“الدين الأسس” لمالوري ناي: سلطة الثقافة لا سلطة الماورائيات / خالد غزال
ديسمبر 8, 2013
تركز القراءات اللاهوتية التقليدية على رؤية للدين تضعه فوق المجتمع، وتنظر اليه بوصفه تعاليم مجردة يقف الانسان منها موقف التسليم ويكرس حياته لترجمتها وخدمتها. في المقابل تسعى وجهات النظر التي تربط بين الدين والمجتمع الى تكريس موقعها، انطلاقا من أن الدين وضع لخدمة الانسان وهدايته، وهو ليس تجريدات فوقية او ما ورائية، او مقدسات إلهية، بمقدار ما هو إنتاج النشاط الثقافي للانسان وحصيلة انعكاس الواقع الاجتماعي الذي يعمل هذا الدين وسطه. يصنّف كتاب مالوري ناي، “الدين الاسس”، الصادر لدى “الشبكة العربية للأبحاث والنشر”، ترجمة هند عبد الستار، في خانة الدراسات التي ترى في الدين ظاهرة ثقافية وتقرأ نصوصه وممارساته استنادا الى هذه الوجهة.
يعترف الكاتب بأن الأديان ترسم في العقود الاخيرة من القرن العشرين وفي العقد الاول من هذا القرن، شكل عالمنا المعاصر من جوانب متعددة. الجانب الأهم يتصل باستفحال ظاهرة الارهاب السياسي وتعبيراته العنفية، وهو أمر اتخذ أبعاده الكبرى بعد هجمات 11 ايلول في الولايات المتحدة عام 2001، وظهور العامل الديني الاسلامي عنصرا راعيا في النظر الى هذا الإرهاب وتطبيقه. ولم تنج مجتمعات اخرى من توظيف الدين في خدمة الارهاب بالتركيز على الجانب العنفي من نصوصه، وهذا ما تشهد عليه مجتمعات ذات انتماء ديني مسيحي او يهودي على غرار ما هو جار بالنسبة الى الحركة الصهيوينة في الاراضي الفلسطينية. لكن الكاتب يرفض حصر الدين في هذا الجانب العنفي، بل يرى ان الأساس فيه انما يتصل بالنشاط الثقافي للفرد الذي يشكل الدين مقوّماً اساسياً فيه.
اذا كانت الثقافة تشكل عماد فهم الدين في كل مجتمع، إلاّ أنه من قبيل الاخطاء الفادحة اختزال قراءة الدين من خلال ثقافة واحدة ومحددة واعتبارها مقياسا يجري الاستناد اليه في قراءة النص وتأويله. فالواقع التاريخي يثبت ان المسيحية ليست واحدة، بصرف النظر عن تحولها طوائف ومذاهب، فهي “مسيحيات” متعددة تتفاوت طقوسها وحتى عقائدها بين بلد وآخر، وتتأثر بمجمل الثقافة السائدة في البلد المحدد، فتؤثر في هذه الثقافة وتتأثر بها في الوقت نفسه. ينطبق الامر نفسه على الاسلام الذي هو في الواقع مجموعة “اسلامات” تتنوع ويختلف بعضها عن بعضها في ممارسة النص الديني بما يتوافق والمنطقة التي انتشر فيها. هنا ايضا تلعب الثقافة دوراً محورياً في وسم الاسلام بهذه الصفات، لذلك يختلف إسلام الجزيرة العربية عن إسلام اندونيسيا مثلا في الكثير من العادات والممارسات والتقاليد، وهو اختلاف نابع من المكونات الثقافية المختلفة بين هذا البلد وذاك.
يشدد الكاتب على أنّ الطريقة التي يعيش بها الانسان وتتشكل عبرها شخصيته، انما ترتبط وثيقا بثقافته، لذلك سادت نظرة لدى كثير من العلماء في القرن العشرين ترى الى شخصية الفرد بصفتها سببا لوجود الدين، كما “يرون أن الدين يتعلق بالايمان بالروحانيات، فشرحوا الدين باعتباره جزءا من العملية الفكرية للانسان التي تتسم إما بالعقلانية، وإما تتأثر بالموروث العاطفي والنفسي لطفولته”، وانه اذا كان للشخصية مكان ما في فهم الدين، فهذا يفرض علينا وعيا باعتماد هذه الشخصية على الثقافة بأشكالها المتعددة والمتنوعة والغنية.
