يستعمل البعض الإيمان كمعنى مضاد للعقلانية، بل يقول البعض إن العلم، كامتداد للعقلانية، هو أيضًا مضاد للإيمان. لكن الحقيقة هي أن العلم يحتاج إلى الإيمان؛ فالإيمان معرفيًا هو الاعتقاد المعرفي غير المبرر موضوعيًا ويقينيًا، والعلماء يعتمدون في بحثهم العلمي على الكثير من المسلّمات التي لا يمكن إثباتها.
فخطوات المنهج العلمي باختصار واختزال كالتالي: الملاحظة التجريبية الحسية، التفكير العقلاني لفهم الظاهرة، ووضع نظرية تتكون من افتراضات لأسباب الظاهرة ونتائجها وكيفية عمل آلياتها، ثم تصميم تجربة لوضع النظرية وتنبؤاتها تحت الاختبار، ثم جمع نتائج الاختبارات لتحسين النظرية أو إسقاطها والبحث عن نظرية جديدة. وتستمر العملية للاقتراب بقدر الإمكان من النظرية الصحيحة والقادرة على التنبوء المستقبلي. وهنا نجد أن المنهج العملي، كما يتضح من خطواته، يعتمد على مسلّمات لا إثبات لها:
-تبرير صحة العقلانية.
-تبرير صحة عمل الحواس؛ بمعنى أن مدخلات خبراتنا الحسية تتوافق مع الواقع الخارجي وإثبات وجود ذلك الواقع الخارجي من الأساس.
-تبرير مفاهيم ميتا-ابستيمولوجية كمفهوم الحقيقة.
-تبرير مفاهيم ميتافيزيقية كالسببية وانتظام الطبيعة.
-تبرير مفاهيم ابستيمولوجية كالاستقراء.
-تبرير عقلانية ورياضية الكون.
كنا قد استعرضنا بعضها في المقالة السابقة، وسنكتفي هنا بتحليل آخر ثلاث نقاط.
السببية وانتظام الطبيعة
السببية هي انتظام معين لتسلسل ما من الأحداث، فمثلًا القوانين الفيزيائية التي تصف حركة الأرض في حقل جاذبية الشمس تتسبب في دوران الأرض حول محورها وفي بقائها في مدارها حول الشمس فيظهر لنا أن الشمس تشرق يوميًا.
وبتحليل الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم للسببية، وجد أنها تختلف عن الاطراد (مجرد تتابع لأحداث منفصلة) في أن هناك علاقة مسؤولية بين السبب والنتيجة، والتي تظهر في الاقتران الثابت الضروري بينهما، والذي يعطينا القدرة على التنبؤ المستقبلي بناء على ملاحظتنا لنفس الظواهر (كأسباب ونتائج) في الماضي.
«فكما كانت قوانين الكون في الماضي، فستظل بصورتها في المستقبل» وهو مبدأ يعرف بمبدأ انتظام الطبيعة.
فلوصف كيفية عمل الظواهر الكونية، يضع العلماء نظرياتهم في صورة علاقات بين أسباب ونتائج يمكن التنبوء بها في المستقبل وتمكننا من صنع تطبيقات دائمة اعتمادًا عليها. والعلماء لا يراجعون قوانين الفيزياء يوميًا للتأكد أنها تظل تعمل كما هي وأن تطبيقاتها لا تزال تعمل كما هي حتى يستطيعوا إكمال بحثهم بناءً على تلك المعرفة السابقة.
يقول راسل: «إن قانون السببية، الذي يمكننا من توقع الأحداث اللاحقة بواسطة الأحداث السابقة، قد تم اعتباره دومًا مبدأ بديهيا، ضرورة فكرية، يستحيل العلم بدونه»؛
لأنه إذا طرأ أي شك حول إمكان تغير انتظام الطبيعة وأن الماضي يمكن ألا يكون قاعدة للمستقبل «فسوف تصبح كل الخبرة بدون فائدة، ولن تؤدي بذلك إلى أي استدلال أو نتيجة» مستقبلية؛ لأن أي حجة من الخبرة قائمة على أساس التطابق بين الماضي والمستقبل. فما فائدة صناعة دواء معين وتناوله إذا كنا لا نعتقد أنه سيتسبب في علاج الحالات المستقبلية لمرض معين، أو ما فائدة أكل طعام إذا كنا لا نعتقد أنه سيتسبب في إشباعنا، أو شرب كوب من الماء إذا كنا لا نعتقد أنه سيتسبب في أي ارتواء، هنا سنجد أن السببية وحدها «قادرة على أن تقودنا أبعد من معرفتنا الناتجة عن الذاكرة والمدخلات الحسية المباشرة». لهذا فالعالم يؤمن بأن الكون محكوم بقوانين كونية، مطلقة، لا تتغير، يمكن التنبؤ بنتائجها، ويمكن الاعتماد عليها، ويمكن الوصول إليها عن طريق الاستقراء.
الاستقراء
الاستقراء هو استدلال سببي يبدأ من مجموعة ملاحظات خاصة تجريبية لاستنتاج قانون عام. كمثال:
(المعدن 1) يتمدد بالحرارة – (المعدن 2) يتمدد بالحرارة – (المعدن 3) يتمدد بالحرارة.
إذًا فكل الحالات التي تمت ملاحظتها في الماضي تقول بأن المعادن تتمدد بالحرارة، ومن ثم فكل المعادن تتمدد بالحرارة دائمًا؛ ولأن أساس الاستدلال هو التجربة المحدودة التي لم تمر بكل الحالات، فالنتيجة التعميمية دائمًا يحتمل أن تكون خاطئة. فمثلا من الممكن أن نكتشف أن (معدن 4) أو (معدن س) لا يتمدد بالحرارة، وبالتالي فالمقدمات لا تضمن صحة النتيجة. فالاستقراء لا يبرر المعرفة الناتجة عنه تبريرًا كافيًا.
ويعتمد الاستقراء في المنهج العلمي على مُسلّمة انتظام الطبيعة التي تقول «الحالات التي لم تتم ملاحظتها بعد، مماثلة للحالات التي تتم ملاحظتها»، فالظواهر الفيزيائية ستظل على صورتها التي تمت ملاحظتها سابقًا. فمثلًا الصورة الاستقرائية لظاهرة شروق الشمس:
الشمس أشرقت الشهر الماضي – الشمس أشرقت الأسبوع الماضي – الشمس أشرقت البارحة.
إذًا فكل الحالات التي تمت ملاحظتها في الماضي تقول بأن الشمس تشرق يوميًا. إذًا فالشمس ستظل تشرق يوميًا دائمًا.
مشكلة الاستقراء وشك «هيوم»
انتبه الفيلسوف هيوم إلى مشكلة أعمق في الاستقراء، فعنصر الضرورة في العلاقة السببية الاستقرائية ليس ضرورة منطقية؛ لأن نفي العلاقة السببية لا يسبب تناقضا منطقيا. فالعلاقة «كما كان الماضي فسوف يكون المستقبل» ليست ضرورة منطقية، وبالتالي فالنتيجة التي تقول «الشمس ستظل تشرق يوميًا دائمًا» ليست نتيجة ضرورية منطقية للسبب أن «كل الحالات التي تمت ملاحظتها في الماضي تقول بأن الشمس تشرق يوميًا»، فمن الممكن منطقيًا ألا تشرق الشمس غدًا. بالتالي فلا يبقى أمامنا لتبرير السببية إلا استقراء الحالات السابقة؛ أي أننا نعتمد على استقراء نتائج التجارب السابقة (الحجة من الخبرة) لتحديد ما هو واقع من بين كل ما هو ممكن منطقيًا.
لكن ما هو مبرر الاستقراء؟
وجد هيوم أن مبرر الاستقراء هو استقراء للاستقراء ذاته؛ أي علاقة سببية أيضًا كالتالي:
الاستقراء الذي قمت به في حالة المعادن صحيح – الاستقراء الذي قمت به في حالة شروق الشمس صحيح. إذًا فكل الحالات التي تمت ملاحظتها في الماضي تقول بأن الاستقراء صحيح. إذًا فكل الاستقراءات صحيحة دائمًا.
وبالتالي فالاستقراء يُبرر نفسه، وعنصر الضرورة في السببية تبرره السببية ذاتها، وتلك مغالطة منطقية من نوع الاستدلال الدائري؛ فالاستقراء غير مُبرر، وبالتالي لا يبرر المعرفة الناتجة عنه. وقد عبر هيوم عن تلك الرؤية الشكية بقوله: «عقليًا يجب رفض كل الاعتقادات فلا يمكن اعتبار أي رأي أكثر احتمالية من الآخر»؛ لأن كل الاحتمالات متساوية في الإمكانية، ولكن بالطبع فالحياة مستحيلة على تلك الصورة،
فيعود ليقول: «إن الحياة الطبيعية تجبرني على التخلي عن تلك الأفكار وأن أعود لتصرفاتي العادية»، وأن العادات التي تنتج عن تجاربنا الحياتية «هي المرشد العظيم لنا في حياتنا»، فعنصر الضرورة هو مجرد انطباع ذهني نفسي نتيجة تعودنا الاقتران بين الأحداث.
وبالتالي؛ فإن المعرفة العلمية التجريبية ليست حقيقة معرفية بسبب ارتكازها على الاستقراء والسببية الحتمية بدون ضرورة. ولما كان التصور السائد في عصر هيوم للسببية هو الحتمية وليس الاحتمالية، فقد تم اعتبار هجوم هيوم على السببية ذاتها، وقد ظهرت عدة حلول جزئية لمشكلة الاستقراء على مر العصور، سنكتفي بذكر أهم حلين منها:
الترجيح الاحتمالي البراجماتي
الحل الأول؛ هو التخلي عن دور الاستقراء التبريري اليقيني لصالح مبادئ أضعف كالترجيح الاحتمالي والذي وضع أسسه الفيلسوف والعالم الألماني هانز رايشنباخ، فالاستقراء لا يُبرِّر ولكن يُرجِّح بناء على أدلة من الحالات السابقة.
فكما اعتبر كانط السببية شرطًا للمعرفة التجريبية، وبالتالي فهو يتسامى عنها ولا يمكن إثباتها به، فإن رايشنباخ اعتبر الاحتمالية على نفس القدر المعرفي للسببية الكانطية؛ فهي شرط للمعرفة التجريبية، ولا يمكن للتجربة إثباته، فتقترن عنده السببية مع الاحتمالية في صورة علاقة ضرورية، السبب فيها مسؤول عن نتيجة ما ولكن كل النتائج الممكنة محتملة، وربما يعود ذلك لتأثره بتفسير كوبنهاجن الاحتمالي لميكانيكا الكم عندما حاول وضع نظام منطقي له.
يقر رايشنباخ بمنطقية تحليل هيوم، وبأن كل الاحتمالات ممكنة، إلا أنه يرى أن مشكلة الاستقراء هي مشكلة تحديد لتلك الاحتمالات والاختيار من بينها. فالقضايا الاستقرائية هي قضايا «نتعامل معها على أنها حقيقة، رغم أننا لا نعرف إن كان ذلك بالفعل أم لا»، فوضع مبدأ «التبرير البراجماتي» كأفضل منهج للاختيار؛ فأفضل اختيار ممكن هو الاختيار الذي سيعظم الفائدة المتوقعة.
فيقول: «رجل أعمى فقد طريقه في الجبال يحس بوجود طريق أمامه باستعمال عصا معه. لكنه لا يعرف أين سيقوده، فقد يأخذه لحافة الهاوية فيسقط عنها. لكنه يتبع المسار ويتلمس طريقه خطوة بخطوة. لأنه إذا كان هناك أي إمكانية للخروج من هذا التيه، فستكون بتتبع هذا الطريق. والإنسان كالرجل الأعمى في مواجهة المستقبل ولكننا نشعر بوجود طريق ونشعر أنه إذا أردنا المرور خلال المستقبل، فيجب أن نتبع هذا الطريق».
فإذا كانت الأدلة السابقة جميعها تشير لاختيار معين من بين الاختيارات الممكنة، وأنه أفضل الاختيارات من حيث الفائدة المتوقعة (في العلم وتطبيقاته)، فمن المنطقي أن نختاره هو رغم أنه قد يكون خطأ. فالترجيح لا يزال يفتح باب الشك أن تكون النتيجة ذات الاحتمال الأقل هي الحقيقة. النظرة البراجماتية هنا مماثلة تماما لرهان باسكال، لكن باختلاف طريقة حساب الفائدة. فرغم عدم إمكانية إثبات وجود الإله أو عدم وجوده عقليًا بصورة يقينية؛ لكن لو كان الإله موجودًا فالإيمان أكثر فائدة من الإلحاد، وإذا كان الإله غير موجود فستتساوى النتائج في عدم فائدتها. فالاستقراء يعطي أفضل تفسير، ومعيار التفضيل هنا هو الفائدة البراجماتية المتوقعة. لكن كما بينا في المقالة السابقة أن التبرير البراجماتي هو مغالطة منطقية من نوع الاستدلال الدائري على صورة أ لأن أ.
العقلانية النقدية ومبدأ التكذيب
الحل الثاني؛ هو التخلي عن فكرة التبرير المعرفي تمامًا هي رؤية كارل بوبر المعرفية «العقلانية النقدية». فالمعرفة الحالية خاطئة باعتبار الأدلة التي ستظهر لاحقًا، فلا يمكن تبريرها.
