تحليل أسطورة عروج إيتانا إلى السَّماء وتعد أقدم محاولة موثقة للعروج

نشر الباحث والكاتب – سعيد الغانمي مقالا مهما عن تصوِّر أسطورة “عروج إيتانا إلى السَّماء”، واعتبرها أقدم محاولة بشريَّة في العروج إلى السَّماء. وقد رأى المرحوم طه باقر في هذه الأسطورة أنَّها “تعرض لنا أقدمَ حلمٍ في الطَّيَران عند البشر”.

Advertisements
Advertisements

لكنَّها في الأرجح تمثِّل أقدم محاولة في العروج إلى السَّماء. فقد حُرِمَ إيتانا، ملك كيش، من الإنجاب، وأرادَ أن يُرزَقَ بولدٍ يرثُ عرشَهُ. وفكَّر في العروج إلى السَّماء لاستعطاف الآلهة. ولذلك لم تكنْ رغبتُهُ في استكشاف عالم الأرض من الأعلى، بل هو خافَ ونزلَ حين تطلَّع إلى الأرض، كما سنرى، بل رغبَ في لقاءِ الآلهة للتوسُّل إليهم في الحصول على “عشبةِ الميلاد” لكي يُرزَقَ بوريثٍ.

ولكنْ لمّا لم يكن بوسع إيتانا أن يحلِّق إلّا بمساعدة طائرٍ، فقد كان بحاجةٍ إلى مَن يطيرُ به في عمليَّة العروج والانتقال بين الأمكنة. وقد نصحَهُ الإله شمش بتخليص الصَّقر من محنتِهِ، لكي يُساعده في هذه العمليَّة. ولذلك تروي الأسطورة قصَّتين متوازيتين؛ الأولى قصَّة إيتانا في محاولته إنجاب ابنٍ له وعجزه عن ذلك، ثمَّ تتركُهُ إلى رواية قصَّة الصَّقر والثُّعبان، وإخلال الصَّقر بالميثاق المعقود بينهما،

والعقوبة التي أنزلتْها الآلهة به، ثمَّ تعود بعد ذلك إلى ربط القصَّتين معاً، حين استجاب الإله شَمَش لتوسُّلات إيتانا، وأرشدَهُ إلى الصَّقر لكي يرتقيَ به إلى السَّماء.

وقد وصلتْ من الأسطورة ثلاثُ نسخٍ إحداها من العهد البابليِّ القديم، وهي التي سوف نعتمدُها هنا، ونسخة من العهد الآشوريِّ الوسيط، ونسخة ثالثة من مكتبة آشور بانيبال من العهد الآشوريِّ الحديث. وقبل أن نعرض لخلاصة الأسطورة نقلاً عن النَّشرة الكاملة التي أعدَّها جامي نوفوتْني للأسطورة، نودُّ الإشارة إلى أنَّ الناشر استخدم تسمياتٍ مختلفةً للنَّصِّ، فأطلقَ عليه في العنوان اسم ملحمة، وفي المقدَّمة والشُّروح كان يسمِّيه القصَّة أو الأسطورة أو النَّصَّ. وبالتَّأكيد لم يقصد المعنى الصِّنفيَّ للكلمة.

وتقع النُّسخة البابليَّة القديمة في ثلاثةِ ألواحٍ، تتخلَّلُها بعض الانقطاعات بسبب الكسور. يبدأ اللَّوح الأوَّل بالآلهة الكبار وهم يخطِّطون لبناء مدينة كيش من أجل البشر. وبعد اكتمالها، كانت المدينة بحاجة إلى حاكمٍ يحكمُها، ويستحقُّ الإشراف على تكاثر سكّانها. فطفقَ إنليلُ وعشتارُ يعملانِ ما بوسعهما في جميع مواطن العبادة في البلاد بحثاً عن الشَّخص المناسب، وبالنَّتيجة يقع الاختيار على “إيتانا”.

Advertisements

وهكذا هبطَتِ الملوكيَّة وجميع المسؤوليّات المقترنة بها من مكانها الرَّفيع في السَّماء إلى الأرض للمرَّة الأولى. ولكنْ لسوء الحظِّ يوجد كسرٌ في اللَّوح عند هذه النُّقطة يستغرق ما يقارب (26) سطراً. ثمَّ يستأنف النَّصُّ مع فقرة متشظِّية (تأويلها غير أكيد) تروي فيها زوجة إيتانا حلماً لزوجِها. وبعد عشرة سطور، يتوقَّف السَّرد، هذه المرَّة حتى نهاية اللَّوح.

