ثم ينتقل بنا الكاتب الى مبدأ اخر اعتمده الرسول و هو مبدأ التغيير . فلكي يستشعر الصحابة الفرق بين عهد الاسلام و قبله فإن محمدا لجأ الى سياسة التغيير و ابرز مثال عليها هو تغييره لأسماء الاشخاص و اسماء الاماكن و البلاد اذا كانت تعيد الى الذاكرة عقيدة سابقة او تبعث على التشاؤم و لهذا غير محمد اسم يثرب الى المدينة لان كلمة المثرب تعني القليل العطاء و بالتشديد المخلط و المفسد او التثريب و التي تعني المؤاخذة بالذنب . كما غير اسم ابي بكر من عبد الكعبة الى عبد الله في المقابل لم يغير اسماء القبائل و البطون و الافخاذ التي تدل على عبودية لغير الله كعبد مناف و عبد شمس لمعرفته العميقة بحساسية النسب لدى العربي الذي قد يقبل بتغيير اسمه و لكنه يرفض رفضا تاما تغيير اسم قبيلته لانه يعتز به اعتزازا لا حدود له .
يشير الكاتب الى ان محمد كان صارما في فرضه فرائض الاسلام و تحريم الزنى و شرب الخمر و لعب الميسر رغم رغبة بعض القبائل في ذلك و انه وجه قواته لهدم صنم ذي الخلصة (يوجد بين مكة و اليمن) و صنم ود بوادي القرى بالاضافة الى انه لجأ الى تغيير اسماء الصحابة ذات المعاني المتجهمة الى معاني جميلة ليشيع جوا من التفاؤل فمثلا سمى احد صحابته ابيض بعد ان كان اسمه اسود و اخر كان اسمه زيد الخيل فحوله الى زيد الخير و اخر كان اسمه زخما فسماه بشيرا و اخر كان اسمه العاصي فسماه مطيعا و اخر كان اسمه عبد شر فجعله عبد خير . كما غير اسماء النساء ، فسمى جشامة المزينة بحنانة المزينة و اخرى كان اسمها عاصية فسماها جميلة ، بالاضافة الى ذلك غير الرسول اسماء الابار من حسيكة الى السقيا و العسيرة الى اليسيرة ، و اثناء ذهابه الى الطائف مر بطريق يقال لها الضيقة فسماها اليسرى و غير اسم جبل يدعي كشر الى شكر و قرية كان اسمها عفرة الى خضرة .
في هذا الصدد يرى الكاتب ان محمد كان بصدد انشاء امة جديدة مع ما يلزمه من تمييزها عمن سبقها و صبغها بالصبغة الملائمة لها . و نحن لا نرى ضيرا في في القبول بما جاء في هذه الفقرة . فشيء طبيعي ان يعمد الرسول الى احداث تغييرات معينة لتمييز مجتمعه الاسلامي الناشئ عن الاخرين و لكن ليس لدرجة احاطتهم بسياج دغمائي مغلق فالقرآن يخبرنا انه كان يسوس مجتمعه باللين و الحكمة اكثر مما يسوسه بالحزم و الشدة مثلما جاء في الاية التالية : ” و لو كنت فظا غليظا القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الامر ” .
و في ختام هذا الجزء الاول من الكتاب يخلص الكاتب الى ان الرسول بعد سلسلة من الاجراءات التي اتبعها من تنفير و تغنيم و تلقيب و تغيير فإنه استطاع جني الثمرة التي كان يرجوها و هي الطاعة المطلقة ،و هو (الكاتب) يقدم للبرهنة على ذلك مجموعة من الادلة من قبيل ان الصحابة كانوا يلبون نداء الرسول فورا و لو كانوا يمارسون الجنس مع زوجاتهم مثلما حدث مع الصحابي صالح و الصحابي حنظلة و احد الانصار يقال انه رافع بن خديج . و يورد مثالا اخر على الطاعة العمياء ممثلا في اعتذار خالد بن الوليد ذي الاصل الارستقراطي لمولاه السابق عمار بن ياسر بعد تحذير الرسول له من مغبة اغضاب عمار بالإضافة الى ان الرسول منع مظاهر البطر و الخيلاء ( ألا يتعارض هذا مع سياسة التلقيب التي نسبها الكاتب للرسول؟) الشيء الذي جعل الجميع يمتثلون له و اطاعته لمجرد تلميح صغير منه .