ولكن أقصى ما نستطيع فعله هو تبرير الاعتقاد بقبول النظرية مؤقتًا وليس تبرير اعتبار النظرية كجزء من المعرفة الصحيحة. فالمعرفة عنده لا تتكون نتيجة تبرير أو إثباتات فيقول: «لا نحتاج إلى مثل هذه الأشياء»، وإنما تتكون المعرفة نتيجة التخمينات والفرضيات يتبعها نقد لإثبات خطأها (مبدأ التكذيب).
ولهذا فالعلم في نظر بوبر هو عملية اجتثاث متواصلة للتخمينات والنظريات الخاطئة فنقترب من الحقيقة رويدًا رويدًا. فرؤيته لظاهرة شروق الشمس هي أنه مادام لم يأت اليوم الذي تتوقف فيه الشمس عن الإشراق، فسنظل نعتبر أن نظرية شروق الشمس لم يثبت خطأها. ولهذا فالمعيار الفاصل بين العلم واللاعلم عند بوبر هو قابلية النظرية للتكذيب الذي يقربنا للحقيقة.
وقوة حل بوبر في وضع مبدأ التكذيب تكمن في تحويله الاستقراء الإثباتي إلى استنباط تكذيبي، فلا يوجد عدد كاف من التجارب لإثبات صحة نظرية ما لأنها قد تفشل في التنبؤ القادم، لكن لو تنبأت النظرية بشيء وثبت عكسه في تجربة واحدة، فالاستنباط المنطقي من النتيجة هو أن النظرية خاطئة. وبالتالي فنحن لا نعتبر أن نظرية ما صحيحة لأنه لا يوجد مبرر لذلك، ونكتفي بأنه لم يثبت خطأها إلى الآن.
ولكن سنجد أن الإيمان عنصر مهم في فلسفة بوبر المعرفية حيث إن نقطة البداية هي التخمين الذي يؤمن العالم بصحته، فكما يقول في كتابه «منطق الكشف العلمي»: «إن الأفكار الجريئة، والتنبؤات غير المبررة، والتكهنات الفكرية، هي الوسيلة الوحيدة لتفسير الطبيعة»، ويضيف «فبدون الإيمان بها، إيمانا ميتافيزيقيا، ليس له مبرر علمي، سيستحيل العلم». وحتى إذا لم تقدم تلك الأفكار أي فرضيات يمكن اختبارها فهي تتحول إلى ميتافيزقيا ولكن ميتافيزقيا مفيدة حيث يمكن أن تكون بداية خط فكري جديد يمكن اختباره لاحقًا. كما حتى لو استطعنا تبرير مبدأ التكذيب منطقيًا، فإننا لا نستطيع أن نبرر جذور مبدأ التكذيب (كالعقل والحس والمنطق)، فلماذا نعتبره أساسًا للاعتقادات؟ ما هو المبرر لاستعمال مالا يمكن تبريره؟ يرد كارل بوبر بأن تلك القضايا الأساسية «مقبولة بقرارٍ حر».
عقلانية ورياضية الكون
نصل للمسلمة السادسة، التي يصفها بول ديفيز قائلًا: «إن العلم قائم على افتراض أن الطبيعة منظمة بطريقة عقلانية ومفهومة»، وهذه مسلمة لا يمكن تبريرها أو إثباتها أو حتى تجربتها كما يتطلب المنهج العلمي. فيقول آينشتاين: «إن أكثر شيء غير مفهوم في الكون، هو أنه مفهوم»، وبالتالي فلابد من الإيمان بها وإلا فسينهار البناء المعرفي للعلم ككل. ومن خلال إطار فهم الإنسان للكون عقلانيًا، توصل إلى أنه يمكن وضع نماذج رياضية للظواهر الكونية. وهو ما عبر عنه جاليليو قائلًا إن الكون هو كتاب عظيم مكتوب بالرياضيات. وهو ما لاحظه ليونارد أدلمان، عالم الحاسوب وصاحب تقنية تشفير الـRSA، في إطار بحثه في حوسبة الـDNA وهي شكل من أشكال الحوسبة المتوازية التي تستخدم الـDNA في تجربة العديد من الاحتمالات المختلفة في المرة الواحدة، فيقول: «حتى في علم البيولوجي، يوجد رياضيات هناك أيضا!».
ولكن لا يوجد تبرير لذلك، وهي مشكلة صاغها آينشتاين في مقالة له بعنوان «الهندسة والخبرة التجريبية»، قائلًا: «كيف يمكن للرياضيات، كمنتج عقلي بشري مستقل عن الخبرة التجريبية، أن تكون مناسبة بشكل رائع للأشياء في الواقع؟»، وهو ما دعا الفيزيائي إيوجين فايجنر لنشر مقالة عام 1960 بعنوان «الفعالية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية» يقول فيها: «إن معجزة ملاءمة لغة الرياضيات لصياغة قوانين الفيزياء هي هدية رائعة لا نفهمها، فيجب أن نكون ممتنين لها وأن نأمل أن تبقى صالحة في البحوث المستقبلية»، وإذا كان الفيزيائي الشهير لورد كلفن قد وصف المشكلة قائلًا: «إن حقيقة قدرة الرياضيات على أن تصف الكون بصورة رائعة لهو لغز لا نفهمه»، وربما يكون الحل الوحيد لتلك المشكلة هو رؤيته للرياضيات «كتجسيد للحس الجمعي السليم… الميتافيزيقا الوحيدة الصحيحة».
الخاتمة
يتبين مما سبق أن المنهج العلمي يحتوي على مسلمات وافتراضات فلسفية لا يمكن إثباتها وبالتالي فهي تحتاج لإيمان بالمعنى المعرفي الأبستمولوجي، لكن تظل نتائج المنهج العلمي عرضة للتجربة والإثبات والتكذيب مما يقربنا من الموضوعية ويبعدنا عن الذاتية لحد كبير.
يقول أينشتاين:
إن النظريات الفيزيائية تفيدنا في تلمس طريقنا في متاهة الوقائع المرصودة، في إيجاد تفسيرات تنبع من مفهومنا للحقيقة. ونحن لا نستطيع أن نبني علمًا دون أن نعتقد بإمكانية إدراك الحقيقة من خلال نظرياتنا ودون أن نوقن بوجود تناغم داخلي في العالم الذي نرصده. إن هذا الإيمان كان وسيظل الباعث الرئيسي لكل إبداع علمي. فمن خلال كل مجهوداتنا، وفي كل صراع مأساوي بين الصور القديمة والصور الجديدة، نلمح الطموح إلى الفهم والإيمان الراسخ بتناغم عناصر الوجود، ذلك الإيمان الصامد أمام كل العقبات التي تحول دون إدراك الحقيقة.
حين خطّأ هيوم التصور السائد حول السببية التي تقوم على الضرورة
المغرب: محسن المحمدي
إن التفسير بالسببية، أمر صاحب الإنسان على الدوام. فمثلا، في العصور القديمة والعصور الوسطى، اعتبرت السببية العنصر الأساسي والحاسم، سواء في الفيزياء لتفسير الظواهر الطبيعية أو ما وراء الطبيعية، لإثبات وجود كائن أسمى، هو علة أولى، أو صانع، أو محرك أول، أو منظم ومتحكم في سير الظواهر. وإذا ما أخذنا نموذج أرسطو باعتباره المعلم الأول، فنحن نعرف أنه قد وضع للظواهر أربعة أسباب، وهي: السبب الصوري، والسبب المادي، والسبب الفاعل، والسبب الغائي. فإذا أخذنا الكرسي، فسببه الصوري هو شكله، وسبب المادي هو الخشب، وسببه الفاعل هو النجار، وسببه الغائي هو الجلوس.
لقد اعتقد معظم الفلاسفة والعلماء، أن مبدأ السببية يحمل سمة الضرورة، وأن عدم افتراض هذه الضرورة سيجعل صياغة قوانين الطبيعة أمرا غير ممكن، ومن ثم ستهتز أركان العلم. فمن المستحيل مثلا، تصور قطعة من الحديد جرى تسخينها من دون أن تتمدد، وأن جسما ترك في الهواء ولم يسقط، أو أن وجود النار لا يؤدي إلى الحرق. فبين السبب الفاعل والنتيجة المترتبة عليه، هناك ضرورة لازمة.
لكن مع مجيء الفيلسوف ديفيد هيوم، في القرن الثامن عشر، سيتغير الأمر إذ سيعمل هذا الرجل على إزعاج العلم بإثبات خطأ التصور السائد حول مبدأ السببية، وأنه يقوم على الضرورة. لقد بث هيوم الشك والريبة في فكرة الحتمية الصارمة، وهو ما أدى إلى نشوب صراع حاد بين الفلاسفة والعلماء، بين القائلين بالحتمية لضمان التنبؤ، ومن ثم إعطاء الأساس الصلب للعلم، والقائلين بالاحتمالية، وأن لا أحد سيضمن أن الشمس ستشرق غدا. كل هذا أدى إلى ظهور ما اصطلح عليه بـ«مشكلة هيوم» أو مشكلة الاستقراء، والتي ستتناسل عنه مشكلات أخرى، من قبيل مشكلة القانون العلمي، ومشكلة مدى عقلانية العلم؟ فما هي مشكلة هيوم؟ وبأي معنى نفهم أن العلاقة بين السبب والنتيجة ليست ضرورية؟ وما تأثيرات ذلك على صلابة العلم؟
تكمن أصالة هيوم، في تحليله المشهور للسببية، الذي حاول من خلاله، أن ينزع عنها طابع الضرورة، وأن يبرز أن علاقة السبب بالنتيجة علاقة قائمة على العادة فقط. بمعنى أنه سيخرج السببية من عالم المنطق إلى عالم السيكولوجية. فكيف ذلك؟
في كتابه «تحقيق في الذهن البشري»، وهو من ترجمة الدكتور محمد محجوب، وصدر عن المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى 2008، يبرز هيوم شكوكه في عمليات الذهن، وبالضبط قضية السببية. فيدعونا مثلا، إلى تخيل كيف ستكون نظرة الإنسان الأول، التي يسميها الحالة الآدمية، للشمس وهو يراها لأول مرة تشرق؟ فهل هذا ضمانة بأنها ستشرق مرة ثانية؟ فليس هناك دليل عقلي. بل كل ما هنالك هو أن العملية ستتكرر مرات كثيرة، وجراء الألفة والعادة، سيستنتج أنها ستطلع يوميا. وبالمثل، كيف سأعرف أن النار ستحرق، وأن الماء يمكن أن يخنقني؟ فالأمر بالنسبة لهيوم لا يعود أبدا للضرورة العقلية، بل الأمر يعود للتجربة والعادة. فإذا ما تأملنا جيدا أي سبب، فلن نجد أي مؤشرات تضمن أنه ستتبعه نتيجة معينة. فالرابط بين السبب والنتيجة ليس مضمونا. وظهور سبب معين لا يلزم عنه ضرورة حدوث نتيجة معينة. وحدوث نتيجة معينة لا يعني مباشرة، أن لها علاقة لازمة مع سببها. بعبارة أخرى، يريد هيوم إثبات أن السببية لا تكشف بالعقل وإنما بالتجربة. فهل من دليل أن الشمس ستشرق غدا؟ لا دليل عقليا إلا انتظار التجربة غدا.
إذن، إذا كانت السببية بالنسبة للإنسان الأول مجرد رابط بين حدثين، أي «أ» يتبعها «ب»، ستصبح مع مر التاريخ، بالنسبة للإنسانية، رابطا ضروريا، أي «أ» تعني «ب». فالإنسان سيحول مجرد تتابع الأحداث، إلى علاقة ضرورية على الرغم من أنها ليست أبدا كذلك.
إن تحليل هيوم للسببية يجرنا إلى ريبة أكيدة. فكأن هيوم يقول لنا إننا ملزمون بالقيام بعدد لا محدود من الاستدلالات، لكن من دون سند عقلي. بعبارة أخرى، وكأن هيوم كان يمرح بأن يعري السببية من شرط الضرورة، للقول بأنها مجرد عادة وتكرار، ومن ثم كان يحاول إظهار أن العلم القائم على السببية، هو مجرد معتقد وبأساسات هشة.
إن ما طرحه هيوم كان زلزالا بالنسبة للفيلسوف كانط، فهو يقول عنه أنه أيقظه من سباته الدغمائي، لأن كلام هيوم خطير، ليس لأنه فقط يزعزع أركان العلم ويظهره بمظهر المعتقد، بل لأن كلامه له تبعات دينية على مستوى العلاقة بين الإله والعالم بما هي علاقة سببية، وتبعات أخلاقية. أي على مستوى العلاقة بين المجرم والجريمة مثلا، بما هي، أيضا علاقة سببية. فنزع الضرورة عن السببية يضعنا في ريبة طاحنة.
