أدونيس : إجلسْ قليلاً في حضن الفوضى
نشر في صحيفة الحياة 06 أيلول/سبتمبر 2018
1 ــ
أمس، كان الشّيخ يؤكِّد قائلاً، الذّاكرةُ ملحٌ.
اليوم يتساءل بقلقٍ: ما قيمةُ النّسيان إذا لم يكن ملحاً؟
ــ 2 ــ
«ما بعد الحداثة»: شارعٌ ضخمٌ فَتِيٌّ، سرعان ما
«اشتعل رأسُه شَيْباً».
ــ 3 ــ
ماتَ المُناضِلُ من أجل أفكاره وهو يكرّر مبتسماً:
1 ــ « الموت حياةٌ لم تخرجْ بعد من الرّحِم «.
*
2 ــ « الكراهيةُ مستنقعُ ضفادِعَ تنقُّ في العضَلِ والرّأس.»
*
3 ــ « يدُ الفقير ساريةٌ مكسورةٌ لشراعٍ مُمَزَّق «.
*
4 ــ خاصرةُ الإنسان اليائسِ جسرٌ بين فراغَين،
وقدماه نجمتان منطفئتان».
ــ 4 ــ
هل نعرفُ حقّاً أن نرى إلى التاريخ كيف يصعد نحو الذّروة،
إلاّ إذا كنّا قد رأيناه سابقاً كيف يهبط نحو الهاوية ؟
ــ 5 ــ
القتلُ الإيديولوجيّ حبلٌ يجرّ الأرضَ من عنقها في اتّجاه سماءٍ سوداء.
ــ 6 ــ
ما معنى نِظامٍ سياسيّ يرفض أن يرِثَ اللانهاية، مروراً بشريعة حمورابي؟
وما يكون معنى هوميروس، إذا مُحِيَ جلجامش؟
ــ 7 ــ
يبدو أنّ ملائكةَ الحبر الإيديولوجيّ لن تُتْقنَ أبداً رسمَ الصّور التي توزّعها، يوميّاً، على أصدقائها.
ــ 8 ــ
إنّها عينُ الأرض تحترق حول نافورة أحلامٍ،
لكن لا يعرف أحدٌ إن كانت تحترق غيظاً مِن، أو لهفةً على.
ــ 9 ــ
يتواصل تحطُّم الطّائرات السّياسيّة، غرباً وشرقاً، وما من أحدٍ يعثر على أيّ صندوقٍ أسود.
ــ 10 ــ
قال راجِياً ألاّ يُذكَرَ اسمُه:
« لم يعُد تحت سماء السّياسة الغربيّة وتبعاً لممارساتها أيُّ مكانٍ صالحٍ إلاّ للجريمة …
ــ «ولمَن يرفع الإنسانُ شكواه»، سألَهُ أحد الحضور،
فأجابَه قائلاً:
ــ « ألا يكفيه أن يرفعَ صوتَه»؟
ــ 11 ــ
لماذا لا تخضعُ أيّها الشاعر، وتتعلّم كمثل غيركَ أن ترى العالمَ بعينٍ مصنوعةٍ من فيزياء الكذِبِ وكيمياءِ الإبادة؟ وأنتَ أيُّها الشّاعر الآخر الأكثرُ ضلالاً، لماذا لا تقتنع أنّ الملحمةَ بمعنيَيْها الماديّ والرّوحيّ اللذَيْن ينصهران في كلمة مَجزَرَة، هي نفسها رياضيّات القَدَم، ورياضيّات الرّأس، في الحروب التي تهدف إلى ابتكار الاستعباد باسم التّحَرُّر، والتي تشنُّها أفرانٌ لغويّةٌ عالية وحمراء؟
ــ 12 ــ
يبدو أنّ للحاسّة، هي أيضاً، «خزانةً» تكدِّس فيها الأشياء التي تحسّها لكي تتذكّرها عندما تقتضي الضّرورة.
ــ 13 ــ
قالت وردةٌ حزينة:
سوف أُجيز للعطر أن يكون شاعرَ الفضاء.
ــ 14 ــ
هل صحيحٌ، أيُّها الفضاء،
أنّ للرّيح علاقةً خاصــّةً مع الغابة لا تعرف أسرارَها
حتّى أغصان الشّجَر؟
ــ 15 ــ
تستطيع أن ترى عمرَكَ في أبْهى حلّةٍ، عندما تراه
مَرقوماً في معجم الرّيح.
