التصعيد السعودي في محاصرة قطر خطوة تمهيدية قد تؤدي إلى إعلان الحرب، في خضم حرب إعلامية مستمرة بين لوبيّات الطرفين في الولايات المتحدة والإعلام المحلي. فالأزمة المستفحلة تهدّد بانفجار مجلس التعاون الخليجي الذي يبدو أن السعودية لا تعوّل عليه في مسعاها إلى قيادة تحالف أوسع يضم مصر ودول أخرى، كما جرى التداول في هذه الفكرة أثناء الحرب على إيران في بغداد وقتها. فالكويت لا تدخل في هذا المسعى وكذلك سلطنة عمان بينما تدخل قطر في حسابات مغايرة مع تركيا والإخوان المسلمين في مراهنة على دور إقليمي وخط ثالث بين المحور السعودي والمحور الإيراني.
هذه الخلافات العميقة كانت قائمة بشدّة منذ العام 2014 حين خرجت إلى العلن منذرة بسحب السفراء وقطع العلاقات. وهي ملموسة في حروب الطرفين في ليبيا بين مجموعات متناحرة في شرق ليبيا وغربها، وبيّنة في اليمن ولا سيما في الجنوب حيث تحظى الإمارات بحصة الأسد للسيطرة على مشروع الميناء في باب المندب وامتلاك جزيرة سوقطرة، على حساب حصة قطر في اعتمادها على حزب التجمع ومجموعات من القاعدة و”داعش” وبعض الحراك الجنوبي. وهي أيضاً معروفة للمتخصصين والإعلاميين في الولايات المتحدة، المهتمين بصراع اللوبيات الأميركية وما تنحو إليه قطر والإمارات في التأثير على القرار الأميركي عبر شركات المحامين والعلاقات العامة وشراء بعض المساحات في الصحف الأميركية الكبرى، وكذلك بعض السياسيين المتقاعدين… كل ذلك أملاً بشراكات استراتيجية صغرى مع واشنطن تستند إلى تشابك المصالح كما يصفها ممولو خبراء قطر والإمارات.
لكن هذه الحرب الخفية لم تنفجر بين الطرفين لأن السعودية كانت تضبطها على إيقاع أولويتها في محاربة إيران، حين تسخّر قطر جهودها وعلاقتها تحت سقف هذه الأولوية. فنشرة “ديلي بيست” التي تُسرّب نشاطات السفير الإماراتي يوسف العتيبة تلمح إلى أنه يستغل نفوذه للتحريض على حلفاء الولايات المتحدة وعلى أعدائها في الوقت نفسه، وخاصة عبر عدد من النافذين حول الإدارة الأميركية كوزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس مدير مؤسسة “هادلي غيتس” للاستثمارات والعلاقات العامة. وبدورها لم تألُ قطر جهداً في استخدام لوبياتها الأميركية والأوروبية في التحريض ضد إيران وسوريا والمقاومة، وفي استخدام نفوذها في اليمن وفي سوريا في الاتجاه نفسه عبر جماعات متباينة تخوض حروباً بالوكالة. ولم تجد السعودية في الاختلاف القطري ــ الإماراتي ضيراً على أولويتها ضد إيران وسوريا وحزب الله، حتى أنها خففت من الغيظ الإماراتي إبّان إرسال جنود أتراك إلى قاعدة عسكرية في الدوحة وقلّلت من شأن معاهدة الدفاع والتعاون الاستراتيجي بين تركيا وقطر.
لعل المتغيّر الذي يدفع السعودية إلى التصعيد على شفير الحرب، هو أزمة السعودية في خياراتها الجامحة أكثر فأكثر ضد إيران. فهي لم تستطع إحداث خرق مهم لمصلحتها في اليمن ولم تنجح أثناء عهد باراك أوباما في “شراكتها الاستراتيجية” مع واشنطن لتشكيل جبهة مشتركة ضد إيران، بينما تملك الدوحة هامشاً من الحركة على إيقاع الرئيس التركي الذي يضع نفسه بين البينين مع موسكو وإيران ومع الولايات المتحدة أيضاً. فأزمة الخيارات الإقليمية السعودية غير القابلة للتراجع أمام الحائط المسدود، يدفعها إلى الذهاب قاتلاً أو مقتولاً في الارتماء تحت رغبة دونالد ترامب على الرغم أنه لم يضف شيئاً يُذكر على استراتيجية أوباما. فكل ما أضافه عملياً هو بعض الجمل المتشددة ضد إيران غير القابلة للترجمة على الأرض سوى في العمليات الاستخبارية، كما يوحي تعيين مايكل داندريا قاتل عماد مغنية في إدارة ترامب.
ما أضافه ترامب إلى استراتيجية أوباما هو مراهنة على مشروع “ناتو عربي” مع إسرائيل هدفه خطة سلام عربية ــ إسرائيلية تؤدي إلى “حل النزاع الإسرائيلي ــ الفلسطيني”. وبينما كان أوباما يأمل بسلام إسرائيلي ــ فلسطيني يؤدي إلى التطبيع العربي، قلب ترامب القاعدة مقابل ثروة السعودية مكافأة له على جهوده ومقابل التعويل السعودي على أن التحالف مع ترامب وإسرائيل يقوّي شكيمة الأصدقاء ضد العدو المشترك ويفتح كوّة في الجدار. فمستشار الأمن القومي الأميركي هيربرت ماكماستر يشير إلى هذا التحالف المتنامي بين إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة من العرب. وهذا الأمر ربما يلقى صدى بين أطراف في السلطة الفلسطينية التي تراهن على جهود ترامب “للحل النهائي” في السلام الموعود.
قطر تقوّض نفوذها على حماس والإخوان المسلمين بأيديها إذا شاركت مع السعودية في هذه المغامرة التي تعترضها حواجز ومعيقات أكثر من أن تُعدّ وتُحصى. لذا تعتمد قطر على أوراق في أيديها يمكنها التكيّف بها مع المستجدات في اتجاه أو آخر. فضلا عن أنها تملك هامشاً من الحركة في التقدم خطوة نحو إيران وخطوتين نحو موسكو. إضافة لذلك تجد قطر نفسها في الموقع الأقوى استناداً إلى نفوذها مع الإخوان والجماعات الأخرى، بينما تضمن أن ترامب الذي يشهر اعتناقه مبدأ الحماية الأمنية مقابل المال يمكن أن يجد ضالته في الدوحة والرياض سواء بسواء. فتصريح وزير الخارجية الأميركية في استراليا لدعوة الطرفين إلى حل مشاكلهما بالحوار، يدل على أن واشنطن ترحب في ابتزاز الطرفين. فالتصعيد يفتح صفحة جديدة من الحرب في حديقة السعودية الخلفية سترخي بثقلها على الأزمات الإقليمية. ولعل المحور الإيراني الذي كان ينتظر ارتدادات الحروب الإقليمية على الخليج، لم يكن يتوقعها عاجلة وشديدة.
المصدر: الميادين نت