إن مسألة التعود التي نبه إليها هيوم، تجرنا أيضا إلى موقف برتراند راسل من مشكلة هيوم. فهو يقول: إن الارتباط بين السبب والنتيجة ليس حكرا على الإنسان، بل هو قوي حتى عند الحيوان. فالحصان الذي ظل يساق على طريق معين، يقاوم أي محاولة لقيادته في اتجاه مختلف. بل حتى الدواجن، تتوقع الطعام من يد من تعودت أن يطعمها. لكن راسل يرى أن كل هذه التوقعات الغشيمة للاطراد، معرضة لأن تكون مضللة. وأن الرجل الذي ظل يطعم الدواجن كل يوم على مدى حياتها، هو الذي يذبحها بدلا من إطعامها مستقبلا. إن مثال الدواجن هذا، يريد راسل أن يبرز من خلاله هشاشة الاستقراء والتنبؤ، لكن على الرغم من ذلك، يؤكد أننا يجب أن نؤمن، وإن يكن على مضض، بصدق مبدأ الاستقراء، ولو كفعل أعمى من أفعال الإيمان، حتى يتسنى لنا المضي قدما في طريق العلم.
إن مشكلة هيوم تذكرنا مباشرة بموقف «حجة الإسلام» ، وإن كان في سياق مختلف وبآفاق أخرى مرتبطة بأسئلة كلامية تخص زمانه. فهو أيضا طرح القضية نفسها، حيث كان الغزالي من دعاة الاقتران والتلازم، منكرا أن السببية تتسم بالضرورة، بل هي عادة وتكرار. فهو أيضا، وضع العالم في مجال الاحتمال بدل الحتمية. ومن ثم يمكن تبرير المعجزات، الأمر الذي دفع ابن رشد للرد وبقوة دفاعا عن الضرورة.
لماذا يرفض ديفيد هيوم السببية؟
السبية هي نتيجة للبرهان الإستقرائي القائم من الملاحظة المستمدة من الإطراد في الطبيعة كوسيلة للنظر للمستقبل و التنبؤ به؛ فلو رأينا ظاهرتين تتبع إحداهما الأخرى على الدوام فالنتيجة أنهما سيستمران في التتابع إلى الأبد وهذا عين ما قاله أرسطو ( من أن الحالات المتشابهة تأتي بنتائج متماثلة ) فإننا بالإستقراء سوف نعتبر أن الظاهرة الأولى هي سبب للظاهرة الثانية وهذا هو ما نسميه بالسببية ما يزعمه هيوم عن السببية أنه لا حاجة لإعتماد مبدأ السببية لأننا نستطيع فهم الآثار دون الحاجة لفهم مسبباتها وما هو مفهوم فهو ممكن في الواقع دون الإكتراث لما يسببه وهو يقول (أننا لا نستطيع تطبيق مبدأ السببية على الطبيعة لأن السببية هي مستخلصة من ملاحظة جزئيات العالم)، و يرد على زعم الفلاسفة العقليين الذين زعموا أن مبدأ السببية عقلي قبلي بقوله (إن معرفة العلاقة السببية لن يتحصل بأي حال من تعليلات قبلية بل تتوالد أغلبها من الخبرة حيث نجد أن أشياء معينة تترافق مع بعضا مع بعض بشكل مستمر) ثم يضرب مثالا على قوله أن آدم، على افتراض اتمام ملكاته العقلية منذ لحظته الأولى، لم يكن ليستدل من سيولة الماء و شفافيته أن هذا الماء يمكن أن يخنقه ولم يكن آدم ليعرف من ضوء الحرارة أنها يمكن أن تحرقه حتى قام بالتجربة الأولى ولذلك فإن الحواس والعقل فقط لا يمكنهم أن يمنحوننا العلة دون أن يكون هناك خبرة ما قبلية كانت في شكل تجربة، وباعتبار العادة فإننا تعودنا على أشياء و اخترعنا لها أسباباً و في ذلك يقول هيوم مثالا طريفاً جدا هو أنه يتساوى لديه الأمر بين من يدعي أن الشمس ستشرق في الغد و بين الذي يقول إن الشمس لن تشرق لأننا عرفنا أن الشمس ستشرق بعد الليل باعتبار العادة ثم اخترعنا العلة لتبرير قولنا بأن الشمس ستشرق.
بحسب هيوم؛ مصدر المعرفة عند الإنسان العادة و التكرار
وفي العلوم يقول أننا بصدد حالتين (أ و ب) يتتابعان مع بعض أثناء التجربة فنستنج من التجربة أن (أ) هو علة لـ (ب) وهذا ما يرفضه هيوم لأن جزء من إدراك مفهوم السببية في أذهاننا يرجع إلى التجربة ولكنه ليس تجريبيا محضاً لأن الأساس في مبدأ السببية أنه عقلي وإن كنا استخدمنا التجربة لنعرف أن (أ) هو علة لـ (ب) بأن استخلصنا قضية عمومية وهذه القضية ليست مستنبطة فقط من التجربة وما التجربة إلا واسطة للعلم بها وبهذا فإن المقدمة هي تجريبية لكن التعميم على الحالات و الجزم لا يكون تجريبيا بل عقليا ً و لذلك فإن هيوم لا يسمي (أ) سببا بل يسميه مؤثراً ولا يسمي (ب) مسببا بل يسميه أثراً و يجعل الرابط بين (أ) و (ب) علاقة غير العلاقة السببية انه يسميها علاقة الإرتباط.
إن عين ما يرفضه ديفيد هيوم في المنهج التجريبي هو أن كل النتائج التجريبية تقوم على إفتراض كون المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي وإسقاط نتيجة تجربة واحدة على جميع الحالات المشابهة بسبب الإستقراء فنعتقد أننا إن أخرجنا سمكة من الماء فسوف تموت لأننا أخرجنا من قبل سمكا ومات وهو خارج الماء أي أننا أصدرنا حكما من نتاج خبرتنا وسميناه تعليلاً: أن السمك خارج الماء يموت مطلقا وأصدرنا بذلك حكما عموميا ولكن ثبت علميا أن الدولفين مثلا وهو من أنواع السمك لديه رئتين وهو يخرج من الماء للهواء ليتنفس ثم يعود للماء كما يفعل الإنسان الغاطس في الماء تماما أي أن مقولتنا الأولي أن جميع السمك خارج الماء يموت ليست مطلقة.
تطبيقات لنظرة هيوم عن السببية في المجال الطبي
أعتقد أن المجال الطبي هو أكثر من استفاد من نظرة هيوم عن السببية فقد تطورت رؤية العلماءفي الحقل الطبي عن مسببات الأمراض و حتى عن التجارب المعملية ولذلك فإن من يدرس الطب الباطني مثلا يلاحظ أن العلماء في هذا الحقل مثلا لا يستخدمون تعبير السبب والمسبب بل أنهم بفضلون كثيرا لفظ الإقتران والإرتباط كما طرح هيوم في نظريته، ولأقرب الصورة قليلا لمن لا يتصور الفكرة بالملاحظة والتجريب: وجدنا أن عدد كبيراً من مرضى السمنة والبدانة يصابون بالسكري من النوع الأول في أعمار صغيرة ووجدنا أن أقرانهم ممن لا يعانون من البدانة لا يصابون بهذا المرض في العادة ستكون القضية المنطقية في عقولنا كالتالي: من يعانون من البدانة أكثرهم مصاب بالسكري، ومن لا يعانون من البدانة أكثرهم لا يصاب بالسكري؛ إذا سنقول في عقولنا بكل بساطة: البدانة هي مسببة للسكري بالإستقراء والإستنتاج، وهذا ما ثبت بطلانه بقاعدة ديفيد هيوم الرافضة لمبدأ السببية فسوف نعتبر البدانة مجرد مؤثر وأن السكري هو مجرد أثر للبدانة وأن العلاقة بين السكري والبدانة هي مجرد علاقة ارتباطية فكثير ممن يعانون من البدانة ليسوا مصابين بالسكري وبذلك فقد أخرج ديفيد هيوم علماء الطب من مأزق كبير فلم يجعلهم يلقوا بملاحظاتهم التي يلاحظونها على المرضى ولم يجعلهم يتورطون في الجزم بأن البدانة هي سبب مرض السكر من النوع الأول كما حصل مع العالم الفرنسي البونيري بوشردات الذي ظن أن سبب مرض السكري هو نوع الغذاء والبدانة فكتب كتابا مهما عن القواعد الصحية والغذائية والعلاجية للسكري واستمر العمل بهذا الكتاب ومحتواه طوال القرن التاسع عشر حتى استطاع الطالب المشاغب بول لانهرهانس ذو العشرين ربيعا من اكتشاف جزره في البنكرياس والتي هي مسؤولة عن افراز هرمونات الجلوكاجون والإنسولين والغرلين ثم اكتشف العلماء بعد ذلك أن النوع الأول من السكري هو مرض يتسبب به اضطراب مناعي بالأساس وأن نمط الغذاء ليس له ذلك التأثير الكبير في تحديد الإصابة بالسكر كما اعتقد العالم بوشردات وحرم مرضاه من تناول النشويات تماما فمات أكثرهم بهبوط السكر!، وما أريد أن أقوله أن سبب الخطأ الرئيسي للعالم بوشردات هو أن الإستناج الخاطئ من التجربة ولو كان انتبه لعيوب الإستقراء الذي ذكرها هيوم لما كان سقط في مثل هذا الخطأ الشنيع الذي كلفه تجاهل العلم الحديث لإنجازه بأن أول من ربط بين البنكرياس و مرض السكري.
العقل ليس سوى ذاكرة نحفظ بها تجاربنا و تجارب الآخرين
وعلى ذكر السكري فإن السكري من النوع الثاني والذي ظننا كثيرا أنه مرض يخص الكبار تبين للعلماء أن بعض أنواع الأطفال أصبحوا يصابون بهذا المرض ولنقرب الصورة بمثال عن المرضو كذلك مسألة الوراثة في النوع الثاني من السكري هي مشابهة للسمنة في النوع الأول حيث العلاقة بين العوامل الوراثية والسكري هي علاقة ارتباطية لا ترقى أن تكون سببية كما يتبادر لذهن العوام.
مثال آخر: سرطان الرئة والسجائر، بالملاحظة والتجريب لاحظنا أن عدد كبيراً من المدخنين يصابون بسرطان الرئة فيما لا يعاني أقرانهم من غير المدخنين من هذا المرض، وستكون القضية المنطقية في عقولنا هكذا: من يعانون من سرطان الرئة مدخنون، ومن لا يعانون من سرطان الرئة غير مدخنين؛ إذا سنقول في أذهاننا بكل بساطة أن التدخين هو المسبب للسرطان الرئوي بالإستقراء والإستنتاج، وهذا ما ستثبت قاعدة ديفيد هيوم بطلانه لأ إن التدخين هو مجرد مؤثر و السرطان هو أثر لمؤثر والعلاقة بين المؤثر وأثره هي علاقة ارتباط لا علاقة سببية علية تدور مع المعلول نفيا واثباتا فإذا انتفت العلة انتفى المعلول وهنا أخرج ديفيد هيوم علماء الطب من مأزق كبير رغم أنه مات قبل قرون، فكيف كان يا ترى سيبرر الأطباء أن هناك مدخنين كثر لا يصيبهم السرطان رغم أنهم يدخنون وآخرون أصيبوا بالسرطان الرئوي رغم أنهم لم يدخنوا طوال حياتهم كمثل حال من جاءه سرطان الرئة منتقلا من المرئ.
لا شك أن للسجائر الأثر الكبير في الإصابة بسرطان الرئة إلا أنها لم ترتقي لأن تصبح مسبب لهذا السرطان رغم دقة الملاحظات التي دونها طالب الطب الألماني هيرمان روتمان في القرن التاسع عشر وتحديداً في عام 1898م الذي لاحظ أن عمال مصانع التبغ الألمان وبعضهم من غير المدخنين يعانون من سرطانات رئوية فافترض أن غبار التبغ يسبب السرطان، وفي عام 1912م افترض العالم الألماني ادلر أن المتسبب في السرطان هو التدخين غير أنه لم يستطع أن يجيب عن المتسبب في السرطان لغير المدخنين وكان العالم في الحرب العالمية فكتب افترضات اخرى كتلوث الهواء و الغازات السامة و انتشار الإنفلونزا!
إن آخر إحصائية في الولايات المتحدة حول خطر الإصابة بالسرطان لدى الذكور المدخنين هناك 17% و لدى الإناث المدخنات 11.6% و أن عدد المصابين بسرطان الرئة الذين قالوا أنهم مدخنين هم 90% من الرجال و 80% من السيدات و كانت المفاجئة عندما صرح 43% من أطباء أمريكا أنهم لا يعتقدون أن السجائر هي مسببة للسرطان بينما صرح 51% أنهم يعتقدون أن السجائر مسببة للسرطان.