ويبدأ اللَّوح الثاني بشجرة “حور” تنمو في ظلِّ بعض الأبنية، بما فيها بناءٌ طقوسيٌّ مكرَّس للإله “أدد”، يُفترَضُ أنَّ إيتانا هو الذي شيَّدَهُ. في أسفل هذه الشَّجرة، يبني ثعبان عشَّهُ عند الجذور، في حين يشيِّد صقرٌ مسكنه في ذروة الشَّجرة. وبعد زمنٍ غير محدَّد، يتبادلُ الجارانِ قَسَمَ الصَّداقة، بحضور الحكم الإلهيِّ شَمَش، إله الشَّمس، ويتعهَّدانِ بأن يرعى كلٌّ منهما فراخَ الآخر، ويشتركا في مسؤوليَّة إطعامهما.

ولفترةٍ من الزَّمن، يحترمُ الاثنانِ هذا الميثاق، ويصطاد الوحوش البرِّيَّة مثل الخنازير والثِّيران والظِّباء والماعز الجبليِّ ومخلوقاتِ الوديان الأخرى. وفي أحد الأيّام، بعد أن كبرَ الصِّغار، يتآمر الصَّقر بخبثٍ لالتهام فراخ الثُّعبان. وبرغم الجهد الذي يبذلُهُ أكبر الطُّيور الصِّغار لكي يثنيَ أباه عن القيام بهذا الفعل العدوانيِّ المشين، فإنَّ الطائر الضاريَ ينقضُّ من أعلى شجرة الحور، ويدمِّر عشَّ الثُّعبان، ويلتهمُ جميعَ فراخِ رفيقِهِ.

Advertisements

وعند عودة الثُّعبان من رحلة الصَّيد، يجد أنَّ جميع صغارِهِ اختفتْ وفُقِدتْ. وبعد التَّحرِّي، يشكُّ في أنَّها لعبة قذرة من جانب الصَّقر، ما دام قد تركَ وراءه دليلَ جرمِهِ. فيتوسَّل الثُّعبان إلى شمش أن ينتقمَ له على فقدانِهِ أولادَهُ. ويقبل الحَكَم الإلهيُّ، الذي شهد بعينه الفعل الرَّهيب، توسُّله ويصرع ثوراً وحشيّاً، وينصح الثُّعبان أن يختفيَ في أحشائِهِ الداخليَّة وينتظر. وحين يأتي خصمُهُ ليتغذَّى على لحم الثَّور، ينبغي أن ينقضَّ عليه، وينتفَ ريشَهُ، ويشدَّ أجنحته، ويلقيَ به في حفرةٍ عميقةٍ ليموت جوعاً وعطشاً. وهذا ما حصل فعلاً. بعدها يتوسَّل الصَّقر بالآلهة أن تنقذَهُ من هذا المصير المشؤوم، غير أنَّها ترفض مساعدتَهُ. وفي النِّهاية بعد أن تأثَّر شمش بتوسُّل الصَّقر المتواصل، قرَّر أن يرسل إليه إنساناً لمساعدته، وذلك الإنسان هو إيتانا، ملك كيش.

في مدينة كيش، في الوقت نفسه، كان إيتانا يتوسَّل لإله الشَّمس يوميّاً لكي يهبَ له وريثاً، وقد أخفقَتِ التَّقاليد المتَّبعة في الحصول على مساعدة السَّماء – عن طريق تقدمةِ دمِ حملٍ أو بخورٍ أو خروفٍ مسمَّنٍ- في استعطاف الإله شمش. وأخيراً يتساهل شمش ويظهر للملك اليائس في الحلم على الأرجح. ويخبر الإله الحَكَم إيتانا عن ورطة الصَّقر المكلوم، وينصحه بأن لا ينقذَ الطائر إلّا بعد أن يَعِدَهُ بمساعدته في العثور على النَّبات الأسطوريِّ الذي يسهِّل الخصوبة، وهو المسمَّى بـ”عشبة الميلاد”. ينطلق إيتانا على الفور في البحث، وسرعان ما يُغادر مدينة كيش، ويعثر على الحفرة التي تخفي في داخلها الصَّقر الجريح.

Advertisements

يبدأ اللَّوح الثالث بظهور إيتانا واقفاً على حافَّةِ الحفرة حين كان الصَّقر يناقش مع شمش وسائل الاتِّصال بالبشر. ينسى الملك الكيشيُّ، وقد دُهِشَ تماماً لتمكُّنِهِ من الاتِّصال بصقرٍ، أن يقدِّم نفسه للطائر الجائع العطشان، ويفرض عليه أن يلبِّيَ الصَّقر طلبه بالحصول على النَّبات الثَّمين عن “عشبة الميلاد”.

