فتحي المسكيني: علينا أن نكفّ عن فهم العقل بوصفه ملكة
عيسى جابلي17 مايو 2017
فتحي المسكيني
للفيلسوف التونسي فتحي المسكيني بصمة واضحة في الفلسفة العربية المعاصرة، لا بإنتاجه الغزير تأليفاً وترجمة فحسب، بل لعمق تفكير وطول تأمل وتروّ في التقاط “لحظات التفلسف” من كل الأحداث والظواهر والحالات والأشياء والكائنات، يلتقطها بعين الفيلسوف لتكون موضوعاً للتفكير والتساؤل وإثارة الإشكاليات، بلغة استعارية كثيراً ما تتسلح ببلاغة عميقة، تحول النص الفلسفي من دائرة الثقيل والمنبوذ إلى جمالية عالية لا يتقنها إلا من ورثوا سلالات الأنبياء والشعراء.
عن كتابه الأخير “الهجرة إلى الإنسانية” (2016) وما يثيره من إشكاليات وآفاق للتفكير، كان هذا الحوار:
* كتابك بعنوان الهجرة إلى الإنسانية، ولكنه بدا لي قبل ذلك، سفراً في الإنسانية ومعانيها المختلفة سياسياً ودينياً وثقافياً واجتماعياً، هو تأسيس لمعنى “ثقيل”، ولكنني لم أستطع الخروج منه بمفهوم دقيق للإنسانية كما تريدها. هل يساعدني فتحي المسكيني على ذلك الآن؟
بين شكل الكتاب ومحتواه هناك صلة سابقة، علينا الإشارة إليها. إنّ الهجرة إلى الإنسانية مؤلّف من فقرات أو مقاطع، وليس من فصول بالمعنى التقني. ثمّ هي يمكن قراءتها من أيّ فقرة أو مقطع نشاء.
يبدو أنّ القارئ التقليدي قد انتهى. نحن نوجد أمام إمكانيات قراءة نادرة وعرضية وحرة ومشاكسة، ولكن علينا أن نكتب لها. لم يعد يمكن التعويل على جنس أدبي مستقرّ لدى أهله حتى نُقرأ.
أمّا عن معنى “الإنسانيّة” في هذا الصدد فهي ليست مجرّد صفة منطقية أو مجرّد مصدر صناعي من لفظة “إنسان”، بل هي بنية الوعي الحديث بالكينونة في العالم. ويبدو أنّه منذ القرن الثامن عشر الأوروبي فقط استطاع الفلاسفة تطوير محتوى معياري جديد للنفس التي تسكن العالم وهي تفكّر. تمّ المرور من جماعة تؤمن إلى إنسانية تفكّر.
ولا يعدو عصر التنوير أن يكون صيغة من صيغ هذا المرور الميتافيزيقي والتاريخي في آن. الإنسانية ليست مجرّد نزعة إنسانويّة؛ بل هي اليوم آخر قيمة كونية يمكن تقاسمها من دون خجل فلسفي كبير. هي آخر أفق أخلاقي يمكن الدفاع عنه دون التراجع عن أيّ مكسب من مكاسب نقد العقل المؤسّس على مبدأ الذاتية. – وفيما يهمّنا بشكل أدقّ فإنّ قيمة الإنسانية بمجرّدها لا تزال في عديد الثقافات غير الغربية – ومنها ثقافتنا – مطلباً معياريّاً صعب المنال. لا تزال مقولات من قبيل حرمة الجسد أو حرية الضمير أو مفهوم الفرد أو الحريات الأساسية أو حتى “حقوق الإنسان” في بعدها الكوني – وليس “العالمي” فقط – ادّعاءات معياريّة بلا مضمون مستمرّ. ولذلك نحن شهدنا أوّل فرار ميتافيزيقي من نوعه: إنّه فرار الشعوب من بلدانها نحو مناطق “الإنسانية” أو مناطق تدّعي أكبر قدر ممكن من قيم الإنسانية راهناً.