تكمن معضلة الدين الأساسية في نظرته الى الاديان الاخرى، فكل دين يحمل من الاصطفائية وادعاءات معرفة الحقيقة واحتكارها، مما يجعله يقف تجاه الاديان الاخرى “من فوق”، بل ينظر اليها في كثير من الأحيان نظرة احتقارية، ويرى عقائدها زائفة، ويدعو الى محاربتها وتخلي جمهورها عنها والدعوة الى الالتحاق به بوصفه التعبير الوحيد عن الحقيقة الالهية، وتشمل هذه النظرة الاديان التوحيدية بعضها تجاه البعض الأخر. لكن العالم يعرف اديانا تقليدية غير الاديان التوحيدية السائدة معظم أنحاء العالم، فهناك اديان تقليدية في افريقيا تعد إنتاجا لموروثات ثقافية، وهي تعبير عن التقاليد السائدة في تلك البلدان. وهناك في اوستراليا جماعات ثقافية صغرى من السكان الاصليين تحمل كلٌّ منها تعاليم دينية موروثة من المكان الذي يعيشون فيه. هذه الاديان وغيرها ضعيفة التأثير من الناحية العالمية، لكن ضعفها لا يمنع حقها في المساواة مع الاديان ذات الموقع القوي في العالم. وهو مطلب يستند الى الحق الانساني الطبيعي في المساواة مع الآخر بصرف النظر عن الدين والعرق والجنس.
نظرية الدين – الثقافة، تقود الكاتب الى رفض القول بكون الدين شيئاً فطريا موجودا لدى الانسان منذ الولادة، وهو امر تثبته وقائع الحياة بوجود اناس غير متدينين، ويعيشون حياة طبيعية ولهم مقاييسهم في الحياة تعتبر الانسان وحقوقه وعلاقته بأخيه الانسان عنصرا مقررا في ممارستهم لمعتقدهم الخاص بهم. لذا تبدو النظرية القائلة بوجود “جين محدد للدين” اسوة بسائر الجينات التي تحدد الجنس البشري، نظرية مرفوضة ولا أساس علميا لها. لكن العنصر الاخطر الذي يصيب المجتمع يكون عندما تتحول ايديولوجيا ذات اهداف سياسية واجتماعية ديناً، فيختلط العقلاني بالماورائي وتتحول الممارسات أشكالاً ليس اقلها تبرير العنف وتسييده على المجتمع، وهذا ما خبره القرن العشرون عندما تحول الالحاد في الشيوعية ديناً، او عندما لبست النازية والفاشية ثوب الصوفية والروحانية وحولتا عقيدتيهما الى الدين النازي – الفاشي.
تقدم وقائع الحياة اليومية أدلة عن رؤية الدين بعيدا من الباطنية او الانفصال عن حياة البشر، بل تثبت الحياة ان الدين الفعلي هو ممارسة البشر حياتهم اليومية، كما يحتل موقعا مركزيا في الجوانب الثقافية. من هنا يمكن القول ان دراسة النصوص الدينية تستوجب النظر اليها كدراسة للنشاط الانساني من جميع جوانبه، وليس دراسة النصوص في وصفها كلمات وتعابير مجردة، مما يعني ارتباط دراسة الدين بشكل وثيق بالثقافة، ومعها بفهم العالم المعاصر والتحولات التي اصابته، لكونه عاملا مهما من عوامل التطور التاريخي الخاص بالعالم والمجتمعات التي نعيش فيها.
عن جريدة النهار 25/8/2009
كتاب : الدين : الأسس
تأليف : مالوري ناي
ترجمة : هند عبد الستار
هل الدين مثله مثل الثقافة؟
ما هو موقعه في حياتنا المعاصرة؟
هل علينا أن نؤمن به لكي ننتمي إليه؟
بدءاً من حملات التنصير على القنوات التلفزيونية إلى ارتداء الحجاب في مصر وبريطانيا؛ بدءاّ من ظهور الوثنية حتى ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، نجد في هذا الدليل السهل، مختلف طرق تفاعل الدين مع أمور حياتنا اليومية. فهذا الكتاب ما هو إلا مجاولة تعريف شاملة تبحر بنا في عالم الدين ونجده يغطي مختلف النواحي، ومنها: الدين والثقافة، ما مدى تأثير السلطة على الدين؟، القضاية الخاصة بالجنسين، دور الإيمان والشعائر والنصوص الدينية، وأخيراً الدين في عالمنا المعاصر.