مثال آخر: بالملاحظة والتجريب تبين أن من يتعرضون للدغات البعوض فإنهم يصابون بمرض الملاريا وتبين أيضا أن من لا يتعرضون لهذه اللدغات فإنهم لا يصابون بمرض الملاريا ما أريد قوله أنه بنقض السببية أتيحت للبشر لأول مرة أن يتعرفوا على المسببات الحقيقية للأمراض بعد أن ضللتهم العلاقات الترابطية التي كشفها هيوم وهذا المثال الأخير احداها ستكون القضية المنطقية في عقولنا كالتالي: من يعيشون قرب المستنقعات يصابون بالملاريا، ومن لا يعيشون بالقرب من المستنقعات لا يصابون بالملاريا؛ إذا سنقول في أذهاننا بكل بساطة: إن المستنقعات هو مسبب للملاريا وذلك بالإستقراء والإستناج ولكن عند هيوم أن المستنقعات هي مجرد موثر وأن الملاريا ما هي إلا أثر و أن العلاقة بين المستنقعات والملاريا هي علاقة ترابطية لا علاقة سببية لأن كثير من الناس يعيشون قرب المستنقعات ولم يصابوا بالملاريا وهنا كان ديفيد هيوم بإنكاره للسببية التجريبية هو مفتاح للعلماء ليبحثوا عن السبب الحقيقي لمرض الملاريا وعن كيف ينتقل المرض وظلت كيفية انتقال عدوى الملاريا بمثابة اللغز فقال الرومان في القديم أن هواء المستنقعات الفاسد هو المتسبب في الملاريا ولذلك سميت الملاريا بهذا الإسم ملاريا وتعني بالإيطالية الهواء الفاسد وسار على نهج الرومان أطباء عصر النهضة لأن الملاريا مرض لا يصيب المناطق الباردة في القارة العجوز بل هو يستهدف المناطق الحارة و ظل الأمر كذلك حتى استطاع العالم الإنجليزي رونالد روس اكتشاف أن أنثى الباعوض هي ناقلة لمرض الملاريا وكان اكتشافه فتحا طبيا كبيرا كوفئ عليه بأن نال جائزة نوبل في الطب عام 1902م وهذا ما حفز عالماً آخر فرنسي هو ألفونس لافيران أن يكتشف طفيل البلازموديوم أثناء عمله في مستشفى عسكري في الجزائر، لم يكن العقل البشري جاهزا لمعرفة مسببات الأمراض لولا نقض المنطق الأرسطي وهدم السببية فهذا المنطق جمد عقل العالم لمدة 1500 سنة، وبعد أن تم هدم هذا المنطق انفتحت أبواب العلم الحديث.
فضيحة الفلسفة كما أثارها ديفيد هيوم
يحيى محمد
لقد عُرف الفيلسوف الانجليزي ديفيد هيومبنقده الحادللمعرفة عموماً والإستقراء خصوصاً. ويكفي أن ندرك الخطورة التي أحدثها بما شيع أنه ‹‹أثار الفضيحة في الفلسفة››، فكثرت المحاولات للتخلص من المأزق الذي حفره ضد كل من العقليين والتجريبيين معاً. وهناك من المفكرين من يؤمن بالطريقة الإستقرائية، لكنه في الوقت ذاته يعترف بعجز الفلسفة عن أن تجد حلاً لمشكلة الإستقراء كما طرحها هيوم، وينطبق هذا الحال على كل من الاستاذين برود ووايتهيد، فهما يؤمنان بالطريقة الإستقرائية، إلا انهما مع ذلك عبرا عن مشكلتها تعبيراً متقارباً، وهو ان الأول أطلق عليها (فضيحة الفلسفة)، في حين وصفها الآخر بـ (بؤس الفلسفة)1. وقد ذكر الاستاذ كاتز Katz ان المعضلة التي جاء بها هيوم بقي مفعولها سارياً من دون مقاومة تذكر طوال مائة وثمانين سنة2. وعلى رأي ستوف Stove انه لم يخالف هيوم أحد من الفلاسفة على المأزق الذي طرحه طيلة مائتين وخمسين سنة3. فمع ان بيرس Peirce قدّم الحجة البراجماتية لتبرير الإستقراء والتي ظهر انها كثيرة الشبه بما سعى إليه من بعد ريشنباخ، لكن ما قدّمه بيرس (سنة 1878) لم يكن معروفاً حتى شيوع افكار ريشنباخ وقبولها كمنافس جدي للشكية التي زرعها هيوم4.
وطبقاً للاستاذ سالمون ان من الخطأ التصور بأن ما جاء به هيوم هو انه كشف عن فشل الإستقراء في أن يضمن لنا تحقيق النتائج الصحيحة على الدوام، كالذي توهمه الاستاذ كاتز في كتابه (مشكلة الإستقراء وحلها). فعلى رأي سالمون ان هذا الأمر كان معروفاً قبل هيوم بمدة طويلة، بل ما جاء به هذا الأخير ابعد غوراً من ذلك، وهو انه من غير الممكن باي دليل كان ان نثبت ضمان أي نتيجة ايجابية جزئية عبر المقدمات الصحيحة التي يقدمها الدليل الإستقرائي5. فمثلاً ليس بوسع المشاهدات الإستقرائية ان تثبت لنا ان هذه النار التي امامنا ستحرقنا إذا ما قذفنا بانفسنا فيها. مما يعني ان الدليل الإستقرائي غير منتج تماماً. بل وزاد على ذلك كاتز، معتبراً ان له محاولة مكملة، وهي انه ليس هناك إمكانية تطمح إلى تبرير الإستقراء على الاطلاق، فالإستقراء لديه لا يمكن تبريره فضلاً عن إثباته6.
https://www.youtube.com/watch?v=UGE1q8YiwxQ
وعلى العموم نرى أن مذهب هيوم في الإستقراء يقوم على محورين أساسيين لا بد من دراستهما معاً:
الاول: ويتقرر بأن أي محاولة للإستدلال على مبدأ الإستقراء تتعرض للدور، كما أن التعميم فيه لا يملك أي تبرير ممكن.
الثاني: ويتقرر بأن ما نسعى إليه من إستنتاجات إستقرائية وقضايا تعميمية؛ كل ذلك يقوم على فهم خاطئ للسببية. وقد استقطب هذا الجانب اهتمام المفكر الصدر في نقده لهيوم دون الأول.
لكن قبل معالجة هذين المحورين يحسن ان نذكر بأن هيوم يرى بأن المعرفة الصحيحة لا تتخطى نوعين من القضايا، يضاف إلى نوع ثالث غير صحيح، وبالتالي فالقضايا تصبح ثلاث كالتالي:
1ـ عقلية مجردة: وهي تتصف بالضرورة المطلقة وتقوم على مبدأ عدم التناقض، لكنها لا تخبر عن الواقع الخارجي بشيء، أو لا تعطي نتيجة جديدة؛ باعتبار ان المحمول متضمن في الموضوع، أو ان المعرفة مشتقة بالقياس المنطقي ومتضمنة في المقدمة دون زيادة تذكر. وهي المعروفة بالطريقة الإستنباطية.
2ـ واقعية: وهي على العكس بالضبط من المعرفة التحليلية، فهي لا تتصف بالضرورة المطلقة، ولا تتأسس على مبدأ عدم التناقض، ولا ان المحمول متضمن في الموضوع، وليست المعرفة مشتقة عبر القياس المنطقي، ولا انها مستبطنة في المقدمة، وهي تعطي نتيجة جديدة، وتخبر عن الواقع الخارجي بالشيء الجديد.وهي المعروفة بالطريقة الإستقرائية خلافاً للطريقة الإستنباطية السابقة. فهي بقدر ما تخبر عن الواقع الموضوعي بقدر ما تفتقر إلى ضمان الصدق الذي تتصف به الطريقة الأولى الإستنباطية.
3ـ سفسطائية: وهي كل معرفة لا يمكن ارجاعها إلى أي من النوعين السابقين، بمعنى ان مثل هذه المعرفة هي سفسطة واوهام وكلام فارغ ينبغي ان يُقذف بها في النار. وبحسب تصويره ان كل كتاب الهي أو ميتافيزيائي لما كان لا يضمن الاستدلال الرياضي حول العدد والكم، ولا يتضمن الاستدلال التجريبي حول الواقع والوجود العيني، لذا لا بد من القائه في النار لتضمنه السفسطة والاوهام.
ووفقاً لهيوم فان المعرفة العقلية المجردة تعارض المعرفة الواقعية، وكلاهما يعارضان المعرفة السفسطائية. وسنرى ان ما جاء به فتجنشتاين والوضعية المنطقية من تقسيم المعرفة لا يكاد يتعدى ما طرحه ديفيد هيوم الآنف الذكر.
1 ـ محاولة إثبات الدور في الإستقراء
لعل أول من اومأ إلى وجود الدور في الدليل الإستقرائي هو جون لوك، اواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، لكن صياغة هذا النوع من التناقض لم تنكشف بجلاء إلا عند هيوم، رغم أنه لا هذا الأخير ولا سابقه لوك قد استخدم مصطلح (الإستقراء) في سياق كلامه عن ذلك التناقض8.
لقد ادرك هيوم انه لا يوجد ما يبرر الدليل الإستقرائي، سواء لجأنا إلى القياس أو إلى الإستقراء ذاته. فمن حيث ان النتيجة في الإستقراء هي غير منتزعة من المقدمات ولا مستبطنة فيها، فهذا يجعله لا يستند إلى القياس، أما لو إعتبرناه مبرراً تبعاً لعملية النجاح الإستقرائي في الماضي، فإن ذلك يجعله واقعاً في الدور9.
وتوضيحاً للنقطة الأخيرة، هو ان العملية الإستقرائية لا يمكن لها أن تتم بالشكل المطلوب ما لم يكن هناك إفتراض يقرر بأن العلاقات الجارية في الطبيعة هي علاقات حتمية. وحيث أن هذا الإفتراض لا يمكن البرهنة عليه؛ لذا فإن الإستقراء يظل عاجزاً عن تقديم المعرفة الجديدة. فعلى رأيه أن كل محاولة يراد لها البرهنة على صحة الإستدلال الإستقرائي لا بد أن تواجه حلقة فارغة من الدور. فقد يقال بهذا الصدد ان ملاحظاتنا السابقة للوقائع في الطبيعة هي التي علمتنا صحة الدليل الإستقرائي. فنحن نلاحظ دائماً أن الاوراق التي توضع في النار تحترق، وأن الحديد الذي نقربه من الحرارة يتمدد، وأن الشمس تشرق وتغرب كل يوم، وأن السمك يموت خارج الماء… الخ. فجميع هذه الظواهر جعلتنا نعتبر أن بالإمكان أن نعمم عليها الحالات الأخرى المشابهة لها.
لكن واقع الأمر أننا نستدل على الدليل الإستقرائي من خلال إستقراء آخر، فيتحتم علينا أن نقع في الدور10. وسنبرز هذه الحجة من خلال المثال التالي:
لنفترض أنا نريد أن نستدل على القضية القائلة بأن كل نار تحرق. ففي هذه الحالة لا بد من توفر مقدمتين بالشكل التالي:
الاولى عبارة عن ملاحظاتنا السابقة التي كشفت عن صفة الاحراق للنار. أما الثانية فهي الاقرار بأن الأشياء المتشابهة تخضع إلى نفس الحكم. فمن هاتين المقدمتين نستنتج أن كل نار تحرق.
لكن الملاحظ أن المقدمة الثانية إما أن تكون مصادرة على الإستقراء أو مستدلة به، ولا شك أنه لا يوجد ما يبرر المصادرة، فتبقى انها عبارة عن نتاج إستقرائي، فنكون قد وقعنا بعملية فارغة من الدور. ولا فرق في ذلك فيما لو قلنا ان ما نشاهده من اطرادات منتظمة في الماضي تخول لنا ان نتوقع استمرارها في المستقبل، وما لو قلنا ان نجاح قاعدة الإستقراء في الماضي تدعونا إلى توقع نجاحها في المستقبل، فكل ذلك مما يتضمن الدور، أو إفتراض مصادرة ان الشبيه يأتي بالشبيه طبقاً للقانون الأرسطي (الحالات المتشابهة تفضي إلى نتائج متماثلة) والذي هو أيضاً نتاج العملية الإستقرائية ذاتها، مما يؤكد ما نحن فيه من الدور.
وهناك عبارات عديدة لهيوم يشير فيها إلى هذا النوع من الإفتراض المتعلق بتشابه المستقبل للماضي، ومن ذلك قوله: ‹‹كل النتائج التجريبية تقوم على إفتراض كون المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي››، ‹‹وان جميع الأدلة المعتمدة على الخبرة تفترض أساساً كون المستقبل سيشابه الماضي››، ‹‹وان كل التفكير القائم على الخبرة يتأسس على إفتراض ان عمل الطبيعة سوف يستمر على نفس الهيئة باضطراد››11.
فهذه الحالة من الدور هي نفسها التي لم يكترث لها ستيوارت مل فتعرض إلى نقد من جاء بعده، ومن أبرز هؤلاء النقّاد برتراند رسل الذي قال: ‹‹كان الكتاب الذي أذاع شهرته – لجون ستيوارت مل – أكثر من أي شيء آخر هو كتاب (نسق في المنطق). وكان الشيء الجديد في الكتاب بالنسبة إلى عصره هو معالجته للإستقراء الذي يقوم في رأيه على مجموعة من القواعد تذكرنا إلى حد بعيد بقواعد الارتباط السببي عند هيوم.. وكان رأي مل هو ان ما يعطي مبرراً للسير على هذا النحو – أي بالنسبة إلى تبرير البرهان الإستقرائي – هو الاطراد الملاحظ في الطبيعة، الذي هو ذاته إستقراء على أعلى مستوى. وبالطبع فإن هذا يجعل الحجة كلها حلقة مفرغة، وإن كان يبدو أنه لم يكترث بهذا الامر››12.
وعلى هذه الشاكلة من عدم الاكتراث ما ذهب إليه كل من ماكس بلاك وبريثوايت، حيث إعتبرا الاطراد في الماضي ونجاح الإستقراء فيه دليلاً على نجاحه في المستقبل، ولم يحسبا ذلك من الدور الباطل، بل هو دور بالمعنى الذي تؤكد فيه النتيجة صحة ما سيكون عليه الأمر في الحالات التنبؤية أو المستقبلية. فهذا الدور عندهما ليس فاسداً ولا معاباً أو منافياً للحجة. وقد تعرضا على ذلك للنقد من قبل الاخرين13.
