قراءة سريعة في جذور الخلافات الفقهية الإسلامية

أزاميل/ متابعة: ربما كان أصل الاختلاف “الفكري” في الإسلام السني هو ذلك الذي نشب في الفقه بين أهل الرأي وبين أهل الحرف أو الحديث ـ باعتبار أن الفقه كان يعد أهم ممارسة فكرية إسلامية.

Advertisements
Advertisements

وسبب الاختلاف هو أن أهل الرأي مالوا نحو نمط عقلي من الفقه، فكانوا يقرؤون النصوص ـ حتى المقدسة منها ـ من خلال ربطها إلى سياقاتها وظروف نزولها ومقاصدها، مع رفض القراءة الحروفية التي تتعامي عن السياق، بل ربما تمادوا إلى حد ابتكار ما عرف وقتها بـ”الحيل” الفقهية.

والسبب في هذا الميل نحو العقل والرأي ليس أن الفقهاء العقليين كانوا يقللون من قدسية النصوص المقدسة، لكن السبب هو أنهم يعتبرون أن عقل ـ رأي ـ منظور القارئ المتلقي، هو أيضا بمثابة “نور” موهوب من مصدر إلهي مقدس، فالعقل عندهم نور من الله لا يقل حجية وقوة ومصداقية عن النص المقدس، بل يضيف إلى النصوص المقدسة نورا على نور.

بينما كان أهل الحرف والحديث هم الفقهاء الحافظين للنصوص، والذين يعتبرون أن قدسية النصوص مستمدة من مصدرها الإلهي، وبالتالي فهي بالنسبة لهم ليست مجرد نصوص عادية، بل استثنائية بحيث إنها متجاوزة لسياقات الزمان والمكان، وبالتالي لا يصح ربطها بسياقات أو بظروف زمكانية محددة، بل ينبغي تطبيقها حرفيًّا، بغض النظر عن اختلاف الأزمنة والأمكنة والسياقات؛ لأنها حائزة لقوة قدسية في صميمها تقتضي السمع والطاعة، وهم بذلك ينكرون حجية العقل، ويحصرون القدسية والحجية في النصوص وحدها، ويقتصرون على التفسير باعتباره ممارسة فيها الحد الأدنى من إعمال العقل في النص.

فالمشكلة في هذا الاختلاف ليست حول دور النصوص فقط، لكنها حول دور العقل، وطريقته في تناول النصوص، بين الحد الأدنى ـ التفسير الحرفي، وبين الحد الأعلى ـ تعددية المعاني والتأويلات والمنظورات والسياقات.

ربما انحرف هذا الاختلاف الفكري وتحول إلى خلاف بفعل تصاعد الصراعات السياسية والاقتصادية، وظهور الانقسامات المذهبية.

Advertisements

حينها لجأ أهل الحرف في صراعهم مع أهل الرأي إلى نوع من الفجور في الخصومة، وذلك بأن اتهموا مخالفيهم ـ من أهل الرأي ـ بأنهم زنادقة وكفرة.

فكانت هذه هي أول محاولة لتحقيق نصر “فكري” من خلال سلاح “أخلاقي”، مما يسهل على العامة فهمه؛ لأنه يبعد الخلاف عن القضايا الفكرية المعقدة والحقيقية محل الخلاف، ويضعه في مجال غير ذي صلة هو الأخلاق، لكنه رغم ذلك محل مفهوم لدى العامة.

عندها نجح أهل الحرف في تصوير الخلاف على إنه خلاف أخلاقي يدور “على” الإسلام، وليس اختلاف “في” الإسلام.

Advertisements

وصوروه على أنه خلاف على حجية النصوص المقدسة، وليس خلاف على الترجيح بين طريقتين في تناول نفس النصوص المقدسة: بين طريقة التفسير الحرفي وبين طريقة التأويل.

ربما كانت طبيعة أهل الحرف هي الميل إلى السطحية والظاهرية، مع التعامي عن الباطن والعمق القابل للتأويل؛ لأنهم يرفضون التأويل إلَّا بالطبع حين يمارسونه في قراءة نوايا الخصوم.

Advertisements

لذا كان أهل الحرف أقرب للقول بوجود نسخة أحادية نصية حرفية من الإسلام.

بينما كان أهل الرأي أقرب إلى القول بتعدد الآراء والاجتهادات والمعاني الإسلامية، قياسًا على تعددية القدرات الذهنية والإمكانات التأويلية للنص الواحد، وتعدد السياقات والأزمنة التي يستهدفها النص المقدس الواحد.

بالتالي ربما كان طبيعيًّا للغاية أن تنشأ فكرة التكفير كسلاح في النقاش الفكري عند أهل الحَرف؛ لأن سطحيتهم دفعتهم لفهم التوحيد خطأ على أنه يعني الأحادية، وأن الأحادية تعني رفض الاختلاف، باعتباره مدخلًا للخلاف والانقسام، بما لا يناسب أزمنة وسياقات الحروب المذهبية والسياسية التي نشبت في زمنهم.

بينما كان أهل الرأي، بأساس، مقتنعين بتعدد الاجتهادات والآراء، وبالتالي استحال عليهم تبني نظرة أحادية في تناول النصوص المقدسة، وهو ما جعلهم حتى أبعد ما يكون عن اللجوء لتكفير المختلف.

ربما لهذا السبب، كان أهل الحرف أول من يبادروا إلى سب الإمام الفقيه أبو حنيفة، حين لقبه أهل الحرف: أبو جيفة.

ربما كان هذا جزءًا مهمًّا من الخلاف والاختلاف في الإسلام، لكنه ما زال جزءًا حيًّا وفاعلًا حتى اليوم، بل وربما كان ما يزال يتكرر بحذافيره حتى اليوم.


 

المصدر: البديل الثلاثاء, مايو 5, 2015 | أمير الغندور