كتابنا هذا “الدين: الأسس” يقدم استعراضاً قيماً محدث لكل من يرغب في التعرف على المزيد من المعلومات بشأن هذا الموضوع الشيق. يقع الكتاب في 368 صفحة ويتألف من ثمانية فصول تتناول الدين: ملامح رئيسية، الثقافة، السلطة، الجنس (جندر)، العقيدة، الطقوس، النصوص، والأديان المعاصرة والثقافات المعاصرة.
______
Notes on revisions and additions
ملاحظات مؤلف الكتاب عن المراجعات التي أجراها على فصوله المختلفة في الطبعة الأصلية الثانية
Chapter 1 Religion Some Basics
Largely an update of the existing chapter, although bits of the existing chapter two have been moved into this introduction. Chapter 2, ‘Culture’ is taken out (with some parts of it moved to the end in the new final chapter), as much feedback I have had on this chapter is that it is too dense… So this is your last chance. That said, the Second Edition will not be going away (it will always be available on Kindle) so if you really really like that chapter there’s no real problem anyway).
Chapter 2 Power
Taking out the old chapter two means we can get straight to the point on power.
Chapter 3 Gender
The trouble with this chapter is that it is such a great subject – things keep on moving and developing. There’ll be more on gender and men’s studies, and I will also bring in intersectionality in a big way. So any suggestions for good intro texts that you have been working with (and students like) would be very helpful.
Chapter 4 Race / Ethnicity [new chapter]
This was a suggestion by a reviewer. It was the type of suggestion that made me think ‘of course!, why isn’t it there??’ So I’m putting that together at the moment. Like gender, there’s tons to work with, race v ethnicity v identity (and power), Edward Blum’s Color of Christ, Monica Miller’s Hip Hop and Religion. Whiteness and colour blindess in religion. Race and the taxonomy of religions… The list goes on. Any thoughts from anybody on how to bring this all together coherently?
Chapter 5 Belief
There’s been some good work on this in recent years, particularly from Abby Day and Simon Coleman. I tend to like this chapter, but again if there are any helpful crits, then I am always open to new ideas.
Chapter 6 Ritual
I struggled for a while with whether or not to keep this chapter. In the end, it is there largely because of my anthropological roots (and routes). But it fits in well with the practice/belief issues – even though I read a criticism somewhere that the point about practice is rather over egged. I’m not too sure about this, sometimes you just have to keep saying something.
Chapter 7 Texts
This one needs some more updating that I’ve been struggling with a little, particularly on issues of the practice of texts (as scripture) and issues of reading. It’s one of those things that can could expand infinitely if I let it. But for those of you who are more on the textual side that I am – what are the must have issues that you would like to see in this chapter?
I struggled for a while with whether or not to keep this chapter. In the end, it is there largely because of my anthropological roots (and routes). But it fits in well with the practice/belief issues – even though I read a criticism somewhere that the point about practice is rather over egged. I’m not too sure about this, sometimes you just have to keep saying something.
Chapter 8 Culture [heavily revised chapter]
Again at the advice of reviewers, I decided to jettison the chapter on contemporary religions. That is another set of issues, that don’t harmonise as well with the rest of the book as I would like. So I am creating a new final chapter, focused around this core concept of culture. This includes a nod to visual and material culture, and will update my discussion of the idea of popular culture which used to be in chapter 2. In many ways it will hopefully draw together the various bits of the book, such as issues of power, gender, ethnicity and beliefs, practice, rituals, and texts. I am also going to bring in materials on media and religion (e.g. mediatisation of religion, religion and contemporary media).