*حللت ظاهرة إلحاد الشباب المراهق في راهننا بطريقة “رشيقة” – والعبارة لك – وقلت إن إلحاده هو رفض لثالوث السلطة الأب / الحاكم / الله ووصفته بأنه جيل بلا انتماء هووي جاهز، أين سيقيم في رأيك إذن؟ هل ثمة حيّز ممكن من اللاسلطة؟ وإلى أي مدى يمكن للإنسان أن “يحقق” حريته في هذا الحيّز إن وجد؟
علينا أن نفصل بين الهوية والمكان. المكان لا هوية له من دون منتمين إليه. ولذلك فالشباب الذي تمرّد على مركّب السلطة العميقة (الأب/ الملك / الله) الذي تأسّست عليه كلّ قيمنا الروحية وكلّ تجاربنا التاريخية وسرديات أجسادنا وحتى أسمائنا ومناويلنا الجنسية والجندرية، الخ.. هو ليس ملحداً بالمعنى الديني. ربما هو أوّل جيل يدّعي الإلحاد من دون ثقافة دينية. ولذلك سمّيت هذه الظاهرة “المراهقة الملحدة”، وليس العكس. كلّ الادّعاءات الحديثة حول الإلحاد من شوبنهاور إلى نيتشه أو هيدغر أو سارتر.. هي ادّعاءات بلا محتوى ديني.
ولذلك هي لا تعني الإلحاد إلّا عرضاً أو مجازاً. لا يمكن لأحد أن يلحد إلّا داخل نطاق دولة الملة. أمّا في فضاء عمومي تحت إشراف الدولة المدنية الحديثة فإنّ ما يُطلق عليه اسم “الإلحاد” هو ظاهرة تنتمي إلى براديغم الذات، ومن ثمّ هو نوع من التمرّد الأخلاقي الخاص بالفرد الحديث.
والشباب الذي يعيش الإلحاد بوصفه مراهقة وجودية ليس ملحداً إلّا مجازاً فقط. إنّه في واقع الأمر يمارس فردانية متمرّدة على بنية السلطة العميقة (الأب/ الملك/ الله) في آخر عمر ميتافيزيقي لها.
إلّا أنّه تمرّد كسول لم يخترع مفرداته الخاصة، بل اكتفى باجترار معجم ديني خرج من الخدمة. وعلى عكس ما نظن فإنّ دعاة الإلحاد يعيدون الدين إلى الخدمة وهم ليسوا أعداء له إلّا عرضاً. ومن ثمّ فإنّ “الملحدين” لا يؤسّسون لظاهرة “اللاسلطة” وإن كانوا ضدّ مخيال السلطة.
ليس ثمّة أيّ منطقة لا تنفذ إليها السلطة، وكان درس فوكو الأكبر هو التنبيه إلى أنّ السلطة مساحة أوسع وأعقد من جهاز الدولة. فالسلطة مشكل حيوي وليس موقفاً سياسياً أو حكماً قانونياً أو حتى شريعة دينية. ولذلك فإنّ تحقيق الحرية أو تحقيق الذات لا يتمّ هو نفسه من دون نوع ما من السلطة المضادة. وبالتالي لا يوجد ما هو “خارج” السلطة. ثمّة فقط سياسة للحقيقة قد تجعل هذا الفرد أو هذه المجموعة في علاقة غير حيوية مع نوع من السلطة.
* تقول إن “الكره انفعال هووي حزين، لا غير … يهدف إلى إلغاء وجود عدو ما، أكان شخصاً أم شعباً أم ثقافة أم ديانة أم لغة”، ألا ترى أنه في الراهن العالمي قد جاوز الحد؟ ما الذي يسلّحه بهذه الطاقة التدميرية الرهيبة؟ وهل يمكن أن نجعله كرهاً يفكّر؟
الكره يجاوز الحدّ دوماً؛ ليس هناك كرهٌ مناسب. والمشكل الفلسفي هو: إلى أيّ مدى تحتاج الشعوب إلى انفعالات الكراهية؟ طبعاً لا يمكن لشعب بأكمله أن يعيش من دون الوقوع في انفعالات حزينة وحتى من دون مشاعر كراهية. الكره لا يتحوّل إلى حاجة إلّا إذا تمّت مأسسُته. الدولة يمكن أن تنقلب إلى جهاز كراهية مرعب. وهي لا تنجح في ذلك إلّا باستغلال انفعالات الشعوب التي لا تفهم السياسة إلّا في منطق الصديق والعدو. ومن العبث دفع الشعوب إلى التفكير في الحقيقة.