و يستمر الكاتب في سرد الادلة على طاعة الصحابة للرسول فيذكر ان نفوذه عليهم بلغ درجة ان امرهم بالخروج الى حمراء الاسد مباشرة بعد هزيمتهم في معركة احد و جراحاتهم لم تشف بعد و الى انهم كانوا يقاتلون اقاربهم دون تردد كقتل عمر بن الخطاب لخاله العاص بن هشام و رغبة ابي بكر في قتال ابنه عبد الرحمان و قتل الزبير بن العوام عمه نوفل بن خويلد يوم بدر . اما الصحابي سعد بن ابي وقاص فقد كان حريصا على قتل اخيه عتبة بن ابي وقاص لأنه رمى محمد بأربعة احجار ، في حين استأذن عبد الله بن عبد الله بن ابي سلول في قتل ابيه ” راس النفاق” . و فيما يخص النساء فيذكر الكاتب ان طاعتهم للرسول بلغت حدا ان تزوجت القرشية من المولى كما فعلت فاطمة بنت قيس القرشية الفهرية من اسامة بن زيد المولى بن المولى.
هكذا يخلص الكاتب من خلال هذه الادلة ان محمدا استطاع ان يكسب الطاعة المطلقة من اصحابه انطلاقا من شخصيته الكاريزمية و نسبه الشريف و حنكته و خبرته بالطباع البشرية و نحن نقول ان الكاتب ذهب بعيدا في استنتاجاته و ان اقصى ما يمكن قوله في هذا الصدد هو ان محمدا حصل على طاعة نسبية لا مطلقة من اصحابه . لقد عانى الرسول من حالات عصيان عديدة ، او بدرجة اقل عدم التزام بتعليماته و الامثلة كثيرة : 1- ترك الرماة لمواقعهم في معركة احد 2- تمرد زوجات الرسول حتى كاد ان يطلقهن 3- زواج زينب بنت جحش بن رئاب نصف الهاشمية من العبد السابق زيد بن الحارثة بأمر من الرسول مع رفض مضمر لهذا الامر الرسولي بتكبرها المستمر على زوجها 4- رفض جماعة من الصحابة الخروج مع الرسول لمقاتلة الروم في غزوة تبوك 5- رفض الصحابة لصلح الحديبية 6- محاصرتهم اياه اثناء توزيعه لغنائم حنين الخ …بالإضافة الى تكرر نزول ايات تدعوا الى طاعة الرسول ، ما يعني ان انصياع الصحابة له لم يكن فوريا ، هذا دون ان ننسى حديث القرآن عن المنافقين الذين تعج بهم المدينة ” و ممن حولكم من الاعراب منافقون و اهل المدينة مردوا على النفاق ” ” و يقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ..” ما يدل على ان نار العصيان كانت تحت الرماد، ما يجعلنا لا نوافق الكاتب في قوله ان الرسول حصل على طاعة مطلقة لمجرد انه قام بتدابير معينة بل ما يمكن قوله هو انه حصل على طاعة نسبية شابها كثير من علامات التمرد، و انه استطاع في ظل هذه الامواج المتلاطمة من الطاعة و اللاطاعة ان يبلغ رسالته و يحقق مشروعه الديني و السياسي .