الدين، إنها الكلمة الأكثر تداولاً في عالمنا المعاصر كما في باقي العصور، ليس لأنها محط إجماع، ولكن لأنها أيضاً محل اختلاف كبير، فليس المتدين فقط من يتحدّث عن الدين، بل حتى غير معتنقي الديانات تجدهم يتكلمون عن الدين، سواء نقدا له أو تعريفا أو تحذيراً منه. وما كان يمكن الحديث، مثلا، عن العلمانية لولا وجود الدين، ولذلك ينبغي على أي باحث يروم بحث العلاقة بين الدين والسياسة، أن يحدّد مقصوده بهذين المجالين، أو الكلمتين. وبما أن السياسة أضحت معروفة سواء باعتبارها مفهوماً أو بما هي ممارسة، فإن الدين، ورغم النقاش الكبير الدائر حوله، قلّما تجد من يعرّف مقصودَه منه، وكأن البداهة التي أصبح يتّصف بها مفهوم الدين جعلت هذا الأخير، إما عصيَّا على التحديد أو يُكتفىفي شأنه بالتحديد الذي يضمره كل شخص للدين، وهو ما قد أسهم في الكثير من اللبس، إلى درجة أن الخلط شائع اليوم بين الدين والثقافة مثلاً، وبين الدين والعادات. فما المقصود بكلمة “دين”؟ وماذا يعني التدّين؟ وما هو مجال كل من الدين والثقافة والعادات؟ وهل كل الطقوس تعتبر أديانا؟ وهل كل الأديان تتوفّر على الشروط الكافية لكي تكون دينا؟ وهل الأديان هي التي تتوفّر على رسالات سماوية أم أن الفلسفات الحياتية لديها ملمح دينيّ؟
على الرغم من أن المعاجم اللغوية لا تُسعف في استِكناه موضوع الدين، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى بعض ما جاء في القواميس العربية. وفي السياق هذا، جمع أحد الباحثين العديد من المقولات اللغوية التي عُنيت بكلمة دين: فالدين هو “الحساب والجزاء، يقال في المثل: كما تدين تدان (…) ولا يدينون دين الحق، مجازه: لا يطيعون الله طاعة الحق، وكل من أطاع ملكا فقد دان له، ومن كان في طاعة سلطان فهو في دينه” وأضاف ابن الأنباري (ت328هـ) إلى معاني الحساب والجزاء والطاعة التي ذكرها أبو عبيدة، أربعة معانٍ أخرى هي: السلطان، والعبودية، والملة، والعادة، منفرداً بذلك بمعنى “العادة” الذي أكّده أيضا ابن دريد (ت321هـ). وكان المبرد (280هـ) قد استجمع في الدين ثلاثة معان رئيسة هي: الجزاء، الطاعة، والعادة”.[1]
والملاحظ من التحديدات اللغوية أنها لا تعالج إلا التجلّيات الدينية؛ أي ما يترتّب على الدين من طاعة وانقياد واعتياد، بينما يتعسّر على الباحث أن يجد في القواميس حديثاً عن ماهية الدين وأسسه. أما الكتب الفقهية، فهي رغم محاولتها تجاوز النقص الحاصل في القواميس، إلا أنها بقيت رهينة للمقولات الناجزة التي تُرجع الدين إلى مصدر عُلوي ينبغي للإنسان أن ينقاد له من غير البحث في ماهيته، يقول التهانوي: “الدين وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إيّاه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المال، هذا يشمل العقائد والأعمال، ويُطلق على ملة كل نبي”، أو “هو وضع يسوق ذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات، وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، فإن الوضع الإلهي هو الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء…”. وعزّز ذلك الجرجاني في (التعريفات )، فقال إنه “وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول”[2]. لكن هذه التعريفات لا تفيد كثيرا في الإجابة عن التساؤلات المطروحة أعلاه، فضلاً عن أنها لا تميّز بين الدين والتديُّن؛ أي بين ما نزل به الوحي وما فهمه منه الإنسان.