فلسفيّاً يمكن الاستئناس بتمييز سبينوزا بين الغضب والسخط: الغضب انفعال حزين لكنّ السخط قوّة إثبات. ينبغي تعليم الشعوب كيف تسخط على ما لا يُغتفر، على ما هو “جريمة ضد الإنسانية”، لكنّ ذلك مطلب أخلاقي مختلف عن الغضب الذي هو جهاز هووي حزين بامتياز. وحده انفعال حزين يؤدّي إلى تأسيس الكره واعتماده كقيمة وطنية. لا يمتلك الكره “طاقة تدميرية رهيبة” بل هو مجرد استعمال خارجي وانفعالي لها. وحدها الشعوب تمتلك طاقة تدميرية رهيبة، لكنّها قلّما تستعملها من ذات نفسها. كلّ الشعوب مستعمَلة من خارج. هي أدوات سياسة للحقيقة لا تراها. ولأنّ الفلاسفة ينبشون في هذه المنطقة العميقة من الانتماء فهم غالباً ما يصطدمون بمركّب السلطة (الأب / الملك / الله) الذي تحميه الدول كي تعتاش منه شرعيّتها. إنّ الكره لا يفكّر.
العقل الذي يهمّنا هو العقل الذي يفكّر ولا يعرف فقط؛ أي ينتج معنى “كونيّاً”
* ما الذي يكبّل العقل زيادة على الانشداد إلى قيم الماضي بمستوياته المختلفة، أنت الذي تصفه بأنه “الجدار الأخير في معركتنا مع قيمة الإنسان داخل أفقنا الروحي”؟ هل ذلك راجع إلى طبيعة هذا العقل نفسه أم بتكوينه أم بطرائق نظره؟
علينا أن نكفّ عن فهم العقل بوصفه ملكة أو قدرة ذهنية. العقل تحوّل في عصرنا إلى بنية معقولية، منظومة من القيم الرمزية، شبكة معنى… تعمل من دون أيّ ذات مهما كانت تدّعي أنّها مالكة للحقيقة. العقل منتشر في العلوم الحديثة مثل الشِّباك لاصطياد العالم. ولذلك من الخطأ اتهام العقل وكأنه شخص. لم نفهم بعد أنّ العلم الحديث قد أعاد كتابة سردية الكون وأحرق كلّ النسخ القديمة من العقل. لكنّ ذلك لا يعني أنّ العقل “العلمي” (الرياضي، التجريبي، التكنولوجي…) هو مجرد أداة تفسير أو مجرد منوال تطبيقي، بل إنّ سرد الكينونة في العالم “في ضوء” المعارف العلمية وحدها يُعدّ هو نفسه موقفاً أخلاقيّاً ومعياريّاً من الطراز الرفيع. “إنسانية” عصر العلم هي إنسانية تفكّر، وليست مثل العلم الذي “يعرف” الظواهر فقط، ووصفه هيدغر ذات فكرة بأنّه “لا يفكّر”.
العقل الذي يهمّنا هو العقل الذي يفكّر ولا يعرف فقط؛ يفكّر يعني فلسفيّاً ينتج معنى، وبالذات معنى كونيّاً، ولا يقتصر على الدفاع عن نماذج عيش أو تجارب معنى عفّى عليها التاريخ.
“الماضي” جهاز انتماء وليس مجرّد بُعد زماني. والماضي الخاص بنا ليس خطاباً ضعيفاً بل كان يعتمد هو نفسه على تصوّر عميق للعقل لكنّه لم يعد ناجعاً. منذ القرن السابع عشر نجحت الإنسانية الأوروبية في برمجة نوع جديد من العقل الحرّ الذي يملك ادّعاءات صلاحيته لأنّه عقل متناهٍ ومحايث بلا رجعة. هو متناهٍ لأنّه لا يتعلق إلّا بالكون في بنيته المتاحة للبشر، أي كما يظهر لهم في المكان والزمان وكما يمكن لهم إدراكه. وهو محايث في معنى أنّه لا يقبل بأيّ نوع من التعالي على طبيعته وبالتالي على سلطته. وهكذا: فإنّه لا يكبّل العقل إلّا ما هو غريب عن طبيعته.