هكذا ان هيوم يُشْكل على الدليل الإستقرائي بأنه يفشل كلياً في تأسيس المعرفة الخاصة بالتنبؤات المستقبلية وغير المشاهدة إذا ما كانت الطبيعة غير منتظمة أو مطردة، وانه لا يمكننا ان نعرف، لا قبلياً ولا بعدياً، حقيقة ما عليه الطبيعة من انتظام أو عدم انتظام. فلا يوجد سبب قبلي ولا بعدي يبرر صحة الدليل الإستقرائي، إذ القبلي لا يكشف ولا يخبر عما في الخارج، وان البعدي يعتمد على الإستقراء ذاته؛ فكيف يمكن تبرير ذاته؟!
وقد كان عدد من المفكرين يرون مبدأ انتظام الطبيعة واطرادها أساساً قبلياً لحل مشكلة الإستقراء وتبريره، فلو رأينا ظاهرتين إحداهما تتبع الأخرى على الدوام، فالنتيجة تعني انهما سيستمران على هذا النحو من التتابع في المستقبل طبقاً لذلك المبدأ. وهو مبدأ مستقل عن الزمان والمكان، فلو اننا لاحظنا ان الغاز يتمدد بالحرارة في مكان أو لحظة ما يكون فيها الضغط ثابتاً، فإن ذلك يجعلنا نتأكد من حصول هذه النتيجة على الدوام في المستقبل، وبعض الفلاسفة فضّل صياغة هذا المبدأ بالقاعدة التي تقول: ان نفس السبب ينتج النتيجة ذاتها. أو كما يقول المنطق الأرسطي: (الحالات المتشابهة تنتج نتائج متماثلة). لكن المعترضين على هذا المبدأ رأوا انه وضع كتبرير لحل المشكلة الإستقرائية مع انه يحتاج إلى تبرير، فهو ليس مبدأً منطقياً بحيث ان مخالفته تفضي إلى التناقض، وبالتالي فهو مستمد من التجربة، الأمر الذي يفضي به إلى الوقوع في الدور، مثلما اكد على ذلك هيوم14. ومع انه ليس بالضرورة ان يكون كل مبدأ قبلي قائماً على مبدأ عدم التناقض، لكن لا شك من أنه لا بد أن يقوم على مبدأ الضرورة العقلية إن كان عاماً وشاملاً بلا حدود.
وعلى رأي هيوم ان خبرتنا الماضية ليست فقط لا تبرر لنا ما سيحدث غداً على وجه اليقين، بل إنها أيضاً لا تبرر ذلك على وجه الإحتمال، إذ الإحتمال على رأيه مستمد من نفس إفتراض التشابه المنزوع عن الإستقراء، فكيف نقيم الحكم عليه15؟!
وعلى حد قوله: ‹‹ان الإحتمال يتأسس على إفتراض المشابهة بين تلك الموضوعات التي لنا فيها خبرة وتلك التي لم نجربها بعد››16. فالإحتمال المتعلق بمعرفة الواقع عند هيوم ينقسم إلى قسمين: أحدهما الإحتمال التخميني الخاص بالمصادفات، والآخر الإحتمال البرهاني الخاص بالاطرادات السببية، ويتصف بأنه ينشأ في البداية على أساس الأول. إلا ان كليهما منزوعان عن الإنطباعات الحسية التي تفسرها العادة بحسب كثرة الاحساس بوقوع الحوادث المتشابهة17. وهما على هذا عاريان عن الشكل المنطقي كما هو في ذاته18.
مهما يكن فالملاحظ ان محاولة هيوم لإلصاق المغالطة في تبرير الدليل الإستقرائي على أساس الخبرات الماضية؛ هي صحيحة تماماً. لكن ما ابداه حول تفسير الإحتمال برده إلى الإنطباعات الحسية وتفريغه من الطابع المنطقي هو تفسير ساذج لا يُقر عليه.
2 ـ الإستقراء وتحليل السببية
في هذا الجانب يعتمد هيوم في كشفه لطبيعة الإستقراء على تحليل السببية منطقياً ونفسياً بالصورة التي نوضحها كما يلي:
الإستقراء والتحليل المنطقي للسببية
في التحليل المنطقي يتناول هيوم بحث الارتباطات الخارجية التي تتضمن علاقة السببية ان كانت تنطوي على ضرورة موضوعية أم لا؟ فمن المعلوم ان المذهب العقلي سلّم بأن هناك ارتباطات ضرورية لعلاقات السببية الخاصة في الخارج؛ هي التي تبرر عملية التعميم في الدليل الإستقرائي. بيد ان هيوم اخضع هذا الإفتراض إلى محك النقد والتحليل، فما هو المبرر الذي يجعل علاقات الطبيعة تتصف بالحتمية والضرورة؟
ان هيوم بإعتباره فيلسوفاً حسياً ليس بوسعه ان يعوّل على المصادرات القبلية. لذا لم يبق لديه إلا البحث الخارجي من خلال الملاحظة والتجارب؛ علها تكشف لنا عن صفة الضرورة في العلاقة السببية.
وإذ يمكن أن نتساءل: هل هناك سبيل – مثلاً – لأن نستكشف العلاقة الحتمية بين تمدد الحديد وبين الحرارة حين نراهما مقترنين معاً باطراد؟ يجيب هيوم –ومن حقه ذلك – بأن كل ما نراه إنما هو وجود إقتران مطرد، فالتجربة لا تتمكن من أن تضيف لنا شيئاً آخر أكثر من ذلك. وهو يضرب لنا مثلاً على ذلك، ويقول بأن ‹‹كرة بيلياردو تتدحرج باتجاه كرة أخرى، تتصل الاثنتان ببعضهما، فتتحرك الثانية، لا يوجد هنا شيء قابل للملاحظة يمكن تسميته علاقة حتمية››19.
بهذا يصل هيوم إلى انه لا يمكن اكتشاف الضرورة في علاقة السببية ولا إقامة الدليل عليها مهما كان حجم الاطرادات التي نراها. وهو بذلك لا يفرق إن كانت السببية خاصة أو عامة، إذ كلاهما لديه يخضعان إلى نفس الحكم. فهو يعتبر السببية العامة ليست من القضايا التحليلية التي تتصف علاقاتها بالضرورة والمنطقية كالرياضيات ومبدأ عدم التناقض؛ حيث النتائج فيها منتزعة من نفس مقدماتها، لهذا كانت لا تخبر بشيء عن الواقع الخارجي20. وهو إذ يعتبر مبدأ عدم التناقض أساس هذه القضايا؛ فإنه يرى ان كل قضية لا يتناقض خلافها معها فهي تحتاج إلى دليل من التجربة؛ بخلاف القضية التي تنطوي على التناقض.
فمثلاً ان القضية القائلة ‹‹ان الاعزب هو من لا زوجة له›› هي قضية تحليلية؛ بإعتبار ان خلافها ينطوي على تناقض، وذلك لأن معنى المحمول هو عين الموضوع. أما مع السببية العامة فالأمر يختلف تماماً، إذ كشف هيوم – بحق – ان خلافها لا ينطوي على تناقض، إذ لا مانع منطقياً من وجود حوادث بدون اسباب، أو على حد تعبيره الخاص: ‹‹ليس ثمة شيء ينطوي على شيء آخر››21، مما يعني انها ليست مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، وبالتالي فلا بد ان تحتاج إلى دليل من التجربة. لكن كيف للتجربة ان تدل عليها وهي عاجزة عن كشف الضرورة؟!
بذلك التحليل يقرر هيوم ان لا سبيل إلى إثبات الضرورة ولا إلى نفيها، فهي في كل الأحوال تظل مشكوكة الوجود ابداً. والدليل الإستقرائي الذي يعتمد عليها يظل عاجزاً عن النهوض لإثبات التعميم في العلاقات الخارجية المطردة.
وقد كانت هذه المشكلة التي طرحها هيوم موضع اهتمام الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت الذي حاول حلها بإفتراض العلاقة السببية كمقدمة لا غنى عنها، فاعتبر ان موضوعات أحكامنا الإدراكية مبنية على تلك العلاقة، وان كل سببية خاصة تفترض اطراد الاتصال في هذه العلاقة، وبالتالي فإن اطراد الطبيعة يشمل كل العالم الظاهر القابل للإدراك. لكن هذه الفكرة لم تقنع النقاد، إذ ان نظرية كانت لم توضح وجه اللزوم العقلي الذي تحتاجه عمليات الإستقراء، ولم تبيّن لماذا مثلاً تتفوق فرضية على أخرى تبعاً لعدد ما تقدمه من أدلة وبيّنات22.
***
هكذا هناك عدد من النقاط الأساسية التي يمكن إستنتاجها من التحليل المنطقي الذي أفاده هيوم، وهي كالآتي:
1 ـ إن أساس معرفة السببية يعود إلى التجربة لا العقل، بإعتبارها لا تستنبط من مبدأ عدم التناقض.
2 ـ ليست الضرورة من القضايا التي يمكن للتجربة ان تثبتها أو تنفيها.
3ـ على هذا فإن عدم إثبات الضرورة يجعل من التعميم في الدليل الإستقرائي فاقداً للتبرير المنطقي.
هذه أهم النقاط التي نستخلصها من تحليل هيوم للسببية وعلاقتها بالدليل الإستقرائي. وقد عرّضها بعض المفكرين للنقد والتحليل، ومنهم المفكر الصدر، فهو يختلف مع هيوم حول النقطة الأولى المتعلقةبتفسير أساس معرفتنا بمبدأ السببية (العامة)، ويتفق مع العقليين في كونها قبلية. لكنه مع ذلك لا يعتبرها مستنبطة من مبدأ عدم التناقض أو غيره من المبادئ القبلية، بل حسبها من القضايا الأولية المنطوية على الضرورة23. وهو بهذا لا يوافق على التقسيم الذي أجراه هيوم بحق القضايا، إذ كما عرفنا أنها تدور لديه بين ان تكون تجريبية أو مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، والحال ان السببية عند الصدر لا تنضم إلى أي من هذين المنبعين.
وحول النقطة الثانية يعتقد الصدر خلافاً لهيوم ان بإمكان التجربة إثبات الضرورة في العلاقة السببية، سواء الخاصة منها أو العامة، مؤكداً بأنه حتى مع استبعاد الجانب القبلي للسببية العامة فإن من الممكن إثباتها بالتجربة24. كل ما في الأمر ان ذلك يقوم على أمرين مجتمعين معاً: ‹‹الاول: معطيات الخبرة الحسية التي تبدو فيها الحادثتان مقترنتين مرات عديدة. والاخر: الإحتمال العقلي المسبق للواقع الموضوعي للعلية، نتيجة لعجز التفكير العقلي المحض عن الإثبات والنفي.
فالخبرة + الإحتمال المسبق = الدليل على الواقع الموضوعي للعلية››25.
أما موقفه من النقطة الأخيرة فيعتمد على ما مر قبل قليل، إذ ان التعميم لا يثبت ما لم تثبت – على الأقل – الضرورة في العلاقة السببية. لهذا رأى ان من الممكن إثبات التعميم استناداً إلى إثبات الضرورة إستقرائياً. لكننا نعتقد انه لا سبيل لإثبات الضرورة بالتجربة. وبالتالي فإذا كان من الممكن تبرير الضرورة في السببية العامة بإعتبارها قضية أولية، فإن ذلك لا يصح مع الضرورة في السببية الخاصة، حيث انها ليست من القضايا الأولية، كما انه لا يمكن إثباتها عبر التجربة. الأمر الذي ينعكس أثره على التعميم في القضية الإستقرائية، فطالما ان هذه الضرورة لا يمكن إثباتها، فلا مجال – إذا – لإثبات التعميم أو تبريره.
وقد نتساءل أخيراًإنه إذا كان هيوم قد شكك في قيمة الدليل الإستقرائي ونتائجه فكيف كان يتعامل مع الأشياء في حياته اليومية؟ فعلى سبيل المثال: إذا أراد أن يجهز لنفسه ابريقاً من الشاي، ألم يعتقد أنه سيحتاج إلى استخدام الحرارة والماء وما إلى ذلك من أمور؟ واذا اراد ان يرجع إلى بيته فهل كان يشك في بقاء مكانه على ما تركه؟ وعلى العموم: هل كان الشك المنطقي الذي أبداه هيوم في الدليل الإستقرائي منعكساً على طريقة حياته الخاصة؟
لنستمع إلى ما يقوله فيلسوف الشك عن نفسه وهو يجيب عن مثل تلك الأسئلة: ‹‹لو سئلت هنا عما إذا كنت اوافق بصدق على هذه الحجة التي يبدو انني أجهد نفسي من اجل دعمها، وعما إذا كنت بحق واحداً من هؤلاء الشكاكين الذين يرون ان كل شيء غير مؤكد، وان حكمنا على أي شيء لا يتم بأي قدر من الحقيقة أو البطلان؛ لأجبت ان هذا السؤال لغو في صميمه، وانني لم اكن ابداً اقول بهذا الرأي باخلاص وثبات، ولا كان أي شخص آخر يقول به. فقد حتمت علينا الطبيعة بحكم ضرورة مطلقة وقاهرة ان نصدر أحكاماً مثلما نتنفس ونشعر.. أما الذي يجهد نفسه من أجل تفنيد أخطاء هذا الشك الكامل فإنه في الواقع قد دخل في نزاع ليس فيه معارض››26.
