من المعروف أنه عندما تتأجّج عاطفة الغيرة وتقحم نفسها في علاقات الحب والمودة بين الأفراد فإنها تشوّه تلك العلاقات وتقودها إلى جحيم الهيمنة والعنف، ومن ثم الجريمة.
ومن يريد أن يعرف عن الجنون والقسوة والهذيان وغيرها من الانفعالات التي تنتج عن الغيرية في حياة البشر فما عليه إلا أن يقرأ قصة “عطيل” الشهيرة للمبدع شكسبير.
في أرض العرب، في أيامنا التي نعيشها حالياً، تتأجج عاطفة الغيرية الدينيّة عند البعض بشكل لاعقلاني يقود أصحابها إلى العنف، فالإرهاب، فارتكاب الجرائم البربرية اللا إنسانية.
فكما يعيش غير الناضجين جحيم الغيرة باسم الحب يعيش المتزمتون والمتعصبون جحيم الغيرية باسم الدين.
وكما يموت الحب في الحالة الأولى يموت التسامح الديني في الحالة الثانية.
قضية التسامح الديني، عقيدة وفكراً وممارسة، أصبحت في قمة أولويات هذه الأمة، بعد أن قادت غيرية اللاتسامح إلى تدمير الأوطان وتهجير الملايين، وقلبت أهم مجتمعات الوطن العربي إلى مآتم بكائية حزينة يائسة يعشش فيها الموت، وتغيب عنها بهجة وآمال الحياة.
ولا يستطيع الإنسان أن يدرك أو يتفهم أو يتعاطف مع غيرية عنفية تمارس باسم دين يؤكّد “ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة، كأنه ولي حميم”، وفي آية “لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرشد من الغيّ”، وفي آية “فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك” وفي آية “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين”، وفي آية “ولو شاء ربُّك لآمن من في الأرض كلُّهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” وفي آيات أخرى كثيرة تصل إلى نحو المئة آية.
كيف توجد غيرية عنفية متزمته غير متسامحة في دين يقول نبيُّه (صلى الله عليه وسلم) عن نفسه “ولكن بعثني معلما ميسراً”، ويقول أحد أهم أئمته، الإمام أبو حنيفة النُعمان، “كلامنا هذا رأي، فمن كان عنده خير منه فليأت به”.
نحن إذاً أمام رذيلة اللاتسامح التي ينشرها البعض كلمات حق يراد بها باطل.
هنا يجب التذكير بأن تجارب المجتمعات الأخرى أظهرت أن حل مسألة اللاتسامح الديني هو مدخل أساسي للانتقال إلى التسامح الثقافي، ومن ثم إلى التسامح القانوني، ومن بعدهما إلى بناء النظام الديمقراطي العادل.
إن المدخل الرئيسي إلى حل إشكالية الغيرية الدينية العنفية اللامتسامحة هو، كما كتب عنه الكثيرون، المراجعة الموضوعية العقلانية لما علق بالدين الإسلامي من قراءات خاطئة لبعض نصوصه الأصلية، سواء في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية المؤكدة.
من مثل هذه القراءات التي لها تأثير كبير مفجع في مايجري حالياً في وطننا العربي قراءة البعض من الغيريين المتزمتين وأتباعهم التكفيريين لما يعرفه البعض بآيات السيف التي يدّعون أنها نسخت آيات الإسماح واليسر في القرآن الكريم.
إن قراءتهم لا تأخذ أي اعتبار لسياق الآيات التاريخية التي عندما نزلت كانت تتعلق بالحروب التي شنها المشركون على الدعوة الإيمانية الوليدة.
إن هؤلاء لايعون إن عدم الحيطة في قراءة تلك الآيات سيكون أفضل هدية تقدم لتكفيريين جهلة يجرون أمة الإسلام إلى حروب أبدية عبثية مع أتباع الديانات الأخرى ومع قوى الحاديّة كبيرة تنتشر في العالم بسبب طغيان الاستهلاكية المادية المريضة.
وينطبق الأمر نفسه على أهمية مراجعة مواضيع لاتسامحية من مثل تقسيم العالم إلى “دار الإسلام” و”دار الحرب”، أو موضوع الجهاد المُساء فهمه إلى حدّ السخف والعته، أو موضوع التزمُت المريض بشأن حقوق المرأة حيث يغطي البعض على العادات والتقاليد العربيّة المتخلفة بشأن مكانة المرأة وكرامتها غطاء دينياً من خلال قراءات وتفاسير خاطئة. والأمثلة الأخرى كثيرة لاحصر لها.
إن المنطق والتجارب البشرية تؤكّد أن الغيريّة الدينية العنفية اللامتسامحة تختفي، ويحلُ محلُها التسامح الديني، عندما يكون الأفق الديني واسعاً وليس مهيمناً عليه من قبل مرجعية ضيقة الأفق كما هو الحال في بعض البلدان العربية والإسلامية.
إن اللاتسامح يتعايش وينمو مع انسداد الأفق السياسي، وذلك بغياب الديمقراطية التي في ظلًّها توجد حرية الرأي والإختلاف والتجمُّع والاحتكام إلى القانون والمساواة في المواطنة.
عندها تتراجع اصوات وشعارات التكفير والتخوين والتهميش والاستئصال في مجالات الدين والسياسة والإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي.
في ظلّ الديمقراطية الحقة ستكون هناك إمكانية وجود قوانين عادلة يتساوى أمامها جميع المواطنين، ومناهج تربوية ترسخ الفكر المتسامح والضمير اليقظ، ووسائل إعلامية لاتمارس التحقير والازدراء والتخوين وتوزيع شهادات البراءة الكاذبة.
مطلوب كبح جماح الغيرية الدينية العنفية التي تؤدي بأصحابها إلى عدم رؤية النور الربّاني المتسامح والإصرار على ممارسة الانتهازية السياسية النفعية الحقيرة باسم غيرية مريضة كاذبة.