وإذا ما أردنا تجاوز التحديدات اللغوية أو الفقهية، صوب الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع بمختلف فروعه، فإنه يمكن القول إنهناك رؤية مغايرة لما تروِّج له المقولات اللاهوتية، فماكس فيبر مثلا، يرى أن الفرد يعتنق المعتقدات الدينية على إثر عملية استدلال منطقي، فهو يعتبر أن هذه المعتقدات، مهما كانت طبيعتها، تنتقل بالتربية والتنشئة الاجتماعية عموماً، لافتا إلى أن المعتقدات الجديدة تفرض نفسها بوساطة “الكاريزما”، “تلك السلطة الخاصّة التي يمنحها الشخص الاجتماعي للمجدّد الذي يُحرّضه على قبول ما يعرِضه عليه من نظريات ومعتقدات جديدة”[3]. تحاول هذه القراءة الإشارة إلى البعد الرمزي للأديان، وهو المسعى نفسه الذي حاول “بيار بورديو” الدفاع عنه بتقريره أن الظاهرة الدينية هي سلطة رمزية، وأن المجال الديني القدسي هو نوع من الرأسمال الرمزي؛ أي سلع رمزية يتم إنتاجها وتداولها واستهلاكها، بل التنافس عليها، تماما كما هو شأن السلع المادية”.[4]
وهكذا، تفضي هذه القراءات إلى فهم الدين بوصفه، حسب كليفود غيرتس: “نظاماً من الرموز التي تعمل من أجل ترسيخ حالات ودوافع قوية وباقية لدى البشر، عن طريق تكوين مفاهيم حول نظام الوجود العام، وإحاطة هذه المفاهيم بهالة من الحقيقة، حيث تبدو تلك الحالات والدوافع وكأنها واقعية على نحو فريد”.[5] وكان السوسيولوجي إميل دوركهايم في كتابه “الأشكال الأولية للحياة الدينية”، قد أكّد، في سياق ربطه للدين بالنطاق الاجتماعي، على أن للدين وظيفتين أساسيتين: أولاهما تجميع الناس وخلق التضامن الاجتماعي، وثانيهما منح المتديّنين وسيلة لإدراك العالم ورؤيته، حيث تفضي الهويات الدينية إلى خلق هويات اجتماعية لدى أفراد الجماعة المؤمنة. ومن ثم، ينتمي الفرد إلى جماعة ما، لأنه يحمل شعاراً دينياً يتفق مع الشعارات الدينية التي يحملها أفراد الجماعة نفسها. ونتيجة لذلك، فإن هاتين الوظيفتين معاً تجعلان أي مجتمع قابلاً للعيش فيه، بما أن الدين يعتبر شكلاً من أشكال الوعي الجماعي الذي يُبقي المجتمع في حالة من الوحدة الكاملة”.[6]
إن ما يجعل الفكر يجنح نحو التركيز على الأبعاد الاجتماعية والسياسية والرمزية للدين، هو أن الدين ليس واحداً بالمفرد ولكنه أديانٌ بالجمع، فضلاً عن أن الأديان ليست مُجمِعة على نفس الغايات ولم تنطلق من الأسس نفسها، ومن ثم صَعُب على الباحث إيجاد تعريف مانع جامع لها؛ فلقد أورد جوناثان سميث قائمة مكونة من خمسين محاولة مختلفة لتعريف مفهوم الدين، ليخلص في النهاية إلى أن ذلك لا يعني عدم إمكانية الوصول إلى تعريف للدين، وإنما “يمكن تعريفه بوسائل عدة تصل إلى خمسين وسيلة تتراوح بين النجاح والإخفاق”. لكي يستنج (جوناثان سميث) أن مصطلح “دين من خلق العلماء أنفسهم؛ فالعالم يخلق المصطلح لأجل أغراضه التحليلية عن طريق أفعال خيالية من المقارنة والتعميم. ومن ثم، فإن الدين ليس له وجود مستقل بعيدا عن الدراسة الأكاديمية”.[7]
نظراً لهذه المشاكل المرتبطة بتعريف الدين، ينصح صاحب كتاب “الدين الأسُس” الباحثين بأن عليهم، بدل الاستغراق في إضافة تعريف جديد إلى قائمة التعريفات، أن يعملوا على الفرضية القائلة: إن في كثير من السياقات الثقافية ثمة مساحة ما لنشاط ثقافي يطلق عليه مصطلح “الدين”. وإنه في حال قبولنا بذلك كمسلَّمة، يصبح الغرض من دراسة الدين كمعطى ثقافي ممثلا في “رؤية كيفية ممارسة النشاطات التي تندرج تحتهذا المصطلح المتعدد الدلالات كجزء من الحياة الثقافية ككل”[8]. ولقد حاول مالوري ناي نفسه سلك هذه النصيحة بتمييزه بين الحديث عن الدين بوصفه اسماً وبوصفه حالاً ثم بوصفه فعلاً؛ فالدين باعتباره اسماً يُعبّر، إما عن مجموعة من التعاليم الدينية أو عن شيء عالمي، أما الدين باعتباره صفة أو حالا، فإنه وسيلة لوصف أشياء (كقولنا: كتب دينية، أو مؤسسات دينية…إلخ). وإلى جانب ما سبق، يمكننا أيضا التوسع وابتكار كلمة تعبر عن الفعل المشتق من الاسم ذاته (التديُّن). من أجل النظر إلى المفهوم، باعتباره شيئا يؤدي كفعل من دون كونه شيئا يؤثر في البشر أو يفعل لهم أي شيء”[9]. الواضح أن “ناي” يروم من خلال هذا الاشتقاق أن يميّز بين التدّين والدين، من أجل فهم حاجة الإنسانإلى الارتباط بحقيقة بديلة، أو بمعنى حقيقي للوجود، أو بأساس للكون (=الحقيقة النهائية)؛ أي يعد جزءاً من الطبيعة البشرية ذاتها، وهو ما يعني أن الدين تخلقه حاجة الإنسان للتديّن.
