ما الذي يمكن تعلمه من الانتخابات الأمريكية؟
منقذ داغر 2020.11.08
بعد أن انتهت المعركة الانتخابية بين بايدن وترامب، وبغض النظر عن وجهة نظر كل منا في طبيعة الانتخابات والشخص الفائز والخاسر، وبعد ان هدأ أوار المعركة ووزع البعض الزهور أو الجكليت أو الساهون، في حين صمت البعض صمت القبور أو عبس وتولى وكأنه المدحور، أقول بعد ذلك كله ما الذي يعنينا نحن كعراقيين وكشعوب مُبتلاة من الذي جرى؟
بالتأكيد فإن ما يعنينا هو معرفة التغيرات التي ستحصل في السياسة الأمريكية وتأثيرها علينا،وهو ما سيكون محل مقالة أخرى. كما قد يعنينا التعرف على أهم الدروس التي يمكن استنباطها من المعركة الانتخابية التي دارت وكنا جالسين فيها على المدرجات نصفق لهذا او نهتف لذاك وفاتنا ان نغوص قليلاً في أعماق ماجرى للاستفادة منه مستقبلاً.
1- كذبت المؤامرة وإن صدقت!
كما يحدث في مناسبات سياسية مماثلة فقد كانت نظرية المؤامرة التي روجت لها منصات إعلامية كثيرة وسياسيين و(محللين) كُثر حاضرة وبقوة في سوق التوقعات.
وشخصياً عانيت بكثرة من الذين كانوا باستمرار يقولون لي ان الانتخابات(مبيوعة) وهي محسومة لصالح ترامب مادام (اللوبي الصهيوني) داعماً له!
وحين كنت أقول، لكن الدراسات العلمية تشير لعكس ذلك، كنت أجابه بالقول(خلي دراساتك تفيدك)!! ولم تبنى توقعات المؤامرة على التأثير(الصهيوني) وتأثير (لوبيات السلاح والمصالح) فحسب ولكن كان العنصر الديني حاضراً وبقوة ايضاً.
فكثيراً ماقيل ان أميركا لا يمكن ان تنتخب رئيساً كاثوليكياً بعد ان فعلتها مرة واحدة فقط حين انتخبت كندي وتم اغتياله!!
لكن ماحصل كذّب مرة أخرى عقلية المؤامرة وفندها، فهل وعينا أن الديمقراطية وبرغم احتمال تأثرها بالمؤامرات واللوبيات لكنها تعتمد على الشعب الذي بإمكانه أن يقرر النتيجة في النهاية،اذا اراد فعلاً حسمها ولم يستسلم لقدر المؤامرة؟!
2- صدِّقوا الاستطلاعات لا الإشاعات!
لقد دار جدل كبير عبر منصات الإعلام ومن (المحللين) المزعومين للتشكيك في نتائج استطلاعات الرأي التي تنبأت جميعها بفوز بايدن وذلك استناداً للأخطاء التي وقعت فيها (كثير) وليس جميع مؤسسات الاستطلاعات عام 2016.
وعبثاً حاولنا كمختصين إفهام الكثيرين ان ما حصل المرة السابقة صعب ان يتكرر هذه المرة لاسباب موضوعية وعلمية كثيرة لكنهم ظلوا مصرين على رأيهم بخاصة بعد نتائج اليوم الاول التي أظهرت تقدماً لترامب في نتائج التصويت المباشر.
وقيل ان مؤسسات الاستطلاع جميعها ديمقراطية او متحيزة لهم لذلك أخطأت في المرة السابقة وهي تظلل الرأي العام هذه المرة!
ان الدرس الذي يجب ان نعيه، ان مؤسسات الأبحاث (الرصينة) تخشى على سمعتها العلمية والمهنية وانها لا يمكن أن تتورط في تضليل الرأي العام لأنها ستخسر مصداقيتها.
وأن العلم قد يخطئ مرة لأسباب مختلفة لكنه لا يمكن أن يخطىء كل مرة.
3- أهمية نسبة المشاركة في الانتخابات
إن العامل المهم بل والحاسم (كثيراً) في اي انتخابات هو نسب المشاركة العالية بخاصة حين يكون احد الخصوم شعبوياً أو مدعوماً من الطبقة الوسطى.
فحين يكون شعبوياً فأنه يعتمد غالباً في فوزه على تحشيد انصاره(وهم دوماً ليسوا الاغلبية) وتخويفهم من الآخر ليشاركوا بكثافة. أما المرشح المدعوم من الطبقة الوسطى فهو غالباً ما يجد صعوبة في تحشيد انصاره حيث من المعروف عالمياً ان كثير من شرائح الطبقة الوسطى هم من حزب (القنفة).
اي من الذين يفضلون الاكتفاء بالجلوس على القنفة أمام أجهزة التلفاز او الكمبيوترات والموبايلات ليشجعوا مرشحهم ويسبوا الآخر، ويحللوا الوضع، وينشروا على منصات التواصل في الوقت الذي يحشد الشعبويون والمنتمين للطبقات الأخرى انصارهم أمام صناديق الانتخابات ليصوتوا لمرشحهم.
لقد ساعد التصويت البريدي انصار حزب القنفة على أن يدلوا بأصواتهم دون أن يغادروا منازلهم فزادت نسبة المقترعين لتناهز 75% من المؤهلين للتصويت وهي نسبة عالية جداً جعلت أنصار ترامب يخسرون رغم ان من صوتوا لترامب هذه المرة زادوا بحوالي 5 مليون ناخب. مع ذلك فقد كانت نسبة الزيادة في المصوتين للمرشح الديمقراطي أكثر بكثير.
