koran» (كتابات حول تاريخ الإسلام المبكر والقرآن)، وهي كتب جماعيَّة طبعتْها «Verlag Hans Schiler». (انظر موقعها:

www.inarah.net).