*يؤسس فتحي المسكيني، اعتماداً على الدرس النيتشوي، إلى حوار بين الشعوب “بلا ادعاءات كونية”، في زمن تزحف فيه العولمة بجميع مستوياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية على رقعة الأرض تطلب رأس المختلف أنّى كان.. كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة الصعبة خصوصاً بالنسبة إلينا نحن العرب والمسلمين؟ وإلى أي مدى يمكننا “النجاة” بجلودنا الخاصة من هذا التنين؟
يجدر بنا التمييز بين الكوني – الذي هو قيمة معيارية – وبين “العالمي” أو “المعولم” – الذي هو نتاج تاريخي لنوع مخصوص من سياسة العالم. الكون بُعد ميتافيزيقي لأيّ كائن. بإمكان أيّ حيوان أن يشاطرنا ادّعاءنا حول معنى الكون. لكنّ العالم مشكل يمكننا أن نؤرّخ له؛ ومن المهمّ التذكير بأنّ مصطلح “العولمة” هو ترجمة سيّئة أو غير بريئة لمصطلح إنكليزي يتحدث عن “الكرة الأرضية” أو “الغْلوب”: ما يقع هو “تكوير” العالم وليس عولمته. ونعني بذلك أنّ تدبير العالم في ظلّ براديغم إمبراطوري (تحرسه أميركا) هو لا يهدف في واقع الأمر إلى “العولمة”، أي إلى فرض قيم كونية أو “كوكبية” على ثقافات “محلية”، بل إلى شيء أخطر من ذلك. كانت كل الإمبراطوريات السابقة على الحداثة (الفارسية، اليونانية، الرومانية، الإسلامية..) تبرّر توسّعها باللجوء إلى مبدأ “العالمية” في خطابها: أي كونها تخاطب الإنسان بما هو إنسان أو المواطن الإمبراطوري أو الناس كافة.. وليست “العولمة” المعاصرة غير الصيغة الأخيرة من سياسة قديمة للعالم باسم العالمية (عالمية القانون الروماني أو عالمية الدعوة التوحيدية..). لكنّ الجديد هو تكوير العالم، نعني تحويل “العالم” إلى “كرة أرضية”، ومن ثمّ معاملة الشعوب غير الغربية باعتبارها مناطق إنسانية فارغة أو “غير مأهولة” ثقافيّاً. هم لا يأتون لنا بالعالمية، بل يعاملوننا بوصفنا مجالاً حيويّاً لا يملك مشروعاً للسكن في العالم أو لا يزال يعوّل على أجهزة تشريع تقليدية لذاته. ومن ثمّ هو في موقع ضعف ميتافيزيقي، نعني لم يعد قادراً على تبرير وجوده التاريخي في هذا العصر بشكل ناجع. لا يتعلق الأمر بمعادلة صعبة بين العالمية والخصوصية؛ الغرب ليس عالميّاً أو ليس أكثر عالميّة من ثقافتنا. بل هو لا يقصد أن “يعولمنا” أو يحوّلنا إلى دول عالمية. هو يريد فقط “تكوير” وجودنا الراهن: إدراجنا داخل مساحات “الكرة الأرضية” كما يرسمها، حتى نصبح شعوباً ودولاً وعقولاً في مرماه ما بعد الحديث، بوصفنا مجرّد سوق مفتوحة أو مناطق تبادل حر للإنسان.
*يمثل مفهوم التفكير/الشعور بالهوية مفهوماً مركزياً تحلل من خلاله أزمات العالم العربي، برأيك هل يمكن لنا “الهجرة” خارج هويتنا خصوصاً أنك تدعو في مقام آخر إلى ضرورة البحث عن آفاق ممكنة للمستقبل بالعودة إلى لحظات كائنة زمنياً في الماضي مثل ابن رشد والفارابي؟
يقول إميل سيوران: “كم هو محزن أن نرى أمماً كبيرة تتسوّل قدراً إضافيّاً من المستقبل” (ترجمة آدم فتحي). في الحقيقة كلّ المشكل يتوقّف على مفهوم “الهوية” الذي نقصده. ثمّة معانٍ من الهوية لم تعد ممكنة أو صارت بلا مضمون. ما يبقى هو انتماء الناس إلى أنفسهم العميقة. وهذه الأخيرة ليس لها ماهية محدّدة بلا رجعة. هي تكون قد وُجدت وعلينا أن نلتحق بها. ويبدو راهناً أنّ المستقبل هو المحتوى الوحيد الجدير بالهوية. إذن لا توجد هجرة خارج هويتنا؛ نحن نهاجر دوماً داخل أفق هوية ما. وكلّ تمرّد تاريخي عليها أو عصيان أخلاقي لها ربما يكون أنبل وأروع تعبير عنها. لكنّ المستقبل ليس فقط ما لم يحدث بعد. هذا أضعف انفعالات الآتي. ربما أكثرنا يأتي إلى نفسه من جهة ماضيه. لكنّ الماضي أيضاً ليس له مضمون جاهز. ابن رشد أو الفارابي أو القرآن أو المعلقات أو العرب أو حتى الإسلام.. هي “علامات” في شبكة أو مركّب من الأعمال اللغوية التي لا تزال تمارس ادّعاءات معيارية خطيرة جدّاً في أفق فهمنا لأنفسنا، ونحن نحسبها مجرّد حفائر أدبيّة.