ــ 16 ــ
أمسِ نصَّبَتِ الشّمسُ أحدَ أحفادها على عرش الغبار.
الأشياءُ كلُّها بايَعَتْهُ إلاّ الرّيح .
ــ 17 ــ
روى الهواءُ أنّ آدمَ لم يصرخْ كما يصرخ الأطفالُ عادةً،
عندما يخرجون من أرحام أمّهاتهم.
ومع أنّ فــي هــذه الــرّواية ضعفاً لا يخفــى على أهل الحكمة، فإنّنا نقرأ في روايةٍ ثانية أنّ آدمَ لا يزال يقوم بوظيفته الأولى
التي أُسْنِدَتْ إليه،
وأنّه لم يتقاعد حتّى الآن.
ــ 18 ــ
يبدو أنّ الماءَ في نبع القرية التي وُلِدتُ فيها شيَّخَ، وهو الآن في أوج الشّيخوخة. أذكر كيف رأيتُ وجهي للمرّة الأولى في حــوضه الصّغير، عندما انحنيتُ فوقه لأغترف ماءه بيديّ. الحوض نفسه شيّخ هو أيضاً.
الطّريق التي كنت أسلكها إليه شيّخت هي كذلك. وحدها الشّمس لا تزال في ذروة الفتوّة.
وأمس، في لحظة من الحزن، خُيِّلَ إليّ أنّ الموتَ يهمس في أذنيّ:
« الحــياة في تلك القرية، لا تزال صديقتي الحميمة. « وخُيِّل إليّ أيضاً أنّ ثمّة صدىً لهذه العبارة يمكن أن أترجمه كما يلي:
« الموت في تلك القرية لا يزال صديقَ الحياة الحميم «.
ــ 19 ــ
قلّما تتلاقى النّهايةُ والبداية إلاّ في الموت، قُــبَيْلَ لحـــظة الهــبوط إلى القــبر، تلك التي تتمّ فيها الهجرةُ التي لا عودةَ منها.
ربّما يتذكّر المُهاجِرُ في هذه اللحظة الســّؤالَ الـذي كان يطرحه دائماً على الرّيح:
ــ أيّ الأمرين تفضّلين، أيّتها الرّيح:
أن يتحوّلَ الإنسانُ إلى سيزيف، أو إلى دون كيشوت؟
وربّما وَشـــْوَشَتْهُ الرّيح جواباً عن سؤاله:
ــ ما رأيُكَ، أيُّها المُهاجِرُ، أن تنقُلَ مكانَ إقامتك من زَبَدِ شاطىءٍ مُقيمٍ، إلى ظلِّ جناحٍ عابر؟
ــ 20 ــ
حمَلَ المُهاجِرُ بلادَه وغَرَّبَ، رفضاً للشّرق. غير أنّها ضاعَت في الطّريق.
ــ 21 ــ
نعم أيّها المُهاجِر داخلَ بلادك، أو بعيداً عنها،
لن تعرف كيف تضع قدَمَيك على الأرض،
إلاّ بقدر ما تعرف كيف تحمل السّماءَ على كتفيك.
ــ 22 ــ
اجلسْ قليلاً في حضن الفَوْضى، وسوف ترى فجأةً أنّك
تضعُ يدَكَ على مفتاح المَعنى.
ــ 23 ــ
كلاّ، لا يتساوى ظلُّ نملةٍ وظلُّ شجرة.
ــ 24 ــ
الهاوية ؟ نعم، موجودة.
غير أنّها ليست موجودة على نحوٍ موضوعيٍّ مَرْئيّ.
لذلك يستطيع كلٌّ منّا أن يقول:
كلاّ ليست الهاويةُ موجودةً،
ولن أسقطَ فيها.
ــ 25 ــ
الطّغيانُ توكيدٌ كاذبٌ للذّات، ــ كاذبٌ وخادِع.
ــ 26 ــ
لماذا ترفضُ «ثورةُ العقل» «عقْلَ الثّورات»؟
ــ 27 ــ
أطْــلَقَ الحالِمُ الصّابِرُ المُنْتَظِرُ آهةً طويلةً،
ثمّ تغطّى بها، ونام.
الحياة