وحالما ينقذ إيتانا رفيقه المتنقِّل الجديد، ينطلق الطائر في بحثِهِ عن العشبِ السِّحريِّ الخفيِّ، وإن كان ذلك بلا طائلٍ، لأنَّ عشبة الميلاد لا توجد في أيِّ مكانٍ على سطح الأرض. وعلى الفور يقترح الصَّقر أن يطلبا المساعدة من الإلهة عشتار. حينئذٍ يعتلي إيتانا ظهر الطائر العملاق ويبدأ الاثنانِ صعودَهما إلى “سماء آنو”. وكلَّما قطعا ميلينِ مضاعفينِ، طلبَ الصَّقر من إيتانا أن يصفَ له ما يراه في البرِّ والبحرِ. وبعد أن أوغلا في الارتفاع ثلاثةَ فراسخَ، يتطلَّع الملك الكيشيُّ إلى الأسفل، فيرتعب ويفقد شجاعتَهُ، ويتوسَّل إلى الصَّقر أن يعيدَهُ إلى كيش. وسرعان ما يهبطُ الاثنانِ إلى الأرض اليابسة.

وعند هذه النُّقطة، ينقطع السَّرد بما يقرب من ثلاثة عشر سطراً. وحين يستأنف النَّصُّ، يظهر أنَّ إيتانا ورفيقه المجنَّح قد عادا إلى كيش. وتتخلَّل انقطاعاتٌ كثيرةٌ سرد السُّطور العشرين التالية، يبدو أنَّها تهتمُّ برواية حلمٍ أو حلمينِ من أحلامِ البطل الأثيرة. وتحول الوضعيَّة المتشظِّية دون معرفة الدَّلالة الدَّقيقة للأحداث ومَن تلقَّى الرُّؤى تلك اللَّيلة. ولعلَّ الحلم الأوَّل كان يُعنى بموقع عشبة الولادة، في حين يُعنى الثاني بالعروج إلى السَّماء (وهذا التَّأويل غير أكيد).

بعد كسر يمتدُّ ما يقارب ثمانية سطور، يستأنف السَّرد مع إيتانا وهو يخبر الصَّقر بحلمٍ عجيبٍ رآه توّاً. فقد عبر إيتانا وصديقه المجنَّح، في رؤياه اللَّيليَّة، من خلال مدخل بوّابة آنو وإنليل وإيا، ومدخل بوّابة سين وشمش وأدد وعشتار. وعند كلِّ بوّابةٍ من البوّابات، يسجد الاثنان، ويُبديانِ التَّوقير والاحترام. وبعد عبور بناء البوّابة الأخيرة، يدخل الملك الكيشيُّ الذي يدفعُهُ الفضول إلى بيتٍ من البيوت فيرى إلهةً، ربَّما كانت عشتار، جالسةً على عرشِها، والأسودُ رابضةٌ عند أسفل العرش. وحين يقتربُ إيتانا من السَّيِّدة الإلهيَّة، يندفعُ الأسدانِ نحوه، وقبل أن يبطشا به، يصحو الملك الكيشيُّ من رؤياه وهو ينتفضُ بعنف. وحين يروي إيتانا هذه الرُّؤيا على الصَّقر، يقترح الصَّقر أنَّها إيذان لهما، وأنَّهما يجب أن يطيرا إلى السَّماء من جديد.

يرتقي إيتانا ظهر صديقِهِ المجنَّح ويتَّخذه مقعداً، ويقطع الاثنانِ ثلاثة فراسخ علوّاً. ويصلانِ بسلامٍ، ويعبرانِ بوّابة آنو وإنليل وإيا، وبوّابة سين وشمش وأدد وعشتار. وعند هذه النُّقطة يتوقَّف النَّصُّ مرَّة أخرى، ولسوء الحظِّ، فإنَّ نهاية الملحمة مفقودة تماماً، بمعزل عن آثار علامات قليلة. ومن هنا لا نعرف معرفةً دقيقةً ما إذا كانت عشتار قد أعطت عشبة الولادة للملك الكيشيِّ، فكان بوسعِهِ أخيراً أن يحصلَ على وريثٍ نتيجة التَّدخُّل الإلهيِّ. ووفقاً لما ينقله أحد النُّصوص، وهو “ثبت الملوك السُّومريِّين”، فقد عقب إيتانا ابنُهُ “باليخ” ملكاً على كيش.

