يوم فارق في الحياة السياسية التركية. «السلطان» رجب طيب أردوغان يخلع عباءة «محمد الفاتح» بعد فشله في الحصول على الأغلبية. الانتخابات البرلمانية أمس وضعت حداً لأحلام «باني الإمبراطورية الجديدة»: لا نظام رئاسياً، لا تعديلات دستورية، لا انفراد في الحكم. نتيجة قد تكبح جماح الحصان الأردوغاني في ملفات عديدة في المنطقة، أهمها سوريا حيث يتهمه خصومه بدعم الإرهابيين وأخذ البلاد نحو حافة الهاوية. العلامة الفارقة الأخرى هي دخول الأكراد من الباب الواسع إلى البرلمان، حيث كانوا السبب الرئيسي في انتكاسة الحزب الحاكم.
إيلي حنا:
ليلة مختلفة أمضاها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. الساحة المفتوحة التي اعتاد «القائد الواحد» التحرك فيها، لا شك أنه استفاق اليوم ليجد لاعبين آخرين يسرحون فيها ويمرحون. حزب «العدالة والتنمية» ابتعد كثيراً عن نسبة الثلثين التي أمل بها، حتى النصف زائداً واحداً (276 مقعداً) ليست متاحة.
في قصر شنقايا، يجلس «السلطان» مع أعوانه ليدرس ملفات من سيجبر على أن يتشارك الحكم معهم، بعد أن يضع أحلامه بتعديل الدستور مباشرة من البرلمان أو عبر إجراء استفتاء أسفل الدرج. خياراتٌ ثلاثة أمامه أحلاها مر، المشترك في ما بينها أنها ستكبح الطموحات الإقليمية لأردوغان.
السيناريوات أمام الحزب الحاكم ــ الائتلاف مع الجمهوريين أو القوميين أو الأكراد ـــ جميعها صعبة، وتعني التراجع إلى الداخل بعد امتداد «الأخطبوط» التركي من تونس، وصولاً إلى سوريا.
فالائتلاف مع حزب «الحركة القومية»، يعني تجميداً (إن لم يكن تراجعاً) في مسار «السلام الداخلي» مع الأكراد الذي أطلقه الحزب الحاكم منذ سنين. كما يرفض اليمين التركي التقارب الكبير مع البلدان العربية، مفضلاً العودة إلى الغرب.
زعيم حزب «الحركة القومية» دولت بهتشلي رأى قبل أسبوع أنّ «نظام رجب طيب أردوغان وحكومته» شريكان في الحرب على سوريا «من خلال التنسيق والتعاون مع التنظيمات الإرهابية».
ودعا في تجمع انتخابي «الى محاسبة ومحاكمة كل المسؤولين الأتراك عن دورهم في هذه المؤامرة». كما اعتبر في تجمع انتخابي، قبل أيام، أن «أولئك الذين يلوحون بالمصحف الشريف في الميادين الانتخابيّة ولا يتورعون عن شنّ الافتراءات والأكاذيب ستتم محاسبتهم على أعمال الفساد التي تكشفت وقائعها في عام 2013»، وذلك في إشارة إلى أردوغان.
السيناريو الثاني ـــ التحالف مع غريمه حزب «الشعب الجمهوري» الذي ساهم في الكشف عن تسهيل المخابرات التركية لعبور شاحنات الأسلحة إلى المتطرفين في سوريا ودعمهم ـــ يُعتبر أبغض الحلال الذي قد يقبل به أردوغان.
زعيم هذا الحزب، كمال كيليتشدار أوغلو، أكد قبل يومين تطلّعه إلى السلام في سوريا وعودة مليوني سوري في تركيا إلى بلادهم.
ومعروف أن كيليتشدار أوغلو من أشد المؤيدين للعلمانية في تركيا، وفي الوقت نفسه من أنصار علاقات صداقة مع نظام الرئيس بشار الأسد، وعراق نوري المالكي الذي زاره في بغداد عام 2013، وعلاقات قوية مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
ويبقى الاحتمال «الأصعب»، في رؤية ائتلاف «تركي ــ كردي» في البرلمان. زعيم حزب «الشعوب الديموقراطية» صلاح الدين ديمرتاش قال بعد فوزه أمس: «وعدنا شعبنا بأن لا نشكل حكومة مع حزب العدالة، ولن ندعمه من الخارج».
أما أردوغان، فوصف ديمرتاش أمس بأنه «صبي تافه ليس سوى واجهة لحزب العمال الكردستاني».
ومع ذلك، فإن التحالف مع حزب «الشعوب» لا يزال احتمالاً قائماً وإن كان مكلفاً.
خسر أردوغان عشرات الآلاف من أصوات الولايات الحدودية مع سوريا
ثمة شروط داخلية وإقليمية، يعتبر تحقيقها مقدمة لإقامة دولة كردية في المنطقة.