يمكن القول أن هذا الجزء الثاني من كتابه (الصحابة و الصحابة) هو الجزء الاقوى في مؤلفه شدو الربابة . فهو يدرس مجتمع الصحابة من الداخل و ترابطاته الداخلية و مواقف افراده من السب و القتل و المال و النكاح ، و هل اختلفوا عن الافراد العاديين ام لا ؟
يوضح الكاتب في هذا الجزء ان الصحابة كانوا تشكيلة بالغة التعقيد و التنوع و التصنيف و لكن المؤرخين المحدثين اكتفوا بتسليط الاضواء الكاشفة على الجوانب المضيئة فقط لدى الصحابي او الصحابية ، و هذا منهج غير موضوعي. فإلى حدود هذا الكتاب لم يكتب عن حياتهم الدنيوية و ما تضمنها من مواقف من المال و علاقتهم ببعضهم البعض و نكاحهم و ملابسهم و معاملتهم لزوجاتهم الخ .. لذلك تظل دراسة الصحابة عن قرب كبشر عاديين امرا ضروريا لتقييم التجربة التي كانوا اعمدتها ، لهذا يدعو الكاتب الى دراسة احوال الصحابة باعتبارهم رواة و ناقلي النصوص دراسة مستفيضة لا تقتصر فقط على التعديل و التجريح ، بل يجب تحليل سلوكيات الصحابة تحليلا موضوعيا صارما لا مجال فيه للعواطف الفجة او المشاعر المسبقة لنضع التجربة الاسلامية التي اسسوها مع النبي و بعده في حجمها الصحيح دون تهوين او تهويل ، مما سيمكننا من اصدار حكم عادل دقيق عليها .
و يوضح الكاتب ان الدراسة الموضوعية لهذه التجربة هي من اجل اثبات انها كانت بشرية فلا هي معصومة و لا هي مقدسة ، مما سيمكننا من ربط النصوص بظروف ذلك المجتمع و اكراهات بيئته التي من احشائها خرجت هذه النصوص، الشيء الذي سيؤدي الى :
أ- رفع الحرج عن المخاطبين بالنصوص لان الدين لم يشرع للحرج
ب- ضرورة تطوير تأويل النصوص بما يوائم عصرنا الحالي
بالإضافة الى ذلك فإنه من خلال دراستنا الموضوعية لمجتمع الصحابة سنستطيع ان نفهم كيف ان الطلقاء و الطرداء و اللعناء من امثال معاوية و الحكم و ابنه مروان و الوليد بن عقبة غدوا حكاما و ولاة في حين ان ابا ذر الغفاري مات شريدا غريبا في الربذة و عبد الله بن مسعود ضرب بالسياط و اسامة بن زيد يسخر معاوية من امه و مروان بن الحكم يسبه سبا قبيحا امام قبر محمد و الحسن بن علي حفيد محمد يموت مسموما و يزيد بن معاوية الماجن الخليع بتولى الخلافة، مما يثبت ان ثورة محمد تعرضت لثورة مضادة من طرف اعدائها الامويين بينما كتب التراث تفسر لنا سيطرة الامويين على دولة الرسول تفسيرا ما ورائيا جبريا ، و هو منهج مغلوط حان الوقت للاقلاع عنه . لهذا يرى الكاتب ضرورة كتابة التاريخ الاسلامي كتابة موضوعية بعيدا عن العواطف الفجة و الاساطير و الماورائيات ، فكتب التاريخ بحاجة الى عين يقظة و عقل ناقد عند قراءتها . و لهذا يدعو الكاتب اساتذة و طلاب التاريخ في كليات الاداب ان يتخلوا عن النزعة التبجيلية في دراستهم للسلف الصالح ، لكي تكون لدراساتهم التاريخية قيمة علمية . هذا و لا ينس الكاتب ان يوضح ان خطأ اخر وقع فيه المؤرخون و الدارسون و هو انهم اقتصروا فقط على كتب التاريخ و اهملوا كتب الحديث و السنن مع ما تتضمنه من مادة تاريخية مهمة . لهذا حث الكاتب علماء الاجتماع الديني و الانثروبولوجيا الى تكوين دراسات رصينة انطلاقا من هذه النصوص من اجل فهم جيد لها و تطوير تفسيرها بما يتواءم مع عصرنا .