(1)
خَرَجَ الوردُ منْ حوضِه
لملاقاتها،
كانتِ الشمسُ عُريانةً
في الخريفِ ، سِوَى خَيْطِ غيمٍ على خَصْرها .
هكذا يُولدُ الحبُّ
في القريةِ التي جئتُ مِنْها.
(2)
نهضتُ أسْألُ عَنْكِ الفجْرَ : هَلْ نَهضَتْ ؟
رأيتُ وجهَكِ حولَ البيتِ مرِتَسمًا
في كلِّ غصْنٍ . رميْتُ الفجرَ عن كَتِفي:
جاءَتْ
أمِ الحلمُ أغواني ؟ سألتُ ندىً
على الغصوِنِ ، سألتُ الشمسَ هَلْ قَرأتْ
خُطاكِ ؟ أينَ لمستِ البابَ؟
كيفَ مَشى
إلى جواركِ وردُ البيت والشجرُ ؟
أكادُ أشطرُ أيّامي وأْنشَطِرُ :
دَمي هناكَ وجسمي هَاهُنا – ورق ٌ
يجرُّهُ في هَشيمِ العالَمِ الشررُ.
(3)
صامتٌ ليلُنا .
مِنْ هُنا زهرٌ ينحني
مِنْ هنالك ما يُشبه التـَّـلَعُثمَ
لا رَجًّةٌ. لا افْتِتانْ .
ليلُنا يتنهّد في رئتَيْنا
والنوافذ تُطبِق أهدابَها .
تقرأين ؟
ضع الشايَ . ضوءٌ
يتسرّبُ مِنْ جسدينا إلى جسدينا
ويغيّر وجْهَ المكانْ .
(4)
هكذا في عناق الطّبيعةِ والطَّبعِ ، نعصفُ أو نَهْدأ
لا قرارٌ ، ولا خِطةٌ، عفوَ أعضائِنا ،
ننتهي ، نَبْدأ
جسدانا
كوكبٌ واحدٌ .
نتبادل أحزاننا
نتبادَلُ أحشاءَنا
جسدانا دَمٌ واحدٌ.
نحن صِنْوانِ في الجرحِ ، مفتاحُ أيّامِنا
ومِفتاحُ أفراحِنا وأحزانِنا ،
جسدانا .
(5)
فكِّتِ الأرضُ أزْرارَها ، وسارَتْ
حُرةً في خُطانَا ،
عندما سألَتْنا وقلنا :
نعرف الحبَّ يا أرضَنا ، جَبَلْنا
طيننا من هَباءِ مسافاتِهِ ، وجَبَلْنَا
فتنةَ القمر المتشرّد في طَمثةِ بأوجاعِنا
ورسَمْنا
كلَّ ما لا يُرى من تقاطيعهِ ،
بتقاطيعنا
هي ذي أرضُنا،-
نتوقّعُ أن يعشقَ الحبَُ أسماءَه
كيفما دُوِّ نَتْ
في الدفاتر أيّامِها.
(6)
نَهَرٌ – مِنْجَمٌ
نهر غامر
يتلبس أعضاءنا
ويسافر فيها –
يدخلُ البحر فيه
تخرج الأرض منه
والبقية لا تُفهم .
لا أحددُ لا أرسمُ
الدخول إلى ليل حبي مضيء
والخروج هو المعتم.
(7)
علمتني مرارات أيامي الرائية :
ليس للحب إلا طريق عمودية
لا تسمى
وإن قيل عنها
لغة في الهبوط إلى آخر الليل ،
في ناره العالية.
(8)
كيف لي أن أسمي ما بيننا ماضيًا ؟
“ليس ما بيننا قصةً ،
ليس تُفاح إنس وجِن
أو دليلاً إلى موسم ،
أو مكان
ليس شيئًا يؤرخ “: هذا
ما تقول تصاريف أحشائنا .
كيف لي أن أقول ، إذًا ، حبنا
أخذته إليها تجاعيد هذا الزمان ؟
(9)
تركتِ في جسدي وردًا ، تركتِ ندىً
تركتِ غابة ألوان ، تراهُ غدي
يُضيئها ؟ أم ترى أمسي يُضيعها ؟
أفي عروقي ورد آخر ؟ شهقتْ
إلى ترابكِ أعضائي – نمازجه
نفيض فيه ، ونستقصي ، ونبتكر
دمٌ هوىً لهبٌ ماءٌ مدىً – أبدٌ
لا بالحياة ولا بالموت يُختَصر .
(10)
ربما
ليس في الأرض حب
غير هذا الذي نتخيل أنّا
سنحظى به، ذات يوم .
لا تقف
تابع الرقص يا أيها الحبُ ، يا أيها الشعر ،
حتى ولو كان موتًا .
(11)
لا أحبُ الرسائل ، كلاَّ
لا أريد لحبي هذا الأرق
لا أريد له أن يجرجر في كلمات ٍ.