* في تحليلك لما سمي بـ”ثورات الربيع العربي” ونقدها، اعتبرت أنها مجرد “ثورات عبيد افتراضية فشلت في الوقوع رغم كل الصدق الذي صاحبها”، ووصفتها بأنها كانت “فوقية وخارجية وأقلية”، غير أنك استثنيت تونس من هذه الاعتبارات. ما مبررات هذا الاستثناء؟
طبعاً هذا وصف لا يغطّي كلّ إمكانية المشكل الذي طرحته تلك “الثورات”. بل فقط يشير إلى نوع غير مسبوق من “الفشل” التاريخي لشعوبنا: هي تتجرّأ على الحدث لكنّها لا تسيطر على وجهته. وحتى استثنائية تونس هي مهدّدة دوماً. يبقى أن نقول إنّ تونس قد نجحت في تأمين عبور إلى “ما بعد” الثورة بسرعة مخيفة إلى حدّ ما. وصلنا إلى “ما بعدٍ” مدني ولكن بلا مضمون اجتماعي. وليس له من أصالة حاسمة سوى طابعه السلمي. المشكل أنّ الشعوب ليست مسالمة إلى الحدّ الذي يتصوّره سياسيون “هواة” ميزتهم الوحيدة هي أنّهم بلا سوابق سياسية.
* ما زال الحديث عن الثورة التونسية يثير جدلاً كبيراً، ما مرد هذا الجدل في رأيك؟ هل ثمة “ثغرات” في هذا الحدث ذاته؟ أم في العقل العربي الذي ما زال يقارب الأشياء بوسائل معرفية قديمة أم لأسباب أخرى؟
كلّ حدث هو حالة عدم مؤقتة تمّت الاستفادة منها. والثورة هي ثغرة بالضرورة. وفي تونس تمّ التحضير طويلاً منذ سبعينيات القرن الماضي لثورة معيّنة ومنشودة لم تقع. ما وقع هو الحدث المتنظر. لكنّ الثورة ليست ذلك الحدث إلّا لأوّل وهلة فقط. تعلّم الناس اليوم بعد لأيٍ أنّ الثورة وقعت لكنّها لم تتجاوز عتبة الحدث المنتظر. الجدل الكبير خبر سار دائماً. وبعض الثورات لا تنتج سوى استعارات جديدة. وهذه علامة على الانتقال إلى مستوى آخر من علاقة العقل بنفسه في أفق ثقافتنا. الجدل الكبير هو دوماً نزاع أصيل بين وسائل معرفية قديمة وبين آفاق أخرى لم نطأها بعدُ بعقولنا. بقي أن نختم بالإشارة إلى أنّه لا وجود لشيء اسمه “العقل العربي”: الدليل الوحيد على أنّنا نفكّر هو أن نشارك أعضاء الإنسانية الحالية في اختراع قيم كونية جديدة لعقولنا في كل مرة. وذلك يعني ألّا ندع للغرب أيّ فرصة لاحتكار العقل “الأبيض” أو تحويل الحداثة إلى منّة “كولونيالية” لشعب تجاه شعب آخر.
يذكر أن المسكيني مولود في مدينة (جندوبة) بتونس عام 1961، حاصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 2003، بدأ رحلة التأليف في تسعينيات القرن الماضي وراكم، إلى جانب التدريس في الجامعة التونسية، عدداً من المؤلَّفات، منها: هيغل ونهاية الميتافيزيقا، تونس، 1997. وفلسفة الثوابت، بيروت، 1997. والهوية والزمان، بيروت، 2001. ونقد العقل التأويلي، بيروت، 2005. والهوية والحرية، بيروت، 2011. والتفكير بعد هيدغر، بيروت، 2011. وفي الترجمة نشر كتاب فردريك نيتشه: جينالوجيا الأخلاق، تونس، 2010. وكتاب إيمانويل كانط: “الدين في حدود مجرد العقل”، بيروت، 2012.