بيد أنّا نتساءل: ما هي هذه الطبيعة القاهرة التي يمكنها أن تجعل أفكارنا العملية متسقة لا يشوبها خلل ولا شك؟ وعلى إفتراض أنها تفعل ذلك، فهل هناك علاقة بينها وبين التفكير المنطقي المجرد الذي انتهى إليه هيوم؟ وهل كان هذا الفيلسوف يعاني عقدة من التناقض بين ما يملي عليه العقل وبين ما تضفي عليه الطبيعة من أحكام مخالفة؟
هذه تساؤلات تجعلنا ندخل إلى التحليل النفسي للدليل الإستقرائي كما رسمه لنا فيلسوف الشك. فلنبحث أولاً عن الطبيعة القاهرة التي إعتبرها هيوم مصدر التفكير المنسجم مع الحياة العملية. فما هي هذه الطبيعة يا ترى؟
التحليل النفسي للسببية
لم يكن أمام هيوم وهو يواجه مشكلة مستعصية غير التعويل على طريق آخر لبحث الموضوع؛ عله يجد ما يخفف عن المشكلة. فقد ترك العقل المجرد بعد ان وجده خالياً من الأدلة والمبررات، واتجه نحو ‹‹الطبيعة›› وهي تعمل بتلقائية دون اكتراث بصاحبها. فقد حاول هيوم ان يلقي ضوءً على الشروط التي تقوّم فكرة السببية، واستخدم لذلك مثاله الخاص بكرة البيلياردو، إذ كثيراً ما نعبر عن حركة الأولى بأنها سبب لحركة الثانية. وفي هذا المثال لاحظ وجود إقتران مكاني وتعاقب زماني بين الحادثتين، لكنهما مع ذلك لم يكفيا عنده ان يحققا ظرف السببية، فأقر بوجود شرط ثالث هو المعبر عنه بـ ‹‹الضرورة›› التي تجعل الحادثة الثانية واجبة الوجود حين تتحقق الحادثة الأولى.
تلك هي مقومات السببية عند هيوم الذي إعتبر الشرطين الأولين عبارة عن صفتين محسوستين بخلاف الشرط الأخير. لهذا حاول ان يبحث عن مصدر صفة هذا الشرط في افكارنا، طالما ان التجربة لا يسعها الكشف عنه. فحين ننظر إلى علاقة السببية بين الحرارة وتمدد الحديد يمكن أن نتحسس بإقترانهما وتعاقبهما، لكنا لا نتحسس بضرورتهما، فكيف نفسر ما في أذهاننا من ضرورة تجعلنا نتصور أنه كلما قربنا الحديد من الحرارة فإنه يتمدد؟
لقد بحث هيوم عن مصدر هذه الفكرة، فلاحظ أنها تقترن مع صفة أخرى نطلق عليها الاطراد أو التتابع المستمر، فحيث لا يوجد اطراد، فلا ضرورة هناك، كما هو الحال مع مثال حركة كرة البيلياردو. فبهذا المفتاح أقام فيلسوفنا تفسيره لوجود الضرورة في علاقة السببية. فنحن حين نلاحظ ظاهرتين تتصفان بالإقتران والتعاقب باطراد فإنه سينشأ في مخيلتنا رباط قوي بين فكرتي الظاهرتين، بحكم العادة. فلو أنه حضرت إحدى الفكرتين؛ فما على الفكرة الأخرى إلا أن تعقبها، وهو ما يبرر لنا كيفية الحكم على الأشياء الخارجية. إذ لو تحسسنا بوجود الظاهرة السابقة لكنا نحكم بضرورة وقوع الظاهرة الأخرى؛ نتيجة ما اعتدنا عليه من مشاهدات حسية جعلت أذهاننا مهيأة لافراز العلاقة القوية بين الفكرتين. فمثلاً في حياتنا اليومية نتحسس على الدوام بأن هناك تلازماً بين ظاهرتي النار والاحراق، وبحكم العادة تنشأ في مخيلتنا علاقة قوية بين فكرتي هاتين الظاهرتين، لكن بسبب هذه القوة فانا نضطر إلى أن ننزعها على الواقع ونظن أنها خارجية، بحيث كلما لاحظنا ناراً سنحكم عليها بأنها تحرق، مع أنه من الناحية المنطقية لا دليل على ذلك، رغم ما نجده من التهيؤ الذهني الحاد الذي أطلق عليه هيوم ‹‹تداعي المعاني››27.
من ذلك التحليل توصل هيوم إلى ان يعرّف العلة باحدى صيغتين كالتالي: ‹‹شيء سابق ومقترن بشيء آخر، حيث تقع كل الأشياء المشابهة للأول في موقع مشابه من السبق والإقتران بالنسبة للأشياء التي تشبه الأخير››. أو انها ‹‹شيء سابق ومقترن بشي آخر ومتحد معه، بشكل يجعل فكرة الواحد منهما يدفع العقل إلى تكوين فكرة الآخر، وإنطباع الواحد منهما يشكل فكرة أكثر وضوحاً عن الاخر››28.
ومع ان هيوم يؤكد على دور العملية الذهنية في تكوين فكرة الضرورة لدى العلية29؛ إلا انه يعترف بعجزه عن تفسير هذا النشاط النفسي، فكما يقول: ‹‹ان في علاقة التداعي تناقضاً صريحاً: كيف يمكن أن يوجد مبدأ ارتباط إذا كانت إدراكاتنا منفصلة مستقلة بعضها عن بعض؟ هذه معضلة تفوق طاقة عقلي››30.
والنتيجة التي يخرج بها هيوم من تحليله السابق هو انه لا يمانع من الناحية الواقعية ان يكون أي شيء سبباً لأي شيء آخر، أو ان تحدث الأشياء من غير اسباب، وان ما يستدل به على السببية ليس العقل بشكله القبلي، بل التجربة من خلال الاحساسات المتكررة لحالة الاطراد، مما يعني ان الاحساسات القليلة لا تبعث على خلق الضرورة في مخيلتنا الذهنية بواسطة تداعي المعاني.
تلك هي فلسفة هيوم في تحليله النفسي لعلاقة السببية. وهي فلسفة تبرر قيام الدليل الإستقرائي من الناحية النفسية، بردها إلى مركز العمليات اللاعقلية المسماة بالطبيعة القاهرة، وإن كانت تعجز عن تبريره منطقياً.
نقد التحليل النفسي
تتلخص النتائج التي توصل إليها هيوم في تحليله السابق إلى هاتين النقطتين:
1 ـ تتعلق السببية كمفهوم نفساني بكثرة ما يتحسس به الفرد من تكرار في علاقة الإقتران بين الظاهرتين المتعاقبتين، لا انها صيغة قبلية.
2 ـ يستحيل تبرير الدليل الإستقرائي من الناحية المنطقية، وإن كان يمكن تبريره نفسياً بواسطة تداعي المعاني الناشئ عن العادة، وذلك من خلال تحليل السببية بالصورة التي تُنتزع فيها الضرورة من المخيلة النفسية لتفرض على الواقع.
وحول النقطة الأولى يلاحظ انها إن استطاعت ان تفسر السببية الخاصة فإنها عاجزة عن تفسير السببية العامة، فربما نحكم على حادثة معينة بالسببية وإن لم نتحسس بها إلا لمرة واحدة فقط. كذلك فإن الضرورة التي نشعر بها في هذه الحالة تختلف عما نشعر به في العلاقة الخاصة للسببية، فما أيسر التسليم بالحكم القائل ان النار قد لا تحرق لخلوّها من الضرورة، لكن ما أعسر الحكم الذي ينفي مطلق السبب عن حدوث زلزال لم يسبق أن خبرناه من قبل؟ هكذا فمن أين حصلنا على هذه الضرورة في الحوادث الفريدة؟ وكيف نفسر عليها تداعي المعاني إذا كنّا لم نتحسس بالسبب اطلاقاً؟
على أن تفسير ‹‹الضرورة›› بواسطة تداعي المعاني يقتضي الاقرار بدءاً بالسببية. إذ لم يكتفِ هيوم بالاعتراف بالضرورة النفسية وإنما سعى ليبحث عن سبب وجودها. الأمر الذي اوقعه بالدور، فهو يفسر السببية من خلال التداعي في الوقت الذي يجعل العلاقة بين التداعي والضرورة النفسية هي علاقة قائمة على السببية. أي حيث هناك تداعي معاني فهناك ضرورة، وهذا الإقتران والتعاقب بين الظاهرتين النفسيتين باطراد هو ذات البند الذي إعتبره هيوم شرطاً لتحقق ما نحسبه سببية في الواقع الموضوعي، أي ان الظاهرتين النفسيتين يخضعان إلى حكم السببية، مما يتولد عن ذلك الدور والتسلسل.
كما ان رغبة هيوم لمعرفة سبب اتخاذ العملية النفسية لإسلوب التداعي بدلاً عن إسلوب الإنفصال بين الافكار؛ إنما هو دليل آخر على ما في قرارة نفسه من ايمان بالضرورة السببية، بحيث لم يحتمل قط ان تكون العلاقة بينهما صدفة مطلقة.
وعلى العموم ان التفسير النفسي لهيوم ناجح إلى الحد الذي فيه اقرار لما تتأثر به مخيلتنا من تصورات إنطباعية قد تفرضها على الواقع الموضوعي، لكن ذلك يختلف عما يراد تفسيره منطقياً. لهذا نجد في العلاقة الخاصة للسببية أن الإنطباع الحسي المتكرر يمكنه أن يؤثر على المخيلة كحالة نفسية تفسرها نظرية تداعي المعاني، أما من الناحية المنطقية فلا تفسير لذلك سوى الارتكاز إلى قوانين الإحتمال وحساباته، بدلالة ان أي خطأ ملحوظ يحدث في التجربة يفضي إلى تغيير طبيعة الحكم المنطقي، رغم بقاء الاثر النفسي الذي يمكن أن يؤدي إليه التداعي. فعلى سبيل المثال – وكما يقول المفكر الصدر -: ‹‹نفرض أن إنساناً حاول أن يجرب أثر استعمال مادة معينة على المصابين بالصداع، فلاحظ ان استعمال تلك المادة في أشخاص كثيرين قد إقترن بظاهرة معينة، فسوف يستنتج أن تلك المادة سبب لهذه الظاهرة. ومرد الإستنتاج – في رأي هيوم – إلى العادة الذهنية. ولنفرض ان الممارس للتجربة قد كشف، بعد ذلك، ان شريكه – االذي قدم إليه مرضاه المصابين بالصداع الذين أجرى تجاربه عليهم – كان يتعمد اختيار المريض الذي تتوفر فيه الظروف التي تؤدي إلى وجود تلك الظاهرة، لكي يضلل الممارس للتجربة في اكتشافه، فمن الطبيعي ان يزول إعتقاد الممارس بالعملية بعد هذا الاكتشاف، فلا يتوقع وجود الظاهرة في شخص بسبب استعماله لتلك المادة››31.
أما فيما يخص النقطة الثانية، فالملاحظ ان هيوم قد جعل من الدليل الإستقرائي حالة نفسية دون ان يكون له اثر منطقي. ونحن وان كنّا لا نمنع الاثر النفسي الذي يبلغه الخيال في الأحكام الإستقرائية، لكن ذلك لا يحيل من وجود منطق خاص يقوم عليه الإستقراء، وهو منطق الإحتمال الذي لم يقتنع به هذا الفيلسوف.
هيوم بين الطبيعة والعقل
لقد أدرك هيوم المأزق الحاد الذي وصل إليه في تفسيره للمعرفة بشكل عام، حيث وقع ضحية طرفين متناقضين يتنافسان عليه، فوقف وقفة المتردد الحائر بين ما تضفيه عليه أفكاره وتأملاته، وبين ما تجذبه إليه الطبيعة من التفكير العادي كبقية الناس، أو التعامل كما تريد له الطبيعة أن يتعامل. وكأنه في ذلك يقف بين الجنة والنار؛ بين ما تفيض عليه الطبيعة من ثقة وحنان، وبين ما يهدم له العقل من تفكير.