كل هذه المعضلة تسبب بها تخطّي «حزب الشعوب الديموقراطية» عتبة العشرة في المئة، في خطوة كانت كفيلة في صعق أحلام أردوغان ورفاقه، ووضعت في الوقت نفسه حداً لاثني عشر عاماً من الحكم المتصل بحزب واحد. انتكاسة لأردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو اللذين صوّرا الانتخابات على أنها خيار بين «تركيا الجديدة» وبين العودة الى تاريخ تميّز بحكومات ائتلافية قصيرة الأجل وباضطراب اقتصادي.
عملياً، وبحسب نتائج غير رسمية لانتخابات يوم أمس، فإن أكثر من ثلاثة ملايين ناخب فقدوا الثقة بحزب العدالة والتنمية، لتتوزع أصواتهم على الأحزاب الأخرى. واللافت أنّ خسارة أردوغان لم تذهب لغريمه التقليدي وأكبر حزب معارض، «حزب الشعب الجمهوري» بل إلى «المتطرفين»، أي الأكراد وحزب الحركة القومية (مليون ونصف مليون صوت إضافي).
ومع ذلك، يراهن كثيرون على موقف أردوغان الذي تقول الترجيحات إنه سيستخدم صلاحياته لعدم تسليم السلطة لاي حزب معارض لأنّ الدستور يمنحه مثل هذه الصلاحيات: سوف يكلف أحمد داود أوغلو بتشكيل الحكومة بصفته زعيم أكبر الأحزاب السياسية. ويمنح الدستور ٤٥ يوماً لتأليف الحكومة والحصول على ثقة البرلمان. وإذا لم يحصل داود أوغلو على ثقة البرلمان، فقد لا يفكر أردوغان بتكليف الحزب الثاني بل يأمر الحكومة التي لم تحصل على ثقة البرلمان بالبقاء في السلطة، على أن يقرر هو حل البرلمان والإعلان عن موعد جديد للانتخابات المبكرة خلال ٩٠ يوماً.
خيبة الأرقام
«حزب الشعوب الديموقراطي» حقق انتصاراً كبيراً في عموم البلاد، وحصل على أكثر من ١٢٪ من مجموع أصوات الناخبين وفاز بـ 81 مقعداً في البرلمان (35 مقعداً من المستقلين سابقاً).
وبيّنت الأرقام أن الحزب المذكور قد زاد من أصواته بنسبة كبيرة جداً من أصوات الناخبين الذين كانوا يصوتون سابقاً لحزب العدالة والتنمية في ولايات جنوب شرق تركيا وعددها 14، غالبية سكانها من الأكراد (80 في المئة في ديار بكر، 72% في باتمان حيث تراجع «العدالة والتنمية» 18%، في ماردين 75% حيث تراجع «العدالة والتنمية» 13%، في هكاري 87%، وفي «فان» 73% حيث تراجع «العدالة والتنمية» 19%).
وحصل الحزب نفسه على نسب لا بأس بها في المدن الكبرى ومنها اسطنبول وأزمير وأنطاليا وأضنة ومرسين وأورفا، حيث تجاوزت أصواته ١٠٪ وزادت أحياناً عن ٢٠%. إلى ذلك، تراجعت أصوات «العدالة والتنمية» في عموم تركيا من ٥٠٪ في انتخابات ٢٠١١ الى 41٪ في انتخابات أمس. وفتحت هذه الأرقام صفحة جديدة في الحياة السياسية بعدما خسر الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة حيث تراجعت مقاعده من 327 الآن الى ٢٥٦ مقعداً.
الأرقام الصاعقة على رأس أردوغان لم تأت حصراً من تخطي الأكراد حاجز العشرة في المئة، بل في مدن اعتاد «العدالة والتنمية» أن يكتسح فيها، فمثلاً في اسطنبول (3 دوائر انتخابية) تراجع الحزب الحاكم على التوالي 12 و10 و13 في المئة في كل دائرة، بعدما كان قد تخطى نسبة الـ 50 في المئة في انتخابات 2011. فيما تخطى الأكراد نسبة العشرة في المئة في الدوائر الثلاث (14% في الدائرة الثالثة).
وفي أزمير، المدينة الساحلية الكبيرة، خسر أردوغان نسبة كبيرة من الأصوات في الدائرة الأولى والثانية (من 37 في المئة عام 2011 إلى 26 في المئة أمس) فيما ارتفعت نسبة «الحركة القومية» أكثر من 10% في كل دائرة.
وفي الولايات الجنوبية، الحدودية مع سوريا، التي كانت جزءاً أساسياً من الحملات الانتخابية للأحزاب المعارضة، تراجع الحزب الحاكم في أنطاكيا، مثلاً، من 44 في المئة عام 2011 إلى 37 في المئة أمس. وفي مرسين تراجعت نسبة الحزب الحاكم 5%، ليسبقه حزب «الشعب الجمهوري» محققاً 29% وحزب «الحركة القومية» 25%. وفي غاز عنتاب خسر الحزب الحاكم 14% (61 إلى 46%)، بينما ارتفعت نسبة «الحركة القومية» من 9 إلى 18%.
المصدر: الاخبار