ويجب أن نبدأ تحليلنا من بناء الأسطورة المعقَّد. إذ من الواضح أنَّ أسطورة “عروج إيتانا إلى السَّماء” قد اكتسبتْ بناءً معقَّداً أدخلتْ فيه عدَّة شخصيّاتٍ أخرى. والهدف من هذا البناء هو صناعة البطل الأسطوريِّ، وهو في هذه الحالة إيتانا ملك كيش، والارتقاء به إلى السَّماء، ووضعُهُ بمصافِّ الآلهة. وهكذا أصبحتِ الأسطورة أسطورةَ صنعِ بطلٍ تأسيسيٍّ. وقد استدخلَتْ حكايةً ضمنيَّة في داخل حكايتِهِ، وخلقتْ معها شخصيَّتين جانبيَّتين هما الصَّقر والثُّعبان. ولكنْ ينبغي أن نضعَ في اعتبارنا أنَّهما ليسا الصَّقر والثُّعبان كما نعرفُهما في الزَّمن الاعتياديِّ، بل هما الصَّقر والثُّعبان في زمن الخليقة.

من أهمِّ النَّتائج التي تترتَّبُ على كونهما ينتميانِ إلى زمن الخليقة أنَّهما يمتلكانِ لغةً إنسانيَّةً، هي بالطَّبع اللُّغة السُّومريَّة، ومن خلالها يتصرَّفانِ كبشرٍ، فيعقدانِ بينهما ميثاقاً للصَّداقة، ويتعايشانِ في السُّكنى على شجرةٍ واحدةٍ، ليس من شكٍّ في أنَّها شجرةٌ فردوسيَّة. بالإضافة بالطَّبع إلى حجمِهما الكبير، كما تدلُّ على ذلك الأختام الأسطوانيَّة الكثيرة التي تصوِّر أسطورتهما. وفي هذا الزَّمن الفردوسيِّ، يتَّفقانِ على الإخلاصِ لبعضهما، وعدم الاعتداء على فراخِ أيٍّ منهما. وللميثاق في الفردوس حرمتُهُ الصارمة أكثر من حرمتِهِ في الزَّمن الاعتياديِّ. ولهذا فإنَّ العقوبة على الإخلال به سريعة وفوريَّة ومباشرة. كانتِ المسافاتُ بينهما واضحةَ الحدودِ؛ للصَّقر أعلى شجرة الحور، وللثُّعبان أسفلُها. وما كاد الصَّقر يلتهمُ صغارَ الثُّعبان، حتّى قرَّرتِ الآلهةُ معاقبتَهُ بأن نصحت الثُّعبان بالاختباء في أحشاء ثورٍ ميتٍ، وحين يدنو منه الصَّقر لالتهامه، عليه أن ينقضَّ عليه وينتفَ ريشَهُ، ويرميَ به في حفرةٍ عميقةٍ يبقى فيها حتّى يلاقيَ حتفَهُ عطشاً وجوعاً. وهكذا تقرِّر الأسطورة أنَّ عقوبة الإخلال بالقسم هي الرَّمي في حفرة حتّى الموت.