ولعل من المفيد أن أنقل نص هيوم وهو يعبّر عن المأزق المأساوي الذي عاشه فكتب يقول: ‹‹ولكن ماذا تراني أقول هنا؟ بأن التأملات الراقية جداً والميتافيزيقية لا تؤثر فينا؟ من الصعب عليّ أن لا أتراجع عن هذا الرأي وأرفضه حين أنظر إلى شعوري وتجربتي الحاضرين. إن مظهر هذه النواقص والتناقضات الحادة والمتعددة الوجوه في العقل الإنساني قد أثّر بي كثيراً، وشوش عقلي لدرجة أصبحت معها مستعداً لرفض أي إعتقاد وإستدلال، ولا أستطيع القبول بأي رأي على أنه أكثر إحتمالاً من غيره. أين أنا وما أنا؟ ما هي العلة التي أشتق وجودي منها؟ والى أي شرط يجب ان أعود؟ وحظوة من يجب ان ألتمس، وغضب من يجب ان أرهب؟ وما هي المخلوقات التي تحيط بي؟ على من استطيع التأثير؟ ومن يستطيع التأثير علي؟ لقد اربكتني كل هذه الاسئلة، وبدأت اتخيل نفسي في أكثر الحالات يأساً، محاطاً بأحلك الظلمات، وقد فقدت القدرة على استعمال أية ملكة أو عضو. ولكن من حسن الحظ انه في حين يعجز العقل عن تبديد هذه الغيوم، تكفي الطبيعة نفسها لهذا الغرض وتشفيني من الكآبة والهذيان الفلسفي؛ إما باسترخاء هذا الميل العقلي أو بتذكر ما، وإنطباع مشرق للحواس يمحو كل هذه الاوهام. وهكذا اتناول طعامي، والعب بالنرد، واتحادث مع الاخرين واصرح مع اصدقائي، ثم بعد ثلاث أو أربع ساعات من اللهو ارجع إلى هذه التأملات فأجدها قاحلة وسخيفة ولا أجد أية رغبة في نفسي للخوض فيها ثانية. وهكذا أجدني عازماً عزماً تاماً على الحياة والتكلم والتصرف كجميع الناس في حياتهم اليومية، ولكن على الرغم من أن ميلي الطبيعي وانفعالاتي الحيوانية تهبط إلى هذا القبول الخامل للمبادئ العامة في العالم؛ فأنا ما زلت اشعر ببقاء شيء من حالتي السابقة يجعلني ارغب في إلقاء جميع كتبي واوراقي في النار واقرر ان لا انبذ ملذات الحياة ابداً في سبيل التأمل والفلسفة؛ لأن هذا هو شعوري في ذلك المزاج الذي يسيطر علي الان، ربما استسلم، لا بل عليّ ان استسلم لتيار الطبيعة فأسلم امري لحواسي وفكري. وبهذا الاستسلام الاعمى اظهر بصورة تامة مبادئي ووضعي الريبيين. ولكن هل يعني هذا بأنه يجب عليّ ان اناضل ضد تيار الطبيعة الذي يقودني إلى الخمول والملذات؟ وان عليّ ان انزوي إلى درجة ما بعيداً عن معاملات الناس ومجتمعهم الذين يمداني بالمسرات؟ وأن عليّ ان اعذّب عقلي بدقائق وفلسفات في الوقت الذي لا استطيع فيه اقناع نفسي بمنطقية هذا العمل الشاق، ودون ان يكون لي أمل في الوصول بوساطته إلى الحقيقة واليقين؟ ما هو الواجب الذي يجعلني أسيء استعمال وقتي بهذا الشكل؟ وما الغاية التي تخدمها، سواء كان لمصلحة الإنسانية جمعاء أو لمصلحتي الشخصية؟ كلا إذا كنت سأتصرف أحمقاً مثل جميع أولئك الذين يفكرون أو يعتقدون بوجود أي شيء عن يقين فإن حماقاتي ستكون طبيعية وسارة. وحين أناضل ضد ميولي فسيكون لي سبب مقبول لمقاومتي. ولن أُقاد تائهاً في قفار موحشة، وممرات وعرة كالتي سرت فيها حتى الان..››32.
1انظر:I. Hacking, The Emergency of Probability, Cambridge University Press, 1975, p.31. And see also: J. Katz, The Problem of Induction and its Solution, The University of Chicago Press, Chicago, 1962, p.17.
2 Katz; p.45.
3 انظر:Stove; p.14.
4 Katz; p.45.
5انظر: C. Wesley Salmon, ‘The Concept of Inductive Evidence’, in: Swinburne, Intruduction; The Justification of Induction, Oxford University Press, 1974, p.49.
6 Katz; p.99. .
7دايفد هيوم: تحقيق في الذهن البشري، ترجمة محمد محجوب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008م، ص52 و208، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
8انظر: L. Jonathan Cohen, An Introduction to the Philosophy of Induction and Probability, Oxford University Press, New York, 1989, p. 176ـ177. .
9 Katz; p.43. .
10 انظر: تحقيق في الذهن البشري، ص61ـ63.
11 Stove; p.8.
12 برتراند رسل: حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، عدد (72)، 1983م، ج2 ، ص219.
13انظر:Richard Swinburne, Introduction; The Justification of Induction. edited by Swinburne, Oxford University Press, 1974, p.13. .
14انظر:Madden, ‘Introduction; The Riddle of Induction’, in: The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p.288ـ289.
15 عصر التنوير، ص243ـ244. كذلك:John Hospers, An Introduction to Philosophical Analysis, 3rd. ed. London, p.199. .
16 Stove; p.8.
17دايفد هيوم: تحقيق في الذهن البشري، ص80. ديفيد هيوم، ص79ـ80.
18فرّق هيوم بين الإحتمال المنطقي والإحتمال التخميني من خلال مثال عرض فيه علة ترجيحنا للعدد المكرر على أربعة جوانب دون العدد المكرر مرتين في قطعة زهر خاصة؛ فاعتبر الحكم المنطقي يقضي بتساوي الإحتمالات في الجوانب الستة جميعاً، لكن الحكم الذي رجح العدد الأول يرجع إلى تبرير نفسي، إذ على رأيه ان الخيال حين يمر على الجوانب الستة مراً سريعاً؛ يجعل الصورة الذهنية للعدد المكرر أربع مرات أوضح وانصع من الصورة الذهنية للعدد الآخر المكرر مرتين، وذلك بسبب فارق الزيادة للإنطباع الحسي (ديفيد هيوم ص80ـ81).
19 عصر التنوير، ص240. كذلك: ديفيد هيوم، ص71ـ72 و86.
20 نشأة الفلسفة العلمية، ص85.
21 عصر التنوير، ص239.
22 Cohen; 1989; p.178ـ179. .
23الاسس المنطقية للإستقراء، ص111و114.
24 لاحظ، ص78ـ79.
25 ما يبدو في هذا النص انه يناسب إثبات السببية الخاصة دون العامة، لتضمنه القول بعجز التفكير العقلي المحض عن إثبات العلية أو نفيها، ولو كان المراد منه السببية العامة لما صحّ هذا الكلام، كما ان مناسبة ذكره إقترنت بمناقشة هيوم حول السببية الخاصة، لكن في جميع الأحوال ان مفاد النص ينطبق على كلا السببيتين (الأسس المنطقية للإستقراء، ص117).
26 حكمة الغرب، ج2 ، ص140ـ141.
27 انظر: تحقيق في الذهن البشري، ص76 و83ـ84 و107 و111.
28 عصر التنوير، ص275.
29 أصبح من المعروف ان تحليل هيوم يشابه ـ إلى حد كبير ـ ما نصّ عليه الغزالي في تفسيره لعلاقة السببية الخاصة؛ رغم ما بينهما من اختلاف مذهبي كبير.فمثلاً يقول الغزالي: ‹‹الإقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً ليس ضرورياً عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمناً لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والاكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، واسهال البطن واستعمال المسهل.. الخ›› (الغزالي: تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، الطبعة الخامسة، ص239).
30 يوسف كرم: الطبيعة وما بعد الطبيعة، دار المعارف بمصر، ص121.
31 الأسس المنطقية للإستقراء، ص123.
مبادئ الطبيعة الإنسانيّة عند دافيد هيوم
يمكن الحديث عن مبادئ الطبيعة الإنسانيّة[1] عند دافيد هيوم David Hume انطلاقاً من تصوّر محدّد لعلم غير مكتمل يضع الفهم الإنساني في اتصال مباشر مع العالم أو التجربة، باستطاعته حمل اسم السيكولوجيا التجريبيّة أو سيكولوجيا انفعالات الذهن، يوضح تأثّر الفكر وانفعاله تجاه معطيات التجربة؛ فمبدأ الفهم يقتضي بالدرجة الأولى انصهاره المباشر في عالم المعطى الذي يمثّل شرطه الحسي وقالبه الخارجي، لكنه يحتاج إلى ذاته أيضاً بوصفه سيرورة من العمليّات الذهنيّة تتشكّل وترتبط فيما بينها على شكل صور تمكّن من قراءة الواقع.
تتشكّل من هذا المنطلق ميكانيكا ذهنيّة مستمدّة من الواقع سببها العلاقة التكامليّة بين الفهم وحدةً لعمليات داخلية تحدث داخل الذهن في تسلسل ميكانيكي، وشرطه الحسي المستخلص من التجربة، حيث إنّ ما يحدث من تسلسل علّي للظواهر الطبيعيّة ينطبع ميكانيكيّا في الذهن، وهو ما يوحي بطبيعة الإشكاليّة التي يحاول هيوم معالجتها والمتعلّقة بعمليّات الفهم وحدوده عبر بحثه في ثلاث مشكلات: من أين نستمدّ أفكارنا؟ وكيف نكوّن معارفنا؟ وماذا تضمنه لنا صلاحيتها؟ وبعد اختباره لعناصر الفكر، سيحاول الإجابة على المشكلة التالية: وفق أيّ معيار تنتقل الأفكار إلى الفكر، وكيف يحدث تحوّل كهذا من التجربة إلى الفهم؟ ما هي المبادئ التي ساهمت في ردم الهوّة بين معطيات الحس ومعطيات الفكر؟ وهل تملك الطبيعة الإنسانيّة حقا مبادئ واضحة يمكن أن نؤسّس على إثرها علما متميزاً؟
يفتحنا هذا التساؤل على مسألة الطبيعة الإنسانيّة ومبادئها كما بلورها هيوم في كتابه “رسالة في الطبيعة الإنسانيّة”، ويدفعنا إلى البحث عن الميكانيزمات التي تشكّل المعرفة في الذهن. كيف تتشكّل الأفكار في الذهن؟ هو موضوع علم جديد سمّاه هيوم علم الطبعة البشريّة[2] وجعل الفلسفة تقترب منه، لأنّها في ذلك تقترب من الطبيعة الإنسانيّة ومبادئها التي تمثّل عنده القوانين الوظيفيّة التي تمكّن من تفسير الظواهر وتبلور فيزياء حقيقيّة للعناصر العقليّة المتمفصلة إلى وحدات وجسيمات من الترابطات والتشكيلات المختلفة، مما يضعنا أمام إرث منهجي مستمد من المنهج التجريبي.
يعتبر الاعتماد على المنهج التجريبي في دراسة مبادئ الطبيعة الإنسانيّة المشروع الأساسي لهذا الكتاب، إذ يصير علم الطبيعة الإنسانيّة، باعتباره علماً إنسانيّا الأساس الوحيد للعلوم الأخرى من حيث قابليّته لأن يتقوّم بالتجربة والملاحظة، وميله نحو اختراق الحياة اليوميّة La Vie Courante في ظروفها وحالاتها. وقد ميّز هيوم هنا بين فلسفتين: فلسفة تقول بعالم علمي يعتمد على مبادئ علم الفيزياء في تفسير الظواهر، وفلسفة مجرّدة تؤمن بالمبدأ الميتافيزيقي في تفسيرها للظواهر، ويبني بدلهما فلسفة للطبيعة الإنسانيّة تهتمّ بعالم التداول وتجعل الفلسفة تنفذ داخل وضعية علم الإنسان لتجري فحصاً تجريبيّا يجعل من مبادئ الطبيعة الإنسانيّة أشكالاً تطبيقيّة يمكن بموجبها تفسير الميكانيزمات الداخليّة للفكر، وتحدّد الآليات والحدود الضروريّة لتشكّل المعرفة الإنسانيّة، ممّا سيجعل من الممكن النظر إلى الإنسان جزءًا من الطبيعة أو حيوانًا انفعاليًّا، وتلك واحدة من المميّزات لعلم إنساني يخضع العمليّات الذهنيّة إلى إجراءات طبيعيّة، ويمنح فلسفةً لا تؤسّس ذاتها إلا بوصفها ّتجربة للطبيعة الإنسانيّة حقّ القيام بتلك المهمة عن طريق تجارب خاصّة تضعها مبادئ محددة. ولأجل وضع مبادئ للفهم تستجيب لشروط علم الإنسان، بدأ هيوم بافتراض سيكولوجيا تجريبيّة تتخلّص من كلّ الأحكام المجرّدة، وتنقذ الفهم من الأزمة التي أحاطت به داخل نظريّة الملكات، لتضع مكانه وصفة تجريبيّة حقيقيّة للمعرفة.
ولمتابعة نقده لفلسفات عصره وعلومه، توجّه هيوم في الفصل الأول من هذا الكتاب نحو تحديد الأصل التجريبي للأفكار، لكنّه ميّز على منوال لوك J.Locke في إدراكات الفهم الإنساني بين الانطباع والفكرة، والفرق بينهما في نظره يكمن في درجة القوّة والحيويّة؛ فالإدراكات التي تتميز بالقوة والصلابة تسمى انطباعات كالشعور والانفعال…وهي أمور تظهر أمام الفكر. أمّا الأفكار، فبواسطتها ندرك صور هذه الانطباعات بوصفها صورًا هشّة في الفكر.[3] وقد ميّز أيضاً داخل هذه الإدراكات بين البسيط والمركب، فالبسيط غير قابل للاختزال والمركب قابل للتفكيك والانقسام، وهي تظهر متزامنة، بيد أنّ ما يدركه الإنسان من حسّيّات عبارة عن إدراكات فكرية لهذه الحسّيات التي يشعر بها، فعندما أغمض عيني أفكّر داخل حجرتي في كون الأفكار التي أنسجها عبارة عن تمثّلات حقيقيّة للانطباعات التي سبق أن شعرت بها من جديد.[4]لكن ينبغي أن نميّز من بينها ما تلك التي تمثّل أسباباً وما هي التي تمثّل نتائجَ.