وخليق بنا في هذا السيّاق أيضا، أن نُبيّن علاقة الدين بالطقوس التي هي شديدة الارتباط به، إذ نادراً ما توجد أديان من غير طقوسٍ تكرّسها وتضمن استمراراها وفاعليتها في قلوب معتنقيها، بل يمكن القول إنالطقوس هي الفكرة الأساس التي يتمحور حولها الدين[10]. نقرأ لهنري هوبير في هذا الصدد: فـ”الأساطير والمعتقدات تحلل مضمونه (الدين) على طريقتها والطقوس تستخدم خصائصه والكهنة يجسّدونه والمعابد والأماكن المقدسة والصروح الدينية توطّده وتجذّره في الأرض ومنه تنشأ الأخلاقية الدينية. إن الدين هو تدبير المقدس”. ويعلق روجييه كايوا على هذا التصور بقوله: “لا نجد قولاً يبين بهذا القدر من الوضوح إلى أي مدى يبثّ اختبار المقدس الحياة في مختلف مظاهر الحياة الدينية. لقد بدت هذه الأخيرة تمثّل مجموعة العلاقات القائمة بين الإنسان والمقدّس، تلك التي تشرحها وتصونها المعتقدات، في حين تشكل الطقوس ضماناً عملياً لها”[11]. من المؤكد أن هذا الطرح لا يرى إمكانية لقيام الدين بمعزل عن طقوس تؤبّده وتضمن له حيويته المجتمعية؛ فالأديان غيرُ الممارسةِ سرعان ما تندثر.
وإذا كان هذا حال الدين، وهذه طبيعة نشأته وماهيته، فكيف يتحول الدين إلىسياسة، أو بصيغة أخرى ما مشكلة السياسة مع حاجة الإنسان للتدّين؟
بناء على الدور السلبي الذي قد يؤدّيه الدين في حياة البشر، وتحويل الاستغلال الطبقي إلى مسألة إلهية، حيث يظهر فيها القهر وكأنه شيء طبيعي، وصف كارل ماركس الدين بأنه: “آهة المقموع، وقلب عالم لا قلب له…إنه الدين الذي يخدّر البشر”[12]، وفق هذا المنظور لا يُعدّ الدين سلبيا إلا بقدر إسهامه في تخدير الطبقة العاملة أو أن يوَظَّف كأداة في يد الطبقة المسيطرة؛ أي عندما يتحول الدين إلى أيديولوجيا في يد السلطة القهرية لأجل مزيد من القمع، أو يصبح وسيلة لدى الطبقة المقهورة لتبرير ظروفها. وعلى عكس ماركس الذي يرى في الدين منتجاً ثانوياً للعلاقات الاقتصادية غير المتكافئة، وهو الذي يُضفي عليها لمسته الشعرية، ويساهم في طمس معالمها، فإن ماكس فيبر يرى أنه يجب استقبال الممارسة الأيديولوجية الدينية بوصفها عنصراً من عناصر العلاقات الاجتماعية (والتغيير الاجتماعي)، ومن ثم نجد أن الدين يمكن أن يخلق أنظمة اقتصادية، والعكس صحيح[13]. وإن كان فيبر يقرّ بأن تلك النتائج الاقتصادية التي يكشف عنها الدين (يقصد المذهب البروتستانتي) ليس رغبة ذاتية لهذا الدين، وإنما هي إحدى تجليات الإصلاح الديني، وهي تجليات لم يكن هذا الإصلاح بالضرورة يهدف إلى خلقِها.