في هذا الوقت، كان هناك شخصانِ يتوسَّلانِ إلى الإله شمش لكي يساعدَهما؛ الصَّقر الذي رُمِيَ في الحفرة لإخلالِهِ بميثاقِهِ مع الثُّعبان، وإيتانا ملك كيش، الذي يتوسَّل إليه أن يرزقَهُ بوريثٍ يحفظ اسمه، ويحكم بعده. كلاهما يتوسَّل إلى الإله شمش في وقتٍ واحدٍ. ولهذا أدرك شمش أنَّ الاثنين بحاجة إلى ميثاقٍ جديدٍ يحفظانِهِ، ليس بين الثُّعبان والصَّقر، بل بين الإنسان وصقر الفردوس. وفي هذا الميثاق الجديد، لا بدَّ من احترام القسم لتكون النَّتيجة معاكسةً تماماً لنتيجة الميثاق القديم. لقد وقع الصَّقر في حفرةٍ عميقةٍ بسبب إخلافِهِ للميثاق القديم. لكنَّه بسبب التزامِهِ بالميثاق الجديد يمكن أن يرتفعَ هو وإيتانا إلى السَّماء، إلى مقرّات الآلهة الكبار.
لا يستطيع الصَّقر الفردوسيُّ احتمال العذاب المميت في الحفرة، ولذلك يتوسَّل إلى شمش لكي يُخرجَهُ منها. وفي المقابل لا يستطيع إيتانا الحياة من دون وريثٍ، ولذلك يتوسَّل إلى شمش لكي يرزقَهُ به. حينئذٍ يقترح شمش، في الحلم على ما يبدو، أن يستحصلَ إيتانا من الصَّقر وعداً بالعروج به إلى السَّماء للحصول على “عشبة الميلاد”، ثمَّ بعدها يخلِّصه من ورطة الحفرة القاتلة. وكما توسَّل الاثنانِ لشمش في وقتٍ واحدٍ، فقد استجاب للاثنين في وقتٍ واحدٍ، وربطَ بينهما بميثاقٍ جديدٍ. ومطلب الصَّقر هو الخروج من الحفرة، أمّا مطلب إيتانا فالحصول على “عشبة الولادة”. وعشبة الولادة مثل “عشبة المشي على الماء” في حكاية بلوقيا في “ألف ليلة وليلة” لا توجد في الجغرافيا الإنسانيَّة المعروفة، بل في زمن الآلهة، وتحتاجُ إلى الارتقاء إلى مصافِّهم للحصول عليها. من هنا سيُفضي الالتزام بالميثاق الجديد بالاثنين إلى الارتقاء إلى مصافِّ الآلهة.
قلنا إنَّ الوظيفة البلاغيَّة لاستعارة الأجنحة الطائرة هي الانتقال بين العوالم. وهناك نوعانِ من المسافات التي تفصلُ بين العوالم؛ مسافات أفقيَّة تسكنُ فيها عوالمُ متباعدةٌ، كما هو الحال في الجزر الأسطوريَّة عن جبل قاف وواق الواق وما أشبه، ومسافات عموديَّة تفصلُ بين عوالمِ العقل عند أفلاطون مثلاً، أو عالم الآلهة والعالم البشريِّ في الفكر الأسطوريِّ القديم. ولعبور هذه المسافات يجب أن تتوفَّرَ أمام البطل الآليّات السِّحريَّة المناسبة لاجتياز العقبات الفاصلة بين العوالم المتباعدة. في أسطورة إيتانا هذه، لم يكنْ بوسعه الطَّيَران، لأنَّه إنسانٌ عاديٌّ، وإن كان ملكاً مؤسِّساً، لذلك فهو بحاجةٍ إلى صقر الفردوس ذي الحجم العملاق، لكي يساعدَهُ في الارتقاء إلى عالم الآلهة. والصَّقر أيضاً بحاجةٍ إلى إيتانا لإخراجِهِ من الحفرة المهلكة. وقد حافظَ كلاهما على كلمتِهِ، فكافأتِ الآلهة الاثنينِ؛ إيتانا بتسهيل وصولِهِ إلى الآلهة وحصولِهِ على عشبة الولادة، والصَّقر بتخليصِهِ من الحفرة، واستعادتِهِ ملكةَ الطَّيَران من جديد.
بقيَ أمامنا أن نتساءلَ عن أيِّ الشَّخصين هو البطل؛ الصَّقر أم إيتانا؟ الجواب دون شكٍّ هو إيتانا. فهو الإنسان الوحيد الذي أُتيحَ له الارتقاء إلى عالم الآلهة، من وجهة نظر الأسطورة في الأقلِّ. والوصول إلى عالم الآلهة بالنِّسبة إلى بشرٍ مطلبٌ شبهُ مستحيلٍ، لكنَّه تحقَّقَ له وحده. والوسيلة التي اختارتْها الآلهة له للوصول إليها هي الاستعانة بأجنحة الصَّقر. ومن هنا يمكن القول إنَّ أجنحة الصَّقر هي الوسيلة السِّحريَّة التي وصلَ بها إيتانا إلى سماء آنو. فضلاً عن ذلك، فإنَّ أقصى أماني الصَّقر كانت أن يخرجَ من الحفرة، لا أن يحلِّقَ في سماء الآلهة. وهكذا لم يكنْ أكثرَ من بطلٍ مساعدٍ، أخرجَهُ إيتانا من الهوَّة السَّحيقة، ليرتفعَ به في المقابل إلى سماءِ الآلهة.

شاهد أيضاً

الدين هو المؤامرة والشيطان هو المصمم الذكي ج1

أعلن المفكر منصور الناصر في عنوان رئيس لمقال له عن اكتشاف حقيقة الدين..كما نشر فيديو …