في إطار الالتحام القويّ للإدراكات يتسلّل مباشرة رابط قويّ بين ما يتعلق بالانطباعات الذاتيّة وبين الأفكار التي تتماهى معها، حيث يظهر أنّ وجود الأولى له تأثير مباشر في وجود الثانية، وفي ذلك حجّة مقنعة في نظره على أنّ الانطباعات تمثّل أسباباً والأفكار تمثل نتائج، فأوّليّة الانطباعات تشكّل عللا لأفكار ثانية تكون نتيجة لها، لأنّ أوّليّة الانطباع تحوّل الأشياء الخارجيّة التي تتلقّاها الذات إلى أفكار، وهكذا فالفكرة والانطباع يتلاءمان ويتلازمان.
ومن أجل الاستدلال على ذلك، توجه هيوم نحو تحليل مبادئ الطبيعة الإنسانيّة، فبدأ في القسم الرابع من الكتاب بتحليل مبدأ وحدة الأفكار وترابطها، فوجد أنّ الأفكار متّصلة فيما بينها بالكامل، وأنّها على ذلك النحو ليس عن طريق الصدفة، وإنّما تتجمّع بواسطة رابط يوحّدها ويؤلّف بينها عن طريق مبدئها الأساسي الذي عرفه هيوم بمبدأ الوحدة.[5]وقضيّة الوحدة تلك تحدث عبر اتّصال منسجم فيما بينها، لتصبح الأفكار البسيطة بهذا المنطق مركّبة عندما يتمّ توحيدها، فتستطيع الواحدة منهما أن تنتج الأخرى طبيعيّا.
غير أنّ الارتباط يقتضي مجموعة من المعايير تشكّل علاقات فلسفيّة، وهي التشابه والاقتران في الزمان والمكان والسببيّة؛ فبدون علاقة التشابه لا يمكن أن توجد أيّة علاقة فلسفيّة إذ لا تتم المقارنة بين موضوعات معيّنة إذا كنا نفتقد درجة معيّنة من التشابه[6]، وبدون علاقتيْ التشابه والاقتران لا يمكن إدراك العلاقة الكامنة بين السبب والنتيجة، فعن طريقها يسهل على الخيال أن ينتقل بمرونة من فكرة إلى أخرى تشبهها عبر هذه المعايير التي تضمن له إمكانيّة أن يجاور بين فكرة وأخرى، وينتقل في درب الأفكار بكيفيّة منظّمة. وهكذا فمبدأ وحدة الأفكار يؤكّد انسجام الأفكار وتلاحمها عبر فعل توحيدي ناتج عن تدخّل الخيال واستقراره في الذاكرة على شكل علاقات غير قابلة للانفصال.
ينضاف إلى ذلك مبدأ السببيّة الكفيل بتحديد درجتي التشابه أو التناقض بين الموضوعات من جهة كون السببيّة علاقة فلسفيّة وطبيعيّة[7] في الآن ذاته، والتفسير القائم داخلها يمكن ردّه إلى طبيعة هذا المبدأ، فهو يحضر بمجرّد ما تحضر موضوعات لها من الارتصاف في الزمكان ما يبعث على تسمية علاقاتها إدراكاً أو استدلالا، وتلك مهمّة تقوم بها الذات المعتمدة على التلقي الانفعالي الخالص للانطباعات عبر قنوات الحس.[8] فالسببيّة بصفتها مبدأ للطبيعة الإنسانيّة وحدها العلاقة الفلسفيّة التي يحصل فيها تواصل الطبيعة، ووحدها التي تقنع الذات بأنّ وجود موضوع أو فعل يتقدّمه مباشرة وجود موضوع أو فعل آخر، وذلك يعود حسب هيوم إلى طبيعة مبدئها الذي يقتضي هذه السلسة اللامتناهية من تعاقب الموضوعات بوصفها موجودات قد ترى ولكن لا يمكن لمسها.
وللسببيّة أهمّية كبرى في حياة الإنسان، لأنّها في تصوّره الأساس الوحيد الذي يعتمد عليه للتفكير في قضايا الواقع، فلولاها، كما يرى، لما استطاع العقل المضيّ أبعد ممّا يتمثّل لحواسه مباشرة، وهو في طريق اكتشاف الوجود الحقيقي للأجسام وعلاقاتها، فهي التي تمكّنه من الانتقال من شيء إلى شيء آخر يتلوه أو يسبقه. ومبدأ السببيّة بذاته لا يخلو من علاقتي التشابه والاقتران بيد أنّهما أساسيّان في نظر هيوم لمبدأ ينصّب نفسه قاعدة للطبيعة الإنسانيّة، حيث يكسب الاقتران السببيّة شرطها الزمني، لأنّ هدم سلسلة من الأسباب ليس في الواقع سوى انعدام كلّي للزمان، فالسبب يعاصر نتيجته والنتيجة تزامن سببها كذلك. وذلك بمثابة تصوّر بديل للرأي القائل بالفارق الزمني بين العلّة والمعلول، والذي تعود جذوره إلى تقاليد التجريبيّة الإنجليزيّة المبكّرة.[9]
ليست السببيّة مستمدّة من استدلال علمي يقتصر على الموضوعات الخارجيّة، بل من شعور سيكولوجي طبيعي ينحدر من الملاحظة ومن التجربة دون أن يظلّ متعلقا بها، لكن ينبثق سؤال من تلقاء ذاته: كيف يمكن للتجربة أن تنتج مبدأ سيكولوجيا كالسببيّة؟
عبر التجربة يمكن استنتاج وجود موضوع من وجود موضوع آخر؛ أي استنباط وجود النتيجة من وجود السبب[10]، فهي تسهّل عمليّة الاستدلال على وجود علاقة بين السبب والنتيجة عن طريق الانطباع الذي تجسده الحواس، فيسهل على المرء أن يتذكّر دائما مثلا أنّه في كل مرة سيقترب من النار سيشعر بالحرارة. فالتجربة تضع الإنسان أمام اختبار حقيقي لعلاقة السببيّة، لكنّها لا تمنحه بمفردها فكرة عن الاتصال الحميمي والضروري بين الأسباب والنتائج، ولا تزوّده بذلك الميل الذاتي إلى توقّع ما سيحدث في المستقبل، ولا تكسبه أيضا اعتقاداً حول مبدأ الضرورة الكامن في السببية، لأنّ الأمر متعلّق بمدى قابليّة هذه التجربة إلى التكرار الذي ينقل ما يحدث من جريان علّي داخل الطبيعة إلى الفكر، إذ يصبح الفكر بمستطاعه أن يمرّ من انطباع إلى آخر، ومن فكرة موضوع إلى أخرى عبر علل ومبادئ موحّدة. وعندما تكون الأفكار موحّدة في الخيال يستطيع الفكر آنذاك أن يؤّسس اعتقاداً سببيّاً، ويطابق الفكرة مع الواقع. بالتالي، لكي تنتج التجربة مبدأها السيكولوجي لابد أن ينضمّ إليها عنصر آخر هو مبدأ الاعتقاد، لكن ما معنى الاعتقاد وما طبيعته، ومن أين يستمد قوته؟
الاعتقاد لا يقوم بأيّ شيء حسب هيوم سوى أنّه يحدد الكيفيّة التي يدرك بها الناس موضوعاً ما، ثمّ يضفي على أفكارهم حول ذلك الموضوع قوّة وحيويّة، وبذلك يمكن تعريفه بأنّه فكرة بسيطة وحيّة متصلة بانطباع حاضر، بل طريقة خاصة لبناء فكرة لا يمكن تحديدها إلاّ عبر تحديد هذه الدرجات من القوّة والحيويّة.[11] لكن ما هو مصدره؟ بمنطق سيكولوجي تجريبي يمكن تحديد مصدره بوصفه انفعالاً سيكولوجيّا للذات، ينبثق عقب تصادم أفكارها مع انطباعاتها بالامتثال إلى مبدأ السببيّة الذي يحيي ويقوّي، حسب هيوم، أيّة فكرة كيفما كانت فتنتج اعتقادا، لكن ذلك وحده غير كاف، لأنّ الذي يمنح البعد السيكولوجي للاعتقاد هو مبدأ العادة[12]،فالعادة هي التي تولّد في نفوس الناس انطباعا يحزنهم أو يفرحهم في فكرة قويّة وحيّة تمنحهم اعتقادا أو أساسا لما يفعلونه، فعندما يتعوّدون على رؤية انطباعين يرتبطان فيما بينهما، فإنّ فكرة عن الواحد تحملهم مباشرة نحو فكرة الآخر.
يمكن للتجربة أن تؤسس اعتقاداً أو حكماً حول السبب والنتيجة عبر عمليّة سيكولوجيّة حقيقيّة؛ أي عبر عادة مكتملة تمنح خصائص القوّة والحيويّة، إذ تعمل بمعونة باقي المبادئ الأخرى على توحيد أفكار الذهن الذي ينشأ عنه الاعتقاد؛ فالعادة تعين على معرفة الأسباب التي تجعل من الممكن وضع قاعدة للماضي تفيد في معرفة المستقبل، حيث تجعل الفكر يميل إلى توقّع أنّ ما سيحدث في المستقبل هو نفسه التسلسل الذي تخلّل الموضوعات من قبل وقد تم التعوّد عليه، وبالتالي فإنّ تشكّل الأفكار في الذهن يتمّ عبر عمليّة سيكولوجيّة طبيعيّة ناتجة عن استخلاص منطق العلاقة بين الماضي والمستقبل تلعب مبادئ الفهم دوراً في تقويتها.
نحاور أمام هذه المعطيات نصّاً فلسفيّاً يضع مبررات كافية لإنجاز مظهر تجريبي للمعرفة الإنسانيّة، هدفه تحقيق علم للطبيعة الإنسانيّة وإعطاء تأويل محدّد للواقع من خلال ترابط الأفكار المؤسس على سببيّة تؤول في الأخير إلى آليات سيكولوجيّة تشكّل العادة بنيتها الأساسيّة، والتي بموجبها تتوحّد الأفكار بموضوعاتها، حيث تبدو مترابطة في الواقع وتنتج في الفهم الإنساني اعتقاداً. لكن هل يعني ذلك أنّ مثل هذا النسق الفلسفي ليس إلاّ تنظيراً لارتباطات ذهنية- طبيعية ولمبادئ عامة؟
إذا كانت الغاية من الكتاب تفسير المبادئ التي تمتلكها ملكة الإنسان الاستدلالية، وكذا تفسير طبيعة الأفكار، باعتبارها تساعد تدريجيّا على تجويد الفهم الإنساني، فإنّ تحليل مبادئ الطبيعة الإنسانيّة من شأنه بلورة تجربة جديدة لدى الفيلسوف. عندما تتحقّق على هذا المنوال، ستسمح بصناعة أمل في اتّخاذها أرضيّة لإنشاء علم للطبيعة الإنسانيّة، قد لا يكون مبرهناً عليه بشكل يقيني ولكن مع ذلك سيكون أساسيّاً وصالحاً لأن تقتدي به العلوم الأخرى المستمدّة من الفهم الإنساني. وتلك بوادر علم أوّل فروضه وضع حدود للطبيعة الإنسانيّة حتى تصير نهائيّة، بل إرهاصات عمليّة نقديّة يمكن القول إنّها بدأت مع الفلسفة الهيوميّة، واستمرّت في فلسفات أخرى، فهيوم أثار هذه المشكلة النقديّة، لكنّ حلّها بقي معلقاً على عنق الفلسفة النقديّة. لذلك إلى أي حدّ يمكن أن نحلّ هده المشكلة ونطوّرها من خلال فلسفة هيوم ذاتها، لأنّه إذا كان من مشكل نقدي فأصوله تعود إلى هذه الفلسفة؟
-[1] تعرف الطبيعة الإنسانيّة عموماً بمجموع الدوافع السيكولوجيّة وأثرها في التحوّلات القيميّة والأخلاقيّة لدى الإنسان، لكن المقصود بها عند هيوم مبادئ الفهم الإنساني المرتبطة بالملاحظة والتجربة، ويظهر ذلك من خلال عنوان كتابه:
Traité de la Nature Humaine, L’entendement
-[2] انظر تعريف هيوم لهذا العلم في هوامش المقال.
[3]- David Hume: Traité de la Nature Humaine, L’entendement, Pr.Edition, 1739,Trad par P.Barranger et P.Saltel, GF-Flammarion, Paris, 1995, P 41 [4]- David Hume: Ibid, P 43 [5]- David Hume: Ibid, P 53 [6]- David Hume: Ibid, P 58[7]– David Hume: Ibid, P 59
[8]– David Hume: Ibid, P 133
-[9] ابتداءً من فرنسيس بيكون إلى حدود جون لوك.
[10]– David Hume: Ibid, P 180
[11]– David Hume: Ibid, P 160-161
[12]– David Hume: Ibid, P 181
نقض هيوم مبدأ السببية واستبدل به مبدأ الترابط من خلال التأثير والمؤثر
مبدأ إنكار السببية عند ديفيد هيوم
وائل علي* – خاص لحوار بوست