إن نسبة المشاركة العالية لا تصب فقط في مصلحة المرشحين الليبراليين ومرشحي الطبقة الوسطى فحسب بل تحد الى حد كبير من تأثيرات اي عمليات تزوير محتملة وتجعلها هامشية. ان ترامب قد يستطيع الطعن في نتائج الانتخابات (وطلب اعادة الفرز) حينما تكون النتائج متقاربة في ولاية ما كما حصل عام 2000 بين بوش الابن وآلغور.
لكن محاولته هذه ستبوء بالفشل ما دامت نسب المشاركة العالية أدت الى خسارته في ولايات كثيرة وبنسب كبيرة!
ان الانتخابات العراقية المقبلة لا يمكن ان تشهد تغييراً حقيقياً في موازين القوى ما لم يغادر كل اعضاء حزب (القنفة) أماكنهم ويتوجهون الاقتراع بكثافة.
4- إستثمار الغضب الشعبي.
لقد أجادت حملة بايدن استثمار الغضب الشعبي الكبير من ترامب بخاصة بعد المظاهرات المناهضة للعنصرية التي شهدتها أمريكا قبل اشهر قليلة وتم تحشيد المعادين لسياسات ترامب عبر عمل منظّم مع كل مجموعات المجتمع المدني والناشطين والمثقفين والفنانين وسواهم من النخب مما مكّن بايدن من حشد اصوات كثيرة لصالحه.
فهل سيعي ناشطو انتفاضة تشرين لدينا هذا الدرس؟
5- الديمقراطية يمارسها المجتمع وتحميها المؤسسات.
على الرغم من حالة الاستقطاب الشديدة في المجتمع الامريكي،وعلى الرغم من كل الممارسات اللا ديمقراطية التي روج لها وساندها أنصار ترامب الا ان دور المؤسسات كان حاسماً.
تصوروا أن مؤسسة البريد الاميركية تداولت اكثر من 100 مليون ورقة اقتراع دون ان يشكك احداً في نزاهتها او يتعرض احد لموظفيها والعاملين فيها ليدفعهم للتزوير والتلاعب!
وتصوروا انه ورغم مفصلية هذه الانتخابات والأجواء المشحونة التي رافقتها الا ان عشرات الالاف من المتطوعين (ولم يكونوا موظفين او متعاقدين) الذين قاموا بفتح اوراق الاقتراع وتفريغها كانوا يغادرون مراكز الاقتراع في ساعات متأخرة من الليل ويعودوا صباحاً دون ان نسمع عن أحد تم اختطافه او تهديده.
كما ان الضغوط التي مارسها ترامب على وزراء الولايات ليغيروا من طريقة العد والفرز او يوقفوها لم تلق أي آذان صاغية منهم. ولم تسجل اي حالة خرق امني مهمة في حين اعلن رئيس اركان الجيش حياد الجيش تجاه أي تطورات امنية محتملة من الرئيس وأنصاره.
إن الثقافة الراسخة للانتخاب تقوم على أهمية بل (قدسية) حرية التعبير وضرورة حمايتها من المؤسسات الدستورية.
لذا يُنظر الى الانتخابات على أنها ممارسة لحرية التعبير عن الرأي ينجم عنها اختيار الرئيس،وليست مناسبة لاختيار الرئيس من خلال حرية التعبير، والفارق شاسع بين الفلسفتين!
6- حين يكون خصمك عدو نفسه فلا تحتاج سوى تجنب الأخطاء
لاحظ المختصون ان حملة بايدن لم تكن استثنائية او حتى توازي حملات كثير من المنافسين السابقين. وأذكر نصيحة أحد المختصين لبايدن حين قال: ليس على يايدن ان يفعل الكثير، كل ماعليه ان ينتظر ترامب وهو يلف الحبل على عنقه.
فعلى الرغم من الاداء الجيد لترامب على الصعيد الاقتصادي الا ان ترامب تمادى في خطابه الشعبوي وزلات لسانه المتكررة التي افقدته كثير من الأصدقاء المهمين وجلبت له في نفس الوقت كثير من الاعداء المؤثرين. يكفي ان وقول ان عدد من قيادات الحزب الجمهوري صوتوا لبايدن.
ويكفي ان نقول ان اداء الحزب الجمهوري في انتخابات غرفتَي الكونغرس كان افضل بكثير من أداء ترامب. ان ترامب لم يكتفي بمعاداة الاقليات العرقية والدينية، بل استعدى كل وسائل الإعلام ومنصاته وبضمنها تويتر التي كانت احد اعمدة انتصاره في المرة السابقة.
لقد تسابقت اجهزة الاعلام (عدا بعض المنصات الجمهورية المتطرفة) في إظهار نقاط ضعف ترامب للجمهور والتركيز على زلات لسانه والكارثة التي سببها للبلد بسبب سوء إدارته لجائحة كورونا.
في المقابل لم يكن بايدن محتاجاً لكسب ود أجهزة الإعلام ومنصاته المهمة فقد تسابقت هي في دعمه،ليس حباً به بل بغضاً بترامب.
لقد مثلت هذه الانتخابات الاميركية فرصةً ليس للمختصين فقط بل للجمهور عموماً لملاحظة اهمية مبادئ السلوك الانتخابي والسياسي. وكعراقيين مقدمين على انتخابات مفصلية، فإن هناك الكثير مما يمكننا الاستفادة منه بدلاً من التركيز فقط على من فاز ومدى قربنا او بعدنا عن افكاره.