أجل، السياسة تضمحل، وفي سبيلها إلى الاختفاء. وجود الأحزاب بات أشبه بنكتة، إلا إذا كان الحزب مسلحاً، قوي الشكيمة، يمارس العنف ضد غيره، أو يهدد بممارسته.
الطلب على الديمقراطية يقلّ، ومثلها حقوق الإنسان، والفصل بين السلطات والتداول السلمي على السلطة أو بعضها. في قناعة كثيرين من حاكمين أو محكومين أن الديمقراطية ليست حلاً، بل هي فرصة لشرعنة وجود خصوم مفترضين. الانتخابات، إذا جرت انتخابات هنا أو هناك، سواء كانت محلية أو برلمانية، لم تعد تثير الاهتمام والمتابعة، إنها من قبيل الأخبار الروتينية المملة التي تفتقد إلى “آكشن”، والتي تنتمي إلى الماضي.
الفرقاء السياسيون والاجتماعيون ضمن مدار السلطات أو خارجها، يتوسلون العنف أو يضعونه كاحتمال قوي غبّ الطلب والحاجة إليه، للبرهنة على المشروعية والجدارة الوطنية والسياسية والدينية.
فكرة أن كل شيء يسير بمؤامرة تطبق على الأفهام. ومغزى ذلك أنه لا سبيل إلى حل المعضلات والتحديات إلا بالذهاب إلى منبع المؤامرة الغامض ومصدرها، وكل مصدر يخفي وراءه مصدراً أكبر أشد دهاء وخطورة. وبما أن طريق الوصول إلى ذلك المصدر متعرج وعسير، فإننا نترك المعضلات تتفاقم، بداعي أن أي معالجة لا تصل إلى المصدر الأصلي الغامض للخلل، تظل معالجة سطحية وتسكينية.
لا حاجة لإيراد الأمثلة، فالفضاء العام يزخر بهذه الضروب من اليأس، ويبرر، بصورة أو بأخرى، العنف باعتباره من قبيل “آخر الدواء”. وكل عنف يحمل، ضمناً أو جهراً، مداورة أو مباشرة، تسويغاً لعنف مضاد، بما يجعل العنف يدور في حلقة مفرغة من الانتقام والانتقام المضاد مع تبادل المظلومية. ما يجري في العراق، منذ أزيد من عشر سنوات، شاهد على ذلك، فالجميع مظلومون. من يمارسون العنف ويهدّدون به، أو الضحايا، وما أكثر عديد الفئة الأخيرة. ولا أحد يتراجع، أو يبحث عن طريق آخر، أقل كلفة على الجميع. كل فريق والفرقاء كُثُر وبلا عدد يتشبث بروايته وسرديته للمظالم التي وقعت عليه، وعلى الأقربين منه، وعلى أتم الجهوزية للرد حتى على بسطاء عُزّل، بعد أن “فاض به الكيل”. والدولة لا تدافع إلا عن سلطويتها، أو ما بقي منها، فهي عاجزة في لبنان، ومخطوفة في اليمن، وهي مجرد فريق أهلي في العراق، أو لا وجود لها كما في ليبيا.
ومع تفاقم المشكلات، يتحول العنف إلى قيمةٍ بحد ذاتها. إلى حل، أو مدخل للحلول. ويتم التفضيل بين من يزاول العنف بنجاعة أكبر. المفهوم الأولي البسيط الذي يسم التمدن، والذي يذهب إلى أن العنف محرم استخدامه أو التهديد به، إلا في حالات استثناء قصوى، من أهمها الدفاع عن النفس أو ضد محتل، وأن يكون حكراً على سلطة عادلة تنظمه وفق قوانين متطورة، وتحت رقابة سلطة تشريعية ومتابعة الرأي العام. هذا المفهوم في سبيله إلى الاختفاء. فالمثقفون ينحازون إلى العنف بتعلّات شتى. الحديث عن حياة مدنية سلمية بات ضربا من الطوبى والسذاجة والروح المثالية المنفصلة عن الواقع.
نشهد مزيجاً من حروب أهلية وطائفية وحملات تطهير عرقي، وقلما يرتفع صوت ليدين الاحتكام إلى العنف الذي يذهب في اتجاهات شتى. تهتّك الروابط الوطنية التي تجمع بين سواد الناس لا يثير كبير قلق. الاعتراف بالمكونات الاجتماعية والهويات الأولية والفرعية يتحول إلى اعتراف بمكونات اجتماعية متنافرة، لا سبيل إلى التجسير ما بينها سوى بالعنف، أو إقامة دويلات وكانتونات، تضم المجتمع الصغير الصافي من شوائب التعدد والتنوع.
أجل ثمة انزياح لمفهوم العنف ووجهته، فقد أصبحنا نشيح الطرف عن مصدر العنف الأول في المنطقة، وهو العدو الإسرائيلي، ونعظم بصيغ شتى حروبنا الداخلية، حتى إن الحديث عن احتلال أرض ومصادرة حقوق شعب بات مملاً لدى الكثرة الكاثرة. اخترنا الحروب الأسهل ذات النتائج شبه المضمونة، وبات الصراع ضد المكونات الاجتماعية الأخرى من أفراد أو مجموعات، أو ضد منافسين سياسيين، هو الجهاد الأكبر الواجب تنكب طريقه.
الغاية من هذا المقال هو التنبيه إلى أهمية إعادة الاعتبار لحرمة الحياة البشرية، والحق المقدس للأفراد والجماعات بالحياة، ورفض استسهال الانسياق وراء العنف، والتذكير بوجود مدنيين، سواء كانوا من جماعتنا أو “غرباء” لهم أن يكونوا دائماً خارج الصراعات، والدعوة إلى حصر العنف في أضيق نطاق اضطراري ودفاعي ومقنن، حتى لا نمضي بعيدا في هذا العماء ومتوالياته المدمرة، ونستمرئه عبر السكوت عنه، والتعايش الواقعي معه.