وفي التجربة الإسلامية، يحذّر مجموعة من الباحثين من خطورة أن يتحول الجانب الروحي في الدين إلى عقيدة سياسية، متخفّية وراء مجموعة من الشعارات، من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وسبب هذا التوجّس هو أن “كل ما هو فردي حين يتحول إلى اجتماعي، يصبح “سياسيا”، والديني نفسه حين يكفّ عن أن يكون “للإنسان في خاصة نفسه” ويصبح شأنا للجماعة، لا بد أن يصبح سياسيا، وكل فهم للديني يأخذ بمبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” يحول الديني، بالضرورة وبالماهية، إلى “سياسي” وتتولد له بعد ذلك قضاياه ومسائله”[14]. خاصة إذا ما استُغلّت هذه الشعارات من جانب من في يدهم السلطة ويتحكّمون في أجهزة الدولة، حيث يتحول الدين من مصدر هداية أو تلبية لحاجة الإنسان للتدين، إلى وسيلة إكراهية تهدف إلى تحقيق غايات سياسية زمنية؛ أي عندما يتحول الدين إلى أيديولوجيا.
المراجع:
-فهمي جدعان: المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، بيروت، 1989
-علي حرب: نقد الحقيقة (النص والحقيقة II)، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1993
-مالوري ناي: الدين الأسس، ترجمة هند عبد الستار، مراجعة جبور سمعان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، بيروت، 2009
-روجيه كايوا: الإنسان والمقدّس، ترجمة سميرة رشا، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2010
-ف.س. نرسيسيان: الفكر السياسي في اليونان القديمة، ترجمة: حنا عبّود، الأهالي للطباعة والنشر، ط1، دمشق، 1999
-ريمون بودون: أبحاث في النظرية العامة في العقلانية، العمل الاجتماعي والحسّ المشترك، ترجمة جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، مركز الوحدة العربية، بيروت، ط 2010
[1] فهمي جدعان: المحنة، بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، بيروت، 1989، ص 367 [2] نفسه، ص 369 [3] ريمون بودون: أبحاث في النظرية العامة في العقلانية، العمل الاجتماعي والحسّ المشترك، ترجمة جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، مركز الوحدة العربية، بيروت، ط 2010، ص 164 [4] علي حرب: نقد الحقيقة (النص والحقيقة II)، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 1993، ص 60 [5] مالوري ناي: الدين الأسس، ترجمة هند عبد الستارن، مراجعة جبور سمعان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، بيروت، 2009، ص 76 [6] نفسه. [7] نفسه، ص 38 [8] ناي: الدين الأسس، (مرجع سابق)، ص 39 [9] نفسه، ص 22 [10] للفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” رأي مخالف لهذا التصور، فهو ينتصر للدين الأخلاقي الذي لا يحتاج إلى وسائط بين الإنسان والله، كما لا يلتزم معتنق الدين الأخلاقي بأي من الطقوس لكي يحصل على رضا الله، فضلا عن أن الدين الأخلاقي لا يحفّر المؤمنين به على إجبار الناس على الإيمان، كما لا يمكن أن يمارَس على المتدين بالدين الأخلاقي القهر، لأنه إيمان وجداني جواني لا يحتاج للمظاهر أو الطقوس. [11] روجيه كايوا: الإنسان والمقدس، ترجمة سميرة رشا، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2010، ص 36 [12] Karl Marx and Friedrich Engels; On Religion (Moscow: Progress Publishers; 1957); P. 37 نقلا عن: ناي: الدين الأسس، ص 93. (موقف ماركس هذا يشبه إلى حد بعيد ما كان قد كتبه الفيلسوف كرتياس، حيث شرح هذا السوفسطائي نظريته في الدين على لسان سيزيف، وذلك من خلال نظرته للدين على أنه أداة بيد الحاكم الذكي صممت للاحتفاظ بولاء الخاضعين له، قائلاً: مر زمن كانت فيه حياة الإنسان فوضى أشبه بحياة الوحوش. ثم وضع الناس القوانين، لكن هذه القوانين لا تستطيع سوى أن تمنع أفعال العنف الصريح، بينما استمر الناس يمارسون العنف سرا. لكن مشرِّعا داهية ابتكر طريقة، فاخترع الآلهة وجعلهم خالدين يرون ويسمعون كل شيء حتى لا أحد يستطيع أن يقترف الخطيئة سرا ثم يمر بلا عقاب. ولذلك وصف كْرٍتياس الدين بأنه خداع مقصود صمم لتدعيم القانون بالخوف من العقوبة” (ف.س. نرسيسيان: الفكر السياسي في اليونان القديمة، ترجمة: حنا عبّود، الأهالي للطباعة والنشر، ط 1، دمشق، 1999، ص 90) [13] ناي: الدين الأسس، ص 124 [14] جدعان: المحنة، 366