لا أحبٌ الرسائل ، كلاَّ
لا أريد لأعضائنا
أن تسافر في مركبٍ من ورق
(12)
آهٍ ، كلاًّ
لا أريد لعينيّ أن تسبحا في فضاءٍ
غير عينيه. كلاَّ
لا أريد لحبي وأشيائه وضوحًا
لا أريد انتماءً ولا نسبًا أو هويةْ .
لا أريد سوى أن نكون لغاتٍ
للجموح ، وأعضاؤنا أبجديةْ.
(13)
لا تقل ، لا تُسمِّ :
الخليقة يا حب ، أشياؤها وأعمالها
صورٌ في كتاب من الظن . خذني
أعطني أن أسافر في الوهم ،
في ما تخيلتُ أو أتخيل –
أن أتمادى
وأُشَهّي شكي بنفسي
وبتمزيق ما تنسج الكلمات وما أتقرّاهُ فيها ،
وما أشتهيهِ
وأنذر جسمي لمعراجه .
أعطني أن تكون حياتي طريقًا إلى لا قرار.
(14)
جالسٌ قربها
والستار الذي نسجته تباريحنا مُسدلٌ.
قامةُ الأفق مكسورة ُ الخصر،
والشمس تمضي إلى نومها .
مِشطها ، قلمُ الحبر ، كرسيُّها ، الفراشُ
على الأرض ، أكداس أوراقها –
كتبًا ودفاتر ، بستان وردٍ
تتناثر أكمامه ُ.
أتذكر حتى كأني أرى الآن : ها بيتها
يتنهد ، ها شرفات النوافذ تُسلم أحضانها
للمُريدِ المولَّه ،
والشمس في أول الليل ،
تخلع آخر قمصانها .
(15)
لا الزمان ُ سريرٌ ولا الأرض نومٌ،
شجر الحب عارٍ
والمكان الذي شاءه الحب دون غطاءٍ .
أتُرى ، أيقظ الليل أحلامه ُ
وهي الآن تركض في شارع من الشمس ؟ ظني
أن هذه الشموس التي تتثاءب
في فلك الحب
ليست على الأرض إلا جراحًا .
سأغني لهذا المكان المُضاء
ليس هذا الوجود سوى فُسحةٍ للغناء.
(16)
يدها في يدي
وكلانا غريبٌ
وكلانا غدا ميتٌ
في فراش بعيدٍ
سربلينا بأوهامنا
وبأشباحنا ،
يا أساطير أيامنا ،
واضطرب واقترب
أيهذا البعيد الجميل الأحد
أيهذا الجسد .
(17)
غالبًا أتفقد بيتي في الليل أشعل ضوء المصابيح ،
لكنها لا تُضيء \ النوافذ؟ أبدأ فتح
النوافذ لكنها لا تُضيء \ لعلي في الباب
ألقى ضياءً ، أقول لنفسي ،
وأُسرع للباب أرجوه ُ ،
لكنه لا يُضيء \ الظلام هنا مثل جرح
يظل ، على برئه ، نازفًا،
يقول لي الحب –
يا حب من أين يأتي الضياء
والسماء تخون السماء؟
(18)
ها هو السهر المر يأتي ويشعل قناديله
هل أُعيدُ رسائل حبي إلى حبرها ؟
هل أمزق تلك الصور؟
أقرأ الآن جسمي ،
وأملأ بالحزن قنديل هذا السهر .
(19)
أفتحُ الباب ، يأتي الهواء يزور الرسوم التي تتدلى
ويداعب أطرافها .
بغتةٌ ، يتثاءب ، يمضي حانيًا ظهره .
لم يكن حُبنا هنالك ، أطيافه ُ
حملت كل ما رسمتهُ
في السرير ، وفوق الوسائد ، في قبضة الباب،
في قُفلِهِ وغابت .
أتخيل؟ لكن
كل هذا تؤكدهُ غيمةً –
غيمةٌ تعبر الآن ، غابت .
لا هواءٌ يزور ، ولا من يقول لتلك الرسوم
كيف تروي أساطيرنا
كيف يُكتبُ تاريخ هذي الغيوم.
(20)
ما الذي سوف يبقى
ويشعل للعاشقين قناديل أيامنا ؟
ما الكلام الذي سوف يبقى
من معاجم أحشائنا وأعضائنا
من أساطيرنا البعيدة؟
ما الذي سوف يبقى
غير ما قاله قاتلونا :
كتبنا بحبر مراراتنا هوانا
وعشنا بلا حكمة ٍ
وسكنّا قصيدة .
(21)
سأزور المكان الذي كان صيفًا لنا
بعد ترحالنا
بين شطآن يوليس ، في ليل دلفي ،
وفي شمس هيدرا.
وسأمشي مثلما كنتُ أمشي
هائمًا بين أشجاره .
وسأذكر أزهاره ورياحينه
بأريج لقاءاتنا .
وأكيد ستسألني عنكِ : ما صرتِ ؟
أين تكونين ؟ ما وجهكِ الآن ؟ لكن
ما تُراني أقول؟
والفصول محتها الفصول؟
ــــــــــــــ
أدونيس
25/ 9 /2003